مصاطب الرمل .. خمس سنوات في ليبيا -الفصل الخامس و السادس

مصاطب الرمل .. خمس سنوات في ليبيا -الفصل الخامس و السادس

الفصـل الخامـس - قضـوار السـهولي

قضوار السهولي او قظوار السهولي كما يحلو للبعض ان يكتبها لم يكن في مخيلتي ولا واحد بالمليون ان أكون واحدا من مدرسيها ، فمن التدريس في مدارس البصرة المركزية الى مدارس الكويت الاكثر حداثة ورقيّا الى واحدة من مدارس الواحات الليبية النائية . من الحضارة الى البداوة في ابسط أشكالها فحين الغيتْ مادة اللغة الانكليزية في ليبيا اكتفت المدارس بتوزيع بطاقات الدرجات لتأتي خانة اللغة الانكليزية فارغة من دون درجة ! عموما كان قوام المدارس الكويتية العنصر البدوي ، شأنها شأن ليبيا ، غير ان الفوارق تكمن في نوعية الخدمات والتسهيلات فقد كانت مدرسة الفروانية الكويتية التي قضيت فيها ما يزيد عن العشرة أعوام دراسية تضم ما يزيد عن التسعمائة تلميذا موزعا على خمسة وأربعين صفا موزعة بدورها على أجنحة من طابقين منفصلة متباعدة . اما المدرسون فكان عددهم يربو على المائة والعشرين خمسة وستون بالمائة فلسطينيون وثلاثون بالمائة مصريون وبقية الخمسة لمدرسين كويتيين وعدد قليل جدا من العراقيين والجنسيات الاخرى . كان الفارق كبيرا وفقدانه خسارة كبرى لي شخصيا . ولكن ما بيد المرء حيلة , ويمكن القول للأمانة ان المدرسين المتعاقدين مع الجانب الليبي كانوا اسعد بالمنصب الجديد الذي كان لا يقارن بالعمل في أجواء الحصار المقيت برواتب لم تكن تتجاوز الثلاثة آلاف الدينار شهريا !
عموما يبقى المبنى المدرسي الليبي افضل من نظيره العراقي لقدم مدارسنا ورثاثة صفوفها وكل شيء فيها ذلك لان القذافي اعتمد على الخبرة الايطالية في تشييد تلك المدارس في عهد لم يكن الفساد قد استشرى الى الحد الذي نراه في ايامنا هذه . بيد ان الفارق يظل في العنصر البشري . يبقى العراقي طالبا كان او مدرسا هو الركيزة والاستثناء في آن معا .
وعودا الى تسمية (قضوار السهولي) فقد اختير اسمه لإحدى مدارس وادي جارف واسمه الحقيقي مصباح غير انه سمي بقضوار لتوقفه لنجدة إحدى الأسر القذافية الفقيرة فأطلقت عليه تلك التسمية النابعة من مفردة قذافية الجرس والمعنى . حارب أبوه المستعمر الايطالي حتى لقي حتفه على أيديهم ليواصل نجله قتال المستعمر ليسقط هو بدوره اثر تسع رصاصات مزقت جسده اثر معركة كانت أصلا بالسلاح الأبيض .
يشتمل القسم الثانوي في المدرسة الليبية على ما يعادل المرحلة المتوسطة وتستغرق ثلاث سنوات دراسية والثانوية وتستغرق ثلاث سنوات اخرى وهما المرحلتان اللتان أخذت على عاتقي مهمة التدريس فيها . وكانت مهمة ثقيلة الوطء . فعلى الرغم من كون اللهجة الليبية الأقرب إلينا نحن المشرقيين من التونسية او الجزائرية او المغربية ، إلا ان الإشكالية تكمن في تسكين أحرف أو اصوات العلة فمثلا كلمة ( لحم ) تلفظ ( لْ بتسكين اللام ) و( ح بنصبها ) والميم بتسكينها ، كما ان قاموس اللهجة الليبية حافل بعشرات بل بمئات المفردات المتعددة المصادر ، فهناك ( الباصطي والكرمبولي واللابس ذات الأصل الايطالي ) إضافة لخصوصية الكثيرمن المفردات الليبية ذات الأصول البدوية التي تلفظ خطأ او تحريفا ففي احد الدروس ، وكنت منهمكا بالتدريس طرق سمعي صوت يشبه مواء القطط فاستدرت ونظرت الى الركن الأيسر الذي كان مخصصا للطالبات حيث ساورني الشك في أن إحداهن قد أصدرت ذلك المواء . فسألتهن بلهجتي العراقية : هل انتن بزازين ( أي قطط ) فانفجر جميع من كان في الصف ضاحكين لاعرف فيما بعد ان افردة ( بزازين ) قريبة من مفردة ( بزايز ) الليبية والتي تعني حلمات الأثداء ! لقد استدعى الأمر ان اقضي بضعة شهور في تدريس مادة شديدة الإرباك مثل اللغة الانكليزية قبل ان أدرك ان لفظة (واعر) تعني صعب . وان البياض يعني الفحم . وان الغدوة تعني المجيء وان الهدرسة او الهدرزة تعني الدردشة وان الكرمبولي هي التنورة او المريول . ناهيك عما ادخله نظام العقيد من تغييرات في اسماء الشهور الليبية وهي تأتي بالشكل التالي : أي النار ــ يناير / النوار ــ فبراير / الربيع ــ مارس / الطيرــ ابريل / الماء ــ مايو / الصيف ــ يونيو / ناصر ــ يوليو / هانيبال ــ اغسطس / الفاتح ــ سبتمبر / التمور ــ اكتوبر / الحرث ــ نوفمبر / الكانون ــ ديسمبر / ، كما ان تقويم القذافي جاء ليزيد من حالتي الخلط والارتباك لدى الناس اذ اعتمد القذافي على التقويم الشمسي بدء من وفاة الرسول ( ص ) . ومن هنا فقد كنا نكتب في المدرسة واحدا من تأريخين : قبل وفاة الرسول ، وبعد وفاة الرسول !
لقد كان موضوع الاختلاط في اللهجات والمصطلحات التي أقحمها نظام القذافي مدار ضحك وتنكيت حتى في أوساط ابناء ليبيا وان جاء ذلك في السر .

اللهجة السليمانية
يطلق بعض المؤرخين على اللهجة الليبية تسمية ( السليمانية ) وهي تنقسم على قسمين : اللهجة الشرقية التي يتفاهم بها أهل بنغازي ومدينة البيضاء وما حولها من مدن . والثانية هي لهجة مدن الغرب الليبي بدءأ بطرابلس ومصراته وغيرهما ؛ اضافة الى لهجة الجنوب الليبي . ولهذا السبب نلاحظ فوارق في استخدام المفردات من منطقة الى اخرى . ثم ان الكثير من المفردات المحلية تسربت اليها لأسباب تتعلق بالحملات الاستعمارية ــ كما اسلفنا ــ .ويستخدم الليبيون كلمة ( باهي بمعنى طيب او خوش ) ويستخدم اهل بنغازي وطرابلس كلمات مثل ( بنينة بمعنى القلم الحبر ) و( أدير بمعنى اعمل ) و( هلبة بمعنى كثير ) و ( أشبح بمعنى أرى ) بينما يقول ابناء بنغازي ( احق لنفس المعنى ) . كما ان هنالك عددا من المفردات ذات الأصل البدوي نظرا لأن العديد من القبائل الليبية هاجرت من الشرق العربي لهذا السبب او ذاك ، مثل كلمة ( كراع بمعنى رجل او ساق ) و(دحي بمعنى بيض ) و( توا بمعنى الآن ) و( خشم) بمعنى انف وغيرها . أما الجمل والمصطلحات فيقول أهل الوسط : شن حالك .. تبرزو ؟ ترنّوا؟ ! واصلها من الرنين . وتعني : كيف الحال ؟ هل انت بحال جيدة ؟ وأحيانا تستخدم بعض المفردات العربية بما يخالف مدلولها الأصلي كقول ابن البلد ( كساد بمعنى فراغ ) وهكذا .
كمدرسين كنا نستيقظ في الصباح الباكر لنجد زميل الغرفة المجاورة قد استنفد ما في الطست على الاستحمام مما يضطرنا احيانا الى التوجه الى زميلنا وجارنا المدرس السوداني لنمتح من ماء البئر في باحة بيته وكانت عملية مضنية فماء البئر رغم كونه غير مالح الا أنني كنت أشاهد الصراصير تدب على جدرانه مما كان يسبب لي قدرا كبيرا من الغثيان ذلك لأننا كنا نستعمل ماء البئر للشرب والاغتسال ! الميزة الوحيدة التي لا تشوبها شائبة حول المدرسة هو قربها من البيت اذ كانت تربض على ربوة من الحصى عبر طريق جارف الرئيس على مبعدة سبعين مترا تقريبا . كانت غرفة المعلمات تجاور غرفتنا نحن المدرسين الذكور . كان الدوام محصورا ما بين الثامنة صباحا والثانية عشرة والنصف من بعد الظهر . كان نصيبي من الحصص يقارب الأربع والعشرين حصة أسبوعيا لمرحلتي المتوسط والاعدادي الذي يسمى الثانوي . وكان اغلب الطلبة ، ذكورا وإناثا من أبناء اولئك البدو ممن امتهن بعضهم رعي الأغنام والجمال او العمل في مزارع الزيتون كمشرفين على عمال سودانيين او تشاديين او من النيجر . وفي بعض الأحيان كانت تتكدس الفصول برائحة العرق الشبابي معجونة بالسماد ووعثاء ارض الحقول المستزرعة ..

الله غالب !
المجتمع الجارفي بشكل عام مجتمع محافظ لاسيما وان منطقة جارف نفسها هي مزيج من واقع بدوي قبلي في آن معا . ومجتمع مدرسة قضوار السهولي يعد بمثابة مجتمع مصغر نابع من المجتمع الليبي الكبير حيث تباعد االمدن والواحات والعيش تحت مهيمنة صحراء تغطي ثلثي مساحة ليبيا . حتى مدن الساحل الليبي الذي يمتد لمسافة تناهز الالفي كيلومترا من الحدود مع مصر حتى الحدود مع تونس ؛ تظل محكومة بالواقع القبلي الصحراوي الذي لا يخلو من القسوة والتشبث بقيم البداوة .
حين بدأت بترويج اجراءات التعيين ، كان ينبغي علي التوجه الى مدينة سرت حيث توجد دائرة تعليم تابعة لمجمع الوزارات فهناك تتم جميع الإجراءات الروتينية المتعلقة بالتعيين وتحديد الراتب وغيرهما من اجراءات . غير ان الصعوبة التي واجهتني كما أسلفت تمثلت بصعوبة الوصول بعد توقف خط الباصات الوحيد بين سرت ووادي جارف مما اضطرنا الى الاستعانة بأهالي الطلبة من خلال انتظار سياراتهم في اول الصباح والركوب معهم . اما العودة فكانت لا تقل صعوبة مما اضطرني الى المبيت اكثر من مرة مع الصديق الشاعر( يحيى البطاط )الذي غيّر موقع سكنه من الشقة الى بيت ذي طابق واحد مؤلف من ثلاث غرف كبيرة يسكن في كل واحدة منها اكثر من شخص واحد . أما يحيى فقد آثر اختيار السكنى في اصغر الغرف والتي هي في الاصل حمام للاستحمام طولية الشكل بعرض لا يتجاوز المتر ونصف المتر . وحقيقة الأمر ان رفقة نموذج مثل يحيى كانت اكثر من ممتعة ومبعدة للسأم الذي يخيم على عموم الحياة الليبية وهو الشعور الذي يطلق عليه الليبي تسمية ( الكساد ) ، وفي تلك الغرفة ـ الحمام قضيت أوقاتا استثنائية بددت قسطا كبيرا من السأم الذي طوق أوقاتي اضافة الى ان كلينا من بلد واحد بل من مدينة واحدة ناهيك عن انه قد سبقنا بعام في العمل في احد معاهد المعلمات بالمدينة . كنا نقضي الوقت بسرد ذكرياتنا وتقليب ما يتاح لنا من موضوعات ثقافية . كان في البيت اربعة او خمسة من المدرسين العراقيين اغلبهم من محافظات الفرات الاوسط عدا مقيما طيبا يدعى ابو نبأ كان من اهالي بغداد . تلك الصحبة ستكون ذات جدوى في أكثر من مجال . وهكذا أضحت مدينة سرت الصغيرة قبلة لنا نحن مدرسي الضواحي والواحات . ونظرا لعدم وجود بريد في الوادي ، صرت أتسلم رسائل الأسرة عن طريق احد صناديق البريد المسجل باسم احد الزملاء . وفي بعض الأحيان وحين يصعب علينا القدوم الى سرت كنا نكلف احد الأصحاب بإحضار رسائلنا كلما قدم الى المدينة . وعموما سرت مدينة ساحلية يفترض ان تكون منتجعا سياحيا ذا إطلالة بهية على البحر الأبيض المتوسط لكنها لا تتمتع بأي مرفق سياحي البتة . فعلى الرغم من أهمية موقعها على خليج سرت غير ان ذلك الخليج لم يكرس للسياحة شأنه شأن الاسكندرية ومرسى مطروح وتونس العاصمة ، انما خصص للتحدي حسب القاموس السياسي الذي أشاعه العقيد القذافي والذي يمكن الاطلاع عليه في( الكتاب الأخضر) الذي طرح عبر فصوله ما يسمى بالنظرية العالمي الثالثة ! في بلد منطو على نفسه لقرون . انها ليبيا العظمى التي اطلق عليها احد السودانيين ــ ممن قدموا للعمل في هذه البلاد ــ ببلاد الله غالب حيث التصقت بها تلك التسمية من بعد ان اصدر ذلك السوداني كتابه الشهير ( ضياع المطالب في بلاد الله غالب ) ! وتبدو جلية نبرة التهكم في ذلك العنوان حيث كانت الأمور هنا تسير بمقدار سرعة سلحفاة وحيث المرتبات لا تطلق الا بعد شهور من التعيين وحيث يردد الليبي عبارة واحدة حيال أي زلزال او حدث صغير او كبير ، وبنغمة تسليم بقضاء الله قائلا : الله غالب !


الفصل السادس - في قبضة النوستالجيا

من حسن الحظ ـ ربما ـ ان نزيلي في غرفة إسكان المدرسين يشاركني العديد من القواسم المشتركة فنحن الاثنين في سن متقاربة ومن مدينة واحدة . كنا نقضي فترات الأصيل في جولات قصيرة بمزارع الزيتون المجاورة او نقتعد السرير الصخري المرتفع كيما نزجي الوقت في الدردشة .ويحدث في بعض الأحيان ان يزورنا معاون مدير المدرسة خميس الورفللي ، وهو شخصية يجدها زميلا السكن ثقيلة ميالة للحسد ــ لكوننا نتسلم مرتباتنا بالدولار ــ رغم اننا لم نكن قد تسلمنا دينارا ليبيا واحدا لما يزيد عن التسعة شهور ! غير انني كنت اجده شخصية معقولة فهو يكن احتراما لمن يتقدمه في السن والخبرة الأكاديمية .ولكي اكون منصفا وكأي ليبي آخر ، كان يضيق بالأحاديث الجانبية التي كان يتبادلها المدرسان اللذان كانا معنا مع معلمات المدرسة وكانت للأمانة دردشات تستغرق اوقاتا طويلة منذ بدء الدوام المدرسي ! وعموما يمتلك الليبي وهو بدوي التركيبة نظرة ارتياب تجاه الغريب القادم من خارج البلد ، وينسحب الأمر في بعض الأحيان على الليبي القادم من مدينة اخرى . روى لنا (ج) حكاية عن احد المدرسين الليبيين ممن عينوا في المدرسة واسمه مفتاح انه وقع في غرام احدى المعلمات وبادلته في عاطفته بعاطفة أقوى . وحين تقدم لخطبتها جوبه طلبه بالرفض ، بل ان امرأ صدر بنقله الى مدرسة نائية تقع في أقصى الجنوب الليبي ! فكيف والعلاقة بين ابنة البلد وشخص قادم من قطر آخر ؟ !
تنظر الفتاة الليبية التي تنتمي لمجتمع قبلي محافظ مغرق في بداوته وقناعاته العصبية الى القادم من الخارج نظرة الإعجاب ، وهي نظرة مشبوبة يزيدها التهابا واقع الفتاة المكبل بالضغط والتابوهات اضافة الى ان الشخصية الذكورية الليبية تفتقد للحس الرومانسي الذي يتمتع به اولئك القادمون من البعيد . تفضل الفتاة الليبية النموذج المصري في المقام الاول والعراقي لكونهما قادمين من بلد ام كلثوم ومحمد عبد الوهاب او كاظم الساهر الذي انتشرت أغانيه في تلك الحقبة الى حد التغلغل في جوارح أرواح انثوية هائمة وتائهة في براري الحرمان . عموما يمتلك الليبيون نظرة هيبة واحترام في الوقت الذي لا يجدون مانعا في اضطهاد نماذج وافدة اخرى كالسوادين (وهي اللفظة التي تطلق على ابناء السودان هناك ) وهي الظاهرة التي لمستها شخصيا إثناء تنقلي بين مدن الساحل الليبي حيث يجري انزال المسافر السوداني على نحو فظّ مع التدقيق في حقيبته وحاجياته الشخصية . عموما لم تكن الحال كذلك على الصعيد الشعبي انما تتصاعد وتيرة سوء المعاملة عند نقاط التفتيش المبثوثة هنا وهناك . ولعل الأمر يعزى لعموم النظرة السياسية او الأمنية لدى الليبيين بحكم وجود أعداد لا يستهان بها من النماذج المرتبطة بالقاعدة او بتيارات متطرفة مماثلة . وخلال سهراتنا في البيت مع مدير المدرسة الذي يطيب له تمضية بعض من ساعات اول المساء في السكن كنت ننصت الى حكاياته المسلية والمؤلمة في آن معا . وقد ألهمت تلك الحكايات قريحتي القصصية مثل حكاية ذلك السوداني الذي كان يعمل في مزرعة وأغوته ابنة الراعي . وسرعان ما انتشر خبر تلك العلاقة بين أوساط الواحة . والعادة ان يحمل الغريب وزر العلاقة كاملا دون ان تتعرض البنت لأي عقاب . الغريب دائما على خطأ ! انها القناعات البدوية المتأصلة في الدماء ! وقد ألهمتني حكاية ذلك الإفريقي كتابة احد نصوصي القصصية التي تنتهي بالقبض عليه وتعليقه الى غصن شجرة وتشطيب عضوه التناسلي وإطعام جروحه من ملح البحر الأجاج !
للأنثى الليبية جاذبية خاصة بها مثلما تتمتع بشكل من أشكال الجمال مألوف وغير مألوف بالنسبة لي انا القادم من مكان بعيد . معظم بنات المدرسة ، بمن فيهن المعلمات كن حاسرات الرؤوس . أما ألوان البشرة فكانت تتدرج بين اللون الداكن وهو اللون المنتشر في أوساط نسل قبيلة القذاذفة باعتبارها قبيلة ذات أصول عربية مشرقية ، في حين تنتشر درجات اللون الأشقر لدى ابناء وبنات قبيلة الاورفللة ، ربما بحكم اختلاطهن على مدى التاريخ بأقوام أوربية فالأصل ان اورفلة مدينة تركية كما لا ننسى ان المستعمر الايطالي وعبر العصور له تمازجات مع الشعب الليبي ومن هنا جاءت شقرة الشعر الا ان شعورالنساء تفتقد، عموما الى النعومة والاسترسال في الغالب . غير ان لأحد الأصدقاء من المدرسين العراقيين رأيا مختلفا فهو يرى ان أحكامنا نابعة من ظمأ الغربة والحرمان والفراق ما ينتج عنه شكل من اشكال الجوع الذي لا يميز بين اللذيذ وغير اللذيذ من الطعام . وعلى كل حال يغلب على ابنة الواحة تمتعها عموما بجمال مدفون تحت رمال الواحات التي تغطي أجسادهن ناهيك عن انهماكهن في أعمال البيت الشاقة من العناية بأفراد الأسرة الى تنظيف حظائر الأبل والأغنام وإعداد الخبز في تنانير بدائية قياسا بالأجهزة الحديثة . ومختصر ما يراه ذلك الصديق ان المرأة الليبية ليست بذلك القدر من الجمال إنما العين الجائعة هي من يغالي في تقديره . وتظل المسألة نسبية ، في كل الأحوال .

ليلة النجاة
ومع مرور الشهور ونفاد ذخيرتي من المال ومشاعر السأم التي تطوقنا مع مقدم الليل ، بدأت اشعر بالنوستالجيا . استبد بي حنين طاغ لأسرتي في العراق كان من الصعب علي تفاديه مما تسبب في إصابتي بحالات من ارتفاع الضغط صرت اهرع الى طبيب المستوصف للحصول على العلاج في الوقت الذي انهمك بقية الأصحاب بالثرثرة وتقليب الأمور ولعب الورق في بيت الطبيب المصري والاستماع الى فكاهاته ولو لبعض الوقت .
أخيرا استدنت مبلغا وسافرت الى طرابلس فأنا لم ارو ظمأي الى شقيقتي وأسرتها . وبعد ان قضيت بضعة أيام أقفلت عائدا في سيارة بيجو كان سائقها بدويا يرتدي (السورية) وهو زيّ من الأزياء الشعبية الليبية التي ألف أبناء المناطق البدائية ارتداءها .في حين يفضل أبناء المدن القميص والبنطال الإفرنجي الطراز .
بعد توقف دام نصف ساعة في استراحة بمدينة تاورغاء تناولت فيها وجبة خفيفة أصر مواطن ليبي على دفع ثمنها ، واصلت البيجو السير باتجاه مدينة سرت وقد غربت الشمس وشرع الليل ببسط عباءته الكالحة على المكان . وبعد مضي ما يقارب الساعة ناهزنا مدخل وادي جارف وقد اشتدت حلكة الليل . تناولت حقيبتي الخفيفة وغادرت السيارة متجها الى جذع دوحة كان ملقى على جانب المدخل وقد تراءت لنا أنوار الوادي بعيدة وشاحبة خلف الأجمات . شعرت بشيء من الوحشة والاكتئاب قدرت ان مبعثهما الحادث الذي وقع لسيارة أجرة اخرى ومشهد السيارة المحطمة على جانب الطريق . تخيلت لو ان الحادث قد وقع لسيارتنا . هل كنت سأفقد حياتي على الفور ام اقذف على واحد من أسرة مستشفى الجماهيرية كأي غريب بعيدا عن المنزل والأسرة بمئات الكيلومترات . اقشعر بدني فلهوت بالحديث مع راكب ليبي كان في السارة الأجرة التي أقلتني . كان يروم الوصول الى قرية (البطومة )الأقرب من موقعنا بكيلومترين او ثلاثة . نظرت الى ساعتي فوجدتها قد تجاوزت الثامنة ليلا . فهل سأبيت ليلتي عند مفترق الطرقات الموحش هذا ؟! وفجأة لمحت شبحا قادما من جهة الحانوت المقابل . وما ان اقترب حتى عرفت فيه شخص احد طلبتي في مدرسة الواحة واسمه احمد . ناولني علبة بسكويت وعصير داعيا اياي للركوب في سيارته النيسان الحوضية مثلما دعا الرجل الساعي الى البطومة . في الطريق طفقت أبادله الحديث مقتضبة ، على الأقل من جهتي ، فقد خالطني شعور من الإحراج لكوني قسوت عليه بالعصا داخل الصف كعقاب لمشاكسته للبنات . والحقيقة أنني لم اعتد ضرب أي طالب ليبي كان او غير ليبي ناظرا لوضعي الاجتماعي كمدرس لا ينتمي لهذه البلاد التي بدت لي اشبه بكوكب بعيد عن الأرض . اجل ضربته ضربا شبه مبرح أمام اخته الابلة زينب التي لم تنبس ببنت كلمة . وها هو الآن يشهد ما انا عليه من توحد واغتراب وتقطع سبيل . ومع ذلك قاسمني طعامه وشرابه . لكن عدم الاطمئنان ظل يلازمني كلما اقتربنا من مرادنا .
كان طريق الوادي الملتوي والمعبد جيدا يخترق حجب الظلام حتى وصلنا الى مفرق قرية البطومة ، عندئذ خفف من سرعته حتى ناهز دوحة شاهقة قبالة الطريق الداخل لقرية البطومة طالبا مني مغادرة السيارة لأنه سيقوم بإيصال الرجل ومن ثم يعود لالتقاطي .لم يكن ثمة متسع من الوقت لأطلب منه الذهاب معه فقد امتثلت لطلبه لتغادر السيارة البيك اب الى وجهتها ولكن من دوني لأجدني في مفترق طريق غارق بالظلام الدامس تحت دوحة تحدث أغصانها أصواتا كانت اقرب للنشيج وهي تتراقص في حضرة ريح فتية كانت تشتد بين الفينة والفينة دافعة بهيكلي المرهق جانبا باتجاه الاجمات المظلمة ! عندئذ أدركت ما انا فيه من مأزق أوقعني فيه ذلك الفتى كيما يثأر مني ومن عصاي المهالة على يديه الغليظتين فلا تند عنه آهة ألم كاتما في دخيلته غيظا سأدفع فاتورته الآن بعد ان تقضّى ما يقارب ثلث الساعة دون ان يعود ذلك الطالب العفريت لالتقاطي . كانت المسافة بيني وبين البيت تتجاوز الكيلومترا واحدا ، وقد قررت مرغما ان اقطعها سيرا على الاقدام ولكن انىّ لي ذلك وانا المح سربا من الكلاب المزمجرة يتقدم نحوي ؟ ! لم يكن في معيتي من سلاح سوى حقيبة سفر شبه فارغة وحزام نحيل يلتف حول بطني . تلبّسني رعب هائل ممزوج باليأس وأنا أبصر مصرعي قادما نحوي . في تلك اللحظة لمحت نورا بدا منبعثا من دراجة نارية قادما من جهة البيت . ومع اقترابه أدركت انه بيك أب بيجو اعور أي بمصباح منار واحد . ومع عودة الروح توقف طالب اخر من طلابي واسمه عبد السلام السبوعي والقى التحية علي ملحفا علي ان أسرع بركوب المركوبة البيك اب لتمضي بي الى بر الأمان !
في صباح اليوم التالي وفي حضور خميس معاون المدرسة والمعلمة زينب شقيقة ذلك الفتى الحاقد ، لم الق سوى رد مقتضب رددته شفتا خميس : ــ الله غالب !
وهكذا فوضت أمري الى رب العباد !

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

740 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع