استعادة روائية لغرائب البطل الإنجليزي جون فرانكلين

 رحلة البحار البريطاني جون فرانكلين في البحر (أركتيك كينغدوم)

الأندبيندت عربية/أنطوان أبو زيد: لا يعرف البطء ولا يقدره إلا من أدركته السرعة المطردة وحرمته من نعمتي التأمل والتمتع بلحظات حميمية في حياته اليومية. وهذا شأن بدأت الإنسانية، ولا سيما الحضارة الغربية الحديثة، تفقده منذ الثورة الصناعية وارتفاع وتيرة الاختراعات العلمية في القرن التاسع عشر التي سرعت عجلة الحياة في تفاصيلها الصغيرة، فبات التباطؤ أو التمهل علامة على التخلف الفردي أو الجماعي، ينبغي التصدي له، والعمل على معالجته لصالح المسار العام الذي يؤثر السرعة في كل شيء.

يتطرق الكاتب الألماني ستين نادولني (1942) لمسألة البطء، من خلال حبكة قصصية مشوقة، يروي من خلالها سيرة بطل إنجليزي يدعى جون فرنكلين، من عائلة فقيرة في أواسط القرن التاسع عشر، وقد برز في طبعه خصلة البطء في التصرف، والسلوك، ورد الأفعال، وحتى الكلام. ولما كان الأهل قد عدوا تلك الخصلة نقصاناً فادحاً، بل إعاقة خطرة ينبغي الحد من آثارها بالقمع حيناً، وبالعمل الشاق أحياناً أخرى، ومن نعومة أظفار الأبناء قبل البنات. إذاً، بحسب سيرة هذا الطفل، كما يرويها الكاتب الألماني ستين نالدوني، تتكشف للطفل جون إعاقته الكبرى، بنظر المجتمع الصغير والكبير، أعني التباطؤ في كل فعل وفكر يقوم به، سواء في لعبه الكرة مع أقرانه، أو ارتياد الأماكن الطبيعية، أو تعلم القراءة والكتابة، أو التعرف إلى الأنثى، وغيرها. وغالباً ما كان يداوي فشله بالفرار وركوب أحد الزوارق لتعلم مهنة البحار.

بطء في الفهم والتفاعل

وبالعودة إلى حبكة الرواية، الصادرة حديثاً عن دار أطلس، في ترجمة الكاتب المصري المقيم في ألمانيا سمير جريس، يستفاد أن العائلة أرسلت ابنها، بطيء الفهم والتفاعل، إلى مدرسة داخلية لعله يصير كاهناً ويتلقن علوم عصره ويقلع عن بطئه. عندما صار فتى في الرابعة عشرة، يهوى فتاة، فلا يدري سبيلاً إلى إغوائها، ويفر منها إلى حوض السفن في المدينة الإنجليزية البحرية، لينخرط في السلك البحري زمن تعاظم الأسطول البحري الإنجليزي، وتنامي الحملات الاستعمارية، وتجنيد الشباب الإنجليزي فيه، وإن بالسخرة، خدمة لملك إنجلترا ونفوذ الإمبراطورية البريطانية.


البطل القومي البريطاني جون فرانكلين (ويكيبديا)

وعندئذٍ، تبدأ مرحلة أساسية في حياة الفتى جون، يتعلم في خلالها صنوفاً من المعارف العملية المتصلة بالإبحار، من مثل قيادة السفينة، وإدارة الشؤون اليومية على ظهر السفينة، من مأكل ومشرب، واهتمام بالصواري، وكل ما يتصل بالأدوات اللازمة لسبر عمق المياه، وللرسو في الموانى، وتدوين الملاحظات، ورسم الخرائط وتصويبها، وصيانة الأسلحة والمدافع، وخوض المعارك العسكرية مع الأعداء، سواء في البحر أو في البر. وهذا ما جرى لجون، وهو على متن السفينة "إنفستيغاتور". وكان معياره – المكتسب - في نجاحه الدائم بكل ما كان يقوم به هو البطء الذي لطالما أتاح له الوقت الكافي للتبصر في الفعل الذي يزمع القيام به وفي نتائجه وآفاقه.

ولما بلغ جون السادسة عشرة، وهو لا يزال بحاراً متمرناً على ظهر السفينة، وحانت عودته إلى مدينته ومسقط رأسه، وجد فتاته "ماري روز"، وقد باتت أماً ذات أبناء، فمال إلى حي المومسات، واختار إحداهن ليكتشف ما سبقه إليه آخرون، من زملائه البحارة. وفي الفصل العاشر، يواصل الراوي العليم إخبارنا بما اكتسبه البحار جون، وقد بلغ الثامنة والعشرين من عمره، فصار ملازماً بحرياً، ونجا بأعجوبة من الموت، خلال معركة برية شديدة خاضها، مع رجاله، ضد أميركيين متمردين على السلطات الإنجليزية، وفي ما بات يسمى ثورات الاستقلال. ولحسن حظه، تنتهي الحرب، وينتهي معها فصل من المغامرات العنيفة التي لم يكن له يد فيها، وهو بطيء الفكر واللسان والفعل.

البحار القدير

ومع ذلك، كانت رجاحة عقله معينة له ولبحارته على النجاة من الموت غرقاً، بأن أدرك كيفية معالجة الثقب في السفينة من دون أن يلحق بالسفينة أي ضرر. مثلما واتته رجاحة عقله، وتأنيه في إطلاق الأحكام ورفضه الانصياع للغرائز في عز الحروب، على اجتراح الحلول العملية لكل مشكلة على حدة، ولعل هذه الخاصية التي لطالما كانت إعاقة وعاراً في نظر أهله، صارت ملكة تصدر عنها الآراء القويمة، والخلاصات الحكيمة ذات الطابع الإنساني والمتجاوزة الأعراق والحدود وصراعات المصالح، والعادات والتقاليد التربوية المتزمتة، ومن هذا القبيل قوله إنه ضد الحرب التي يخوضها الإنجليز على أقربائهم الأميركيين، وأن ثمة لغة مشتركة بين الإنجليز وغيرهم من الشعوب، هي لغة التبادل الحضاري والتجاري، وهذا ما حصل له لدى مفاوضته الهنود الحمر، وقبائل الإسكيمو التي كانت لا تزال تعد عدائية، بل عصية على التواصل، وأنه ينبغي تقسيم المتعلمين الأطفال في المدارس إلى قسمين، أو فئتين، فئة سريعي التعلم، وفئة البطيئين في التعلم، وأنه يحسن بالفريق سريع التعلم أن يتخذ له مهناً شمولية، في حين أن بطيء التعلم ينفع في الحرف اليدوية والطب والرسم، وغيرها.

ولم يزل جون فرنكلين كذلك حتى تجاوز الحبسة والبطء في الكلام، فبات يصدر أوامره في إيقاع مدروس ومتناسق على السامعين المأمورين من البحارة. ولما أعلنت نهاية الحرب، آنس جون فرنكلين من نفسه القوة ليكون قائداً في بلاده، والفرصة سانحة بغياب نابليون بونابرت وانطواء صفحة حروبه الإمبراطورية ضد الإنجليز.


وفي الفصول الأخيرة من الرواية (وهي في 19 فصلاً، و462 صفحة) يحكي الراوي العليم قصة البعثة الاستكشافية التي كلفته إياها السلطة الملكية الإنجليزية، وكيف أن جون فرنكلين أمكن له ملاقاة الهنود الحمر في منابتهم الأصلية التي خاضوا حروباً ضارية مع البيض لحمايتها وإبقائها في عهدتهم، على رغم حملات الإبادة التي كان يجرها هؤلاء على الهنود، ومن الأمراض الفتاكة التي أهلكت كثيرين منهم بسبب الكحول التي بادلوها بالذهب من الرجال البيض.

ولما عاد البطل جون فرنكلين من رحلته الاستكشافية إلى القطب الشمالي التي اكتشف في خلالها مضايق وممرات لم تكن معروفة من قبل، وأفلح في عقد مصالحات ومبادلات مع الهنود الحمر وقبائل الإسكيمو، وآثر مواجهة المرض والجوع جنباً إلى جنب مع رجاله، استقبل استقبال الأبطال والقادة المنتصرين، وفي باله أنه إنما انتصر، في المقام الأول، على تصور اجتماعي خاطئ في إيثار السرعة على البطء، باعتباره معياراً للنجاح في المجتمع الغربي أواخر القرن التاسع عشر، عصر الاختراعات والإيمان بقدرات العلم على خلاص الإنسانية مما هي فيه.

تحفة أدبية

ولعل نجاح هذه الرواية لستين نادولني لدى صدورها، ورواجها وترجماتها إلى لغات العالم الحي نظير ما يحصل للتحف الأدبية الكبرى، دليل على أن الكاتب أصاب في قضيته المرفوعة، على توالي فصول الرواية التسعة عشرة، في أن مبدأ البطء القائم على الصبر، والتفحص البصري، ومراقبة الظاهرة المعنية، يكفل للفاعل بموجبه النجاح، وسيعينه على الاكتشاف، وإدارة الحكم أو أي شأن عام أو خاص بروية، وإصدار أحكام صائبة في ظاهرة معينة.

والجدير ذكره أن هذه الرواية لستين نادولني أحدثت دوياً، فتأثر بها وبأجوائها الكاتب التشيكي ميلان كونديرا، الذي أصدر روايته "البطء"، بيد أنه صوب وجهة نظره إلى ناحية أخرى، وهي التأني في الحياة، والتمتع باللذائذ التي كانت الحياة فيما مضى – أي قبل مئتي عام من زمن الكاتب، في القرن الثامن عشر - في مقابل الحياة العصرية التي تقوم على السرعة والنسيان.

للكاتب الألماني ستين نادولني عديد من الروايات وهي: البطاقة البرتقالية، واصطياف، وأنا وهو، والوقح. ويشار أخيراً إلى الجهد الكبير المبذول من المترجم عن الألمانية، الكاتب المصري سمير جريس، لتأتي موافقة الأجواء والمشاهد المتدافعة في الأثر الكبير، المنقول إلى العربية للمرة الأولى. أول من تنبه لهذه المعضلة، أعني انقضاء عهد التمهل والبطء والاستمتاع باللحظات الحميمية وبمأثورات الماضي الشخصي والاجتماعي، كان الكاتب التشيكي ميلان كونديرا الذي كتب روايته "البطء" عام (1993)، ونشرها عام 1994.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1343 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع