مدينة مولاي إدريس زرهون المغربية الصعود إلى سماء التاريخ والقداسة الروحية
الرباط ـ «القدس العربي»/عبد العزيز بنعبو: لو كان التاريخ والأصالة بضاعة، لكانت مدينة مولاي إدريس زرهون من أهم أسواقه العالمية، المدينة تتنفس أوكسجين قرون مضت وتعيش إيقاعها الخاص، تفتخر بكونها أولى المدن الإسلامية في شمال أفريقيا، إذ بنيت سنة 788 ميلادية، على يد إدريس الأكبر مؤسسة دولة الأدارسة بالمغرب واتخذها عاصمة، ومنها انطلق قبس التاريخ الإسلامي للمغرب.
المدينة صغيرة الحجم والمساحة، لكنها بشساعة الحلم ورحابة التاريخ الفياض، أصالتها تمنعها من أن تجاور الحداثة بكل تلويناتها فهي الأصل وهي منبع التمدن الإسلامي إن صح التعبير في المغرب بل في شمال أفريقيا برمته، هي الأولى في كل شيء حتى في طيبة ناسها وأهلها ممن يتحركون وفق زمنهم الخاص، لا داعي للعجلة، فكل شيء ينتظر، والمتعجلون في الحياة غادروها ممن ضاقت بهم أحلامهم الحديثة، فكانت مدن أخرى مرتعهم وطريقهم لتحقيق الأماني العلمية والمعرفية والدنيوية طبعا. لكنهم لا ينسون أبدا أصلهم، هم أوفياء للأرض والتراب والبنايات وملامح المواطنين المنبسطة على الدوام.
مولاي إدريس زرهون، كما تحمل اسم مؤسسها، تحمل رسالته إلى الأبد، فهي محج الفقراء يقصدها المغاربة من كل ربوع المملكة في أوج الموسم الديني السنوي. هناك، لا شيء يعلو في الأجواء غير عطر البخور و«الجاوي» والمسك، ولا صوت يرتفع غير صوت المديح في خير الورى عليه الصلاة والسلام، والذكر لخالق الأكوان، مسحة من سديم الإيمان شفافة تعكس روحانيات لا مثيل لها.
لأنها مزار، كان لزاما أن تهيّأ الظروف لضيافة زوار ضريح المولى إدريس الأكبر، فكان أن أُنشئتْ بضعة فنادق بسيطة وعادية، إلى جانب دور الضيافة التي تغوص في المدينة القديمة وتطل على شرفة بنايات ما هي بالجديدة ولا بالقديمة، هي نوع ثالث من منازل حاول بناتها أن يحافظوا على النسق المعماري العام متجانسا، بناء على احترام غير مسبوق لقدسية المكان.
الزائر للمدينة الصغيرة، لن يجوع أبدا حتى ولو كان ماله قليلا، فالأطعمة متوفرة ومتنوعة ورخيصة، قوامها «الطاجين» المغربي بالدجاج أو بـ«الكفتة» أي اللحم المفروم، وهذه الأخيرة لها عشاقها بالطريقة المشوية؛ وتلك حكاية أخرى لنبوغ أهل المدينة في هذا الصنف.
الطريق نحو الأعلى
على بعد كيلومترات قليلة تقارب 26 كيلومترا، تجلس مدينة مولاي إدريس زرهون على تلة تفرش بهجتها وترخي ساقيها على ضفاف الأراضي الزراعية، الطريق من مكناس نحو زرهون يمر عبر طريق طنجة، بعد مسيرة ربع ساعة أو أكثر بقليل، تكون الانعطافة نحو مدخل المدينة، وهناك يبدأ الصعود باستمرار، فالمدينة تقع في علو شاهق مقارنة مع مدينة مكناس أو باقي المدن الأخرى المجاورة مثل فاس، ولن ننسى شقيقتها الكبرى والقديمة وليلي.
هكذا إذنْ، يبقى الطريق معبّدًا نحو الأعلى بين أراض زراعية خضراء في أيام الربيع ومزهرة ويانعة، تواصل المسير حتى تباغك البنايات المتراصة بعناية وفي ازدحام حميمي، لا مكان للفراغات في بنايات المدينة، فقط بعض الدروب الصغيرة والممرات الخاصة بالراجلين، أما السيارات فلا مجال أمامها سوى الشارع الكبير الرئيسي الذي يضيع رأسه مع كثرة المنعطفات و«العقبات».
المدينة متعبة للمشي، لكن أهلها يبدون في صحة جيدة، أو ربما هي العادة والتأقلم مع حالة الصعود الدائم ثم العودة إلى البداية، الخطوات هناك لا يمكنها أن تكون سريعة مطلقا، لأسباب عدة، أولها نفسي تفرضه رصانة المدينة ورجاحة عقلها إن صح التعبير، فهي مدينة معمّرة ومسنة، لكنها تواصل النبض بروح شبابية تستمد فورتها من فورة أبنائها البررة الذين بقي بعضهم، والبعض الآخر هاجر، لكنه يعود باستمرار في كل مناسبة كبيرة أو صغيرة.
تقطع المسافة القريبة من مدخل المدينة صعودا إلى القمة، حيث تربع ضريح المولى إدريس الأكبر، مؤسس المدينة حيث اتخذها عاصمة لدولة الأدارسة في المغرب في البداية، قبل أن تتحول العاصمة إلى فاس مع نجله إدريس الثاني.
المكان الوحيد المنبسط في المدينة برمّتها هو الباحة الأمامية للضريح، مكان فسيح رغم صغره، تنتشر على جنباته كل المطاعم الممكنة والمقاهي الصغيرة، وتفوح بصدق رائحة من التاريخ هناك، «الكراريس» (العربات) التي تبيع التذكارات والحلويات المشهورة في المدينة، تصطف إلى جانب المحلات الأخرى لا مشكل، فالكل يترزّق الله، والباب مفتوح على مصراعيه، لا خلاف ولا صراع.
سيرًا على الأقدام، تحس بثقل الخطوات وطول الطريق نوعا ما نحو الضريح، أما بالسيارة فالأمر هين ولا تعب فيه طبعًا، لكن الجالس في مقهى بجوار الضريح لا يعرف أبدا أنه فوق مستوى سطح البحر بارتفاع 550 مترا، كما أنه لا يعرف أنه تحت جبل زرهون المطل على مناطق شاسعة تمتد على مرأى العين إلى حدود فاس وليلي وحتى مكناس؛ هي متعة أخرى للعين التي تكون قد تعبت من الجدران والحيطان وإسمنت المدينة بمفهومها الحديث جدا.
كثيرا ما تجد سائحا أجنبيا برفقة زوجته أو أبنائه يتجول في المدينة ويقترب من الضريح ويلتقط صورا، لكن هذا كان من رابع المستحيلات، لأنه إلى حدود سنة 1917 كانت المدينة ممنوعة على غير المسلمين، لكنها اليوم موقع سياحي يعيش على الهامش وينشطه الموسم الذي ينتظم نهاية شهر آب/أغسطس.
الجالسة فوق تلة التاريخ
كما أسلفنا، فمدينة مولاي إدريس زرهون شعارها الصعود، وروحها الإيمان، وطقوسها الابتهال والذكر، ويومياتها البساطة والهدوء، لا قنوط فيها؛ الكل يحس ببهجة المكان تحيط به وروعة الإطلالة، لكنه قد يصطدم ببعض اللحظات من هروب الخاطر، وهي أحاسيس لا يمكن مقاومتها مطلقا، لأن الإنسان الحديث لا يستطيع أن يعيش التاريخ حيا فقد اعتاد رؤيته في المتاحف والصور والتماثيل فقط، أما أن يراه ويلمسه ويتنفسه، فهي حكاية جديدة تلزمها مقومات التكيف مع واقع القرون الـ 12 التي مضت وهي تواصل سيرها في تاريخنا الجديد.
تلك الأراضي الشاسعة والخصبة التي تحيط بالمدينة، جعلتها قبلة لمنتج آخر لا يقل أهمية عن السياحة، وهو زيت الزيتون، فأغلب المزارع المحيطة بها هي لأشجار الزيتون ومذاقه مختلف بكل تأكيد كما شأن أي زيتون في المغرب أو في أي منطقة من العالم تنتجه، لكل مكان خصوصيته وطعمه.
لكن، تبقى طبيعة مدينة مولاي إدريس زرهون تغلب عليها الجبال التي تحيط بالحاضرة من كل جانب، ولعلها هي سبب تأسيسها واتخاذها عاصمة للأدارسة، فموقعها منيع ومحصن طبيعيا ضد أي غزو، أهّلها لأن تكون حصنا طبيعيا حقيقيا بدون أي تدخل من يد الإنسان، هكذا فعل الله بها وبموقعها المتميز.
طبعا، يبقى للمدينة نصيبها من الحداثة إن جاز التعبير، فلها أحياء سكنية أساسية معروفة قليلة لكنها متوفرة، وتأوي أحلام سكانها وتضم أجسادهم ليلا ونهارا، وتنجب الاستمرار.
من بين هذه الأحياء نجد، خيبر نسبة إلى غزوة خيبر، والحفرة، تازكة، القليعة، الدرازات، والسبالة، وخصوصية الأسماء من خصوصية المدينة وسكانها لهم قاموسهم المتداول في الحديث كما في التسميات خاصة الأجداد الذين قضوا نحبهم وتركوا لأحفادهم ما يفتخرون به مثل باقي مدن المغرب العتيقة.
الضريح قصة عشق روحي
نصل في جولتنا هذه إلى القلب النابض لمدينة مولاي إدريس زرهون، وهو ضريح إدريس الأكبر الذي يخصص له موسم بكامله في نهاية شهر آب/أغسطس من كل سنة، في تلك اللحظات المزهرة بالروحانيات، تجد وفود الزائرين والوافدين على المدينة من مختلف مناطق المملكة، ومن مختلف الطوائف الصوفية أيضا، ساعتها تصبح المدينة عاصمة الروحانيات بكل تأكيد.
فالضريح يخص إدريس الأكبر، سليل الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، والزوار عاشقون لنبض الروح، طامعون في البركات وراغبون في تحقيق الأدعية ومتعطشون للذكر والصلاة في مكان مقدس، فالمدينة بالفعل تصير محجا للفقراء.
وليس عجيبا أن تحتضن مدينة صغيرة موسما كبيرا بهذا الحجم، فالبركات مطلوبة، والذكر مسموع، والصلاة مسترسلة، والأدعية ملحاحة، يلهج بها لسان كل من يزور المكان.
حجاج مولاي إدريس زرهون يشبهون حجاج مكة مصغرة، لكن الزوار يحملون معهم الهدايا التي تختلف بين أضحيات من أغنام وأبقار، وبين أثواب يغلب عليها اللون الأخضر وتكسى بها قبة الضريح، كما يعودون منها محملين بما يصطلح عليه لدى المغاربة بـ «الزيارة» وهي عبارة عن تذكارات وحلوى وزيتون وأنواع العطور الأصيلة مثل الورد وماء الزعتر وغيرها من منتجات تأتي رأسا من المتوارث عبر قرون.
الموسم الشهير تفتحه ـ كما العادة ـ زاوية العارفين بالذكر والابتهال والبلوغ إلى ذروة النشوة والانصهار مع الخالق وفق النهج الصوفي والقناعات الراسخة لدى أتباع هذه الطرق الروحية.
زرهون ليست وحدها
الحديث عن مدينة مولاي إدريس زرهون يجرنا حتما إلى الحديث عن قصبة بني عمار التي صارت أشهر من نار على علم بسبب مهرجانها الشهير الذي بدأ موسما ثقافيا، فانتهى بفقرات متنوعة ومهمة ومبتكرة مثل «كرنفال الحمير» الذي يحتفي بالكائن الأقدم في تاريخ العلاقة بين الإنسان والدواب بشكل نافع جدا.
الاحتفاء بالحمار هو احتفاء بالعطاء وبالتاريخ؛ وكما قال المؤرخ المغربي الراحل عبد الهادي التازي في محاضرة ألقاها في إحدى دورات المهرجان الشهير «لقد آمنت برسالة السيد (الحمار) الذي كان عنصرا هاما بالأمس ليس في حياة النزالة وما جاورها، ولكن في حياة كل مدينة من المدن! مدينة فاس ومعها مدينة مراكش وغيرهما، كما تنبه لذلك الباحث الفرنسي لوتورنو بالنسبة لفاس وزميله دوفيردان بالنسبة لمراكش».
الراحل التازي قال الكثير عن الحمار وعن الاحتفاء به وبواعث التفكير في هذا الكرنفال، لكنه كان أيضا من أكبر مدعّمي الملتقى من خلال حلوله ضيفا على إحدى دوراته وإلقاء محاضرة ونشر مقال مسهب ومفصل عن بني عمار.
هذه القصبة التي توجد صنوتها وهي النزالة، تدلفها من بابها الوحيد قوس تاريخي، وتمر بجوار المدرسة، وتجد قوسا آخر ينتظرك تمر منه وتنزل إلى دروب حفرها التاريخ ومساكن عتيقة جدا ما زال الناس يقطنون بها، هي ملامح من تاريخ غابر ما زالت بيننا، لكنها تعاني الإهمال، ولولا أهلها وأبناؤها الذين بادروا إلى تنظيم المهرجان لما عرف منها غير أسماء المبدعين والصحافيين والباحثين الذين أنجبتهم.
قبل بني عمار، هناك مدينة قديمة جدا وتاريخية تحمل ملامح الرومان، إنها وليلي التي لها نصيب من وافر من زيارات السياح وصور منتشرة عبر العالم، الكل يعرف وليلي، والكل يريد زيارتها والتنفس من الأوكسجين الخاص بها ولمس المآثر القديمة والأعمدة والأقواس أو بقايا أقواس واسترجاع حقبة غابرة من تاريخ المغرب المتنوع والغني.
بعد الصعود إلى سماء التاريخ مع مدينة مولاي إدريس زرهون وشقيقتها في الأصالة قصبة بني عمار والشقيقة الكبرى الأكثر قدما وليلي، يبدأ النزول إلى أرض الحداثة والعودة إلى مدينة مكناس في جانبها الجديد، وخاصة حي حمرية، لكن العاصمة الإسماعيلية بدورها تختزن تاريخا قديما تباهي به المدن العتيقة.
840 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع