الأمير غازي يحلق في سماء بغداد على "البساط الطائر"
في تشرين الثاني من سنة 1931 وصل إلى بغداد المغامر الأمريكي ريتشارد هاليبرتون في رحلته الشهيرة حول العالم، قادماً من كاليفورنيا عبرأوربا وأفريقيا،على متن طائرته القرمزية،ذات الأجنحة المذهبة اللامعة. وقد كتب باللون الأسود فوق شريط مذهب على جانبيها : " البساط الطائر"، تيمناً باسطورة البساط السحري في بلاد الألف ليلة وليلة.
ولد هاليبرتون في ولاية تنيسي في الولايات المتحدة سنة 1900،ودرس في جامعة برنستون، وعمل في الصحافة محرراً لعدة صحف، لكن عشقه كان في المغامرة والإبحار حول العالم. في نهاية سنة 1930 قرر القيام برحلة جوية حول العالم والكتابة عن تلك الرحلة.
أشترى هاليبرتون طائرة حديثة من نوع ستيرمان،وأتفق مع الطيار وميكانيكي الطائرات مويي ستيفنز (1906-1995) بقيادة الطائرة في هذه الرحلة بدون آجر، على أن يتحمل هاليبرتون جميع مصاريف الرحلة.
يقول هاليبرتون عن وصوله إلى بغداد : كنا سنعرف أننا في مدينة هارون الرشيد العريقة بدون النظر في الخارطة، فكل شئ يوحي بأنها بغداد مدينة الألف ليلة وليلة، من قبابها الذهبية المتلألأة ومنارات جوامعها المطرزة الشامخة فوق سطوح بيوتها البيضاء، في ازقتها الضيقة واسواقها والمقاهي المنتشرة حيث جلسنا ننتظر مرور الأميرات يرتدين الخمار.
كان وصول هاليبرتون إلى بغداد، فرصة نادرة لولي العهد الأمير غازي الذي يعرف عنه حبه للرياضة والصيد والفروسية، لكي يطلب الأذن من والده الملك فيصل الأول لدعوة المغامران الأمريكيان الى القصر الملكي.
رحب الشاب اليافع ذو التسعة عشر ربيعاً، الأمير غازي، بضيفيه بلغة إنكليزية متقنة، مستفسراً بشوق ولهفة عن رحلتهم من كاليفورنيا إلى بغداد، وان كان قد نال اعجابهم منظر بغداد من السماء. أجابه هاليبرتون، وصلنا أمس عند الغروب وكان مشاهدة القباب الذهبية والمأذن اللامعة، كافية لنعرف أننا في بلاد الألف ليلة وليلة.
ثم سأل الأمير غازي أذا كانوا قد التقوا بالعديد من الملوك والأمراء في البلدان خلال الرحلة، فكان جوابهم بأنه أول أمير يضيفهم وأنه ليشرفهم ويسعدهم لقائهم به.
أبدى غازي لهم رغبته بتعلم الطيران، وأظهر شوقه للتحليق فوق سماء بغداد ورؤية أحياء المدينة ومعالمها بالطيران ببساطهم الطائر. وافق هاليبرتون على اصطحاب الأمير غازي بجولة في سماء المدينة في صباح اليوم التالي بعد موافقة الملك فيصل.
وطلب الملك من هاليبرتون أن يقسم بالنبي وبعينه وبلحيته بأنه سيعود بالأمير غازي في الوقت المناسب ليلتحق بمدرسته في الكلية العسكرية للتعداد قبل حلول الظلامفي ذلك اليوم.
في صباح اليوم التالي وصل الأمير غازي بسيارة القصر إلى مطار الهنيدي، بوجه مشرق وعيون متلهفة في رحلة العمر، ليمتطي البساط الطائر في أول رحلة جوية في حياته. جهز هاليبرتون الأمير غازي بملابس الطيران مع الخوذة ونظارات الطيران الخاصة، وأجلسه بجانبه في مقدمة الطيارة، و جلس الطيار مويي ستيفنز في المقعد الخلفي.
ما أن حلقت الطائرة في الجو، حتى راح غازي بنشوة الغبطة والشعور بالفرح يتلفت شمالاً ويميناً، ويشير بأصبعه لهاليبرتون نحو مدرسته العسكرية القريبة، فأنحنى على مقدمة الطائرة ليرى مدرسته بوضوح فأمسكه هاليبرتون من ملابسه خوفاً على سلامته. حلق ستيفنز بالطائرة على أرتفاع منخفض، ليرى غازي مدينة بغداد، فهذا نهر دجلة وهذان الجسران العائمان يربطان الكرخ بالرصافة، هذا هو جامع الحيدرخانة بالموزاييك الاخضر وذلك الجامع الأحمدي في الميدان، وهكذا معالم بغداد الأخرى. ثم أستدارت الطائرة نحو جنوب بغداد حتى بدأ يلوح في الأفق بين الغيوم، أحد المعالم التاريخية في حاضرة المدائن، فبرزت من بعيد خرائب طاق كسرى، وعند الوصول قرب الطاق دارت الطائرة حوله، فأشار غازي بيده طالباً من الطيار أن يدخل من تحت الطاق إلى الجهة الأخرى، يقول هاليبرتون رفض الطيار ستيفنز هذه المغامرة الخطيرة، فالنافذة من الجهة الخلفية للطاق قد لا تكون واسعة بما فيه الكفاية للمناورة وخصوصاً أن في معيتنا ولياً للعهد.
بعد نصف ساعة من الطيران جنوباً، وصل البساط الطائر عبر نهر الفرات إلى أطلال وخرائب بابل،فحامت الطائرة وهوت فوق تلك التلال والخنادق المتداخلة والمتشابكة من أكوام كسور الرقم والعاديات،حتى بانت معالم وآثار المدينة القديمة وجدران قصورها ومعابدها التاريخية،لتزهوا النحوت الغائرة والبارزة من الثيران والأسود على واجهة الجدرانتحت اشعة الشمس الدافئة.
بعد زيارة بابلكان الوقت قبل الظهيرة ما زال باكراً، فطلب غازي التحليق بالبساط شمالاً نحو مدينة سامراء. فقفلت الطائرة عائدة نحو نهر دجلة لتحلق مرة أخرى فوق مدينة بغداد، ولتتهاوى فوق القصر الملكي، حيث خرج الملك فيصل إلى حديقة القصر يلوح الى ذلك البساط القرمزي المذهب في طريقه صاعداً نهر دجلة نحو مدينة سامراء.
كما كان الحال في طاق كسرى برزت الملوية في مدينة سامراء، شامخة ، من بعيد في الأفق، حتى أقترب البساط الطائر منها، لكن لم يكن هناك طاق هذه المرة وأنما منارة على شكل زقورة محاطة بممر حلزوني لأرتفاع شاهق عن مستوى الارض. بعد جولة حول المدينة والآثار القديمة، صاح الأمير غازي عبر صرير الرياح وأزيز الطائرة ليسمع هاليبرتون رغبته بالنزول إلى الأرض والتسلق الى قمة الملوية. أرتضخ الطيارمويي ستيفنز لطلبه، وبحث عن أرضا منبسطة قريبة للهبوط، وما أن وقفت الطائرة حتى تهافتت الجموع من الشبان راكضين نحوهم، يتطلعون الى البساط الطائر، حتى تسلق الأمير غازي خارجاً من الطائرة، فأزداد حماس الجمهور برؤيته، وتجمع رجال الشرطة وأصطفوا للتحية، وتقدم بعض المسؤولين للسلام والتقبيل. شعر غازي بشئ من الخجل والحرج من هذه المراسم، فتحدث مع بعض من المستقبلين.
تجول الزائرون حول الجامع الكبير، تتبعهم حشود الجماهير المبتهجة بحضور الأمير المحبوب. ثم تسلق الثلاثة درجات السلم الحلزوني المتهرئة بحذر إلى قمةالملوية ذات الألف عام. وتطلع الضيوف برؤية آثار المدينة التاريخية من أعلى المنارة،ثم أقترح غازي أن يتناولواطعام الغذاء، الذي تأخر بعض الشئ،هناك على قمة الملوية. وهكذا أحضر المرافقين مائدة الطعام المنوعة المعدةللأمير الشاب وضيوفه وساهم أبناء المدينة بتحضير أنواع عديدة من الاطباق العراقية للضيوف.
بعد مزيد من التجول والاستكشاف في أطراف مدينة سامراء، حل موعد المغادرة بسرعة، للوصول إلى بغداد كما وعد هاليبرتون الملك فيصل الأول، بأن يكون الأمير غازي في الكلية العسكرية قبل حلول الظلام. أنطلق "البساط الطائر" بهدير وأزيز كالصاروخ محلقاً في السماء، تاركاً جماهير سامراء مبهورة ومندهشة تنظر من تحت.
في طريق العودة كان البساط الطائر يحلق واطئاً، يكاد يلمس أطراف سعف النخيل في المزراع والبساتين، فأنتاب الفزع المزارعين والرعاة وأغنامهم. حتى لاحت، مرة اخرى، تتلألئ القباب الذهبية والمنارات لمسجد الكاظمين، شاهقة بين غابات النخيل، وقد انعكست عليها اشعة الشمس المباشرة لتحترق كأنها فقاعات من النار. من صحن المسجد توقف جمع من المؤمنين ليتطلع ألى البساط القرمزي الذي يخطف الأبصار في السماء.
في دقائق وصل البساط مقترباً من مدرسة الأمير غازي العسكرية، فتوسل غازي بأن يقوم الطيار بألعاب بهلوانية بالدوران والأنقلاب والألتفاف فوق ثكنات المدرسة، ليشاهد زملاء غازي ورفاقه في الكلية من تحت تلك الألعاب. قام الطيار بدوران حلزوني وطيران مقلوب فوق ساحة المدرسة وقد تعلق غازي بحزامه رأساً على عقب، صارخاً بصوت عال من البهجة والمتعة، وكان يرى زملائه الطلاب تحت يخرجون من الثكنات وينظرون نحوه بأفواه مفتوحة، مبهورين بتلك الحركات الخطيرة والألعاب القاتلة والدوران المعاكس التي يقوم بها الأمير غازي. وفي لحظة طلب غازي من الطيار، بالطيران المقلوب الواطئ بين الثكنات، لم يسمح هاليبرتون بالقيام بهذه الحركة الخطيرة خوفاً على سلامة غازي.
عندما هبطت الطائرة، خرج الأمير غازي، شامخاً، ومفتخراً، ورأسه عالياً بين زملائه، وقد لمعت عيناه الداكنة ببريق من القوة والجرأة والشجاعة، وبانت علي محياه الثقة بالنفس والعزة والفخر.
عندما هم هاليبرتون والطيارلتحية غازي والمغادرة، كانت أفكار غازي ما زالت في السماء. سأله هاليبرتون أذا كان قد تمتع بتلك الرحلة، فهتف الأمير، نعم، نعم، لقد كانت حلماً، كأنها قصة في كتاب.
غادر "البساط الطائر" من بغداد إلى طهران ومنها إلى الهند ودول جنوب آسيا، عائداً إلى الولايات المتحدة. كلفت الرحلة هاليبرتون حوالي خمسين ألف دولار، وهو مبلغ ضخم جداً في تلك الأيام، إلا ان ايرادات كتابه "البساط الطائر" الذي طبع عدة طبعات منذ سنة 1932 وحتى 1938، عاد عليه حقوق الطبع بأكثر من مائة ألف دولار من الأرباح.
توفي هاليبرتون في مغامرة بعبور المحيط الهادئ نحو آسيا بسفينة شراعية، وذلك في آذار سنة 1939، قبل أيام قليلة من وفاة الملك غازي بحادث سيارة في ليلة 4 نيسان 1939.
الكاتب:علي أبو الطحين
722 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع