جراح الغابة - الجزء الثالث عشر

 جراح الغابة - الجزء الثالث عشر

الراقد الى هذا الجنب على أرض الغابة بتعابير الوجه، وبعض الحركات المنفعلة من يديه وقدميه يشارك ذلك المتكئ على جذع الشجرة في أحزانه، ومأساة مرت بها اسرته المغدورة. يحس تقطيع أحشائه من الداخل، يتخيله في هذا المكان البعيد عن بغداد كمن يقترب من الموت، يحاول استغلال توقفه المفاجئ عن الكلام، ليعبر له عن مشاعره، ويمنحه فرصة مناسبة لاستعادة الأنفاس، وتخفيف الضغط على قلب فتي أضعفته المأساة، وأتعبه كثر البوح بالمكبوتات، قال:

كل إنسان قد ينحدر إلى مستوى النذالة في وقت من الأوقات، لكن نذالة من هذا النوع لا ينحدر إليها إلا الشقاة المهوسون بالإيذاء، توقف قليلاً وأضاف: وا أسفاه لقد انتشر الأنذال من حولنا، وتكاثروا في كل الأمكنة من بغداد وباقي مدن العراق، طوال عقدين من الزمان، كانت بائسة، ومع هذا لا يمكن تصور غالبيتهم أصبحوا قتلة بهذه الطريقة البشعة.
راح بعيداً في نغمة التخفيف يسأل: لمَ الاستمرار في العذاب؟. ثم أجاب على سؤاله: هذا هو حالنا ومصيرنا لابد من مواجهته مهما كان.
سامر المستلقي بموازاة جذع الشجرة، على بساط يرافقه في التيه، استمع قليلاً ثم عاد الى الاسترسال في الكلام بعد أن وجدَ فيه سبيلاً الى التنفيس عن ألم المكبوت، لم يعط مجالاً الى التوقف، ولا لتبادل الحوار من أجل التذكير بمآس أخرى ألمت بالعراق والعراقيين، كان في تلك اللحظة، يعتقد جازماً أنه الوحيد في مثل هكذا مأساة، وإن أهله فقط هم المذبوحون، وهو من بين الشباب من يفتش عن السبيل لمواجهة المصير، وصورة عبد الجليل لا تفارق المخيلة، وحشرجة الموت في حنجرة الوالد كابوس يأتي كل يوم، وتوسلات الأم لتفادي فعل الاغتصاب، لا تبرح الذاكرة، وجسد شذى التي طعنت في صدرها بسكين وهي عارية، ينغص العيش في أي مكان، والعجز عن فعل شيء في موقف صعب، يجعل الانسان يمشي مطأطئ الرأس، لا يحس بالجبن فقط كما يقول السفاح، بل وكأنه صورة مجسمة لكل ما في العالم من خنوع، وذهان الاكتئاب الذي شخصه الأطباء النفسيون في جلسات علاج زادت عن العشرين، ليس هو إكتئاباً فحسب، بل يمثل كل معنى الحزن والبؤس والشقاء في عالم بلا فضيلة، راح يتمتم بصوت يسمع: كيف لي البقاء بعيداً عن العذاب، ومازالت أعيش أجواء الفاجعة كأنها حدثت بالأمس، وكأن دم الأسرة لم يتخثر بعد، وكأن الجبن الذي حصل في ذلك المخزن اللعين ملازم للجسد، يتنقل معه في كل مكان.
أوقف تمتمته ليجيب ذاته المتسائلة كأنه يحاول إيجاد تبرير لتخفيف آلام الضغوط على ذاته المكتئبة: أن الانسحاب من ساحة المواجهة قد حصل، لم تكن لي قدرة على المواجهة، هناك صوت في داخلي يذكرني عند محاولة الخوض قريباً من تفاصيلها بالشلل الذي أصاب ساعتها جهازي الحركي، لمجرد التفكير بمسك الفأس والنزول من المخزن ويذكرني بمساعييّ الحثيثة للهروب من العراق خوفاً من الذبح بالطريقة ذاتها التي ذبح بها الأهل، ويثير في خلايا عقلي كابوس عبد الجليل وهو يضحك بصوته الموحش، واضعاً سيف دولته الاسلامية على رقبتي بقسوة باتت توقظني من النوم.
عاد يسأل صاحبه، وكأنه لا يريد الخروج من مأزق الذات: ألا يعني هذا نوعاً من الجبن، ورغبة في التشبث بالحياة، وإن كان الثمن رقاب الأسرة؟
وألا يعني إدعاء الرغبة بالموت والسعي الى الانتحار، وتأكيده أمام الأقرباء، والطبيب المعالج سلوك كذب لا إرادي، أو هواجس خوف لا نهاية لها؟.
إلهي متى تنقي النفس من نمش الهواجس هذه؟.
كيف يمكن التخلص من هذا العبء الثقيل، ومن الاعتقاد أن الناس هناك في العراق يعشقون القتل، يتلذذون بمنظره البائس في كل الاوقات، حتى يخيل اليّ وأنا ماش في شوارعه أنهم بقليل من الاستثناء، يقبلون ممارسته قتلاً وحشياً إذا ما أتيحت لهم الفرصة؟
لا يجوز تصديق العكس من هذا في مواقف الشجب على مستوى العلن، لأن كثيراً منهم، وفي قرارة أنفسهم يعشقونه بجنون.
لا يمكن أن تُنسى تلك الأيام التي كنا نتجمع فيها حول التلفاز عبر ثماني سنوات نشاهد صوراً من المعركة، وما تعرضه كاميرات التوجيه السياسي، وتلفزيون الدولة من مشاهد جنود حرب مقتولين، وقد انتفخت بطونهم، وتورمت أجسادهم وآخرين تمزقت، وتبعثرت أشلاؤهم على طول ساحة القتال، وكيف أدمن بعض غير قليل على المشاهدة إلى مستوى لا يشعرون بالاطمئنان ولا ينامون بعمق إلا بعد المشاهدة بإمعان. كذلك لا يمكن أن ينسى حال أهل بغداد بعد عام (٢٠٠٥) وهم يعبرون من على جثث المغدورين ملقاة على أرصفة الشوارع، في طريقهم إلى العمل، لا يكترثون لمن تكون، ومن كان المسؤول عن فصل الرأس عن الجسد، وكيف كانوا يتناقلون أخبار القتل مثلما يتكلمون عن الأعراس؟... الأعراس، كلمة نطقها بوضوح وانفعال فأصابته بحالة تشنج عصبي، جعلت شفتيه تتقلصان، وكأنه يبتسم بطريقة من فقد عقله تماماً، فاستوجب المنظر نوعاً من المبادرة للتدخل لتخفيف ضغط الانفعالات السلبية التي ترافق البوح بعد أن عاوده التلعثم، والتعثر بالكلام، قال جاداً: إنه ليس جبنا بالمعنى الذي يعتقد، ثم لا يمكن لأحد أن يتدخل، وهو فاقد الوعي، أو قريب من فقدانه، ولو صدف أن تنفست بلهاث مسموع، لواجهت مصيراً لا أحد قادر على التنبؤ به، ولا أحد يستطيع الحيلولة دون حصوله، ثم وبعد أن توالد الانذال، وأدعياء الفضيلة المهووسون وكثروا، أصبح من الصعب مواجهتهم.
كانت محاولة الى التدخل جاءت في وقتها، مهدت له التنويه عن فرصة اعتقدها وحيدة لتخفيف الألم، والنهوض من سرير الكآبة يوم كان الجد وأبناؤه، وأحفاده ينتظرون مرور أربعين يوماً على الوفاة، ليقيموا عزاءً في الدار، عندما حضر إليهم أبو محمد، الجار المعروف برفعة أخلاقه في العامرية، مع رجلين يرتديان ملابس عربية، تطبعهم بطابع المنطقة الغربية، أطمأنوا أولا لوقار الجد والأعمام، واستحالة قيامهم بالغدر، عرّفوا أنفسهم من أهالي الفلوجة، أشار أبو محمد الى الجالس على اليمين عم عمر، والآخر على يساره بن عمه، لم يتناولوا طعام الغداء الذي أعد على عجل، إلا بعد أن وعدوا الاجابة عن سؤال حيرهم، يتعلق بوجود عمر مذبوحاً مع الأسرة التي نُحرت رقابها كالشياه.. اجابة طلبوها مني الناجي الوحيد، ولما تحجج الجد بأني مريض، راقد في السرير، قال العم:
أنتم أهل بخت، قصدنا ولدكم، لم نتناول طعامكم، ولن نغادر هذا البيت المعمور، إلا بعد أن نعرف منه شخصياً سر الموضوع، إذ ان العشيرة تطلب تفسيراً، ودم ولدها لا يترك هدراً، والمجيء هذا اليوم تحديداً لإنهاء الموضوع الذي طال أمده حسب أعراف تلتزم بها كل العشائر. يهمنا أن نعرف فيما إذا كان طرفاً فنطلب (عطوة) لتأدية الدية، أو مغدوراً، فنطلب ديته، وثمن دمه من أي عشيرة.
كانت كلماتهم تصلني وأنا راقد في الغرفة القريبة. نهضت من سريري، أترنح من كثر الأدوية المهدئة التي تناولتها، وفي داخلي دافع قوي لرد بعض الدين، وفاء لموقف عمر، الذي دفع حياته ثمناً لقيّم انتهت عند الآخرين.
وقف الحاضرون لمجيئي المفاجئ، قفز العم صالح لمساعدتي في الوصول إلى كرسي قريب، همَّ الرجلان الغريبان بالسلام وأخذ العزاء، نظر كل منهما إلى الآخر نظرة ندم، وكأن أحدهم يقول إلى الآخر إن الوقت لم يكن مناسباً، وإن الشاب المقصود للإجابة عن أسئلتهم عاجز بالفعل عن أدائها. تحيّر الجد والعم صالح، لأنهم عجزوا في السابق عن دفعي مريضاً إلى النهوض من السرير، تخيلوني مختلفاً هذه المرة، وكأن جزءاً من غيوم سمائي قد أنقشع، مع بداية سردي بعض المشاهد التي حدثت من البداية وإن كانت مشوشة، مؤكداً فيها على سلوك عمر الذي حُشر، ضحية جلبها الحظ العاثر. فكانت وقع كلماتي على الرجلين القادمين من منطقة تغلي، رغوة إطفاء لنار حمدوا الله بصوت مسموع على إطفائها، قالوا معاً: الولد شجاع أصيل، لم يلوث سمعة الأهل والعشيرة، وكأنهم كانوا يشكون بغير هذا، حتى التفت الجالس على اليمين إلى الجار أبو محمد قال: الآن تصدقون أنا أعرف ابن أخي جيداً، إنه شهم لا يلبسه العيب، ولا يتلبس به.
اعتذر مني مريضاً عاجزاً، وقف لتقبيلي، قال أنت منا بمنزلة عمر، نحن أعمامك سنلاحق عبد الجليل، وإن كان في آخر الدنيا، ردد ،من معه الاهزوجة المشهورة.... (وين يروح المطلوب إلنا).
كان مجيء الجماعة وإن أثار المواجع فقد فتح الأمل، إذ جلست معهم لتناول الطعام على مائدة الجد، بدأت التكلم بجمل كاملة، وإن كانت تخرج بطيئة أحياناً، وغير مترابطة أحيانا أخرى. المهم انها خرجت، وبخروجها أزاحت جزءاً من الهم الجاثم جبلاً على الصدر المليء باليأس، أحسست بوجود من يشاركني السعي إلى الانتقام، وأدركت بصيص نور في عتمة الظلام الذي استمر قريباً من الأربعين يوماً كانت مؤلمة.
لقد استمر الحديث، وتبادل التعازي كنت محوره، حتى حلول العصر بعد تناول الشاي، طلبوا الاستئذان بالمغادرة، وطلب الجد من العم صالح أخذ شابين من الأحفاد بسيارته الخاصة، ليصطحب ضيوفه قريباً من ناحية اللطيفية، ثم التفت نحوهم مازحاً: من اللطيفية فما فوق لا نخشى عليكم.
هكذا انتهى التوديع بوعد أنهم سيأتون في القريب بخبر عبد الجليل، وانتهت الأربعين، ومرت مثلها أربعين، والحال كما هي تأرجح بين اكتئاب شديد يلزم عدم مغادرة الفراش، وبين آخر أخف، يبقيني حزيناً مقيداً ضمن حدود البيت أتجول بين غرفه، كأن دنيايّ محصورة في خيالات مضطربة، وفي الموجودين بهذا البيت حتى دب الملل إلى داخلي سبباً زيّد شدة الاكتئاب، ادرك الجد، بخبرته الطويلة في الحياة أسبابه فاقترح سفراً إلى عمان مع العم صالح لكسر شوكته، ومتابعة العلاج. قال في الأردن أطباء جيدون، وهناك مثلهم عراقيون جيدون مقيمون، يعملون في مستشفياتها، وفي عيادات خاصة يشاركون فيها الأطباء الأردنيين، فرصة لتلقي العلاج عند أحدهم، مهما كلف الثمن.. اقتراح وجيه نفذ خلال يومين وفي الثالث وجدوا أنفسهم أمام طبيب عراقي مختص بالعلاج النفسي السلوكي، يعمل في مستشفى (خمس نجوم)، تعهد إتمام العلاج، لم يقدم شيئاً جديداً، وإن حاول جاهداً التقديم، مثلما لم تقدم قبله مستشفى الحلة، والعيادات الخاصة في بغداد، كانت الأدوية الموصوفة ذاتها وإن تعدد الأطباء، وتغيرت التسميات تبعاً للشركات المنتجة، والكلمات نفسها من قبل الجميع (لابد من الراحة، وتحمل الوجع فالزمن كفيل بحل الأزمة، هذه أوهام، وتلك تهيؤات، تكلمْ على قدر ما تريد فالبوح مفيد لإخراج ما في الداخل من هموم وانفعالات، ومكبوتات) لقد تكرر سمعها، وإن تبدل المعالجون.
شهر في الأردن كان كافياً، بل إنه كثير على من فقد الأمل في مغادرة المرض، والعودة منها جاءت بسيارة (جي أم سي) عبر الحدود العراقية الأردنية، إجراءات ختم الجوازات في نقطة طريبيل، لا تثير الاهتمام، كان الفكر مشغولاً هذه المرة، ببلاد أبعد من الأردن والعراق، انها بريطانيا التي قال عنها حميد الصديق القريب بعد سفره إليها لاجئاً قبل سنة، انها المكان الذي يمكن فيه الابتعاد عن هموم العراق. فكرة، لم ترق للعم صالح الجالس في المقدمة جوار سائق السيارة التي تبتعد عن منطقة طريبيل، بسرعة تظهر على العداد مئة وستون كيلومتراً، قال: الوضع الصحي الآن لا يسمح بالعيش وحيداً في الغربة، مبررٌ لم يقنع من صمم على الهرب بعيداً عن بغداد، معتقداً أنه وحده فعل سيحل المشكلة، ويخرج من حالة الملل. لقد اقتنعت بما اقترحه حميد الذي تم الاتصال به في الأمس، صدقت قوله أن بريطانيا تتعايش فيها كل الأديان، غالبية كنائسها التي يعدونها مثلنا بيوت الله، باتت مزاراً للسواح المبهورين بعمارتها وفنونها، لا يتدخل المتعبدون منهم في شؤون الحكم، ولم يجرؤ أي منهم على إلزام الناس اتباع طريقته في التعبد، ولا يفكر أحد محاسبة آخر على أصوله ومعتقداته.
كان كلامي هذا مثل هواء في شبك، فالعم صالح، لا يصغي، كان تفكيره محصوراً بكيفية الوصول بسلام عبر طريق غير آمن، ضمن المنطقة التي نسير فيها قريباً من الرمادي، والفلوجة، تذكرنا بتلك السيارات التي خُطف ركابها بقصد ابتزازهم، والأخرى التي قتل جميع ركابها على وفق انتماءاتهم المذهبية أو القومية، قال ما يهمنا في هذه الدقائق الحرجة، الوصول ومن بعده التفكير بموضوع السفر، ثم ان الجد هو صاحب القرار الأول والأخير، والطبيب لابد أن يستشار.
لاحت بغداد في الأفق حزينة تشعر العائد بانقباض في القلب الموجوع، تجبره الالتفات الى جميع الاتجاهات، كمن يفتش عن عبد الجليل، ها هي كما تركها مذبوحة بشظايا القذائف العمياء، تعجز الذاكرة عن استرجاع صورة جميلة لها، تشجع على التشبث بالعودة إليها، أو قبول البقاء فيها إلى الأبد، بسبب حزنها، وحزني اللذين اجتمعا معا، اندفعت بتكرار المطالبة بتركها، والهجرة إلى بريطانيا الأمل الوحيد. لكن التكرار غير مجد أيضاً، والعم يغط في نومه من تعب الطريق، لم يسمع، ولم يحس بحزن بغداد، بقيَّ هكذا حتى محطة الوصول إلى علاوي الحلة، نهاية خط السير القادم من عمان، ومنها الى بابل لا رغبة لديه البقاء في بغداد، أو حتى التأخر فيها، لأن الجد الذي يتابع عن طريق الهاتف النقال بقلق، ينتظر في الباب بسبحته المعهودة وثيابه البيضاء. انتظاره هذه المرة جاء واقفاً من غير الكرسي الذي جلس عليه أول مرة، كان متلهفاً لاستقبالي كما هو في الاستقبال الأول، وكذلك كانت الدموع، والأدعية التي كررها مراراً دونما ملل. صحبني بنفسه إلى الغرفة التي كانت للوالد، بعد أن أمر بتجهيزها لتكون مناسبة للإقامة، والعيش لي فرداً من الأسرة، قال: لابد من أخذ قسط من الراحة.
.........

تجمعت الأسرة في المساء، طرح العم صالح في جمعها فكرة السفر إلى بريطانيا، معللاً أصلها الرغبة في إتمام العلاج، وتغيير الظروف، لتخفيف الصدمة على الجد الذي عارض على الفور، خشية عدم العودة من بلاد يصعب العود منها للمتشبثون بالعيش في أجوائها. حسم الموضوع، كمن يريد أن يعطي لنفسه فرصة قبل القرار: لقد وصلتم قبل ثلاث ساعات، وحتى الآن لم نعرف نتيجة سفركم الى عمان، ألا يمكن الانتظار قليلاً لنرى الخير من الشر؟.
بات الانتظار هو الخيار الوحيد، خياراً لابد منه، وان كان البد على مضض، وكان الاسبوع الذي انقضى كأنه عقداً من الزمان، حتى دخل الجد إلى الغرفة الخاصة مساءاً، توحي هيئته، وكأنه ناقش الموضوع مع الأعمام أكثر من مرة. جلس الى جانباً بدء التكلم بحنو قال: ولدي سامر أنت الباقي الوحيد من رائحة المرحوم، كيف لي قبول فقدانك إلى الأبد، قد لا أراك ثانية. جميع الذين سافروا إلى دول الخارج من الشباب لم يعودوا منها، ومن عاد أخذ من الوقت عشر سنين وأكثر، ومن يضمن بقائي على قيد الحياة عشر سنين أخرى.
دمعت عيناه اللتان أتعبهما الزمن وأصغرت حجمهما سنوات الشيخوخة، فكانت إجابتي وأنا اليائس من الحياة: إني أقرب الى الميت منه إلى الحي، لا أحس بمن حولي في هذه الدنيا اللعينة، ولا أتلذذ بطعام، ولا ينعشني ما فيها من هواء، أكره الحياة والناس، والمكان الذي أتواجد فيه، أي مكان بالعراق، يشعرني وكأن سيف عبد الجليل مغروس في ظهري يؤلمني طول الوقت، يتراءى لي أن توابيت أهلي تملأ المكان الذي أجلس فيه، وان أشباحهم تنام معي في السرير، دعني أجرب عالماً غير هذا العالم جدي َّالعزيز، عسى أن يكون ذاك العالم الذي أقصده، بلا أشباح ولا توابيت، عساه ينسيني السفاح الذي جعل نهاري خريفاً باهتاً، وليلي كله كوابيس.
لقد ذرفت العيون دموعاً احمّرت بسببها، ومن شدة اليأس وقلق السفر بعيداً عن المكان والزمان ومن احتمالات عدم الشفاء، والخشية من الجنون، خشية كنت أعبر عنها همساً الى المقربين من الأصدقاء الذين يحضرون لتعزيتي، وتفقد أحوال صحتي التي زادت في تدهورها من بعد الحادثة.
وافق الجد على السفر، كأن غزارة الدموع أجبرته على الموافقة، كان العم صالح أصغر الأعمام، وأقربهم إلى الوالد الذي تكفل بعيشه، ومصاريف دراسته الجامعية في بغداد، شاهداً على الموافقة، أخذ على عاتقه الموضوع، أكد ضرورة الاتصال بالسيد حميد الموجود في بريطانيا، ليدل على الطريق الذي سلكه في الذهاب إليها، أملا في تذليل صعابه جاء الاتصال في المساء محبطاً، عندما أكد أنه وصل عن طريق مهرب من دمشق بجواز سفر برتغالي مزور، لقاء ثلاثين ألف دولار، علم بعد الوصول أن المخابرات السورية قد ألقت على ذاك المهرب القبض، وأقفلت أحد منافذ التهريب، ثم إن البريطانيين وضعوا بعض التعقيدات على الوصول بجوازات سفر مزورة.
لم ييأس صالح المعروف بإندفاعه العالي، طلب من الحضور إعطاءه يومين، أو ثلاثة لتدبر الأمر، جاء في اليوم الرابع والأسرة على العشاء، عارضاً وجهة نظر صديق له، موظف في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ببغداد، تتأسس على إمكان درج الاسم في أحد الوفود التي تنظمها الوزارة الى أوربا، أو بريطانيا، لقاء دفترين من الدولارات (عشرون ألف دولار). هنا تدخل الجد الذي عمل معلماً من قبل بقدر من التعجب فسأل: كيف يمكن إتمام مثل هكذا أمور، وسامر غير موظف في الأصل؟، لافتاً النظر إلى أن هذا قد يكون نوعاً من النصب والاحتيال الذي يكثر في هذا الزمان، ولتأكيد وجهة نظره روى للحاضرين قصة أحد معارفه ممن تعرضوا لعملية نصب مشابهة كلفته البيت الذي تسكنه الأسرة بعد أن اضطر إلى بيعه في حي المحاربين لدفع ثمنه إلى أحدهم، تبين لاحقا أنه نصاب.
قطع صالح طريق الشك، قال: لقد حسبت مثل هكذا اعتراضات، وأصبت مثلكم بالريبة ومع هذا اقتنعت بالفكرة، لأن الشخص الذي سيتم التعامل معه في الوزارة صديق قديم من أيام الخدمة العسكرية التي قضيناها معاً في السنوات الأخيرة للحرب العراقية الايرانية، وعانينا سوياً ويلاتها، وأخطارها حتى اقتربنا من بعضنا مسافة لا تسمح للنصب أن يتخللها، ثم أن الإتفاق معه يقضي عدم تسليم دولاراً واحداً، إلا بعد إنجاز كل مرحلة من المراحل المتفق عليها، سنعطي دفتراً عندما نستلم أمراً إدارياً بتعيين سامر في إحدى دوائر الوزارة، ونتأكد من صحته، ومن ثم أمر مباشرته بوقت يعود إلى ما قبل عدة شهور من الآن، وسنعطي الدفتر الآخر حال تسلمنا كتاباً رسمياً بمشاركته أحد الوفود الذاهبة الى بريطانيا تحديداً، وما تبقى من مراجعة للسفارة البريطانية في عمان لإتمام التأشيرة سنقوم بها من جانبنا مع أعضاء الوفد الآخرين، ومع ذلك، فهذا هو العرض الوحيد، قد تكون فيه احتمالات للنصب، لكنها أقل من تلك التي تجري على يد مهرب مجهول!.
كان الجالسون ينصتون، تدخل العم أبو علي الموظف في معمل نسيج الحلة في الحديث على غير عادته في التدخل، نوه الى أن مثل هكذا أمور تتكرر في هذه الأيام، ثم إن صحة الولد لا تتحمل بهذلة المهربين، ومجازفة التعامل معهم، علاوة على هذا وذاك هناك مشكلة المبلغ وكيفية تدبيره، مبلغاً ضخماً.. تنويه أو تدخل، لم يأبه له الجد الجالس في الزاوية ينصت ويراقب بعقلية الشيخ الحصيف، العارف جيداً بأن مشكلة ولده أبا علي هي الفلوس، فأضاف من عنده موعظة بدأها بالقول: لنضع في الحسبان أن الدنيا قد تغيرت وان أصدقاء كثر قد خانوا صداقتهم، وقد انتشر في العشرين سنة الأخيرة كثيراً من قصص النصب يشيب لها الرأس، ألم تلاحظوا بأنفسكم أننا قد أصبحنا مثل قطاع الطرق الضالين، ومثل أولئك البدائيين، يقتل أحدنا الآخر، وكأننا لم نولد من حواء واحدة.
لم نشرب من ماء الرافدين.
لم يذبحنا الحكام معاً، وتسحق رؤوسنا سرف دبابات الحاكم، والغازي معاً.
لم نقف جميعنا بحضرة السلطان نرقص معاً، وندفن موتانا الذين دس لهم السم في أقداح العصير الطازج، أو حشرهم في حرب أراد أن يكون فيها إلها، بنفس مقادير الحشر معاً.
ألم تدركوا أننا قد اقتربنا من الوحوش التي تنهش بعضها، نسينا الطوابير التي تشاركنا الوقوف فيها على خبز التنور، وتوابيت الأولاد التي ترمى مغلقة على باب الدار بعد منتصف الليل، وتجسس المختار، وافتراء الرفيق الحزبي، وعدنا إلى الرقص متفرقين وإلى النصب على بعضنا وكتابة التقارير منفردين، وكأننا خلقنا من جديد، خلقاً مسحت من ذاكرته مودة الجلوس في المقاهي، ومتعة الفرجة على لعب المنتخب الوطني، ولذة الفخر ببابل وآشور وملوية سامراء، ونشوة الشعر الذي أبدعه الرصافي والجواهري، وعبد الرزاق عبد الواحد، ومظفر النواب، والأهم ضيعنا التكافل فيما بيننا وقطعنا الأرحام. ومع ذلك فالعين بصيرة واليد قصيرة لا خيار سوى القبول، أبا علي لا تعير اهتماماً للفلوس، فالمبلغ المطلوب موجود، من مال المرحوم الذي حصل عليه لقاء بيع أرضه في حي نادر، قبل وفاته بشهر، ومازال مبلغ مئة مليون دينار موجوداً، يمكن إعطاء الدفترين المطلوبين، وتحويل الباقي بعد الوصول لإكمال المشوار هناك.
دب الأمل بسيطاً في ثنايا الشعور بعد يأس كان فيه السواد مطبق، وفي مدة أسبوعين حسمت مسألة التعيين والأمر الاداري، ودفع المبلغ الأول عشرة آلاف دولار، ومن بعدها عشرين يوماً صدر أمر الايفاد مع خمسة آخرين، وسيدة من منظمات المجتمع المدني، عندها دفعت العشرة الباقية، والتوجه إلى عمان لمراجعة السفارة البريطانية، ضمن وفد لم يسأل أحد من أعضائه عن سبب وجود شاب صامت حزين بينهم، وكأن الايفاد والسفر غاية أسكتتهم جميعاً، وهم يقدمون لنيل التأشيرة البريطانية، وَيُجرون المقابلة في الصباح، ويستلمون التأشيرة صالحة لستة أشهر بعد الظهر. تسهيلات زادت من الاصرار على الذهاب إلى بريطانيا، والبقاء فيها إلى الأبد، ودفعت إلى التوجه صوب الخطوط الجوية الأردنية، وحجز تذكرة في اليوم التالي، حددت فيه المغادرة بعد الظهر.
لقد غفوت على الكرسي المحدد آخر الطائرة غفوة عميقة، أحست المضيفة الحاجة إليها، فلم تحاول إيقاظي عند تقديمها وجبة الغداء، كان حميد في الانتظار يقف قبل ساعة من الوصول في صالة المبنى الرقم ثلاثة في مطار هيثرو، شرع بالعناق لحظة اللقاء بلهفة، أطال أمدها لاعتقاده أنها لا تكفي لتجاوز ألم الفراق بادلته العناق بحرقة دموع لم تكن كافية لتقليل قلق الأيام المقبلة، ومع هذا وَجدت في حميد أملاً في الولوج إلى عالم آخر ليس من سكانه عبد الجليل، ووجد حميد في شخصي رائحة أهل تركهم منذ سنة بادر بالسؤال:
ماذا جرى، لقد نقص وزنك، وشكلك قد تبدل؟ ثم أردف مطالباً إخباره في الحال عن كامل القصة، حيث لا يصدق أن الذي أمامه هو نفسه سامر الذي يعرفه من قريب. لم أجب ساعتها على السؤال، وبدلاً عن الإجابة أصابني دوار الاكتئاب، على الرغم من بلوغ بلد الأحلام.
***********

للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:

https://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/57467-2023-02-05-17-20-40.html

 

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

826 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع