ريبورتاج - شواهد ايمانية تؤرخ لإنتشار الإسلام في شمال القوقاز
داغستان : محمد حسين الداغستاني
داغستان/الگاردينيا:على حافات بحر قزوين (الخزر) تستكين مدينة دربند التي ترد في المصنفات الجغرافية العربية باسم (باب الابواب ) وهي ثاني اكبر مدن جمهورية داغستان إحدى الجمهوريات ذات الحكم الذاتي ضمن الاتحاد الروسي ، وفيها تقع قلعتها الحصينة التي شهدت وقائعا تاريخية وحروبا فاصلة غيرت مسار التاريخ في مجمل حواضر شمال القوقاز .
دربند كانت دوما مبعث إهتمام علماء الآثار الذين يعتقدون أن قبائل مختلفة استقرت فيها منذ خمسة آلاف سنة. وبرهنت العديد من القطع الأثارية على أن المدينة الحالية التي تأسست اسفل قلعة (نارين) قبل ألفي سنة ، كانت تنتقل من فاتح إلى آخر عبر القرون ومنهم بطرس الأكبر الذي إستولى على المدينة في العام 1722، ثم توالت عليها الغزاة لحين فتحها من قبل المسلمين إثر الحملة التي قادها عمرو بن سُراقة في سنة 20 هـ ثم توالت الفتوحات في هذه المنطقة وتأكدت في عصر الدولة الأموية .
يقول السيد عبد البصير ابا كارو المساعد لشؤون العلاقات الدولية لوزير السياسات الوطنية في داغستان إن دربند التي يعود تاريخها الى سبعة الاف سنة فيها العديد من المعالم الاسلامية البارزة وكانت إحدى أهم المعابر الرئيسية التي انطلق منها المسلمون لنشر رسالة الإسلام السمحاء في دول آسيا الوسطى وبلاد روسيا وشرق آسيا ومناطق شمال القوقاز.
وكون دربند تحفة معمارية وفنية راقية فإنها كانت وتبقى مبعث إهتمام السياح والزوار الذين يتقاطرون إليها من بلدان العالم المختلفة . وقد سميت بأسماء كثيرة مختلفة ولكن جميعها كان مرتبطا بكلمة البوابة. لأن التسمية الفارسية (دربند) تعني قفل البوابات. فيما أطلق عليها الروس لاحقا اسم (جيليزنايا فراتا) اي الباب الحديدي. كما أطلق عليها اليونانيون اسم" الممر الالباني" والروم "بوابة الخزر" اما العرب فسموه (باب الأبواب) لأنه الممر الذي قاد المسلمون الى فتح بقية مناطق شمال القوقاز .
صلة دربند بحضارة بلاد الرافدين
في قلعة نارين المهيبة يتوقف الزائر مبهورا أمام سوره العظيم ويقول المسعودي في مروج الذهب الى أنّ كسرى أنوشيروان بنى هذا السور وجزءه من جَوف البحر سنة ( 332 هـ ) بطول ميل بالصخر والحديد والرصاص ، ويُسمّى هذا المَوضع من السور في البحر : الصدّ . وهو باقٍ إلى وقتنا هذا ، وكان هدفه منع مَراكب الأعداء في البحر من الوصول الى القلعة . ثُمّ مَدَّ السور في البرّ مابين البحر حتى أعالي الجبال ومنخفضاته وشِعابه ( أي سَدَّ جميع الخلل والفُرج هناك ) ونحواً من أربعين فرسخاً إلى أنْ ينتهي إلى القلعة .
في القلعة إلتقيت بالبروفيسور بدر خان فصيح كبير الباحثين في معهد الاستشراق التابع لاكاديمية العلوم في موسكو فقال لقد كنا مجموعة من الآثاريين ننقب في ارجاء القلعة التي كانت محاطة باسوار تمتد 70 كيلومترا داخل الجبال وهي بناء عظيم يفوق إنشائها طاقة البشر آنذاك ، فوجدنا مجسما لتمثال عشتار وهي الهة الحب والجمال عند حضارات منطقه بلاد الرافدين والتي وثقت عبادتها في اورك في الالفية الرابعة قبل الميلاد وهذا الاكتشاف عزز الراي انه كانت لسكنة المنطقة علاقات مع بلاد الرافدين قبل حوالي 5000 عاما ، ويبدو أن الأهالي جلبوا هذا المجسم ووضعوه في مخازن الحبوب او الطحين بقصد جلب البركة واليمن ، كما وجدنا هيكلاً عظمياً كبير الجسم للقائد العسكري (نالوج) وهو من قبائل الهون وبجانبه سيف حديدي وخنجر برونزي وقد دفن معه ايضا راس حصانه وعثرنا معه أيضا خمس جماجم قد تكون لعبيده الذين تم دفنهم معه وفق عقائد هذه القبيلة التي عبرت القلعة في بداية الالفية الاولى في سياق هجرة الشعوب العظيمة باتجاه اوروبا .
وأضاف.. ان سور القلعة الذي شيده الفرس خلال احتلالهم لها نجح فعلا في حماية القلعة وأهلها من محاولات الاعداء لحين وصول طلائع المسلمين الذين بعد حصار طويل لها دام عدة اشهر استطاع القائد الاموي مسلمة بن عبدالملك بن مروان بدهائه من إيجاد منفذ تحت ركن من أركان السور كان يؤمن المياه لسكانها فلوثها بدماء الحيوانات فإضطر السكان بعد ان تمكن منهم العطش والخوف الى مغادرتها فدخلها المسلمون إليها فاتحين .
مقبرة الاربعين من الصحابة
إضافة إلى ملحمة فتح قلعتها الشامخة التي تشرف على المدينة بمواجهة بحر قزوين هناك شواهد إيمانية فيها تؤرخ للوجود الاسلامي ومنها مقبرة تضم رفاة أربعين من صحابة الرسول (ﷺ) الذين إستشهدوا خلال الفتوحات أو أثناء جهودهم لنشر تعاليم الإسلام. وأشارت الروايات التأريخية الى أن أبرزهم هو الصحابي الجليل "حبيب بن مسلمة الفهري"، الذي كان أحد رواة الحديث عن النبي الكريم .
وخلال زيارتي للمقبرة رافقني السيد إلهام نصرت بيك اوغلو مسؤول شعبة سياحة دربند الذي أضاف الى بانه لم يتم التعرف بشكل دقيق على رفاة الصحابة الكرام الذين تضمهم المقبرة بإستثناء كل من الصحابيين عبد الرحمن بن ربيعة و سلمان بن ربيعة من دون بقية الصحابة ، وقد جذب إنتباهي أن طول القبر الواحد منهما أكثر من 2.5 متر وربما يقارب ثلاثة امتار ، وأكد السيد إلهام أن المقبرة تلقى عناية فائقة من لدن السلطات والسياحة وقد تم بناء جدارٍ وسور لها في العام 1964م لحمايتها وفصلها عن بقية القبور
مسجد الجمعة
كانت محطتي التالية زيارة مسجد الجمعة الذي يقع في القسم القديم من مركز مدينة دربند ، وهناك التقيت السيد فرهاد عليوف محاسب المسجد الذي قدم شرحا مفصلا عن تأريخ المسجد المشيد في العام 734 م والذي لا تزال الصلاة قائمة فيه ليومنا هذا رغم عاديات الزمن وتعرض جزء منه الى زلزال عنيف في العام 1368 م .
ووفق المصادر التأريخية فإن المسجد ليس من أقدم مساجد داغستان فحسب وإنما هو واحد من اقدم مساجد العالم. ولا يزال بيت العبادة هذا يبهر زواره بزهائه وهيبته وعمقه التأريخي . ويفتخر سكان المدينة جدا أنها الارض المباركة وأن مسجدهم هو الاول في روسيا ومنه بدأ انتشار الاسلام في القوقاز وحتى في عموم روسيا. ويضم المجمع المعماري للمسجد المسجد نفسه ومدرسة دينية ومقر للائمة. وهذه المباني تتوافق شكلاً مع عمارة القسم القديم من دربند. حيث تقع على مقربة من قلعة نارين وحمام الخانات وخان استراحة وهذه المنشئات يعود تأريخها الى القرون الوسطى. وقد شيد الصحابة المسجد في عهد ابو مسلم وتم بناء سبعة محلات متنوعة بأسماء اهل البلاد الفاتحين حيث كان هناك محل باسم العراق وآخر باسم الشام والثالث باسم الحجاز وهكذا.. ولا تزال في باحته وحديقته اشجارا يعود عمرها الى ما بين 500 ـ 800 عام .
عدت إلى عاصمة داغستان محج قلعة التي تبعد عن دربند حوالي ١٣٠ كيلومترا .. وطوال الطريق كنت لا ازال مندهشا لكيفية نجاح المسلمين بمراكبهم من تجاوز الصد الفولاذي الممتد من الساحل إلى داخل بحر الخزر ثم استغلال المنفذ الوحيد للمياه لدخول القلعة الحصينة التي صمدت قرونا بوجه الأعداء لكنها رضخت في النهاية لدهاء وإرادة الفاتحين المسلمين .
2193 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع