حياة شرارة .. شهيدة الثقافة
إعداد وإشراف / إيمان البستاني
برزت د.حياة شرارة عندما كانت طالبة دراسات عليا بجامعة موسكو في مطلع الستينيات بين جميع الطلاب العراقيين الكثيرين ايامذاك بكونها هادئة الطبع للغاية وبجدها وبمثابرتها سواء في الدراسة ام في النشاط الاجتماعي. وهذه الصفات اكسبتها احترام الجميع من روس وعراقيين وغيرهم من ابناء البلدان العربية.
وعرفت القاعة رقم واحد في مكتبة لينين هذه الطالبة بكونها تأتي في وقت محدد في الصباح وتغادره في ساعة معينة بعد الظهر. وكانت دائما تجلس وراء طاولة مجاورة لتلك التي كان يشغلها فياتشيسلاف مولوتوف وزير الخارجية السوفيتي السابق بعد احالته الى التقاعد وامامه اكوام مجلدات الصحف والكتب. اذ كان يكتب اما مذكرات او تقارير تكلفه بها اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي. وقالت حياة مرة لزملائها وعلى ثغرها ابتسامة رقيقة "انني اعمل سوية مع مولوتوف".
وقد اختارت حياة موضوعا لأطروحتها لنيل الدكتوراة في الادب في موضوع "تولستوي انسانا" كما كانت تهتم بموضوع شخصية المرأة في اعمال الكاتب الروسي ايفان تورجينيف. وقد واصلت دراسة اعمال هذا الكاتب وترجمة بعضها الى العربية لاحقا لدى عودتها الى العراق حيث عملت استاذة في قسم اللغة الروسية في جامعة بغداد. وفي العام الاخير من وجودها في موسكو عملت في القسم العربي بوكالة انباء تاس السوفيتية.
ولدت حياة شرارة في عام 1935 بمدينة النجف وأكملت دراستها الثانوية في بغداد ثم سافرت بسبب الظروف السياسية في العراق في العقد الاخير من الخمسينيات الى سورية ومصر حيث التحقت بقسم اللغة الانجليزية بجامعة القاهرة. وعادت الى العراق بعد ثورة 14 تموز 1958 ، وفي عام 1961 جاءت الى موسكو.
نشأت حياة في مدينة النجف المقدسة في بيت والدها محمد شرارة الاديب والشاعر الذي كان يرتاده الشعراء والكتاب والمثقفون وتدور فيه النقاشات حول قضايا الادب. وكتبت شقيقتها الكاتبة بلقيس شرارة حول هذه المدينة تقول : " بالرغم من الجو الديني المرادف لمدينة النجف ، هنالك جو آخر ازدهرت فيه نهضة ثقافية واسعة، اذ صدرت عدة صحف ومجلات كان لها دور مهم في الدعوة للأصلاح الاجتماعي ، ك "الهاتف" و" الحضارة" و"الغري" و" البيان" ،
وبرز فيها كتاب وشعراء اغنوا تراث العراق الادبي مثل محمد الجواهري وعلي الشرقي وجعفر الخليلي وسعد صالح ، ومن الجالية اللبنانية ظهر حسين مروة ومحمد شرارة". وكان لابد ان يؤثر هذا الجو في حياة منذ صباها فقد احبت الشعر وحفظته عن ظهر قلب وكانت تشارك في المساجلات في حفظ الشعر بين افراد العائلة.
وذكرت بلقيس ان العائلة انتقلت في منتصف الاربعينيات الى بغداد حيث اصبح لأبيها محمد شرارة صالونه الادبي الذي كان يرتاده اسبوعيا بدر شاكر السياب ولميعة عمارة ومحمد مهدي الجواهري ونازك الملائكة واكرم الوتري وبلند الحيدري وغيرهم من الشعراء والادباء العراقيين. وقد حفظت حياة في سن 12 عاما اشعار بدر ولميعة ونازك.
لكن الاحداث السياسية العاصفة في العراق في اواخر الاربعينيات من القرن الماضي جعلت حياة تشاهد مآسي الشعب العراقي واعتقال والدها وفقدانه لعمله.وبعد اطلاق سراحه ادين من قبل المحكمة العسكرية وحكم عليه بالسجن عدة اشهر بسبب انتمائه لحركة " انصار السلام". ومن ثم غادر محمد شرارة العراق الى لبنان في عام 1954 للأقامة الدائمة هناك. اما حياة التي انتظمت آنذاك في صفوف الحركة اليسارية ، فسافرت هربا من ملاحقة السلطات الى سورية ومنها الى مصر حيث التحقت بجامعة القاهرة للدراسة في قسم اللغة الانجليزية. وعادت حياة الى بغداد مع والدها بعد ثورة 14 تموز/يوليو عام 1958 وسقوط الملكية. والتحقت بجامعة بغداد وتخرجت منها في عام 1960 لكي تسافر الى موسكو من اجل مواصلة الدراسة العالية في جامعة موسكو.
وبعد عودتها الى العراق عملت في جامعة بغداد فترة من الزمن حتى بدأت السلطات ملاحقتها بالرغم من محاولتها عدم الاعراب عن مواقفها من سياسة الحكومات آنذاك. وانصرفت الى التأليف والترجمة.
فنشرت مقالات مثل "تأملات في الشعر الروسي"(1981) و" غريب في المدينة"ومسرحية " المفتش العام " لجوجول و"يسينين في الربوع العربية"(1989) و"ديوان الشعر الروسي"(1983) و"مذكرات صياد" (1984) و" رودين " و"عش النبلاء" لأيفان تورجينيف و" مسرحيات بوشكين "(1986) و"تولستوي فنانا".
وتعتبر دراستها "صفحات من سيرة نازك الملائكة" الشاعرة المجددة التي عرفتها منذ الطفولة من البحوث المميزة عن نشأة حركة الشعر الحر في العراق. كما نشرت بعد وفاتها رواية " اذا الايام اغسقت" عن مصاعب الحياة الجامعية في بغداد.
ولديها رواية لم تنشر بعنوان" وميض برق بعيد" ومجموعات قصصية. ونشرت في الصحف العراقية والعربية مقالات كثيرة حول الادب والشعر.
وكانت فترة الحرب مع ايران ثم حرب الخليج من الفترات الصعبة جدا في حياة اسرتها بسبب تدهور الوضع الامني والمعيشي والعقوبات المفروضة على العراق. ومنعت حياة من السفر الى الخارج حين فقدت العمل في الجامعة ، وذلك بسبب ارتفاع رسم الخروج وقانون السفر الجديد الذي نص على بند" الحرم" حيث يمنع سفر المرأة بدون زوجها. وكان زوجها محمد صالح سميسم قد توفي بعد اعتقاله في عام 1982 .
وكتبت حياة رسالة الى رئيس الجمهورية تطلب فيها السفر الى الخارج مع ابنتيها بدون محرم لكن طلبها بقي بدون جواب. واصاب حياة الاحباط الشديد بعد ان اغلقت امامها ابواب العمل والنشر والسفر ..وفي اول أغسطس/آب 1997 وقع انفجار انبوبة الغاز في بيتها الذي ادى الى مصرعها مع ابنتها الكبرى مها، بينما اصيبت ابنتها الصغرى زينب. وفيما بعد قيل ان الحادث كان مدبرا من جهة ما. وهكذا انتهى درب الالام الذي مضت فيه هذه الاديبة العراقية المبدعة بشكل مأساوي.
-من سلسلة مقالات "مبدعون عرب في روسيا"
464 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع