محاضرات نوري السعيد عن الثورة العربية

  

  محاضرات نوري السعيد عن الثورة العربية

 

           مقدمة بقلم نايف الفقير
ان نوري السعيد من اهم الشخصيات في عالمنا العربي في مطلع القرن العشرين ، واحد المشاركين في صناعة الثورة العربية الكبرى التي لاتزال تلقي بظلالها على العرب الى يومنا هذا ، رغم انه من المفارقات ان نوري السعيد من اصل كردي وليس عربي !

             

ولد نوري بن سعيد صالح في محلة (تبة الكرد) ، بالقرب من ساحة الميدان وذلك بحدود سنة 1887 .
شارك في الثورة العربية مع الاشراف سنة 1916م ، ومع تداعيات فترة مابعد الثورة وتأسيس الكيانات السياسية العربية مثل : العراق ، والاردن ، رمت به الظروف لان يصبح رئيس حكومة العراق في عهد الملك فيصل الشريف ( فيصل الاول) ، واستمر يشارك في في صناعة القرار في العراق حتى ثورة 1958م، تلك الثورة التي اطاحت بملوك العراق ، وكان نوري السعيد احدى ضحايا الثورة حيث قتله الثوار .
في هذه المذكرات يشرح نوري السعيد دوره في الثورة العربية وطبيعة العمل الذي قام به . ، ولعلمي ان الكثيرين يحرصون على قراءة مذكرات صنّاع الثورة العربية اتشرف بتقديمها للقراء منقولة من موقع الذاكرة
المقدمة
بناء على إلحاح كثير من الإخوان ، فقد عزمت بعون الله تعالى على طبع مذكراتي في ثلاثة أقسام وها أنا أضع بين يدي القارئ الكريم القسم الأول منها وهو الذي يبحث عن الحركات العسكرية في الحجاز وسوريا ، منذ قيام الثورة العربية ، حتى عقد الهدنة في 1 تشرين الثاني سنة 1918م ، وقد وضعته بشكل محاضرات ألقيتها على طلاب كلية الأركان العراقية .
أما القسم الثاني ، فسأخصصه للحوادث السياسية ، منذ قيام الحركة العربية حتى خروج المغفور له الملك فيصل من سوريا في 21 تموز 1920م .
وسيكون القسم الثالث خاصا بحوادث العراق السياسية ، منذ تشكيل الحكم الوطني فيه ، حتى انتقال المغفور له جلالة الملك فيصل إلى جوار به سنة 1932م
المحاضرة الأولى
ألقيت في كلية الأركان في 5 مايس 1947
سيدي صاحب السمو الملكي المعظم
سادتي وإخواني الضباط
كانت لدي مذكرات كنت أدونها يوميا منذ بدء الحركة العربية في أوائل العصر الحاضر ,قد تركت هذه المذكرات في دمشق عند سفري إلى باريس مع المغفور له جلالة الملك فيصل الأول ، سمو الأمير فيصل حينئذ ، ولما رجعت إلى سوريا في مايس 1919 افتقدها فلم أجدها ، وقد علمت أن ولدي صباح، الذي كان لا يتجاوز السابعة من عمره ، عثر عليها في غيابي ، فأعجبته فعبث بها وبعثرها ولم يترك لي شيئا منها وهذا هو السبب فيما ستجدونه في محاضراتي من عدم تثبيت بعض تواريخ الحوادث أو الأرقام على صورة دقيقة ، ومن إغفال بعض أسماء الأشخاص الذين اشتركوا معنا في العمل .
لقد حاولت أن أركز تفكير وأعود بالذاكرة إلى أيام الثورة العربية لأستعرض الحوادث وأدونها كما وقعت إلا أن كثرة أشغالي في أمور غير عسكرية ، كما تعلمون ، لم تمكني من تحقيق رغبتي ، فقد قدر لي أن تدفعني مصلحة الوطن التي هي فوق كل شيء ، إلى الاشتغال بأمور لا أحبها ، وصرفتني عن المهنة التي ارتضيتها لنفسي منذ نشأتي .
إنني أعتقد أن تاريخ الثورة العربية لا يكون كاملا إلا إذا دون كل من اشترك فيها مذكراته،وأن مجموع هذه المذكرات سيكون التاريخ الكامل للثورة العربية .
لقد طلب إلى كثير من الرفاق أن أدون مذكراتي وأخر من دفعني إلى ذلك هم الذين ألحوا علي في إلقاء هذه المحاضرات وقد هيأت نفسي لإلقاء محاضرتين عن الحوادث العسكرية في الحجا ، ولما علم حضرة صاحب السمو الملكي الوصي المعظم بذلك أمرني بالعناية بهذه المحاضرات مما اضطرني إلى إعادة النظر في الموضوع والتوسع فيه ، على قدر ما يسمح به الوقت ، فاستعنت بأحد الشبان وهو صديقي خليل إبراهيم الذي كان معتزما السفر إلى مقر وظيفته في سفارتنا في لندن ، ورجوته أن يؤجل سفره وأمليت عليه هذه المحاضرات لألقيها عليكم في ثلاث مرات متوالية .
إن هذا الحشد من الشباب في قاعات الدرس يذكرني بأيام شبابي ، فقد نشأت جنديا كما نشأتم ، وترعرعت جنديا كما تترعرعون ، ولبيت نداء الوطن في مختلف الظروف وشتى الجبهات طالبا وضابطا وقائدا ، وهذا ما آمله فيكم وهو ما تنتظره البلاد منكم ، فأنتم قادة الجيش في المستقبل وعلى مبلغ ما ستبذلون وتضحون يتوقف نمو الجيش وتعزيز كيانه .
وأود أن استرعي انتباهكم إلى نقطة هامة وهي أني لم أدون تفاصيل الحركات العسكرية على صورة مفصلة إلا إني سأشرحها لكم شرحا وافيا على المخططات والخرائط وأرجو أن تضبطوها بأنفسكم .
استعراض تاريخي :
وقبل أن أتوغل في موضوع محاضرتي لهذا اليوم ، أرى من المفيد أن استعرض حالة العراق والبلاد العربية قبل اندلاع نيران الحرب العالمية الأولى 1914-1918 ثم قيام الثورة العربية وانسلاخ البلاد العربية عن الإمبراطورية العثمانية بعد ذلك .
لقد بلغت الأمة العربية أوج عزها ومجدها في الدولة العباسية ، فاتسعت رقعتها وازدهرت معاهدها وتضخمت مواردها ، ثم دب الإنحطاط الخلقي والتفرق في صفوفها وتململت عوامل الدس والفوضى ، فكانت فتن وحركات أدت إلى الإنقسام ثم الإنهيار ، ولم تقم للعرب قائمة منذ ذلك التاريخ ، حتى أوائل هذا القرن ، من الناحية السياسية .
البلاد العربية تحت النير العثماني :
لا يخفى أن البلاد العربية بقيت تحت سيطرة الدولة العثمانية قرونا عديدة وكانت هذه الدولة ، بمجموعها في تدهور مستمر في كل مناحي الحياة فساد الجهل بعد العلم ، وتفشى المرض واختل الأمن ، وعمت الرشوة والإنحلال الخلقي ، ولم يكن للحكومة من هدف غير جباية الأموال وصرفها في عاصمة الإمبراطورية ، في وجوه لا تنفع في كثير من الأحيان .
لابد وأنكم قرأتم الشيء الكثير عن المسألة الشرقية والأدوار التي مرت بها ، فقد توسعت الإمبراطورية العثمانية توسعا عظيما واحتلت جزءا كبيرا من أوروبا وآسيا وأفريقيا ، ثم استنام الخلفاء والقادة ولم يلتفتوا إلى ما يقضتيه هذا التوسع من الحيطة واليقظة .
الحركات الإنفصالية ومطامع الدول :
ولما بدأ القرن الثامن عشر ، كانت عوامل التفسخ والإنحلال بادية واضحة فقد كان الأمن مختلا في معظم أجزاء الإمبراطورية ، والرشوة متفشية وانعدم العدل وساد الظلم وخيم الجهل والمرض والفقر على تلك الربوع وبدأت الحركات الإنفصالية تنشط بين العناصر المسيحية فتكونت دول في صربيا واليونان وبلغاريا تشجعها العوامل السالف ذكرها ويلهب حماسها نشاط الدول الكبرى ، التي بدت مطامعها في التوسع على حساب الإمبراطورية العثمانية ، ولم يبق ما يحفظ هذه الإمبراطورية كيانها غير التوازن الدولي .
كانت الإمبراطورية تسيطر على جزء كبير من البلاد في القارات الثلاث الغنية بمواردها الزراعية والمعدنية ، كما كانت تسيطر على كثير من المواقع السوقية كالمضايق والجزر ، فكان طبيعيا أن تكون هذه الميزات مطمح أنظار الدول الراغبة في التوسع ، كبريطانيا وروسيا وفرنسا .
وقد شرعت هذه الدول في إقامة رؤوس جسور لها في داخل الإمبراطورية العثمانية ، فمنها من ادعت حق حماية مصالحها التجارية، ومنها من أدعت حق حماية الأقليات الدينية ، ومنها من أدعت حق حماية الأقليات العنصرية ، وهكذا أصبح لهذه الدول نفوذ وتنافس كانت كلمنها تنتظر القضاء على الرجل المريض للإستيلاء على ميراثه .

                       

محاولات الإصلاح :
يجب أن لا ننسى أن بعض المصلحين من العثمانيين حاولوا إصلاح الحال وإعادة الأمور إلى نصابها ، إلا أنهم لم يفلحوا في ذلك ، وكان آخر وأعظم من حاولوا الإصلاح مدحت باشا ، الذي أعلن الدستور الأول سنة 1876م .
وكان هؤلاء المصلحون مختلفين في طرق الإصلاح ، فمنهم من كان يفكر في تنظيم الدولة على أساس عنصري ، بشكل ممالك متحدة ، لكل منها استقلالها في تدوير شوؤنها الداخلية ، كالمعارف والصحة وغيرها ، على أن تربط الجميع سياسة عامة في شئون الدفاع والكمارك والمواصلات وغير ذلك ، ومن هؤلاء من فكر في إدارة البلاد التي تسكنها عناصر غير تركية ، على طريقة إدارة مستعمرات أو وفقا لإدارات خاصة ثم أعلن الدستور للمرة الثانية في سنة 1908 وكان الأمل أن يكون إعلانه بداية عهد الإصلاح والنهوض ، إلا أن السياسة التي أعلنتها الحكومة العثمانية بعد صدوره، أثارت النفور بين العرب والترك ، وقد حاول العرب الوصول إلى التفاهم إلا أنهم لم ينجحوا في مسعاهم وبقي التأزم قائما بين العنصرين حتى أعلن العرب ثورتهم في خلال الحرب العالمية الأولى .

                        

الجمعيات العربية :
تألفت في الفترة الواقعة بين 1908 و1914 عدة جمعيات عربية غرضها الإصلاح وكان منها جمعية العهد التي ألفها الضباط ، عزيز علي المصري والمرحوم سليم الجزائري ، وطه الهاشمي ، مع أشخاص آخرين كنت أنا من ضمنهم ، وكان هدف هذه الجمعية منحصرا في إصلاح الحال على أساس النظم الاتحادي ( فيدراسيون) ،ولم يفكر أحد منا في الإنفصال عن الإمبراطورية العثمانية وإنما كان تفكيرنا منصبا على الحصول على إدارة عربية محلية ولغة عربية رسمية على أن نشترك والعنصر التركي في إدارة سياسة الدولة العامة التي مر ذكرها ، وكان بين الترك من يؤيد هذه الفكرة ويؤازرها ، كمصطفى كمال ،الزعيم التركي الذي عرف فيما بعد بأتاتورك .
ظهور الحركة القومية عند العرب :
إندفع الأتراك ، على أثر إعلان الدستور سنة 1908 في الغلو في قوميتهم مما ولد رد فعل لدى العرب جعلهم يتعصبون لقوميتهم ويطالبون بمعاملتهم ، مع الأتراك على قدم المساواة دون أن يتطرق أحد منهم إلى فكرة الإنفصال ، ومع ذلك فقد أصاب شباب العرب المناضلين عن حقوق بلادهم ، الشيء الكثير من الظلم والأذى .
وفي شهر نيسان 1914 خرج عزيز علي المصري من السجن الذي دخله نتيجة لخطة مدبرة ، بعد أن مكث فيه أكثر من شهرين ، وغادر تركيا عائدا إلى مصر ، وفي الوقت كنا مع بعض شباب العرب ،قد صممنا على الذهاب إلى الجزيرة العربية للعمل مع زعماء العرب وأمرائهم لتقوية نفوذهم داخل الجزيرة واطلاعهم على ما هو جار في العالم ، والاستعانة بآرائهم ونفوذهم الشخصي ، لتحقيق المطاليب العربية المعقولة ضمن الإمبراطورية العثمانية ، ولم يكن هدفنا حينئذ القيام بأية ثورة مسلحة ، وكنت أنا شخصيا ، ممن يرون هذا الرأي ،وكان الوسيط بينا المرحوم السيد طالب النقيب وأشخاص آخرون ،من بينهم المحامي سليمان فيضي الذي كان نائبا في مجلس النواب العثماني ، ومزاحم الباجه جي ، فسافرت أنا والدكتور عبد الله الدملوجي من الأستانة، ولما وصلنا إلى البصرة ، أصابني مرض حال دون مواصلتي السفر ، فسافر الدكتور الدملوجي بمفرده إلى مقر ابن السعود على أمل أن التحق به بعد شفائي ، غير أن نيران الحرب العالمية الأولى لم تلبث أن اندلعت واشتركت فيها الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا .

  


ولما احتل الإنجليز البصرة كنت لم أزال مريضا في المستشفى ، فنقلوني إلى الهند حيث بقيت مدة من الزمن ثم نقلوني إلى مصر دون أن أعلم سببا لذلك حتى الآن وكان ذلك في سنة 1915م .
المداولات في مصر :
ولما وصلت إلى مصر اتصلت ببعض الإخوان ومنهم عزيز علي المصري وشريف الفاروقي ورؤوف عبد الهادي فعلمت منهم أن حالة الدولة العثمانية غير مستقرة لا سيما بعد دخولها الحرب وأنهم يؤيدون ضرورة العمل لإنقاذ العرب وتحقيق أهدافهم وقد بلغني أن هناك مخابرات جارية مع جلالة المغفور له الملك حسين ، وأن الحكومة العثمانية في سوريا شنقت بعض شباب العرب ورجالهم ، وأن المحاكم العرفية مستمرة في محاكمة عدد غير قليل منهم ، وأن خطة حكومة الإتحاديين ترمي إلى القضاء على رجال العرب وإبادتهم بتهمة القيام بثورة ضد الخلافة والإنفصال والخيانة واتهام قسم منهم بالتآمر مع الدول الأجنبية .
لقد ألصقت حكومة الاتحاديين هذه التهم برجال العرب ظلما وعدواناً ، إذ لم يكن هدفها غير الإصلاح وتشكيل حكومات محلية أو إدارات لا مركزية ولم يخطر ببال أية جمعية عربية فكرة الإنفصال عن الدولة، وذلك لأننا كنا على علم تام بمطامع الدول في الإمبراطورية العثمانية وأنه ليس للعرب من القوة والمؤهلات ما يمكنهم من تأسيس حكومة عربية مستقلة والمحافظة على كيانها .
ولما كنا نتداول مع عزيز علي المصري في شأن البلاد العربية كنا نجهل تمام الجهل المذكرات التي كانت جارية بين جلالة المغفور له الملك حسين وبين ممثل الحكومة البريطانية ، كما كنا عاجزين عن فهم ما يراد بالبلاد العربية ، وماذا ستكون النتيجة إذا أعلن العرب الثورة على الحكومة العثمانية ، وكيف نستطيع أن نضمن مستقبل البلاد واستقلالها ونحن نعلم مطامع الدول التي لم تكن خافية منذ أمد بعيد ،وقد وصلتنا في ذلك الحين برقيتان من جلالة المغفور له الملك حسين، إحداهما إلى عزيز علي المصري والثانية إلي ، وفيهما يطلب إلينا الحضور فورا إلى مكة المكرمة مع من يرافقنا من رجال العرب .
فتداولنا في الأمر ونظرنا في وجوهه المختلفة ، وحسبنا النتائج التي ستتمخض عنها تلبية الدعوة ، وعدمها ، فاستقر الرأي على أن أسافر وحدي للإطلاع على الحالة هناك والاستماع إلى آراء المغفور له الملك حسين ، والإطلاع كذلك على المذكرات الجارية بين جلالته وبين الإنكليز ، ثم الإبراق بهذه المعلومات إلى عزيز علي المصري وإخواننا رجال العرب في مصر .
مقابلة المرحوم سعد زغلول :
وقبل مغادرتي مصر رأيت من المفيد أن أتصل بالمرحوم سعد زغلول ، وكنت من المعجبين به ، لأستمزج رأيه ، كما عرضت عليه الأمر وجدته في حيرة شديدة بالنظر للغموض والملابسات التي كانت تحيط بالموقف ، إلا أنه خرج من حيرته بقوله : ( إن وضع البلاد العربية وضع شعب محكوم لا يملك من أمره شيئا فإذا استطعتم أن تكونوا لهذا الشعب وضعا آخر ، وضعا استقلاليا فسيكون لكم الفضل في هذا وإذا خبتم فلن تضيعوا شيئا عدا أنفسكم وسمعتكم ، فأنتم لستم من المقامرين بشيء ، أنتم من المجاهدين تسعون لتحقيق شيء ، فإذا لم تتوصلوا إليه ، فلا لوم عليكم إلا بقدر ما يمسكم م كلام ونقد ، وأن الأمر يتوقف على النتائج التي ستحققونها ، فإذا كانت نتائج عظيمة فعملكم سيقاس بها ، وإذا فشلتم فلابد من أن يحكم عليكم ولا تكونوا قد أضعتم شيئا موجودا في الوقت الحاضر فليس لبلادكم كيان تجازفون به كما هو الحال بالنسبة إلى الدولة العثمانية ،فإنها إذا خسرت الحرب ستخسر شيئا كثيرا ) .
فما كان مني حين سمعت هذا الحديث من المرحوم سعد زغلول إلا أن نقلته إلى عزيز علي المصري وكان يطابق النتائج التي توصلنا إليها في مداولاتنا.
غادرت مصر ، وتشرفت بمقابلة المغفور له جلالة الملك حسين وسأحدثكم بما دار بيني وبين جلالته عند الدخول في صلب المحاضرة .
خلاصة المقدمة :
يتضح لكم من هذا العرض الموجز ، أننا حين أقدمنا على الثورة ، لم يكن لنا وضع أو كيان دولي نخشى عليه من الزوال فلم تكن البلاد العربية حكومة أو شبه حكومة حتى ولا إدارات محلية ، وهو وضع يختلف كل الإختلاف عن وضع البلاد العربية الحاضر ، كنا حينئذ إذا جازفنا فإنما كنا نجازف بأرواحنا فحسب أما الآن فيجب أن نحسب كل حساب عند القيام بأي عمل لئلا يؤدي عملنا إلى كارثة يصعب تلافيها .
ويتضح لكم كذلك ، أن عدم تحقيق الأهداف العربية بكاملها لم يكن نتيجة تفريط رجال العرب بحقوق بلادهم ، بل نتيجة لعوامل دولية كانت تتبلور من قرنين وقبل أن يخلق جيلنا والجيل الذي قبلنا .
إعلان الثورة العربية
الحركات العسكرية :
والآن ، وبعد هذه المقدمة ، سأحدثكم عن الحركات العسكرية منذ أن اطلق جلالة المغفور له الملك حسين ، أول رصاصة لإعلان الثورة في 9 شعبان سنة 1335 المصادف 10 تموز 1916 حتى يوم عقد الهدنة مع الحكومة التركية في محطة قطمة ، الواقعة في شمال حلب ، وذلك بتاريخ 1 تشرين الثاني 1918م .
تقسيم البحث :
ولأجل تسهيل البحث سأقسم محاضرتي إلى أقسام ثلاثة :
القسم الأول : الحركات العسكرية في داخل الحجاز منذ بدايتها حتى سقوط العقبة.
القسم الثاني : من سقوط العقبة حتى شهر أغسطس 1918 .
القسم الثالث : تقدم الجيش العربي من شهر أغسطس 1918 حتى يوم إعلان الهدنة . ((أكتفينا بالقسم الاول والثاني من المذكرات فقط والتي تتحدث عن الحرب في الحجاز وأغفلنا القسم الثالث لتحدثه عن الحرب في سوريا))
القسم الأول :
حدثتكم في المقدمة عن القرار الذي اتخذناه بنتيجة مداولاتنا في مصر هو تلبية دعوة جلالة الملك حسين وسفري إلى الحجاز ، وقد سافرت فعلا والتحق بي عدد من الضباط المتطوعين وهم : سعيد المدفعي ، والمرحوم السيد حلمي ، وابراهيم الراوي ، ورؤوف عبد الهادي ، والمرحوم راسم سردست ، والطبيبين المرحوم أمين المعلوف ، وأحمد القباقيبي ، كما التحق بي بضعة ضباط صف وعدد من الجنود لا يتجاوزون الأربعمائة متطوع وكان هؤلاء من الأسرى العراقيين في معتقلات الهند .
الوضع العسكري في الحجاز قبل السفر :
إن الوضع العسكري في الحجاز ، قبل سفرنا إليه ، كان يتلخص في أن جدة كانت قد سقطت بين متطوعي العشائر والآهلين وكانت الحامية التركية فيها تتألف من فوج واحد .
كما أن مكة المكرمة كانت قد سقطت بين المتطوعين من أهلها الذين استولوا على ثكناتها ، وكانت الحامية التركية فيها تتألف من فوج من المشاة وبعض المدفعية في قلعة جياد التي قاومت مدة ثلاثة أيام .
أما الطائف ، فقد كانت محاصرة من قبل قوات جلالة الملك عبد الله ، سمو الأمير عبد الله أنذاك ، المؤلفة من قوات بدوية يتراوح عددها بين 400 و500 مقاتل وبطارية جبلية مصرية تحت قيادة اللواء السيد علي باشا ،وكان الحامية التركية فيها مؤلفة من فرقة مشاة واحدة .
أما المدينة المنورة ، فقد كانت فيها فرقة تركية واحدة ، كانت قد جلبت على جناح السرعة من الشمال على السكة الحديدية ، بقيادة فخري باشا ، وكانت هذه الحامية مهددة من الجنوب والغرب وأحيانا من الشمال وذلك من قبل العشائر الحجازية التي انضمت إلى المرحوم جلالة الملك علي ، سمو الأمير علي أنذاك ، وكان مرابطا في الجنوب ليكون حائلا بين هذه القوات وبين مكة ، وكان المرحوم جلالة الملك فيصل الأول، سمو الأمير فيصل انذاك مرابطا في الجهة الغربية مهددا مواصلات المدينة مع الشمال .
أما سلاح العشائر والمتطوعين فقد كان من البندقيات القديمة التي لا تصلح في حرب كالتي نحن بصددها .
السفر إلى الحجاز :
ولما غادرنا السويس ، أنا ومن معي ، علمنا ونحن في الباخرة بأن القيادة البريطانية كانت قد شحنت معنا سلاحا باسم الشريف حسين يحتوي على بطارية مكونة من أربعة مدافع قوس عيار 4.5 عقدة وبطارية صحراء عيار 18 رطلا وبطارية جبلية عيار 2.75 رطلا ، ونحو ثمانية رشاشات فيكرس و200 صندوق رمانات يدوية و100 صندوق من الديناميت من نوع الجلنيت ونحو 4000 بندقية مع كميات غير قليلة من العتاد .
الوصول إلى ميناء جدة :
ولما بلغنا ميناء جدة ، وجدنا أن الأسرى الأتراك الذين استسلموا في جدة ومكة يزيد عددهم على 2000 جندي ، وكانوا يمرحون ويسرحون في أسواق جدة بكل حرية ، وكانت البلدية مكلفة بأمر إعاشتهم ، وقد اتصل بي جلالة الملك حسين تلفونيا ، ساعة وصول الباخرة ، وأمرني بالسفر إلى مكة حالا ، إلا أن الصعوبات التي لاقيناها في تفريغ حمولة الباخرة من السلاح وإيجاد الوسائط لنقلها إلى مكة وعدم معرفتنا باللغة الإنكليزية لتدقيق القوائم ومعرفة محتويات الصناديق التي بلغت حوالي أربعة آلاف صندوق من أحجام مختلفة ، كل ذلك اقتضى أكثر من ثلاثة أيام إلا أن الحاح جلالته بلزوم الإسراع في السفر إلى مكة اضطرني إلى السفر مستصحبا قسما من المدافع والرشاشات والرمانات اليدوية وتاركا أمر نقل باقي المعدات إلى قائمقام جدة الذي كان عينه جلالة الملك حسين وهو الشريف محسن بن منصور ،وقد اضطرنا كذلك إلى ترك الدكتور أمين المعلوف ليساعد في نقل هذه المعدات ، بالنظر لوقوفه على اللغة الإنكليزية ، كما عينا رؤوف عبد الهادي قائدا لميناء جدة ولإدارة الشؤون العسكرية فيه والإشراف على تسفير الأسرى الأتراك إلى المعتقلات في مصر .

                          

المثول بين يدي جلالة الملك حسين :
وصلت مكة المكرمة وتشرفت بمقابلة جلالة الملك حسين فأعلمني جلالته ، بأنه نصح الحكومة التركية بعدم دخول الحرب فلم تسمع أما وقد دخلتها ، فإن جلالته يعتقد بأن الظفر سيتحقق للحلفاء في الميادين الأوروبية ، وليس في هذه البلاد وأن الحرب ستنتهي باندحار الألمان وحلفائهم ولما كانت نوايا الترك السيئة تجاه الأمة العربية قد ظهرت بكل وضوح ، وكانوا قد شنقوا من نخبة رجال العرب ولا يزالون يطاردون الآخرين للقضاء عليهم فما على العرب إلا أن ينتهزوا هذه الفرصة لتحقيق أمانيهم ،ثم قال جلالته :هذه هي الأوراق والمخابرات أقرأوها ، فإن وجدتم فيها نقصا أكملوه ، أعملوا لتحقيق ما ترغبون فقد فتحت لكمم الباب وما عليكم إلا استغلال الموقف لتحقيق أماني الشعب العربي ، فإن انتهت الحرب بانتصار الألمان والأتراك ، فإن البلاد العربية ستعود إلى سابق عهدها دون أن تخسر شيئا سوى هؤلاء الرجال الذين نهضوا لتحقيق أمانيها القومية ، أما إذا حصل العكس وانتصر الحلفاء فمن يا ترى سيحمي البلاد العربية ؟ وماذا ستكون حجة العرب في المطالبة بحقوقهم ومطامع الدول معروفة في بلادهم ؟ لذلك فإن الواجب يحتم علينا أن نتفانى في سبيل بلادنا وأن نطالب بحقنا وسنرى ما يحققه الله لنا .

                       

الإبراق إلى عزيز علي المصري :
ولما انتهت المقابلة خرجت من لدن جلالته وأرسلت برقية ، وبالرموز التي اتفقنا عليها ، إلى عزيز علي المصري شرحت له فيها الوضع وطلب إليه السفر حالا إلى الحجاز لتسلم قيادة الجيش العربي .
الإلتحاق بسمو الأمير علي :
بقيت في مكة المكرمة يومين وأنا أتوقع أن يصدر جلالته أمرا بالتحاقي بسمو الأمير عبد الله للقضاء على حامية الطائف واحتلالها ، إلا أن جلالته فاجأني بأمر الألتحاق بسمو الأمير علي في الشمال لنجدته فأوضحت لجلالته ضرورة تنظيم المتطوعين من العشائر والأهلين ، والذين جاؤوا معي وتدريبهم على استعمال الأسلحة الحديثة لتكوين نواة الجيش العربي ، إلا أن جلالته أصر على رايه ، وتم الاتفاق على أن يتولى عزيز علي المصري القيادة تحت إشراف جلالته وأن يلتحق سعيد المدفعي على راس بطارية مدافع القوس بسمو الأمير عبد الله لفائدة هذا النوع من المدافع في الحصار ، وأن يبقى ابراهيم الراوي في مكة للإشراف على أمر السلاح والتجهيزات التي اضطررنا إلى تركها في مكة وأن استصحب معي المرحوم السيد حلمي مع بضعة من ضباط الصف العراقيين بعض جنود المدفعية المدريبن مع بطارية مدافع جبيلة وأربعة رشاشات ومائة صندوق من الرمانات اليدوية وكمية من الديناميت وفوج واحد من المتطوعين المشاة من أهل مكة مع ضباط واحد من أهل مكة اسمه احمد كاشف ، وكان جلالته قد أعد قافلة مكونة من أربعة آلاف جمل تحمل المؤن والذخائر ومايزيد على ألف وخمسمائة بندقية وألف صندوق من عتاد الأسلحة الخفيفة وكان على رأس هذه القافلة الشريف باشا.
وتنفيذا لأمر جلالته ، تحركت الحملة متجهة إلى معسكر الأمير علي ، وكان حينئذ في وادي الأثب ، وهو يبعد حوالي خمسين كيلو مترا عن جنوب المدينة ، فسلكنا الطريق الشرقي ، ولما وصلنا السواركيه،التحق بنا الشريف شاكر ، فعدلنا عن الطريق الشرقي إلى طريق آخر كان من الوعورة بدرجة أنه كان يصعب علينا قطع أكثر من عشرين كيلومترا في اليوم الواحد مع أن معدل سيرنا اليومي كان لا يقل عن أربع عشر ساعة ليلا ونهارا .
الوصول إلى وادي الأثب :
وبعد مسير أكثر من اسبوعين وصلنا وادي الاثب ، وكنا في أثناء اليسر ندرب بعض الجنود على استعمال البندقيات الأنكليزية كما جربنا المدافع الجبلية ودربنا بعض الجنود على استعمالها .
وقد لفت نظري عند وصولنا وادي الاثب أن المواد الغذائية التي كنا نحملها قد استهلك أكثر من نصفها ، وهو أمر حيوي لا يمكن تجاهله .
مقابلة سمو الأمير علي :
ولما تشرفت بمقابلة سمو الأمير علي عند وصول الحملة ، أدرت أن استوضح منه الوضع العسكري في هذه المنطقة فأعلمني بأن القوات التركية محصنة في مضيق مجز حيث أن فيه غدير ماء وهو يبعد عنا حوالي عشرة كيلو مترات وأن سموه يجهل مقدار القوة التركية المحصنة ، وقد بحثت مع سموه مشاكل التموين وإعاشة المتطوعين الذين تحت قيادته وعددهم يتجاوز الأربعة آلاف من العشائر والمتطوعين من أهل مكة ، وكان بين هذه القوات وحدة من الهجانة بقيادة ابن دخيل ، وكان أكثرهم من المتطوعين من عقيل وكانت هذه الوحدة موجودة على عهد الأترك ثم التحقت بجلالة الملك حسين .
وإني لن أنسى مبلغ السرور الذي عم قوات الأمير علي حين وصولنا، ومعنا هذه المدافع الصغيرة والبندقيات الحديثة والرمانات اليدوية التي اطلقنا عددا منها أمامهم بشكل مظاهرة .
وقد ظلت قضية التموين والإعاشة تشغل فكري ، ذلك لأن ما بقي لدينا منها لا يكفي لأكثر من عشرين يوما على أكثر تقدير ، وأن وصول المؤن من مكة إلينا يتطلب شهرا فتداولت في الأمر مع سمو الأمير علي ، وعرضت على سموه ضرورة تنظيم المواصلات بين معسكرنا وبين مكة وفي نفس الوقت عرضت على سموه ضرورة إجراء استطلاع لمعرفة القوة التركية المحصنة في مجز ، فأمر سموه بعض أفراد حاشيته الخاصة وعددا لا يزيد على العشرين شخصا للقيام بهذه المهمة بقيادتي شخصيا، فاستصحبت معي المرحوم السيد حلمي وسبرنا غور القوة التركية بمصادمات خفيفة استطعت أن أعلم بنتيجتها بأن القوة التركية لا تزيد على فوج واحد .
القضاء على ابن مبيريك : ((ابن مبيريك من شيوخ حرب))
ولما عدنا وبدأنا نتداول في امر الجيش العربي وتنظيمه وتموينه وما يجب علينا عمله ، علمت في أثناء الحديث مع سمو الأمير ، أن الشيخ ابن مبيريك ، أمير رابغ غير منقاد للحركة العربية وأنه يخشى فيما إذا أراد الأتراك التقدم ، أن يتقدموا عن طريق رابغ إلى مكة ، وهو الطريق السلطاني للحج ، وأنه مفتوح أمامهم ، ومعنى ذلك أن لا فائدة من وجود المعسكر العربي في أثب ، تجاه فوج واحد من الجيش التركي ، لذلك استرحمت من سمو الأمير علي ، السماح بالقضاء على ابن مبيريك أولا وسد ذلك الطريق الحيوي في وجه الأتراك ، إذ لا فائدة للجيش التركي من اتباع نفس الطريق الذي سلكناه من مكة إلى أثب ، فأيد سموه هذا الرأي إلا أنه كان يشك في موافقة جلالة الملك حسين عليه ، غير أن سموه اطلعني على كتاب موجه إليه من جلالة الملك وفيه يأمره بأن يسمع كل ما أبديه له من آراء وأن ينفذ الخطط العسكرية التي اقترحها ، ثم قال لي : إذا أردت أن تنفذ هذه الخطة فما عليك إلا أن توقع على وثيقة بهذا الراي وأنا مستعد لتنفيذها على مسئوليتك . فوقعت على كتاب مطول شرحت فيه فائدة هذه الخطة ثم قمت بتنفيذها وكانت هذه الحركة مفاجأة لابن مبيريك ولم يعلم بها إلا قبيل وصولنا رابغ بساعتين ، فهرب وترك كل ما كان لديه من مؤن وذخيرة وحتى أهله ، وكان لهذه الحركة تأثير حسن ، فقد ذهب بعض رؤساء العشائر في تلك المنطقة من الموالين لابن مبيريك إلى مكة لعرض الطاعة على جلالة الملك ، فصادف وصولهم في نفس اليوم الذي وصل فيه الرسول الذي بعثنا معه الرسالة التي تتضمن عزمنا على هذه الحركة ، مما أثلج صدر جلالة الملك وسره سرورا عظيما ، وبالقضاء على ابن مبيريك ، قضينا على مشكلة التموين ، حيث بدأت التجهيزات تصلنا من جدة ورابغ عن طريق البحر ومن مكة في مدة لا تتجاوز خمسة أيام .
وصول عزيز علي المصري وبعض المتطوعين :
وبعد مرور بضعة أيام ، علما بأن عزيز علي المصري وشريف الفاروقي وصلا مكة ، ولما أطلع عزيز علي على هذه الحركة استصوبها .
وفي الوقت نفسه وصلت باخرة من الهند إلى رابغ تحمل متطوعين يزيد عددهم على ثمانمائة جندي وحوالي ثلاثين ضابطا معظمهم من العراقيين وكان بينهم ، مولود مخلص ، ورشيد معروف الأنكورلي ، وعبد الرزاق الخوجة ، وعلي جودت وشكر محمود ، وشاكر عبد الوهاب الشيخلي ، وعبد الله الدليمي ، وحميد الشالجي وعبد اللطيف نوري ، وحامد الوادي ، والمدفعي داود صبري ، وجمال علي ، وسامي عزيز المدفعي ، واحمد رشدي ، وجميل الراوي ، ورشيد المدفعي ، وحسن معروف ، ورشيد خماس ، ومصطفى الشيخلي ، وسعيد يحيى ، مصطفى التكرلي ، وثامر السعدون ، وكان بينهم من السوريين ، حسن فهمي ،واحمد توفيق الحموي ، وفائز الغصين ، وضباط آخرون ، كما وصل عن طريق البر عدد من الأطباء السوريين منهم ، الدكتور محمود حموده .
تنظيم المتطوعين :
وقد قمنا فورا بتنظيم لواء مختلط من المتطوعين الذين وصلوا ، ومن متطوعينا ، وبدأنا بتحصين قرية رابغ ومينائها لتكون قاعدة لنا في الزحف على المدينة ، وفضلا عن ذلك ، فقد سير جلالة الملك أكثر من ألف متطوع بقيادة ابراهيم الراوي وأمرهم بالالتحاق بنا في رابغ ، وكان على رأسهم سمو الأمير زيد، وكان سموه حينئذ لا يتجاوز الثمانية عشرة من العمر ، ثم وافنا سمو الأمير فيصل من الشمال ، عن طريق البحر ، وعزيز علي المصري من الجنوب ، عن طريق البحر ايضا ، فعقدنا عدة اجتماعات تداولنا فيها بشأن تنظيم الجيش والعمل ووضع الخطط للزحف والقتال ، وقد اشترك معنا في ذلك ممثلون عن الحكومتين البريطانية والفرنسية ، وكنت بالإتفاق مع عزيز علي المصري مصرا على ضرورة تجهيزنا بمدافع جبلية جديدة لأنه لا فائدة لنا ، في تلك البلاد ، من المدافع الثقيلة والخيول الأوسترالية التي لا نستطيع تأمين الماء والعلف الكافيين لها على صورة منتظمة وقد حثنا عزيز علي على ضرورة تقسيم الجيش إلى قسمين القسم الأول وهو المهم ، يتكون وينمو ويحارب بصورة اعتيادية كبقية الجيوش ، والقسم الثاني يتألف من جحفل سيار مجهز بأسلحة خفيفة تكون مهمته الحركة وراء خطوط الأتراك في الجزيرة إلى القطر السوري وذلك لإلقاء الرعب والإرتباك في مواصلات الأتراك وشل حركتهم بحيث لا تستطيع القوات التركية أن تلحق به أضرارا جسيمة ، فهو يتحرك كيف يشاء إلى الشمال أو الجنوب ويعود إلى قواعده ليستريح ويتزود بما يحتاج إليه وقد استحسن الأمير فيصل هذه الفكرة وطلب أن يكون هذا الجحفل تحت قيادته وأن تبقى القوة الأصلية تحت قيادة أخيه علي ، ولتحقيق هذه الفكرة تقرر أن يكون مولود مخلص ، مشاورا عسكريا لسمو الأمير فيصل ، وأن يلتحق بسموه عبد الله الدليمي مع أربعة رشاشات وأن يكون الدكتور شرف ، السوري طبيبا لنواة هذا الجحفل وعلى ذلك عاد سمو الأمير فيصل مع هذه القوة إلى قاعدته في ينبع النخل .
سقوط الطائف :
وبينما نحن منهمكون في هذا التنظيم ، وصلتنا أخبار سقوط الطائف بيد الأمير عبد الله ،((شارك أغلب عتيبه في الحجاز في فتح الطايف مع عبد الله بن الحسين كما أخبر عبدالله بنفسه في مذكراته))واستسلام القوات التركية مع جميع معداتها إلى سموه ، وكانت هذه القوات تحت قيادة اللواء على غالب باشا ، فتفرغت قوات الأمير عبد الله وحضر سموه إلى رابغ ، فتداول مع سمو أخيه الأمير علي ، وتقرر أن نتعاون معا في حصار المدينة من جهة الشرق في موقع يسمى الحناكية ، على أن تعود المدفعية التي كانت مع سموه على رابغ ، وقد سميت هذه القيادة بالقيادة الشرقية .
ثم وصلتنا إلى رابغ نجدة مصرية مؤلفة من فوج من المشاة وسرية رشاشات وبطارية جبلية وكانت هذه القوة بقيادة اللواء السيد على باشا ووصلتنا كذلك بطارية جبلية فرنسية بقيادة الكولونيل قاضي المغربي ، وكان جنودها من المغاربة ووصلنا ايضا رف من الطائرات البريطانية بقيادة الميجر روس .
وصول نجدات تركية إلى المدينة :
وفي شهر تشرين الأول سنة 1916، وصلت إلى المدينة نجدات تركية قوية تقدر بأكثر من فرقة ، فقررت القيادة التركية الزحف على مكة ، فخرج رتلان من المدينة فاندحرت أمامهما قوات الأمير فيصل في ينبع النخل ، وتوجه الجيش التركي من جهة أخرى نحو طريق الحج السلطاني إلى الجنوب باتجاه رابغ وبناء على أمر جلالة الملك حسين ن زحفت القوات العربية بقيادة الأمير علي من رابغ إلى الشمال ، وكانت مؤلفة من أربعة أفواج من المشاة ونحو 16 رشاشة وبطارية صحراء عيار 18 رطلا وبطارتين جبلتين إحداهما عيار 2.75 والثانية تركية من مخلفات الأتراك ، وبيرق هجانة ابن دخيل المؤلف من ثمانمائة متطوع ، وقوة عشائرية تتراوح بين الفين وثلاثة آلاف من الهجانة وقد تركنا في رابغ القوات الأجنبية ،فوصلت هذه القوة إلى آبار ابن حصاني ، الواقعة على هذا الطريق ، وكان بيننا وبين القوات التركية الزاحفة 30 كيلومترا وكنا مصممين على الزحف في اليوم الثاني للإتصال بالقوات التركية وقد أعددنا الخطة لذلك ، وكان الفرح يملأ صدورنا للقاء الجيش التركي ، وقد التحق بنا عزيز علي المصري ليشرف على سير القتال ، وبينما نحن في هذا إذ برسول يأتي من سمو الأمير علي يطلب مني الحضور أمامه ولما قابلته أعلمني بأن العشائر المحلية قد لا يؤمن جانبها ، وعليه فإن الأوفق أن تعود القوات إلى قاعدتها في رابغ ، وعبثا حاولت اقناع سموه بتغيير رايه لأن العشائر ستنحاز إلينا إذا رأت إننا انتصرنا على القوات التركية ، ولما لم أوفق في مسعاي ، أضطررنا إلى العودة إلى رابغ ، وكان لهذا التراجع تأثير سيء في نفسية الجيش ومعنوياته .
ولا اريد أن اكتم عنكم الحقيقة في سبب إصرار سمو الأمير علي على رجوع الجيش إلى رابغ كما أطلعنا عليها فيما بعد وهو أن أحد الضباط دس إلى سموه خبرا مفاده أن عزيز علي المصري كان متآمرا مع القائد التركي وأن في نيته أن يضرب المتطوعين من أهل الحجاز بهه القوة والقوة التركية الزاحفة للقضاء على الحركة، ولما علمنا بهذه الدسيسة أضطررنا إلى أبعاد ذلك الضابط ولكن هذا الإجراء لم يزل الأثر السيء الذي تركته هذه الدسيسة والذي كان بعيد المدى بحيث ترك عزيز علي المصري الجيش وعاد إلى مصر .
أما الجيش التركي ، فقد واصل زحفه ووصل إلى آبار ابن حصاني ، وأن العشائر الحجازية ، ومنها فرع الأحامدة من عشيرة حرب ، ثارت وراء خطوطه وعرقلت المواصلات ونهبت القوافل مما أضطر القائد التركي إلى وقف الزحف والمرابطة في المواقع التي وصل إليها ، وعبثا حاول الأتراك حفظ خطوط مواصلاتهم مع المدينة ، وكانت العشائر تأتي بالغنائم والأسرى الأتراك إلى رابغ لتسلمها إلى الأمير علي ، وأحيانا تذهب إلى ينبع لتسلمها إلى الأمير فيصل .
وبعد مرور حوالي الشهرين ،اضطرت القوات التركية إلى الانسحاب من مواضعها بصورة تدريجية ،وذلك ليأسها من التغلب على العشائر وتأمين مواصلاتها .
وقد وصلنا ونحن في رابغ بعض الضباط المتطوعين ، الذين كانوا قد أسروا في جبهة القفقاس من قبل الجيش الروسي ، ومنهم توفيق الدملوجي، وشكري الشوربجي من سوريا .

                                      

سفر سمو الأمير زيد :
وفي كانون الأول 1916 وردنا أمر من جلالة الملك حسين يقضي بسفر الأمير زيد وبأمرته ألف من العشائر وفوج من المشاة في الطريق الفرعي إلى الشمال متجها نحو غدير مجزان ، فأحببت مرافقة سموه لاستطلاع ذلك الطريق وجمع المعلومات عن القوات التركية في هذه المنطقة ، ومن طريف ما أتذكره عن هذه الرحلة أن البرد كان قارصا وكان سمو الأمير لا يرتدي غير ثوب من القطن وعباءة صوف شتائية ، ولم يكن سموه يستطيع أن يرتدي أكثر من ذلك خشية أن يصل الخبر إلى جلالة والده ، فكان يأمر بعض الأفراد بأن يناموا في خيمته ليلا لتدفئتها بطريقة التنفس ، فما كان مني إلا أن قدمت لسموه قميصا من الصوف وجوربان والححت عليه بارتدائهما ، فقبل بعد تردد شديد وتخلص من هؤلاء الذين كانوا ينامون في خيمته .
بقيت مع سموه بضعة أيام ، وكانت الأخبار التي وصلتنا خلالها تدل على أن الأتراك قد توقفوا توقفا تاما عن الزحف إلى الجنوب .
الزحف على بدر ووادي الصفراء :
ولما عدت إلى رابغ وجدت استعدادات الأمير علي قائمة على قدم وساق للزحف على بدر ووادي الصفراء وفي الوقت نفسه كنا قد تسلمنا البطارية الجبلية المصرية .
وبعد بضعة أيام زحفنا في هذا الاتجاه وقد دلت استطلاعاتنا على أن الجيش التركي يخندق في طرفي الطريق وفي طرف بئر درويش ، وأن قوته في هذه المنطقة لا تزيد على ثلاثة أفواج من المشاة وبطارية مدفعية مع بضع رشاشات ، فقررنا الإجهاز على المعسكر التركي بهجوم مباغت .
معركة بئر درويش :
وبعد بضعة أيام زحفنا نحو بئر درويش ، وبعد الاستطلاع وجدنا أن الأتراك يحتلون موضعا دفاعياً على طرفي المضيق بفوج مشاة واحد وأنهم أقاموا عددا من الربايا على القمم الكائنة على جانبيه ، وتركوا فوجين آخرين وراءهم في بئر درويش مع بطارية وبضع رشاشات وكانت رباياهم مسيطرة على المضيق والطريق بنفس الوقت وقد حصنوها بالحجارة .
أما قوات الجيش العربي ، فكانت تتألف من كتيبة هجانة آمرها حميد الشالجي ، وثلاثة أفواج مشاة وبطارية صحراء أمرها ابراهيم الراوي ، وبطارية جبلية مصرية آمرها داود صبري ، وبطارية أخرى هندية وهي من طراز قديم بطيئة الرمي غير مجهزة بالدرع وكنا نسمي مدافعها بمدافع فكتوريا لقدمها ، وثلاثة آلاف متطوع من العشائر بينهم قسم من عشيرة بني سعد القاطنة بأطراف المضيق((كان أغلب قبيلة الثبته الشجاعه المشتركه في الثوره العربيه في جيش علي بن الحسين بقيادة أمراءها))،وقسم من ثقيف والباقون من حرب .
ذهبت للإستطلاع للوقوف على موقف الأتراك وقواتهم في وادي الصفراء لمسافة 20 أو 30 ميلا من قمة تشرف على مواضعهم وعلى خيامهم ، فقدرت قواتهم ورجعنا مساء وأخبرت سمو الأمير علي بذلك ، وكان معي ضابط الركن علي جودت ، وصممنا على أن تهاجم العشائر المضيق والجبل (آ) وتقوم القوة النظامية بالتفاف من جهة اليسار لأن الأرض أسهل ونهاجم العدو بعد نجاح العشائر في هجومها وقد أوضحنا لسمو الأمير علي أنه إذا لم تنجح العشائر في هجومها ، فإن القوة النظامية قد لا تستطيع الرجوع ، وأنها تكون معرضة للخطر ، فالحركة تنطوي على مغامرة ونجاح القوة النظامية متوقف تمام على نجاح العشائر .
لذلك اهتم سمو الأمير علي بهذه القضية ، وجمع رؤساء العشائر وشيوخهم وبسط لهم الموقف وبين لهم خطورة مهمتهم ، وأخبرهم بأن نجاح القوة النظامية متوقف على نجاحهم وذلك بثباتهم واستيلائهم على القمة اليسرى (ب) على الأقل لتتمكن القوة النظامية من الرجوع في حال الفشل ، لاحظ المخطط .
زحفت قوات العشائر ليلا ، ثم زحفت القوات النظامية من الوادي ، وتجمعنا في محل كنا نخمن أنه جنوب غربي التحكيمات التركية خارج مدى تأثير نيران البندقيات وعند الفجر سمعنا أزيز الرصاص مما دلنا على اشتباك العشائر بالأتراك فتهيأنا للتقدم ، وفعلا تقدمنا مسافة ثم توقفنا منتظرين المعلومات عن مدى نجاح العشائر ، وقد تأخر الخبر إلى حوالي الساعة 1000 فذهبت بنفسي لأرى جلية الأمر فرأيت آخر ربيئة تركية تسقط بيد العشائر وكان رجال العشائر يستخدمون طريقة خاصة للتخفي وذلك باستخدام عمة جسيمة وعالية لحمل الجنود الأتراك على فتح النار ظنا منهم أنها رؤوس العرب ثم أتاني مراسل موفد من سمو الأمير علي وأخبرني بأن المضيق بحوزتنا فتقدمت بالقوة الأصلية وهكذا أصبح بإمكاننا التقدم من أي اتجاه كان وقررنا القيام بالهجوم في صباح اليوم التالي ، وفي الصباح وجدنا الأتراك قد أنسحبوا ليلا ، ولم تستطيع قواتنا التماس إلا مع مؤخرتهم ودخلنا بئر درويش في اليوم التالي .
كانت خسائرنا 10 قتلى و20 جريحا من العشائر و3 جرى من القوة النظامية ، أما خسائر الأتراك في المضيق فكانت لا تقل عن 300 قتيل وأسرنا حوالي 200أسير وغنمنا عتادا وبندقيات وتجهيزات تركوها في معسكراتهم وبينها أدوات الطبخ .
كان بين الجرحى الأتراك نحو 20 جريحا مصابين بجروح خطيرة بينهم 8 أو 9 ضباط ، فقررنا إعادتهم إلى القيادة التركية للإعتناء بهم نظرا لطول خطوط مواصلاتنا واحتمال موتهم أثناء النقل .
لقد كان لنجاح معركة بئر درويش تأثير كبير في نتيجة الحرب في الحجاز ، وفضلا عن ذلك ، فقد جعل للمتطوعين العرب النظاميين مركزا كبيرا في نظر العشائر وأهالي الحجاز وزاد في احترامهم وتقديرهم للضباط ، وجعل جلالة الملك حسين يفكر في إحداث وسام النهضة على أثر هذه المعركة .
تطبيق ميثاق الهلال الأحمر :
وكان تأثير هذه المعركة في نفسية الأتراك عظيما جدا وذلك لأننا أعدنا إليهم ما يزيد على العشرين جريحا من أسراهم الذين كانت جروحهم خطرة ولا يمكن نقلهم إلى المستشفيات في مصر ، وفي الوقت نفسه وجهنا رسالة إلى القائد التركي نبلغه فيها بأن أمامه جيشا نظاميا ونطلب منه أن يكون التعامل بيننا بشأن الأسرى والجرحى على أساس ميثاق الهلال الأحمر ، هذا بالإضافة إلى مطالبتنا بانسحابهم من البلاد العربية وإخلائها وتسليم إداراتها إلى شريف مكة وقيادة الجيش العربي ، وحصر قتالهم في التخوف التركية ، وقد أرسلنا إلى بعض الضباط الأتراك من رفقائنا ، الذين سمعنا بوجودهم هناك ، بكميات من السكاير والحلوى ، ثم جاءنا جواب القائد التركي وفيه يرفض الإعتراف بنا كجيش نظامي واعتبرنا من العصاة فكان جوابنا على ذلك هو أن كل معاملة يعامل بها الأسرى العرب خلافا لميثاق الهلال الأحمر ستقابل منا بمثلها لا سيما وقد تجمع لدينا من الأسرى الأتراك ما يزيد على أربعمائة ضابط وأكثر من عشرة آلاف جندي في ذلك الحين .
معركة آبار الماشي :
وبعد سقوط بئر درويش بثلاثة أسابيع زحفنا على آبار الماشي ، وطلبنا من سمو الأمير زيد أن يلتقي بنا ويكون على ميمتنا تبعد عن تلك الآبار بنحو أربعة عشر كيلومترا ، وكانت قوة سمو الأمير زيد تتألف من نحو ألف من رجال العشائر وفوج من المتطوعين .
استطلعنا قوة الأتراك ووجدنا أن الأتراك قد حصنوا مواضعهم على الجبل (1) بدقة تزيد على دقتهم في تحصين بئر درويش وبلغنا وجود ألغام في الوادي ، وكانت قوة الأتراك تقدر بلواء ، وكان في إمكانهم جلب احتياط من المدينة وكان الماء متيسرا للقوات المعسكرة هنا أكثر منه في بئر درويش حيث يوجد في بئر درويش بئر واحد ، وكان للأتراك مخفر على التل الجنوبي المنفرد ( التل 1) ترابط فيه قوة تقدر بفصيل واحد .
وعليه قررنا أن يزحف سمو الأمير زيد من الجنوب ، بقواته النظامية والعشائرية وسمو الأمير علي من الغرب وكانت الخطة كما يلي :
أ‌. تهجم العشائر من قوات الأمير زيد من الجنوب إلى الأمام ، نحو مواضع القوات النظامية في الخلف احتياطا لها .
ب‌. تهجم العشائر من قوات الأمير علي من الشمال الغربي نحو مواضع العدو وتهجم القوات النظامية من جنوبي الطريق .
فتقدمنا وفقا لهذه الخطة واستولينا على المخفر ، وانتخبت مواضع المدفعية وراء الجبل وحصلت في اليوم الأول مناوشات بسيطة ، وفي المساء وصلت قواتنا إلى مسافة 400 -500 متر من حامية بئر الماشي وسمعنا صوت انفجار الغام أمام جنودنا فظننا في بادئ الأمر أنها أصوات مدافع تركية ، وكانت مدفعية الأتراك تشاغلنا ، غير أن رمي مدفعيتنا كان أدق ، وكان المقرر إنهاء المعركة في اليوم التالي .
ولم ننجح في تحقيق ما كنا نتوقعه وذلك بالنظر إلى وصول نجدة قوية للأتراك في اليوم التالي . وقد فوجئنا بانصياب نار مدفعية تركية قوية على مدفعيتنا ، وكان من تأثير النيران المنصبة من الجبهة والجناح الشمالي أن بدأت العشائر تشعر بضعفها فلم تجرؤ على التقدم وأذكر أن المرحوم داود صبري كان آمرا للبطارية المصرية وكانت أحسن من البطارية الجبلية الموجودة لدينا ولم يكن مداها المؤثر يزيد عن 2000 متر ، ولما بدأت المدفعية التركية تصيب مدفعيتنا رأيت داود صبري يأمر بقطع النار ويخرج منديله ويضعه على وجهه وينام . فظننت في بادئ الأمر أنه يريد أن يثبت للجنود برودة دمه ، ولكن لم ألبث أن تبينت أنه نام من التعب والإعياء .
وبقينا إلى الظهر ننتظر هجوم العشائر ، غير أنه لم يتقدم منها أحد ، نظرا لتضعضع معنوياتها ، وجاءني آمر بطارية الصحراء ابراهيم الراوي يخبرني بأنه لم يبق لديه إلا 30 طلقة أما البطارية المصرية فكان عتادها كافيا ، بينما البطارية الجبلية الثانية لم يبق لديها إلا القليل من العتاد ، وكان أمامنا ما لا يقل عن 6 بطاريات تركية ، ثلاث منها صحراوية ، ونظرا لتعذر إجبار العشائر على الهجوم ، كما ظهر ، قرر سمو الأمير علي الإنسحاب إلى المضيق للمداولة ، حيث تذاكر مع رؤساء العشائر وقرروا الإنسحاب إلى بئر درويش انتظارا للحصول على مدافع إضافية وعتاد كاف نظرا لما شاهده من تأثير نار المدفعية على معنويات العشائر .
ولم نتمكن من أخذ أكثر من بضعة أسرى وجرح منا عدد يسير جدا .
وبعد معركة آبار الماشي انتقل سمو الأمير عبد الله من الحناكية إلى وادي العيص((كما أخبرنا كبار السن كان أغلب القوه المشتركه في الثوره العربيه من قبيلة الجعده بقيادة الامير حريبيش بن شرير وغيره من أمراء الجعده في جيش عبد الله بن الحسين المعروف بالجيش الشرقي وهذا هو الجيش الذي خاض معركة تربه لذلك شارك الجعده في معركة تربه)) وطلب أن نرسل إليه ضابطا فارسلت السيد حلمي وضابطا آخر معه.
القيسوني وكيلا للحربية :
ثم حصل توقف في الحركات ، وجاءنا خبر من مكة مفاده أن ضابطا مصريا برتبة يوزباشي تسلم وكالة الحربية في مكة بدلا من عزيز علي المصري ، فأثار هذا التعيين تذمر واشمئزاز جميع الضباط العرب مما دفعني إلى توجيه رسالة شديدة اللهجة إلى ذلك الضابط المسمى قيسوني ، فما كان منه إلا أن رفع رسالتي إلى جلالة الملك حسين فاستاء منها وأمر الأمير علي بأن يرسلني مكة للمثول بين يديه ، وقد تردد سمو الأمير في تنفيذ أمر والده إلا انني أصررت على الذهاب إلى مكة لحل هذه المشكلة بالنظر لما أحدثته من أثر سيء في نفوس كافة الضباط العرب المتطوعين .
مقابلة جلالة الملك :
ولما وصلت إلى مكة قابلت جلالة الملك فوجدته متأثرا أكثر مما كنا نتصوره ، لأنه اعتبر رسالتي الموجهة إلى القيسوني تحديا لأوامر جلالته ، وقد حاولت أن أبسط لجلالته ما أحدثه هذا التعيين من نفور وألم في نفوس الضباط المتطوعين من العرب ، ذلك لأنهم لم يلبوا دعوة جلالته ليكون على رأسهم ضابط بعيد عن الشعور العربي ، فضلا عن أنه أقل منهم قدما وخبرة في الشئون العسكرية .
وقد اكتفى جلالته بأن نقلني من محلي وألحقني بسمو الأمير عبد الله وأني عطف أصحاب السمو الأمراء ، علي وعبد الله وفيصل ، الذين كتبوا إلى جلالة والدهم بضرورة رعايتي لأني لم أكن إلا ممثلا لرأي كافة الضباط العرب الذين تأثروا تأثيرا عظيما من أبعاد عزيز علي المصري وتعيين القيسوني بدلا منه .
وصدوعا بأمر جلالة الملك سافرت إلى ينبع للالتحاق بسمو الأمير عبد الله في وادي العيص ،(( عين الامير حريبيش بن شرير أمير للعيص بعد أنتهاء الثوره العربيه من لدن الملك حسين بن علي ملك الحجاز)) ولما وصلتها تشرفت بمقابلة سموه وتداولت معه في ضرورة تكوين جيش نظامي له يتألف من بطارتين أو ثلاث ولواء من المشاة وسرية من الهندسة وكتيبة من الهجانة

  
زحف الأمير فيصل :
وفي أثناء ذلك ، كان الأمير فيصل قد دخل أملج ، ومنها توجه إلى الوجه ، بعد أن أسر الحامية الموجودة في أملج وذلك في أوائل 1917، وفي هذا التاريخ التحق بسموه جعفر العسكري قادما من مصر مع بعض المتطوعين من العراقيين والسوريين ومعهم نوري الكويري من طرابلس الغرب ، فانضموا إلى قوات سموه في الوجه .
وكان سمو الأمير عبد الله يرسل السرايا من العشائر ومعهم كميات من الديناميت لنسف السكة الحديدية بجهة بواط شمالي المدينة .

 

سقوط بغداد :
وقد بلغنا خبر سقوط بغداد بيد القوات البريطانية فطلبنا أن يكون العراق ضمن إدارة الملك حسين وأن تذهب بعثة من ضباط العرب المتطوعين إلى بغداد للدعاية للتطوع في الجيش العربي وإفهام الناس كنه القضية العربية وحقوق العرب وبعد مراسلات طويلة وافق الأنكليز على ذلك ، إلا أنه لسوء الحظ لم تكن هذه البعثة من ضباط أكفاء فلم يوفقوا في مهمتهم كما كان متوقعا ، والسبب في إرسال هؤلاء الضباط هو أن الضبط الأكفاء كانوا مشغولين في جبهات القتال .
الاستشفاء في مصر :
وبينما كنا منهمكين في تنظيم جيش الأمير عبد الله حسب المقترحات التي أبديتها والاتصال بمكة لجلب قسم نظامي من جيش سمو الأمير علي ، اعتراني المرض فأقعدني عن العمل ثم اضطرني إلى السفر مصر للاستشفاء.
سقوط العقبة :
وفي خلال مدة مرضي بلغني خبر سقوط العقبة بيد العشائر التي كانت تعمل تحت أمرة سمو الأمير فيصل والتي كان رئيسها الشيخ عودة أبو تايه فانتقل مقر الأمير فيصل إليها .
أن تقدم الأمير فيصل من الوجه إلى العقبة ، كان يستند على قيام العشائر بهجمات على الحاميات التركية وإرسال السرايا لنسف السكة الحديدية في جهة تبوك والعظم ، على أني أجهل تفاصيل هذه الحوادث التي كانت مفيدة جدا من الناحية العسكرية لعرقلة تموين القوات التركية في المدينة من ناحية ، وتقوية معنويات العرب من ناحية أخرى .
وقد بلغني عن سقوط العقبة ، أن الشيخ عودة ابو تايه تحرك من الوجه مع عشيرته التوايهة ومعه سرية من الهجانة وبرفقتهم لورنس ، فتوجهوا نحو الشمال ولما اقتربوا من العقبة علموا بأن حاميتها ضعيفة لأنها كانت مؤلفة من فوج تركي ضعيف فباغتوها واحتلوها .
ولما وصل هذا الخبر إلى القائد التركي في معان أرسل لواء من ثلاثة أفواج لاسترداد العقبة وكان على رأسه الزعيم نظيف بك الذي اشتهر بتدريب المشاة في الكلية العسكرية في استانبول فكمنت القوات العربية في أطراف مضيق النقب بالقرب من أبي اللسن ، وعند مرور القوات التركية متوجهة نحو العقبة هاجمتها عشيرة التوايهة وأبادتها وأسرت قائدها وما يزيد على ألف وستمائة أسير جرى سوقهم في العقبة ، وضمهم إلى زملائهم الأسرى ، بانتظار نقلهم إلى المعتقلات .
المحاضرة الثانية
القيت في دار الضباط يوم 6 مايس 1947
القسم الثاني : من سقوط العقبة حتى اغسطس 1918
الإجتماع بالضباط العرب في مصر :
حدثتكم في المحاصرة السابقة عن حادث مرضي واضطراري إلى السفر إلى مصر للاستشفاء ولما تماثلت للشفاء وعزمت على العودة إلى الحجاز،علمت بوجود بعض الضباط العرب من عراقيين وسوريين ، قيد مراقبة الجيش البريطاني في ثكنة قصر النيل ، وقد وصلتني بطاقة من تحسين علي ، وكان من ضمنهم ، يخبرني فيها بوجودهم في الثكنة المذكورة ويطلب مقابلتي بأسرع ما يمكن .
فأستاذنت القيادة البريطانية وقمت من فوري بزيارتهم في الثكنة فوجدت في تحسين علي وعلاء الدين جواد ويوسف عز الدين ورشيد احمد ( من مندلي) وعبد الرحمن شرف وحسن غصيبة ، وقد علمت منهم بأن سبب وجودهم في الثكنة هو أنهم أرادوا الالتحاق فورا بالجيش العربي في الحجاز مما أدى إلى سوء تفاهم بينهم وبين الضابط البريطاني المسؤول عنهم ، ثم علمت بأن عددا كبيرا من الضباط العراقيين والسوريين المتطوعين وصلوا إلى السويس وأن في نية القيادة البريطانية تجهيزهم وتدريبهم على استعمال الأسلحة الأنكليزية ومن ثم نقلهم إلى أحد الموانئ الحجازية لينضموا إلى المتطوعين في الجيش العربي
وقد راجعت القيادة البريطانية واستطعت أن أخرج إخواني الضباط من ثكنة قصر النيل وبستطت لهم حالة الجيش العربي في الحجاز في الميادين المختلفة ، بقيادة أصحاب السمو أنجال الملك حسين ، ثم ساعدتهم على تجهيز أنفسهم بما يحتاجون إليه في سفرهم للإلتحاق بإخوانهم المتطوعين في الحجاز .
في معسكر الإسماعيلية :
ثم قصدت معسكر الإسماعيلية وقابلت الضباط والجنود العرب فيه ، فوجدتهم على أحسن ما يكون من حالة نفسية واستعداد للقيام بواجبهم لخدمة بلادهم .
وأذكر من بين الضباط الذين قابلتهم في الإسماعيلية من العراقيين ، قاسم راجي وعبد الوهاب الشيخ محمود والسيد طاهر السيد يوسف ورشيد علي وناجي شوكت وأخيه رفعت شوكت وحمدي صدر الدين وابراهيم كمال وبهاء الدين نوري وعبد المجيد الهاشمي واسماعيل نامق وعبد المجيد الشيخلي وعبد الغفور البدري واحمد رمزي وحسن علي وجمال بابان وأحمد الباجه بجي ( ابن عمتي كما كان يسمى) وبهجت الكروي وإمام الجيش صلاح الدين الضراع ، ومن الضباط السوريين حسن وفقي وحسن خلقي وغيرهما ، وكان عددهم جميعا على ألف متطوع .
المتطوعين اليهود :
وقد لفت نظري وجود مائة متطوع من اليهود العراقيين وعلى رأسهم ضابطان يهوديان جاؤوا من معتقلات الأسرى للعمل تحت راية الملك حسين ، وقد حاولت القيادة البريطانية والفرنسية فصل هؤلاء المتطوعين عن بقية إخوانهم واستخدامهم في جبهة فلسطين فلم تفلح إذ أصروا على الخدمة تحت الراية العربية في الحجاز.
عودتي إلى الحجاز وبقائي في العقبة :
بعد أن أنتهيت من زيارة المتطوعين العرب السالف ذكرهم غادرت مصر متوجها إلى الحجاز فرست بناء الباخرة في العقبة ، وبقيت فيها يومين لتفريغ حمولتها من المؤن والذخائر الحربية التي جاءت بها لجيس سمو الأمير فيصل ، وقد التقيت في العقبة بالمرحوم جعفر العسكري فوجدت لديه ولدى سمو الأمير فيصل رغبة شديدة في بقائي معهما في العقبة ، إلا إني كنت مترددا في ذلك خشية أن ينصرف الذهن إلى أني لا أميل إلى الاستمرار في العمل مع سمو الأمير عبد الله وقد شاءت الأقدار أن يتفشى وباء الهيضة في العقبة وتقطع المواصلات بينها وبين بقية المواني فاضطررت إلى البقاء فيها ثلاثة أسابيع ساعدت في خلالها على تنظيم جيش الأمير فيصل .
ولما أردت السفر ، بعد أن تيسرت المواصلات أصر سمو الأمير فيصل على بقائي معه فالتمست من سموه أن يستأذن في ذلك أولا جلالة الملك حسين وثانيا سمو الأمير عبد الله فوردت موافقة جلالة الملك حسين أما سمو الأمير عبد الله فقد بقي غير راض عن ذلك وقد عاتبني عن ذلك مرارا ولا يزال يجدد العتاب كلما تذكر هذا الحادث ، أما بالنسبة إلى فإنني لم أكن أرى فرقا في العمل تحت راية أي من أصحاب السمو الأمراء ، ما زلت قد اوقفت نفسي للخدمة ، وقد خدمت فعلا تحت أمرة أصحاب السمو الأمراء ، علي وعبد الله وفيصل وزيد، دون أن أشعر بأي فرق أو تمييز .

                  

جيش الأمير فيصل :
كان جيش الأمير فيصل موزعا كما يلي :
فوج واحد وعدد المتطوعين ومدفعان جبليان بقيادة مولود مخلص في وادي موسى نحوا من خمسمائة متطوع بقيادة الشريف علي بن هزاع في عين دلاغة ، قرب معان عشيرة التوايهة ، وهي فرع عشيرة الحويطات بأطراف معان ، وكانت تشن غاراتها من وقت لآخر على السكة الحديدية وعلى بعض النقاط الضعيفة للحاميات التركية المرابطة على طول خط السكة الحديدية قوة من الهجانة تتراوح بين 150و200 مع مرزوك الدخيمي وهي تتجول في المنطقة الواقعة بين معان وجبل الدروز ، وتتولى وضع الألغام على السكة الحديدية ونسف القطارات في محلات مختلفة ، وتقوم ايضا بخطف الأشخاص لتحصل منهم على معلومات عن حركات الجيش التركي وأحواله ، أما العقبة نفسها ،قد كانت فيها بطارية جبلية فرنسية وهي التي كانت في رابغ ونحو ست طائرات إنكليزية تتعاون مع العرب في الإستطلاع وأحيانا في قصف بعض الحاميات التركية وكانت فيها ايضا أربع سيارات مدرعة وعدد من وسائط النقل الآلية بأمرة ضابط بريطاني يسمى الكولونيل جويس ، وكان تحت أمرته ايضا ما يزيد على ألفين من المتطوعين في الجيش النظامي وأكثرهم من أهل الحجاز والعراق وسوريا وفلسطين ، وبطاريتان من المدافع الجبلية عيار 2.75 عقدة ونحو اثنتي عشرة رشاشة فيكرس وبطارية صحراء عيار 18 رطلا وبطارية قوس عيار 4.50 عقدة ، هذه عدا القوة العشائرية التي كان عددها يتراوح بين 3000 و 4000 بندقية .

  
تنظيم جيش الأمير فيصل :
ذلك كان وضع جيش الأمير فيصل عند وصولي إلى العقبة ، وقد تداولنا في شأن تنظيم هذا الجيش وتنسيقه مع المتطوعين العرب القادمين من مصر والذين سيصلون بعدهم وتنظيم المواصلات ووحدات النقل خلف الخطوط عند الزحف إلى الشمال فاستقر الرأي على أن نبدأ بتنظيم فرقة من لوائين من المشاة يضاف إليها المدفعية المار ذكرها وكتيبة من الهجانة وكتيبة من الخيالة فلما انتهينا من تنظيمها سميت بالفرقة الأولى ووضعت تحت قيادة قاسم راجي ، ثم وضعنا ملاكات لهذا الجيش تكفل نموه بحيث أن المتطوعين الذين سيلتحقون بنا سيجدون محلا لهم في هذا الجيش فور التحاقهم .
وقد الححنا كثيرا على القيادة البريطانية لتمدنا بما نحتاج إليه من المدافع والرشاشات لنجعل الفرقة الأولى صالحة للخدمة على الوجه المطلوب .
أما صعوبات النقل فقد كانت عظيمة وستظهر لكم هذه المشكلة على صورة جلية عند إسهابنا في الحديث عن المعارك حيث كنا نضطر إلى وقف القتال أحيانا لعدم وصول المؤن والعتاد في الوقت المناسب .
وضع الجيش البريطاني :
كانت قوات المارشال اللنبي تقاتل على خط يبدأ من أطراف غمرة وبير السبع والخليل وينتهي في وادي الشريعة في شرق الأردن وكان الاتصال بين هذا الجيش وبين الجيش العربي عن طريق وادي العربة .
ازدياد المتطوعين :
أخذ عدد المتطوعين العرب من الضباط وضباط الصف والجنود في الإزدياد وذلك إما نتيجة وقوعهم أسرى بيد القوات البريطانية واما بهروبهم والتحاقهم بنا عن طريق جبل الدروز ، كما فعل ثابت عبد النور ، وأما بوقوعهم أسرى بيد الجيش العربي حيث يظهرون رغبتهم في التطوع كما فعل ناجي الأصيل وآخرون من السوريين .
لقد استغرق تنظيم هذه القوات وقتا غير قليل مما أدى إلى تذمر فريق ممن ليست لهم خبرة كافية في تنظيم الجيوش وتموينها .

  
هجوم تركي مفاجئ :
وقد فوجئنا في أواخر صيف 1917 بهجوم قوة تركية مؤلفة من لواء مختلط ومعه بعض المدفعية ، خرجت من معان وهاجمت حامية وادي موسى التي كانت تحت قيادة مولود مخلص ، فقاومت هذه الحامية حتى الغروب وكبدت المهاجمين خسائر فادحة إلا أنها اضطرت بنتيجة ضغط المهاجمين على التراجع إلى جهات بترا وهو موقع آثار رومانية قديمة في الوادي الذي ينتهي بوادي عربة ، وألقت المدفعين الجبلين اللذين كانا معها من قمة الجبل إلى الوادي لتحطيمهما خشية وقوعهما بيد الأتراك .
اللياثنة تبيد القوة المهاجمة :
لم يمض على انسحاب حامية وادي موسى في الظلام أكثر من ساعتين حق لحق بها بعض الخيالة من العرب من عشيرة اللياثنة ، وأخبروا مولود مخلص بأن عشيرتهم بالأشتراك مع أهالي وادي موسى قد أجهزوا على القوات التركية وأبادوها ، فما كان من مولود مخلص إلا أن رجع بقواته إلى المواقع التي سبق له أن أخلاها في المساء .
وبعد يومين جاءنا مولود مخلص ومعه بعض المشايخ الذين قاتلوا في هذه المعركة ومعهم الغنائم من بنادق وتجهيزات ورشاشات مما استولوا عليه في هذه المعركة وبعض الأسرى .
هجوم مقابل :
لقد عزمنا على القيام بهجوم مفاجئ كالذي قامت به القوات التركية في وادي موسى ، واخترنا محطة جرف الدراويش هدفا لهجومنا وقد اخترنا هذه المحطة لأنه كان فيها جسر كبير للسكة الحديدية وكانت حاميتها لا تتجاوز الفوجين مع مدفعية ضئيلة وكان التغلب عليها وتخريب الجسر المهم مما يتناسب مع ما نستطيع عمله في تلك الظروف ، ريثما تستكمل قوات الجيش الأصلية استعداداتها للزحف إلى الأمام ، وعلى ذلك هيأنا حملة صغيرة مكونة من فوج المشاة ومدفعين جبليين وثمانية رشاشات وقوة من العشائر تقدر بالف وخمسمائة مقاتل أكثرهم من عشيرة بني صخر ، وقد تركت وظيفتي كرئيس لأركان الجيش الشمالي وتوليت قيادة هذه القوة بنفسي على صورة مؤقتة مع الشريف ناصر ، فزحفنا وقطعنا السكة الحديدية من شمال معان وبتنا ليلتين في العراء ، وقبيل الفجر ، من اليوم الثالث من زحفنا ، باغتنا المحطة بهجوم مفاجئ فلم تدم المعركة أكثر من ساعتين انتهت باستسلام الحامية التركية ، وقد ظهر لنا أن عدد أفراد الحامية لم يكن يتجاوز ألف جندي بينهم ثلاثون ضابطا وأمر برتبة عقيد ومدفعين جبليين وبضع رشاشات ، ووجدنا في المحطة قطارا يحتوي على أكثر من خمسين مقطورة محملة بالمؤن والذخائر والعتاد في طريقها إلى حامية المدينة ، نسفنا الجسر بحيث لا يتيسر إصلاحه بأقل من بضعة أسابيع ، وقد وجدنا بين المؤن كميات لا يستهان بها من اللحم المقدد (الباسطرمة ) فظن البدو أنها لحم خنزير فلم يمسوه فانتفع به ضباط هذه الحملة في ذلك الموسم الشتائي .
الزحف على الطفيلة :
وبعد أن أنهت هذه القوة مهمتها في محطة جرف الدراويش زحفنا على الطفيلة ودخلناها ثم عدت إلى مركز عملي الأصلي في العقبة بعد أن تركت القيادة لراسم سردست والشريف ناصر وكان معي الأسرى الأتراك والجنود الذين يتولون حراستهم .
وكانت هذه الحركة برهاناً مسكتا للمتذمرين والمنتقدين لأنهم لمسوا فائدة التنظيم وضمان نجاحه .
تشكيل الفرقة الثانية :
وعند وصولي العقبة وجدت أن عدد المتطوعين المتزايد أصبح مبررا لتشكيل الفرقة الثانية على النمط الذي اتبعناه في تنظيم الفرقة الأولى المار ذكرها .
وبينما كنا منهمكين في تنظيم الفرقة الثانية ، بلغنا أن فرقة تركية قادمة حديثا من الجبهة الرومانية بقيادة حامد فخري ، خرجت من محطة جرف الدراويش وفاجأت حاميتنا في الطفيلة ، فالتحمت معها في معركة استمرت طيلة النهار ، وفي المساء هاجمت العشائر هذه الفرقة من الخلف ، فقتل قائدها وأبيد أكثر أفرادها ، واستولي على سلاحها وذخائرها ، وكان من بين ضباط هذه الفرقة العقيد توفيق برتو وهو آمر لأحد الألوية ،فجرح في صدره إلا أنه هرب ولم يقع في الأسر ، وهو لا يزال يذكر ما كانت عليه القوات العربية في تلك المعركة من الشجاعة والاستبسال.
إن هذه الحادثة حملتنا على التعجيل في الزحف ففي خلال أسبوعين ، تم تنظيف الفرقة الثانية بعد أن أجرينا بعض التبديلات في الوحدات بحيث اصبحت كفاية الفرقتين للقتال متعادلة وعين حسن وفقي آمر لهذه الفرقة .
الزحف على أبي اللسن :
وفي تشرين الثاني قررنا الزحف بمجموع قواتنا إلى الكوبرة ، ثم إلى أبي اللسن وتركنا سرية المتطوعين من اليهود العراقيين لحراسة المدخرات في العقبة على أن يكون الزعيم عبد الوهاب الشيخ محمود قائدا لموقع العقبة وآمرا للتموين ووضعنا تحت أمرته عدداً من الضباط والكتبة .
أما تموين العشائر فقد بقي أمره مودعاً إلى وكيل سمو الأمير فيصل في العقبة الشيخ يوسف خشيرم .
وضع الجيوش المختلفة في شتى الميادين في كانون الأول 1917:
وقبل أن أحدثكم عن المعارك الأخرى ، أرى من المفيد ، أن أصور لكم وضع الجيوش المختلفة وأقصد بها التركي والبريطاني والعربي في شتى الميادين في أواخر شتاء سنة 1917 لتكون لديكم فكرة واضحة عن قوى هذه الجيوش والمراكز التي كانت تحتلها .
الجيش التركي :
كان لهذا الجيش في المدينة فرقتان بقيادة فخري باشا ، بوضع يشبه الحصار، وكان لديه لواء من المشاة لحماية المحطات بين المدينة ومعان وهو موزع بشكل يتناسب مع أهمية كل محطة ، ففي بعضها فوج وفي البعض الآخر سرية أو فصيل . أما في معان فقد كانت توجد فرقة من المشاة ،وفي المحطات في شمال معادن إلى عمان كان عدد القوات حوالي لوائين من المشاة موزع حسب أهمية المحطات .
وفي فلسطين كان الجيشان السابع والثامن على خط غزة متجهاً نحو الشمال الشرقي وينتهي بوادي الشريعة وخطوط مواصلاته إلى الشمال .
وكان الجيش الرابع في وادي الشريعة وخطوط مواصلاته إلى الشرق باتجاه السلط وعمان .

  
الجيش البريطاني :
أما الجيش البريطاني فقد كان بقيادة اللورد اللنبي ، وكان لا يزال في المواقع التي سبق أن ذكرتها لكم ، أما القوات التي يتالف منها ، فبإمكانكم الرجوع بشأنها إلى كتب تاريخ الحرب ، إذ لا محل لتفصيلها هنا لعدم علاقتها بالموضوع .
الجيش العربي :
كانت القوات النظامية التي تركتها في أطراف بئر درويش لا تزال ترابط في مواقعها مع العشائر المحلية وبعض عشائر من الطائف من بني سعد ، وكانت هذه القوة تسمى الجيش الجنوبي بقيادة سمو الأمير علي .
وفي وادي العيص كانت قوات سمو الأمير عبد الله وأغلبها من البدو ومن عشيرة جهينة وبلى مع بعض الضباط وضباط الصف لغرض وضع الألغام في محطات السكة الحديدية الغربية من وادي العيص ، وكانت هذه القوة تسمى الجيش الشرقي بقيادة سمو الأمير عبد الله .
وفرقتان نظاميتان بقيادة جعفر العسكري مع قوة بدوية تتألف من عشائر الحويطات وعشيرة التوايهة وبني صخر وبني عطية وقسم من عشائر الرولة برئاسة شيخها نوري الشعلان وبعض المتطوعين من أهالي حوران ، فكانت كل عشيرة برئاسة شيخها وكانت هذه القوة تسمى الجيش الشمالي بقيادة سمو الأمير فيصل .
إن مجموع القوات النظامية في هذا الجيش حسبما أتذكر كان حوالي عشرة آلاف جندي من مختلف الصنوف .
فيستنتج من هذا العرض للجيوش أن القوات العربية كانت تقاتل من المدينة إلى جبهة القتال في فلسطين وأمامها أربع فرق تركية .
وكنا حتى أوائل سنة 1918 نرسل الضباط على رأس سرايا من البدو للإغارة على الحاميات التركية الضعيفة في محطات السكة الحديدية في شمال معان وجنوبها كمحطة الإحساء وفريفرة والقطرانة وفي الجنوب إلى تل الشحم والرملة.
وفي الغارات الشمالية كان لورنس مع الهجانة من البدو وبعض المتطوعين السوريين أذكر منهم فائز العظم واولاد عمه من بيت العظم أكثر فعالية من غيرهم.
احتلام غدير الحج والجردوته :
في أوائل سنة 1918م تقدمت بعض القوات البريطانية من وادي الشريعة متجهة نحو عمان، فدخلت طلائعها هذه المدينة إلا أن القوات التركية كرت عليها واضطرتها إلى التقهقر بعد أن كبدتها خسائر لا يستهان بها من قتلى وجرحى وأسرى ، فطلبت إلينا القيادة البريطانية التضييق على القوات التركية لتخفيف الضغط عن قواتها في وادي الشريعة .
وبعد مداولات استغرقت بضعة أيام قررنا مهاجمة حامية معان، على أن يسبق هذا الهجوم قطع السكة الحديدية في شمال معان وجنوبها ، فخصصنا فوجين وبطارية من المدافع الجبلية لمهاجمة محطة غدير الحج في الجنوب على أن نستعين بقوة من البدو المتطوعين يبلغ عددها ألف مقاتل ، كما خصصنا لواء من المشاة وقوة من البدو تتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف مقاتل وبطارية المدافع الجبلية لمهاجمة محطة الجردوته .
وقد نفذت هذه الخطة وبعد قتال بسيط استسلمت حاميتان المحطتين المذكورتين للقوات العربية ، وبلغ عدد الأسرى نحو سبعمائة جندي مع بعض الرشاشات .
الهجوم على سمنة :
ثم وجهنا الفرقة الأولى لمهاجمة موقع سمنة على أن تكون الفرقة الثانية مستعدة في جهة جنوب غربي سمنة لمهاجمة خطوط الدفاع في أطراف محطة معان في اليوم نفسه ، وأعددنا كذلك قوة من البدو تقدر بثلاثة آلاف مقاتل لمهاجمة معان ومحطتها من جهة الشرق ، والتحق بنا في تلك الأثناء جميل المدفعي وعين قائدا لسلاح المدفعية في الجيش العربي النظامي .
وقد جلبنا القوة النظامية في الطفيلة واستقدمنا القائد راسم سردست وعيناه آمرا لقسم المدفعية التي تساعد الفرقة الثانية ، وتركنا في الطفيلة ، القوات المتطوعة غير النظامية ثم استبدلنا قيادة الفرقتين فعينا مولود مخلص قائدا للفرقة الأولى ، وعبد المجيد الشيخلي قائدا للفرقة الثانية ، كما عينا على جودت الأيوبي مديرا لشعبة الحركات في مقر القيادة .
زحف الفرقة الأولى على خط سمنة :
وتنفيذا للخطة ، التي رسمناها ، زحفت الفرقة الأولى وهاجمت خط سمنة ، وكان في هذا الخط لواء من المشاة الأتراك فتقهقهر باتجاه القصبة ، فما كان من آمر الفرقة ، مولود مخلص إلا أن حمل بنحو ثلاثين خيالا من البدو ومعهم ثابت عبدالنور على القوات المتقهقرة واتفق أن أحد الجنود الأتراك عاد وأطلق رصاصة من بندقيته وأصابت مولود مخلص في فخذه فسقط عن حصانه جريحاً وكاد يقع في الأسر لولا أن بادر ثابت عبد النور إلى حمله معه على حصانه ورجع به إلى المخيم ، وبقيت قيادة الفرقة الأولى شاغرة حتى عين خلف لمولود مخلص .
كان الاعتقاد سائدا بأن سقوط خط سمنة يؤدي إلى سقوط معان ، وكنت اعتقد بخطأ هذا الرأي وأرى الميزة الوحيدة لهذا الخط هي أن الذي يسيطر عليه يستطيع الإشراف على الفريق المقابل وترصد حركاته وسكناته لا أكثر ولا أقل ، وقد دارت مناقشات في هذا الصدد بحضور سمو الأمير فيصل وظهر لنا فعلا خطأ الرأي الأول فيما بعد .
زحف الفرقة الثانية :
أما الفرقة الثانية فقد زحفت على المحطة وكان معها ، علاوة على مدفعية الجيش ، بطارية مدفعية جبلية فرنسية لحماية تقدم المشاة وقد قاتلت هذه الفرقة ببسالة فائقة وأسقطت الخنادق في غربي المحطة فاحتل بعض قواتها المحطة وكنت أنا من بينهم فلفت نظري توقف المدفعية الفرنسية فجأة عن الرمي واشتداد مقاومة الأتراك ونارهم الحامية وخاصة الرشاشات المنصوبة على التل الذي يبعد حوالي ثلاثمائة متر عن المحطة .
فأرسلت مرافقي ، يوسف عز الدين ، ليستفسر عن سبب توقف المدفعية الفرنسية عن الرمي لأنه لم يبق للمشاة الذين وصلوا المحطة ما يحميهم ، وقد أمرته كذلك أن يستوضح من سمو الأمير فيصل عن سبب تأخر قوات العشائر في هجومها على معان من الجهة الشرقية كما كان مقررا غير أن مرافقي ذهب ولم يعد وعلمت فيما بعد بأنه جرح ، وكانت مشاتنا تتكبد خسائر فادحة من نيران القوات التركية المخندقة في شمال غربي المحطة ،وكنت أقدر القوة التركية المقاومة للفرقة الثانية في أطراف المحطة بما لا يقل عن لواء من المشاة .
ثم جاءني إلى المحطة لورنس ، فأظهرت له تألمي وإنزعاجي من توقف البطارية الفرنسية وعدم مهاجمة العشائر وفقا للخطة الموضوعة ، فعاد ووصلتني منه قبيل العصر رسالة يبين فيها أن أمر البطارية الفرنسية عاد إلى معسكره لأن عتاد مدافعه قد نفد ولم ير فائدة من بقائه في ميدان القتال أما بشأن هجوم العشائر فقد ذكر لي أنه يجهل أسباب تخلفها عن الهجوم .
فاستغربت جدا عمل آمر المدفعية الفرنسية لأني لم أزل أتذكر جيدا أن هذه البطارية لم تقم بواجبها وأنها لم تطلق أكثر من بضع قذائف لتقدير المدى والاتجاهات وهذا لم يكلفها أكثر من عشرين قذيفة لذلك وللخسائر الفادحة التي تكبدناها ، قررنا سحب الفرقة الثانية إلى ما وراء خطة سمنة الذي ترابط فيه الفرقة الأولى لإعادة تنظيمها وتقويتها ، فقد كانت نسبة الخسائر تزيد على 30% من الجنود المشاة وضباط الصف ، وعلى 40% من الضباط وذلك بين قتيل وجريح ، وحبذنا أن يكون الإنسحاب ليلاً لنتمكن من نقل الجرحى ودفن القتلى ، وكان بين الجرحى عدا مولود مخلص ، ابراهيم كمال وعبد الحميد الهاشمي وآخرين لا اذكرهم .
وقد علمت من بعض الأسرى الأتراك بعد بضعة أيام ، أن حالة القوات التركية في هذه المعركة كانت أسوا من حالتنا وأنها كانت مصممة على الإستسلام لو بقينا في مواضعنا إلى اليوم الثاني .
وبالرغم من الجهود التي بذلناها في نقل الجرحى ليلا ، علمنا أخيرا أن بعضهم لم يزل في ساحة المعركة لذلك فقد أبلغنا القيادة التركية بكتاب خاص ضرورة معاملة أسرانا وفق ميثاق الهلال الأحمر وإلا فإن كل معاملة سيئة يعاملون بها سنقابلها بالمثل في معاملة الأسرى الأتراك ، وقد علمنا بعد ذلك أن تأثير هذا الكتاب كان حسناً حيث أعلمنا الأسرى العرب ، عندما التقينا بهم في دمشق ، بأن معاملة الأتراك لهم كانت حسنة .
وإلى شهر حزيزان لم تجر معارك ذات شأن ما عدا غارات على المحطات الضعيفة في جنوب معان وشمالها ، ومن بين هذه الغارات وأقواها الغارة التي وقعت في الشمال على محطة الجردوته ، ففي الغارة الثانية قبيل الفجر قام بالهجوم لواءان من المشاة تحميهما مدفعية الجيش مع كتيبة من الخيالة تسمى كتيبة الهاشمي بقيادة اسماعيل نامق وكان واجب هذه الكتيبة ترصد الجناح الشمالي ومنع وصول النجدات إلى القوات التركية من محطة عنيزة في الشمال ، وفي خلال بضع ساعات ، استسلمت حامية الجردوته ، المؤلفة من فوج واحد وبعض الرشاشات وقد سميت هذه الغارة بواقعة الجردوته الثانية وقد هجمت كتيبة الهاشمي على بعض الفارين من الحامية التركية المتجهين إلى الشمال وأسرتهم إلا أن أحد الهاربين أطلق رصاصة من بندقيته على إسماعيل نامق فسقط جريحا .
وبعد أن أجريت التخريبات في المحطة ونقلت الغنائم والأسرى عاد اللواءان إلى معسكرهما في الوهيدة .
والحقيقة أن القتال في هذه المعركة كان بين القوات التركية ولواء السيد طاهر السيد يوسف لوحده ، لأن اللواء الثاني الذي كان تحت قيادة رشيد علي وصل متأخرا عن الموعد المعين بنحو ساعة .
الغارة الثالثة على محطة الجردوته :
إتصل بنا ورود نجدات قوية للأتراك تقدر بفرقة واحدة ومعها مدفعية قوية من نوع مدافع القدرتلي تلك المدافع التي لمسنا تأثيرها البالغ في المعارك التي خضناها فيما بعد ، وهذا النوع من المدافع هو الذي قلده البريطانيون وعملوا على غراره مدافع القوس الجبلية عيار 3.7 فانضم قسم من هذه القوة إلى حامية معان وخندق القسم الآخر في محطة الجردوته وعلمنا أن قوات اخرى وصلت إلى محطة عنيزة في شمال الجردوته ، لذلك صممنا على القيام بغارة ثالثة بنفس القوات السابقة مضافا إليها لواء المشاة بقيادة تحسين علي وقوة بدوية لتهاجم المحطة من الجهة الشرقية في نفس الوقت المقرر لهجوم اللوائين
وكانت تحكيمات الأتراك بسيطة وهي تبعد عن المحطة المحتوية على ثلاث مباني نحو 250 أو 300 متر ، أما من الجهة الشرقية فكانت خنادقهم على شكل بيضوي تقريبا ، وتقع المحطة إلى الغرب والمقصات والسكة إلى الشرق ، فلما أرسل الأتراك الفرقة الجديدة وكان جنودها مدربين تدريبا جيدا ، تركوا بطارية أو بطارتين الأولى اعتقد إنها من طراز قدرتلي والثانية أظنها قديمة ، وحفروا خنادق جديدة فاصبح طول الخط تقريبا من أول القوس إلى آخره نحو 800 أو 900 متر ثم غطوا سقوف الخناطق بالقضبان الحديدية وأسسوا خطين يبعد الأول عن القديم نحو 200 متر وربطوا الخطين بخنادق مواصلات وحفروا ايضا خنادق احتياطية وزرعوا حقلا من الألغام أمام مواضعهم ، اما في الجبهة الشرقية فقد بقي الخط القديم على حاله ، وكنت أعتقد بأنهم إذا أضطروا إلى التراجع سيرجعون إلى معان ، وأن مرميات المدافع من المحطة ومن معان قد تتلاقى في وسط الطريق وبالنظر إلى الاستحكامات أضفنا لواء تحسين علي إلى القوة المهاجمة ، وتقرر أن يكون لواء رشيد علي في اليمين وأن تعبر سرية خيالة بهجة الكروي خط السكة إلى الشرق لتكون مع العشائر وهي بالاتصال مع رشيد علي ويكون في الوسط لواء تحسين علي ، وفي اليسار لواء سيد طاهر السيد يوسف ، وكانت كتيبة اسماعيل نامق تترصد الجناح الأيسر .
وصدر الأمر بالزحف والوصول إلى المحطة وفي وقت واحد وطلب من الألوية بعد تأسيس الإرتباط أن ترسل الدوريات لكشف خطوط الدفاع ، وكان لواء رشيد علي يتقدم بجبهة فوج واحد وفوجين بالمقدمة إلى الجناح الأيمن بالخلف أما لواء تحسين علي فكان يتقدم بفوج واحد في الجبهة وفوجين إلى الوراء ، أما لواء السيد طاهر فكان بفوج في الجبهة وفوجين بالمقدمة إلى اليسار وقد علمنا أن لوائي تحسين علي والسيد طاهر قد اتصلا ولم نسمع شيئا عن لواء رشيد علي .
إن الخطأ الذي ارتكبه رشيد علي في الغارة السابقة ، وهو تأخره عن الموعد المعين للهجوم ، تكرر مرة أخرى وذلك أنه بدأ تقدمه في هذه المرة قبل الوقت المعين له ، بساعة بقصد تلافي خطاه الأول وكانت مفاجأة لنا أن نسمع دوي الرمانات اليدوية والألغام البرية وأزيز الرصاص وصراخ الاستبسال من منطقة هذا اللواء قبل أوانه لذلك أصبحت المعركة بين القوات التركية ولواء رشيد علي بمفرده .
أما لواء السيد طاهر فقد زحف إلى مواضعه المقررة ولما انبلج الصبح وجدنا حالة لواء رشيد علي سيئة جدا وإن رشيد علي قد قتل وأصبح هذا اللواء عاجزا عن البقاء في مواضعه التي لا تبعد أكثر من مائة متر عن خنادق حامية المحطة التركية حيث تضعضعت معنويات الجنود لما تكبدوه من خسائر وفقدان قائدهم وعدد غير قليل من الضباط .
فاندفع لواء السيد طاهر ولواء تحسين علي بكل ما لديهما من عزم وبسالة وتقدما إلى مواضع لا تبعد أكثر من ثلاثمائة متر على خنادق الحامية التركية ، وهنا اكتشفنا أن الحامية التركية كانت مؤلفة من أكثر من فوجين مع مدفعية قوية وقد زرعت حقول ألغام برية جيدة التنظيم وأن استعداد الأتراك كان أكثر من استعدادتهم السابقة ، وكان رمي بنادقهم حسنا للغاية مما كبد قوات اللوائين خسائر لا يستهان بها واستشهد السيد طاهر .
أما القوة العشائرية التي تقرر قيامها بالهجوم مع اللوائين فإنها لم تحرك ساكنا ولهذه الأسباب قررنا التراجع إلى معسكر الوهيدة وكانت الصعوبة في نقل الجرحى ودفن القتلى فقررنا البقاء حتى الليل لتنفيذ خطة التراجع تحت جنح الظلام ولم نلبث أن تلقينا أمرا من سمو الأمير فيصل بالرجوع فورا تجنبا لخسائر أخرى لا فائدة من ورائها .
وبينما كنت أحرر أمر الرجوع وفتح نار المدفعية لتكوين ستار من الدخان والغبار لستر الإنسحاب إذ أصيب مرافقي صبحي الخضرة ، وهو من أهالي صقد بطلقة جرحته ، وسمعت في الوقت نفسه دوي المدافع الذي كنت أريده وأتلهف لسماعه وذلك أن جميل المدفعي قام به من تلقاء نفسه وكان ارتفاع ستار الدخان والغبار لا يقل عن بضعة أمتار فلم يستطع الأتراك معرفة ما يدور وراء هذا الستار الكثيف وهل كنا نتقدم أم نتقهقر ؟
وفي خلال نصف ساعة استطعنا نقل الوحدات وجميع الجرحى إلى الوراء مسافة تزيد عن ألف وخمسمائة متر وهكذا انتهت هذه المعركة بالفشل للأسباب السالفة الذكر .
أما خسائرنا فقد كانت تزيد على نصف قوات لواء رشيد علي وربع قوات لواء السيد طاهر .
وكانت نسبة الخسائر في الضباط عالية جدا إذ قدرت بأكثر من 602% في اللوائين بين جريح وقتيل ، وكان بين القتلى بهجة الكروي ورشيد المندلاوي وبين الجرحى تحسين علي وعدد من الضباط الشبان أكثرهم من العراقيين والفلسطينيين لا تحضرني اسماؤهم .
الإغارة على قلعة المدور :
أما في جبهة جنوب معان فقد كان من أهم الغارات الإغارة على محطة قلعة المدور فالغارة الأولى قامت بها قوة بدية من بني عطية ، فخطفت بعض أفراد حامية المخافر في أطراف القلعة ولم تستطع مهاجمة القوة الأصلية في المحطة
الهجانة الأوستراليين :
ثم جاءنا عن طريق وادي عربة لواء من الهجانة الأوستراليين من الجيش البريطاني في فلسطين يبلغ عدد رجاله حوالي 1200 هجانا بتجهيزات كاملة ومعهم رشاشات خفيفة ، رأيناها لأول مرة ، تسمى الهوجكس ، وهي تبرد في الهواء ، فتوجهت هذه القوة إلى القلعة واستولت عليها وأسرت حاميتها البالغ عددها 800 جندي وجاوا بهم إلى أبي اللسن ، ثم نقلوهم إلى فلسطين سالكين نفس الطريق الذي جاؤوا منه .
نوط معان :
وبعد الحرب أحدث نوط سمي ( نوط معان) منح للذين اشتركوا في هذه المعارك وفي خلال شهر حزيزان وتموز أغارت عليها بضع مرات الطائرات الألمانية بمجموعات تتراوح بين رفين أو ثلاثة ، وكانت تقصف مراكزنا في الوهيدة وأبي اللسن والعقبة ، وكانت المقاتلات البريطانية تتصدى لها احتياطا وتسقط بعضها وقد أصابت عددا غير قليل من ضباط وجنود البطارية الفرنسية
ومن المفيد أن تكون لكم فكرة عن التموين قبل البدء في المحاضرة الثالثة ، ففي طيلة هذه المدة ، كان التموين مقتصرا على الرز والسمن واللحم ، وأحيانا كنا نستطيع الحصول على الخضر المجففة والبقول ، وكانت كمية السكر والشاي والبن كثيرة وقد أشارت علينا القيادة البريطانية باستعمال عصير الليمون للإستعاضة عن الخضر الطرية وكانت ترسل لنا كميات كبيرة منه .
واجتنابا لغمط حق إخواننا السوريين فإنني أود أن نوه هنا بخدمات بعض الضباط السوريين الذين استبسلوا معنا كشوكت العائدي ، وصبحي العمري وزكي الدروبي وبهجت الشهابي وابن عمه والشيخ فريد الخازن مرافق الأمير فيصل وفخري البارودي وصبحي الخضراء وزكي المهايني ، ومحمود الهندي ومصباح البيروتي ورفقائهم

               
 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1126 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع