تيه الجنوب - صفحات القسم الثاني من ثنائية حفل رئاسي / ج٢

تيه الجنوب - صفحات القسم الثاني من ثنائية حفل رئاسي / ج٢

نوبة حلم

السماوة كما ألفتها لم تتغير. نهر الفرات الذي يقسمها شطرين هو الذي تغير، عندما شحت مياهه من المصدر، ونبت القصب على حافاته القريبة. الوقت بساعته الثالثة صباحاً مناسب لما رسمته مخيلتي في بغداد. بصيص الضوء الداخلي للسيارة الساقط على ورقة أخرجْتُها من جيب سترتي يشير الى اقترابي من حي الضباط الذي يسكنه صاحبي في بيت حصل عليه مكرمة من الرئيس، عرفاناً بإماتته سجين من سجناء المؤامرة المزعومة بضربة واحدة من عمود حديد في سجن أبو غريب يوم أعماه غضب أهوج. عشر دقائق تلزمني لتنفيذ ما جئت من أجله، زادتها سيارة حمل تسد الشارع المؤدي الى البيت المقصود ثلاث دقائق، أصبح وقعها ثقيلاً لم يكن في الحسبان، بعد أن تيقنت استحالة إطلاق صوت التنبيه "الهورن" لاجتيازها والناس نيام، فلم يبقَ سوى الرجوع الى الخلف بأقصى سرعة، حلاً عساه اختصار للوقت المهدور، والتخفيف من الوقع الثقيل.
وقفتُ وعينيَّ على الساعة، وأخرى على الفجر الذي أخشى حلوله، وارتفاع الأذان، ونهوض الناس من نومهم، قبل تحقيق المطلوب. قلت في نفسي، لا أريد لهذه الخطة أن تفشل، ولا أقبل الفشل مهما كان. سأتجه الى الشارع الترابي المؤدي الى البيت المقصود، لا يهمني التراب المتطاير من سرعة احتكاك الاطارات بالأرض، فالنيام لا يرون الغبار، ولا يشمونه.
توقفتُ للمرة الثانية. كان هو البيت المقصود بسياجه الاسمنتي، وبابه الحديدية السوداء وقطعة الأرض المجاورة، حمدت الرب على انها مازالت مليئة بالزبالة، وبعض أنقاض تركها أصحاب البيوت التي أنجزوا بناءها حديثاً، جميعهم اعتادوا رمي الانقاض في الارض الخلاء، وان كان اصحابها من سادة القوم، لقد أصبح لأكوام الزبالة نفعاً في اخفاء السيارة والتسلل منها الى البيت المقصود، لتنفيذ ما هو مطلوب، فكان لي هذا وكانت المسافة منها الى البيت اللعين لا تزيد عن العشرين متراً، أحسستها عدة كيلومترات، واحسست قدراً عالياً من القلق، أشعرني كمن يطفو مشياً على غيوم عابرة، لكني وصلت، دفعت الباب الخارجي بأنفاس مقطوعة، فانفتحت أمامي وكأنها ترحب بالدخول، أو أنها تضمر شراً لا أعلمه.
يخيم ظلام كقعر بحر ميت على هذا البيت المكبل بالغموض. شككت به أحد سراديب وادي السلام، اقتربت بحذر، وعندما شاهدت عمود الكهرباء حَسبتُ تياره قُطع عمداً لتسهيل مهمتي، أو أن صاحبي استعجل الانتقال اليه قبل اكتمال تأسيساته الكهربائية ليقرب حتفه.
جميع الغرف خالية الا من بعض أثاث من الدرجة الثانية وقط أسود عكست عيناه بعض خيوط النور الذي يتسلل من الشارع عبر الزجاج الرخيص، شهقتُ فزعاً عند اعتقادي أنه واحد من الجان الذين يحرسون صاحبي بعده واحداً منهم، تسمرت في مكاني، شعرت وكأن روحي تخرج من فتحات أنفي التي اتسعت كثيراً، وعندما أخذت نفساً كان متعسراً أحسست حاجة ملحة لدخول الحمام، وكأني أصبت بإسهال حاد. لم أهدأ ولم ينقطع الاسهال الا بعد مداهمتي من فكرة كانت عالقة في عقولنا، ابان فترة السجن في أبو غريب من أن الروح الموجودة في هذا البيت تعود الى رفيق من بيننا مات بعصا صاحبه في أحد غزوات التدجين، حَضرت لتعينني على تنفيذ مهمتي العسيرة.
تجرعتُ الفزع هلعاً، لأمشي على أطراف أصابعي، كي أفتش بقية الغرف، لم يكن أحد موجود سواي والقط الأسود. عندها جال في تفكيري أن أصحاب البيت مثل غيرهم من السكان يأخذون من السطح مكاناً للنوم، خلال هذه الفترة الزمنية من الصيف، فاتجهت نحو بابه التي يتحكم بها مزلاج من جهة السطح، نسي صاحبي وضعه في الحلقة التي تتم الغلق.
وَضعتُ قدمي اليمنى خارج الباب، فأحسست صمتاً قلقاً يسود المكان، مثل ذاك الذي يأتي بعد الرقود الأبدي في القبر، كسرهَ صرير الباب العتيقة، ما دفعني لأن التصق خوفاً بحافتها الخارجية مثل تمثال مصنوع من البرنز.
انتظرت ردود الفعل. لم يحصل أي رد فعل من أي أحد، و(چاسب) صاحب الجلد السميك، راقد على سريره يتنفس بعمق، تذكرتُ كيف كان حضوره مدراً للبول بين نزلاء قاطعنا الخاص في أبو غريب، بتُّ أحس إيقاع انفاسه العدائية تنهش أنفاسي، تقدمت نحوه والخوف يبطئ خطواتي، وقفت بمواجهة سريره الخشبي، وعندما انقلب في نومه الى جهة اليمين تلاشت كل ظلال الجرأة في نفسي، كدت أسقط خوفاً.
تمعنت به جيداً، شارباه صارت طويلة عن أيام أبو غريب، صبغها بالأسود الفاحم، فبانت كما لو أنها خرجت من مدخنة بهباب أسود، حاجباه الغزيرتان تقربانه من صورة مهرج في سيرك روماني، وجفناه المتهدلتان يؤشران إدمانه على السكر، نصفه من الأعلى عار. الشعر الغزير على صدره وكتفيه يجعلانه شبيها بالغوريلا الأفريقية دون منازع، زاد وزنه عن تلك الأيام التي كان فيها سيد أهل السجن، لشراهته البائسة في الأكل، حتى اقترب من أن يكون برميلاً بلاستيكياً منفوخاً. عدت التمعن به ثانية فلم أجد في صورته ما هو مخلوق لرحمة انسان. كانت بجانبه من جهة اليسار زوجته ذات الشعر الأشعث، وفي يمينه طفلة لا تتعدى العشر سنين، جميلة المظهر والشكل.
شهرتُ مسدسي الذي أعتزُ به هدية من الرئيس، اقتربتُ بفوهته من رأسٍ تصورته فارغاً، الا من حقد جعل وجهه أصفر مزرق، فشعرت وكأني أحقق نصراً في حرب كونية، وفي لحظة انتظرتها ثلاث سنين في السجن، ومن بعدها سنتين خارجها، تذكرت كل سوط ساعني به، وتلك الهراوات وقضبان الحديد، وضغط حذاءه الوسخ على أذني المثقوبة. التفتُ جانباً دون ارادة مني، فوجدتُ جنب سريره الحذاء الأجرب لن يتبدل، وكأنه قد احتفظ به تذكارا للذل. حاولت وضعه بقدمي والدوس به على الرأس الفارغ، لكن رائحة العفن المنبعثة من داخله حالت دون تحقيق هذه الأمنية التي جاءت طارئة، لم أكن قد وضعتها في مخططي الذي يقتصر على المجيء للاقتصاص من هذا الكائن موتاً بهذا المسدس الموسوم هدية من الرئيس.
زَحفَت سبابة يدي اليمنى على الزناد، وقبل تحركها ضغطاً لإتمام فعل الانتقام، فتحت الطفلة الجميلة عينيها، حاوَلت كبح انفاسها حتى لا يلاحظ عليها الانفعال الذي يستدرج الدموع، وكأنها لم تكن طفلة، سألت بثقة عالية:
- ما لذي أتى بكَ في هذا الليل الدامس؟. تعال واجلس الى جانبي. العفاريت في سريري تبعد عني النوم.
- إني لم أحضر الى هنا كي أتبادل الحديث، جئت أطالب بدَينٍ لي عند هذا النائم الى جانبك.
- وهل لي ان أسدد هذا الدين بدلاً عنه؟.
- لا يمكن تسديده الا من قبله شخصياً.
- أخبرني طبيعة هذا الدين، فأنا أدرك عواقب الأشياء، لا تستصغرني.
- أريدُ أخذ روحه، لأنه....
- أكمل ما تريد قوله، وللمرة الثانية أقول لا تنظر اليّ باستصغار.
- لأنه قبض أرواح أصدقائي وعذبني عذاباً، كنت في كل مرة أفكر بقتله.
- هل أنت عزرائيل، أم جئت بديلاً عنه، وهو المخول الوحيد بقبض الأرواح؟. ألم تعرف هذا؟. واذا ما كنت هو حقاً فاقبض روحي معه، لأنني ابنته الصغرى، ولا استطيع العيش دونه. هل لك أبنة مثلي؟.
- نعم لدي خمس بنات واحدة يقترب عمرها من عمرك.
لم يمهلها چاسب فرصة الاستمرار في حديث بت أستمع اليه بشغف، وقد أخرج من تحت مخدته مسدساً، هو كذلك هدية من الرئيس. أطلق رصاصة واحدة، هويت إثرها على أرض السطح الترابية مستلقياً في مكاني، كمن استسلم الى قدر لا يريد استفزازه.
دنت مني الصغيرة في محاولة منها اكمال الحديث، أزاحها جانباً، انقض على صدري النازف مثلما كان يفعلها من قبل كأنه وحش متمرد. بات يخنقني، وقبل انقطاع نفسي، صرخت سأقتلك في المرة القادمة، ما زلتُ قادراً على قتلك، سيأتي اليوم الذي أتخلص منك الى الأبد.
كنت أصرخ، وأنا كذلك أصرخ شعرت وكأن يد أقوى منه امتدت الى جرحي النازف، ساعية انقاذي من هذا الوحش، وسمعت لحظتها سؤال يوقظني من الموت:
- ما بك؟. ثم "بسم الله الرحمن الرحيم" أعتدتُ سماعها في كل عثرة اصادفها في النوم أو في الصحوة من حبيبة تشاركني الحياة حلوة، قائلة:
- أظن أن الكابوس ذاته قد عاودك من جديد.
أفقت مذعوراً.
نظرت الى المرآة القريبة فلم أر نفسي هادئاً مثلما كنت أشعر من قبل، بل أكثر اضطراباً وأسوء حالاً مما ظننت، فتيقنت أنه الكابوس الذي يتكرر يومياً، يُحشر في نومي، يوقظني مرعوباً أكثر من مرة.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

634 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع