نازك الملائكة... قارورة الحزن ألشفيف
ولدت نازك صادق الملائكة في عائلة ادبية مثقفة معروفة تقيم في محلة العاقولية ببغداد العام 1923 وذلك يوم الأربعاء الموافق 30 من ذي الحجة 1341 للهجرة وقبيل بدء السنة الهجرية الجديدة بخمس دقائق ..
كان الأب رجلا عمليا واقعيا مغرما بالشعر واللغة العربية ودراسة الفقه والمنطق والشعر وكانت الام فتاة يافعة لم تبلغ بعد السن الصالحة للأمومة ، ولكنها مغرمة بقراءة القصص وسير الابطال والشعر العذري..
الاب في الثامنة والعشرين من عمره ، والام في الرابعة عشرة ولكنها شاعرة اسمها سلمي عبد الرزاق وكانت امها قد اصدرت ديوانا بعنوان " انشودة المجد " - هكذا كتبت نازك تقول في مذكراتها التي لم تنشر بعد - ! وكتب الأب قصيدة يحيي بها طفلته ويؤرخ مولدها بهذا الشطر : نازك جاءت في زمان السرور
وكانت قصة اختيار هذا الاسم التركي لتسمية الطفلة انها ولدت عقب الثورة التي قادتها الثائرة السورية "نازك العابد" علي السلطات الفرنسية . وكانت الصحف اذ ذاك تطفح بانبائها ، فرأي جد الطفلة ان تسمي نازك اكراماً للثائرة وتيمناً بها وقال
ستكون ابنتنا نازك مشهورة كنازك العابد ان شاء الله
نازك العابد بلباسها العسكري عام 1920
ودرست في مدارسها ، ثم تخرجت في دار المعلمين العالية العام 1944، وفي العام 1949 تخرجت في معهد الفنون الجميلة "فرع العود"، لكنها لم تتوقف في دراستها الأدبية والفنية عند هذا الحد ، فلقد أحبت ان تكمل دراستها خارج العراق ، فسافرت الي الولايات المتحدة ودرست اللاتينية والادب المقارن العام 1950 في جامعة برنستن ، كذلك درست الفرنسية والإنكليزية وأتقنت الأخيرة وترجمت بعض الأعمال الأدبية عنها، وفي العام 1959 عادت إلي بغداد بعد أن قضت عدة سنوات في أمريكا لتتجه إلي انشغالاتها الأدبية في مجالي الشعر والنقد
التحقت العام 1954 بالبعثة العراقية إلي جامعة وسكونسن بامريكا ايضا لدراسة الأدب المقارن، وأخذت بالاطلاع علي اخصب الآداب العالمية، فإضافة لتمرسها بالآداب الإنكليزية والفرنسية تلقت العديد من الكورسات والنماذج الادبية الحية من الأدب الألماني والإيطالي والروسي والصيني والهندي .. فاثرت نفسها بثقافة متنوعة وانسانية واسعة المدى
عادت ثانية الي العراق واشتغلت بالتدريس في كلية التربية ببغداد عام 1957، وخلال عامي 1959و1960 وعلي عهد الزعيم عبد الكريم قاسم ، تركت نازك العراق لتقيم في بيروت وهناك أخذت بنشر نتاجاتها الشعرية والنقدية، ثم عادت ثالثة إلي العراق لتدرس اللغة العربية وآدابها في جامعة البصرة
ونازك الملائكة شاعرة وناقدة في آن واحد ، ولها العديد من المجاميع الشعرية والدراسات النقدية منها ما ضمها كتاب ومنها ما نشر في المجلات والصحف الأدبية، أما مجاميعها الشعرية فهي علي التوالي :
عاشقة الليل صدر عام 1947
شظايا ورماد صدر عام 1949
قرارة الموجة صدر عام 1957
شجرة القمر صدر عام 1965
مأساة الحياة وأغنية للإنسان صدر عام 1977
للصلاة والثورة صدر عام 1978
يغير ألوانه البحر طبع عدة مرات
الأعمال الكاملة - مجلدان - عدة طبعات
ونازك الملائكة ليست شاعرة مبدعة حسب، بل ناقدة مبدعة أيضاً، فآثارها النقدية:
قضايا الشعر المعاصر
التجزيئية في المجتمع العربي
الصومعة والشرفة الحمراء
سيكولوجية الشعر
تدل علي إنها جمعت بين نوعين من النقد، نقد النقاد ونقد الشعراء أو النقد الذي يكتبه الشعراء، فهي تمارس النقد بصفتها ناقدة متخصصة. فهي استاذة جامعية لها مكانتها في الوسط الاكاديمي ، وهي فنانة - كما يقال - في فن القاء المحاضرة الأكاديمية في النقد ، وانها تمارس نقد الشعر بصفتها مبدعة منطلقة من موقع إبداعي وخصوصا الشعر الحديث لأنها شاعرة لامعة في الشعر الحديث تري الشعر بعداً فنياً حراً لا يعرف الحدود أو القيود.
ويمكن ان نجد من يقابلها من شاعرات العراق المحدثات فالشاعرة د. عاتكة الخزرجي - التي كتبت عنها في نسوة ورجال - هي الاخري تنظم الشعر وتكتب النقد واستاذة في الجامعة ولكن مجالها الرحب هو الشعر القديم .
الشاعرة د. عاتكة الخزرجي
ولقد توالت النكسات والالام علي نازك علي امتداد السنوات الاخيرة ، واصيبت بامراض عدة وغادرت العراق ولم ترجع اليه ،
عاشت في القاهرة منذ 1990 في عزلة اختيارية وتوفيت بها في 20 يونيو 2007 عن عمر يناهز 83 عاما
بسبب إصابتها بهبوط حاد في الدورة الدموية ودفنت في مقبرة خاصة للعائلة غرب القاهرة
حصلت نازك على جائزة البابطين عام 1996
كما أقامت دار الأوبرا المصرية يوم 26 مايو/أيار 1999 احتفالا لتكريمها بمناسبة مرور نصف قرن على انطلاقة الشعر الحر في الوطن العربي والذي لم تحضره بسبب المرض وحضر عوضاً عنها زوجها الدكتور عبد الهادي محبوبة
ولها ابن واحد هو البراق عبد الهادي محبوبة
وكانت نازك الملائكة سمراء نحيلة الجسم ، سوداء الشعر والعينين لا تعني بهندامها وكانت جدية منذ طفولتها تكره المزاح ويؤذيها ان تعاقب مهما كان العقاب شاملاً لسواها . وكانت تحس بأنها تكره المدرسة من اجل الحساب . انها تستطيع جيداً ان تفهم اللغة العربية والتاريخ والدين والجغرافية .. .. ولكنها لا تستطيع ان تصطلح مع الحساب . وقد طبعت حياتها وهي صغيرة بطابع من الكآبة والقلق وعدم الثقة بالنفس .. ونازك في الصف الرابع وقد بدأت مظاهر الرومانسية والخيال والشعر تبدو عليها بوضوح .. .. فهي منعزلة خجول تحب المطالعة ، وتحلم كثيراً ، ثم ان صحتها ضعيفة ، وهي دائماً مزكومة .. .. وقد بدأت بوادر التفوق في درس الانشاء والمحادثة تبهر مدرستها . كانت في البيت خاملة لا تفعل شيئاً ، وقرأت وهي في طفولتها القصص التاريخية القديمة .. وهنا بزغ في حياتها شيء جديد ، اذ سمعت عمتها تغني : " اليلَ قبرُكِ ربوة الخلد نفخ النعيمُ بها ثري نجدِ " لم تدر نازك لماذا تاثرت بهذا البيت وما بعده .. وعرفت بافتتنان وانبهار انه من مجنون ليلي احمد شوقي
كانت الطفلة نازك رومانتيكية جداً ، وذاع خبر مفاده انها شاعرة..! أي نبأ غريب..! وجاءت اللحظة الحاسمة لتقرأ قصيدتها الجميلة وفي عينيها بداية دموع ..! وعجزت خجلا وهربت .. ولكنها نضجت علي مهل في الثلاثينات في معركة نحوية وفي تلك الايام تلتهم الكتب النحوية والادبية القديمة التهاماً . وكانت تجد لذة هائلة في الدراسة وحفظ الشواهد ومناقشة ابيها ولها حب شديد للقاموس في تلك الايام وتعتمد اعتماداً كلياً علي قاموس "اقرب الموارد" للويس شيخ اليسوعي ، وهو قاموس مقبول لم تزل تحبه ثم درست نازك علي يد استاذتها المعروفة ماري عجمي واختلفت معها لأن ماري لم تعرف مستوي نازك الادبي واللغوي ثم اكتشفتها بعد حنق واساءة وعرفت موهبتها وتنبأت لها بمستقبل ادبي رائع قبل ان تودع العراق .
ماري عجمي
يعتقد الكثيرون أن نازك الملائكة هي أول من كتبت الشعر الحر في عام 1947 ويعتبر البعض قصيدتها المسماة الكوليرا من أوائل الشعر الحر في الأدب العربي. وقد بدات الملائكة في كتابة الشعر الحر في فترة زمنية مقاربة جدا للشاعر بدر شاكر السياب وزميلين لهما هما الشاعران شاذل طاقه وعبد الوهاب البياتي، وهؤلاء الأربعة سجلوا في اللوائح بوصفهم رواد الشعر الحديث في العراق
نشرت ديوانها الأول " عاشقة الليل " في عام 1947، وكانت تسود قصائده مسحة من الحزن العميق فكيفما اتجهنا في ديوان عاشقة الليل لا نقع إلا على مأتم، ولا نسمع إلا أنيناً وبكاءً ، وأحياناً تفجعاً وعويلاً " وهذا القول لمارون عبود.
ثم نشرت ديوانها الثاني شظايا ورماد في عام 1949، وثارت حوله ضجة عارمة حسب قولها في قضايا الشعر المعاصر، وتنافست بعد ذلك مع بدر شاكر السياب حول أسبقية كتابة الشعر الحر، وادعى كل منهما انه اسبق من صاحبه، وانه أول من كتب الشعر الحر ونجد نازك تقول في كتابها قضايا الشعر المعاصر " كانت بداية حركة الشعر الحر سنة 1947، ومن العراق ، بل من بغداد نفسها ، زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله وكادت ، بسبب تطرف الذين استجابوا لها، تجرف أساليب شعرنا العربي الأخرى جميعاً، وكانت أول قصيدة حرة الوزن تُنشر قصيدتي المعنونة " الكوليرا " وهي من الوزن المتدارك ( الخبب)
ويبدو أنها كانت متحمسة في قرارها هذا ثم لم تلبث أن استدركت بعض ما وقعت فيه من أخطاء في مقدمة الطبعة الخامسة من كتابها المذكور فقالت :عام 1962 صدر كتابي هذا ، وفيه حكمتُ أن الشعر الحر قد طلع من العراق ومنه زحف إلى أقطار الوطن العربي، ولم أكن يوم أقررت هذا الحكم أدري أن هناك شعراً حراً قد نظم في العالم العربي قبل سنة 1947 سنة نظمي لقصيدة (الكوليرا) ثم فوجئت بعد ذلك بأن هناك قصائد حرة معدودة قد ظهرت في المجلات الأدبية والكتب منذ سنة 1932، وهو أمر عرفته من كتابات الباحثين والمعلقين
وأخيرا ، لابد ان نقول بأن العالم الشعري الذي انتجته لنا نازك الملائكة بحاجة ماسة للتحليل الذكي ، وهو ينتظر الاجيال القادمة لدراسته من جديد واستكشاف فضائه بعد حل رموزه كاملة .. ويبقي عالم نازك غريبا وجميلا
لوحة مرثية نازك ألملائكة - بريشة إيمان ألبستاني
لروحها ألرحمة قارورة ألحزن ...وسيظل أسمها يسطع كما أراد لها والداها ...ولو سألُتموني أن أكتب لها كلمة لقلت
كل ألاشياء تصل متأخرة
ألا ألحزن ....دقيق في مواعيده
قصيدة وألليلُ يسألُ من أنا....أنا سرُّهُ القلقُ العميقُ الأسودُ
ألمصادر: فصلة من كتاب الدكتور سيّار الجميل ، نسوة ورجال ذكريات شاهد الرؤية آخر الجيل الذهبي- فاضل السلطاني
516 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع