ذاكرة /توابل وبخور - سوق الهنود او المغايز..من النشأة الى الازدهار.
مستلات
* / الانتقالة الكبرى التي اعانت على ازدهار منطقة العشار وسوق الهنود تعود الى ادراك الباب العالي العثماني بضراوة التنافس السياسي بين دول الاستعمار متمثلة بالنفوذ البريطاني /
** / في البصرة القديمة ازدهرت الكاتب التجارية والمقيميات والوكالات بشتى الادارات والمسميات ، ناهيك عن ازدهار حركة النقل النهري عن طريق نهري العشار والخندق /
*** /في أزقة العشار والبجاري ظهرت اكشاك ومطاعم صغيرة راحت تطبخ البرياني والتندوري واسماك الرنجة المملحة والروبيان فامتلأ المكان برائحة الكاري والتوابل الحارة /
**** / كان العابر الى سوق الهنود يرى مجاميع كثيرة من النساء والرجال ويسمع اختلاط اللغات العربية والتركية والانكليزية والهندية والفارسية /
كانت منطقة العشار في اوج الاحتلال العثماني وبالذات في القرنين السادس والسابع عشر منطقة غابات نخيل وأعشاب حلفاء كانت تغطي مساحات واسعة من المناطق المجاورة . مناوي باشا كانت ، على سبيل المثال تمتد بنخيلها حتى جنوب نهر العشار ، الا من بضعة عمائر استخدمها العثمانيون كمخازن للسلاح وثكنات ومقابر لعساكر الاحتلال .
والكثافة الزراعية نفسها كانت ملموسة شمال نهر الخندق عدا بعض المؤسسات ذات الطابع البحري او العسكري مثل مبنى القشلة او الثكنة العسكرية ( سوق الخضارة حاليا ) والتي كانت تعد من كبريات القواعد البحرية وتلي قناة السويس في الأهمية .
كان مركز المدينة ، وقتذاك ، ولغاية مطالع القرن العشرين ، بناء على ما ذكر اعلاه من الأسباب هو البصرة او ما يطلق عليه حاليا بالبصرة القديمة .
لماذا ؟
التساؤل الذي يطرح نفسه يبدأ بأداة الاستفهام التي تبحث في الأسباب .. لماذا ازدهرت البصرة القديمة وعدت مركزا تجاريا وإداريا للبصرة ـ المدينة ؟ اعتقد ان السبب الرئيس يكمن بعلاقة الجزء الغربي من المدينة بالصحراء . ومعلوم انه كان للبصرة سور دائري وخمسة ابواب هي باب الرباط وباب بغداد شمالا وباب الزبير غربا وباب السراجي وباب المجموعة جنوبا . بينما شكّل شط العرب حدا طبيعيا امام غزو الفرس شرقا . ويبدو ان باب الزبير كان الأنشط بشريا وتجاريا فقد كان يدخل عبره بدو الجزيرة والخليج وبدو قضاء الزبير حيث التمركز الأقدم لقوات الفتح الاسلامي المتزامنة مع تمصير المدينة سنة 14 هـ .ومعروف ان ابناء البادية اعتادوا القدوم للبصرة لأغراض تجارية في المقام الاول فقد كانوا يبيعون الانعام ومنتوجاتها من حليب ودهن (عدان) واقط لقاء ما تقدمه المدينة من خضار وتمور وبقول . ومعروف ان منطقة البصرة القديمة كانت الأقرب للزبير والمنتفق وبادية السماوة ما جعلها مركزا تجاريا اخذ ، مع السنين بالازدهار .
صراعات استعمارية
مع تعاظم دور الاستعمار البرتغالي والهولندي والبريطاني فيما بعد تجلت حقيقة لم تنتبه لها الدولة العثمانية فقد كان همها الخراج والضرائب التي اعتاد الولاة العثمانيون ايصالها الى خزينة الباب العالي بينما كان الاستعمار الجديد ينظر الى اهمية البصرة الاستراتيجية كمعبر الى الهند وحتى ما وراء الهند . وضمن هذه المعطيات ازدهرت البصرة القديمة بدء بمنطقة ( السيف التي تعني مخزن الغلال المقام بالقرب من ضفة النهر ) ومنطقتي الباشا ونظران وجنوبا منطقة القطانة وشارع بشار ،
مما جعلها تحتشد بعشرات من بيوتات الشناشيل التي كان يمتلكها اثرياء المدينة تجارا ووجهاء اضافة الى افتتاح عدد من الوكالات والشركات التجارية مثل شركة ( الهند الشرقية ) بادارتها الهولندية في بداية الامر ومن ثم شركة الهند الشرقية الانكليزية التي دخلت مضمار التنافس التجاري بدعم من قوتها البحرية المتعاظمة الازدهار .
في البصرة القديمة ازدهرت الكاتب التجارية والمقيميات والوكالات بشتى الادارات والمسميات ، ناهيك عن ازدهار حركة النقل النهري عن طريق نهري العشار والخندق . اذن فالبصرة القديمة ازدهرت بحكم عوامل متعددة اولها قربها من تجار البادية وبعدها عن المطامع الفارسية التي حاصرت المدينة اكثر من مرة .
ازدهار العشار
كانت مدينة البصرة طيلة القرن الثامن عشر ومعظم القرن التاسع عشر تطل على نهر العشار فقط على بعد عدة اميال من شط العرب .
وعندما زار السائح آشر البصرة عام 1865 وجدها بلدة صغيرة نصف خربة وينسب هذا السائح خرابها الى عدة أسباب منها الأوبئة الوافدة اضافة الى اهمال ولاتها . غير ان الانتقالة الكبرى التي اعانت على ازدهار منطقة العشار وسوق الهنود تعود الى ادراك الباب العالي العثماني بضراوة التنافس السياسي بين دول الاستعمار متمثلة بالنفوذ البريطاني المنافس في المقام الاول .
والواقع ان ازدهار مدينة العشار اقترنت بالحركة الاصلاحية التي قاد لواءها الوالي التركي مدحت باشا ..
يتحدث الكاتب المؤرخ احسان وفيق السامرائي عن سوق الهنود في كتابه لوحات من البصرة ( عبير التوابل والموانئ البعيدة ) قائلا :
" لقد اكدت لنا الاراء مجتمعة بأن سوق الهنود كان موجودا أواخر القرن التاسع عشر اذ شرعت السلطات العسكرية العثمانية ببناء جسر صغير يربط ضفتي نهر العشار الجنوبية والشمالية ويوصله بالضفة الأخرى وكانت الجبهة الشمالية مكتظة بالمسقفات وعلاوي الخشب فأصبحت تسمى شارع الساحل . وبعد ذلك التاريخ صمد سوق الهنود اكثر من سبعين عاما متحديا العقبات والمحن والغوغاء والحرب فأصبح القنطرة الذهبية الى موانئ العالم البعيدة محققا نبوءة الرحالة غورينو : البصرة سوق من اعظم الاسواق في هذه البحار ".
باختصار شديد يمكن القول ان منطقة العشار ، وتحديدا سوق الهنود شهدت ازدهارا على مرحلتين الاولى مع اصلاحات مدحت باشا وشعور الدولة العثمانية بالسباق المحموم من قبل الدول الاستعمارية على ايجاد مناطق نفوذ في العراق ، بشكل عام وفي البصرة على وجه الخصوص . كانت فترة الازدهار الاولى بطيئة نسبيا بحكم هشاشة الحكم العثماني بدء بالعام 1865 . اما المرحلة الثانية التي كانت انفجارية فقد تزامنت مع الاحتلال البريطاني للعراق 1914 وتخلف اعداد كبيرة من القوات الهندية المساندة والذي تمثل في استقرار العديد من الجنود الهنود ما ادى الى تنشيط الحركة التجارية ، ليس مع الهند وحسب بل مع شتى أرجاء العالم . اضافة الى الاستقرارالنسبي المتزامن مع مجيء الحكم الملكي وتشكيل الحكومات الوطنية المتعاقبة والتي سيقوم الواقع القبلي المحلي بوضع العصي في دواليبها في قادم السنوات .
لوحات من البصرة
في كتابه ( لوحات من البصرة .. عبير التوابل والموانئ البعيدة ) يحدثنا الكاتب الموسوعي احسان وفيق السامرائي عن البداية التاريخية لسوق الهنود آثرنا اختيار بعض الوقفات كما يلي :
" تقول رواية المؤرخ قاسم رؤوف ان السنوات التي اعقبت احتلال العراق من قبل القوات البريطانية سنة 1914 قد خلفت لجنود المستعمرات البريطانية الذين شاركوا باحتلال البصرة حالات مرضية ونفسية بعد ان طالت غربتهم عن أهلهم وأوطانهم فاستسلموا لآمالهم وظلوا ينتظرون وينتظرون ، وحين دب اليأس في نفوسهم اتجهوا لممارسة أعمالهم ولم تمض فترة قصيرة حتى انتشر باعة الكازو والمانجو والتنباك والسويكة والتوابل والبخور. وفي أزقة العشار والبجاري ظهرت اكشاك ومطاعم صغيرة راحت تطبخ البرياني والتندوري واسماك الرنجة المملحة والروبيان فامتلأ المكان برائحة الكاري والتوابل الحارة متحولا الى سوق اطلق عليه اهل البصرة اسم سوق الهنود " انتهت رواية المؤرخ قاسم رؤوف غيران احسان وفيق يورد رواية اخرى تتعلق بنشأة السوق تبناها كاظم جميل البياتي بتأييد من المؤرخ رجب بركات ذاكرا ان سوق الهنود كان موجودا قبل دخول الاحتلال البريطاني للبصرة وارتبط في الأصل بالحركة التجارية العريقة لمدينة العشار ولم تقترن بدايته مع مقدم جنود الاحتلال البريطاني . كما يقول الدكتور حسين محمد القهواتي في كتابه (دور البصرة التجاري في الخليج العربي) :" فالبصرة على سبيل المثال استوردت عام 1873 من ميناء ابوشهر بعض السلع التجارية لا من اجل الاستهلاك فحسب وإنما من اجل اعادة التصدير ايضا وشملت تلك البضائع السيوف والشموع والساعات وجوز الهند والقهوة والاقمشة القطنية والقطن الخام والشب والصمغ والكافور والكنين والتوابل والسكر المخروطي والسكر الناعم والشاي والتبغ وغيرها وكانت الحركة التجارية في أوجّها على أيدي شركات مثل شركة ميمني الهندية وشركة البواخر العربية المحدودة وشركة موير تويدي وشركة الحاج سلطان شوشتري وعشرات من الشركات والخطوط الملاحية " .
تنتشر في السوق مجموعة انيقة من المحلات التجارية اشهرها محلات ( مانشستر هاوس ) ويعقوب شارو والبير اصفر وبشير عبودي وروبين الياس وجمعة الحاج عريبي وصليوه سعيد وشاكر محمود السهيل وصاموئيل عنتر لبيع الاسلحة وزكي زيتو وحسقيل كباي وغيرهم .
كان العابر الى سوق الهنود يرى مجاميع كثيرة من النساء والرجال ويسمع اختلاط اللغات العربية والتركية والانكليزية والهندية والفارسية بين مختلف الأديان والطوائف اذ كانت السفن تفرغ يوميا مختلف البضائع من الاقمشة والمكائن والعاج والأخشاب والملابس والخزف والعطور والفواكه والتحف والحديد والمواد الانشائية والفرو والحرير .
وريث تاريخي
يعد سوق العطارين بمثابة الوريث التاريخي لسوق الهنود. فقد كانت البصرة ولأمد قريب في طليعة الموانئ التي حظيت بموقع تجاري فريد جعل علماء الجغرافية يطلقون على الخليج تسمية ( خليج البصرة ) ، قبل ان تتناوشها الحروب والنزاعات لتفقد تلك المكانة المتميزة التي اشتهرت بها بين الأمم . فقد وصفها احد المستشرقين بكونها مدينة في سوق او سوقا في مدينة . وكان الداخل الى سوق الهنود ــ عصب العشارالاقتصادي ــ ينصت الى خليط من اللغات واللهجات من العربية والهندية والفارسية والانكليزية. ولكن مع الايام ومع تبدل الاحوال السياسية والاقتصادية فقد السوق خصائصه التي ميزته فقد اصبح سوق الهنود بلا هنود محتفظا بالتسمية وحسب.. وشيئا فشيئا وجد العطارون انفسهم في موقع آخر بعيد عن موقعه السابق ويشكل امتدادا لسوق الهرج الشرقي.
اليوم فقد سوق الهنود معظم مواصفاته فلم يعد سوى سوق مسقف متكدس بالبضائع والبسطات التي شكلت معوقا وسطيا على امتداد السوق واختفت تلك الوجوه متشظية في بقاع الأرض او رقدت تحت التراب ليحل محلها باعة يفتقدون للحس التجاري ( الكومبرادوري ) الذي ميز البصرة كميناء تجاري عالمي كان في زمن ما متقدما على بقية موانئ المنطقة .
1015 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع