جراح الغابة - الجزء الأول
إشارة
لم تكن لدي النية في الأصل لكتابة رواية، تعكس صورة الواقع في بغداد وبعض مدن أو غالبية مدن العراق، قبل العودة الى يوميات اعتدت كتابتها، لغرض الإفادة من المكتوب فيها كشواهد اثبات تدعم وجهة نظري التي أروم وضعها في كتاب جديد أخذ عنوان (حصاد العاصفة – ثقافة التضاد العراقي بين زمنين) .
وبالتدقيق في المكتوب وجدت أمامي مأساة أسر ذبحت في العامرية والسيدية ومدينة الحرية.
ووجدت تجاوزات وأعمال خيانة وفساد تخطت في واقعها حدود المعقول.
حاولت حشرها في مادة الكتاب بصيغة سرد روائي يسهل على القارئ مسألة الوصول الى الاستنتاج الذي أردته، فكانت في غير موضعها، ولا تنسجم وصيغة السرد التحليلي الذي اعتمد في ترتيب أحداث وفصول الكتاب.
عندها توقفت، واقتطعت ما كتب، وأعدت صياغته من جديد، جاء علي شكل سرديات بصيغة روائية، تؤرخ وقائعها عيشاً مريراً لأهل بغداد بين الأعوام (٢٠٠٥ – ٢٠٠٧) على نحو خاص.
كان الخوف حد الرعب من الجار الذي يختلف معك في المذهب والقومية، والخشية حد الغثيان من السير وحيداً في الأزقة والشوارع الفرعية.
هجرة من مكان، وتهجير الى آخر، وسير في طرق ملتوية .... حيرة دفعت أهل العراق الى السير باتجاهات متناقضة:
يوقد بعضهم ناراً لحرق ذاته التي تكونت منذ آلاف السنين، ويصب آخر زيتاً على النار.
هم الانسان في الغالب بقاءً جسدياً على قيد الحياة، من بعده الطوفان.
حيرة آهات، هلوسات وضعتنا جميعاً في دوامة التساؤل:
لماذا يحدث كل هذا؟.
ولماذا يقتل ذاك؟.
ومن وراء هذا الفعل الشائن وذاك؟.
فجاء المقتطع كتاباً بأبواب ثمانية بصيغة روائية، بُدلت فيها الأسماء فقط، لتجيب عن هذه التساؤلات، وغيرها الكثير في مجتمع لن ينقطع فيه وعنه السؤال، عشرات أخرى من السنين.
سعد العبيدي
شباط ٢٠١٢
(١)
خيال أم شبح إنسان من الماضي البعيد، لا يمت إلى الحاضر بصلة، هذا الرجل المقبل بملابسه الرثة، وتقاسيم وجهه المعبرة عن قسوة السنين. طوله المفرط وجحوظ عينيه لافت للنظر، ووقع أقدامه الثقيل غير المتوازن على أرض الغابة يثير الريبة.
توقفه المتكرر، بالتفاتة ناقصة إلى الخلف، يبقي الشك ماثلاً في وجوده بهذا المكان، وفي سيره على الطريق النيسمي الضيق، وسط الأشجار والشجيرات والأحراش الكثيفة.
الطريق الذي يمر متعرجاً بشكل غير نظامي، في غابة تمتد من الساحل حتى أطراف المدينة، مسافة تقترب من الخمسين كيلومترا. (دونکانسبي هید) آخر نقطة مأهولة على مرتفعات الشمال الاسكوتلندي التي تغطي قمم جبالها الثلوج، أكثر من ستة شهور في السنة.
اقترب بحذر شديد، عيناه الجاحظتان مفتوحتان على الآخر. تراقب بتمعن لا يخلو من حساب التحوط، الذي أصبح صفة تلازمه منذ أن قرر الهرب من نفسه، ومن عالم يعتقده مجنوناً. التحوط يساعد عقله المرتاب على الدوام، لتقدير المسافة التي يريد أن يبقيها آمنة بينه وبين الآخر الغريب.
وقف في المواجهة حائراً، صامتاً لا يتكلم، مصدوماً بالهيئة التي أمامه، وبالجسم الممتد على العشب من دون حراك. يتنازعه الخوف من وجوده وسط الغابة، التي لا يمر في طرقها الوعرة غير الصيادين من أهل المنطقة، وموظفي الغابات المختصين بشؤونها، أو ربما يكون مستغرباً من لون، وتقاسيم الوجه الشرقي الذي تفاجأ به، في منطقة لا يفكر أهل الشرق بالتقرب منها، سواء كانوا مهربي لاجئين إلى بريطانيا بلاد الأحلام، أو مستطرقين.
متشنج، صنم يعود تاريخه إلى الأيام التي سبقت الاسلام بسنين.
في وجهه العبوس بقایا سمرة تغطيها صفرة كونتها أمراض القهر بعمر الشباب، أو صاغتها غيابات الشمس التي لا تشرق هنا إلا بالمناسبات.
يصعب الجزم والبت في الاسباب بمثل هذه المواقف المثيرة والعابرة، لأنها كثيرة ومتشعبة.
ما فائدة الجزم، وقد اختلطت جميعها في طريق الغربة الطويل، وأجوائها القاسية؟.
هذه الغربة التي يتشقق فيها الهارب من وطنه، مثل أرض العراق التي يبست وتشققت من شحة الماء. يقف كمن يتطلع من أعلى التل بيأس نافذ إلى العظم، لمنظر لا يريد له التكرار.
القى السلام بلغة إنجليزية ممزوجة بلكنة أجنبية واضحة، وفي رد السلام باللغة نفسها، واللكنة تأكد أكثر من حدسه، أن صاحب الجسد الموجود أمامه عراقي على الأغلب. فتشجع في أن يتقدم خطوته الأخيرة، ليسأل بكلمات قليلة، وقبل أن يتلقى الاجابة التي أراد، أشار إلى أنه سامر، عراقي من بغداد مهاجر يائس من الحياة، قذف به الحظ المنحوس خارج البلاد، ودفع به القدر المشؤوم إلى أن يكون في هذه المنطقة، يتجول تائهاً في غابتها التي عرف كل طرقها وأحراشها والوديان من كثرة المشي التائه فيها طوال أيام.
الاطمئنان الذي لم يكن كافياً، أبقى نصفه الواعي قلقاً، يتلفت يميناً وشمالاً، كمن فقد شيئاً ثميناً في مشيه هذه المرة، أو تعرض لمطاردة رجال الهجرة الذين لا يقوى على التخلص من قبضتهم، إذا ما أرادوا ترحيله في الوقت الذي يشاؤون.
أخذ نفساً، أتكأ على جذع الشجرة في جلسته، حاول الظهور بمظهر السامع، القادر على التواصل، فلم يستمر طويلاً، بعد أن شعر بتدافع الكلمات في ذاكرته المليئة بالانفعالات، فعرج على موضوع النحس الذي رافقه، يوم مقتل عائلته ذبحاً حتى وصوله إلى هذه البلاد التي أرادها مكاناً جديداً، لأحلام من نوع آخر. وجد الجو ملائماً للبوح بالمكبوت، فبدأه متسلسلاً حسب تدافع الكلمات التي تحاول الخروج من دون سيطرة منه.
تذكر بداية مشواره مائدة الإفطار الأخيرة التي أعدت قبل الذبح، رمضانية خاصة، صنوف متعددة، أنجزتها الوالدة الدكتورة سامرة لكي يكون فطوراً مميزاً في اليوم الذي تبقى لهم في العامرية، بعد تأكدها من إيجار البيت الصغير في منطقة الجادرية أصبح واقعاً، حققه الزوج سبيلاً للخروج من دوامة الخوف التي تبتلعها وباقي أفراد الأسرة ليلاً وفي النهار، وتيقنها من أن الانتقال إليه صار متاحاً في صباح الغد الباكر. أمل انتظرته ثلاثة شهور متصلة، حسبت وقعها البطيء ثلاث سنين. لا تفكر ببيتها الذي ستتركه لمن يحتله، سواء كان مهجراً من احدى مناطق بغداد، التي أستشرى فيها التهجير، أو (قفاص) يتصيد في هذه الأيام التي تصلح (للقفص) بأجوائها الملبدة بالهموم، ولا يهم إذا ما استخدم مقراً لإدارة أعمال الإرهاب المنظم، كأسوأ إحتمال.
لا تريد أن تَحسُب بقايا الاثاث الذي لا ينفع نقله إلى البيت الجديد خسارة. مشغولة فقط بإتمام المائدة كما أرادت أن تكون متميزة، لهذا اليوم الذي عدته وباقي أفراد الأسرة الأخير في ببيتها الذي أنشأته مملكة خاصة، قد تعود إليه بعد انقشاع الغيمة المؤقتة. تحمد الله وتشكره على تحقيق الأمل الذي أرادت. تُكَررُ مع نفسها (هذا اليوم سننام جميعاً بلا أرق من خشية العيش بالعامرية، وأيامنا في الجادرية ستكون بأمان. لن أقلق على البنات في الطريق إلى الجامعة، ولا على سامر حتى لو عاد إلى البيت بعد الساعة الثانية عشرة ليلا. الله كم هو جميل أن تتحقق الأحلام وسط عثرات الكوابيس).
رائحة الأصناف المتعددة للطعام تختلط مع بعضها، حتى لم يعد الصائم قادراً على تمييز أي صنف يكون الأحسن، وأي نوع هو الأشهى، ليبدأ به أولاً، بعد خمس دقائق فقط، موعد المدفع التقليدي للإفطار.
تلاوة آيات من الذكر الحكيم مسجلة بصوت عبد الباسط عبد الصمد، تبثها الفضائية العراقية منذ نصف ساعة، تعطي المكان قدراً من الهدوء والخشية.
المطبخ القريب لا يسع الأم الحنون، والاستاذة الجامعية المقتدرة، وهي تعطي التوجيهات المتكررة، للآنسة منى المتكاسلة بنقل الجاهز منه إلى الطاولة الموجودة في غرفة الطعام، بسبب دلعها المفرط، وانخفاض مقدار السكر في الدم بعد يوم صيام طويل.
واقفة تتأمل السماء، وهي تنتظر اللحظات الأخيرة لوضع حساء العدس في أربعة صحون، لأفراد الأسرة الأربعة. جميعهم صيام. لا تقترب من شذى، ولا تعترض على عدم مشاركتها في استعدادات الطبخ والتقديم، كذلك لا تعلق على شدة انهماكها في مراجعة الموضوع المطلوب لها امتحاناً في مادة التشريح قبل دقائق من الفطور.
تقدر حالة الزوج، المتعب من الصيام في جو حار، والمشغول بمسألة الانتقال إلى البيت الجديد، وبسيارة الحمل، التي يخشى أن يتأخر سائقها عن الحضور في موعده الساعة العاشرة صباح الغد، تأسيسا على الاتفاق الذي تم معه ظهر هذا اليوم وحسب عنوان البيت الذي ثبته بورقة أعطاها له أثناء الاتفاق، للبدء بنقل المفيد من الأثاث، أو أن يغفل هذا السائق الذي لم يعرفه من قبل، عن اصطحاب العمال الذين أخذ على عاتقه، جلبهم معه من المسطر القريب الى الكنيسة، للمساعدة في التحميل والتفريغ، من البيت الحالي إلى البيت المستأجر.
الهدوء في الدقائق التي تسبق الأذان واقع بشكل عام، إلا من أوامر متفرقة تصدرها الأم، حول الترتيبات النهائية لتوزيع الطعام، وتأوهات منی، وشكواها من الاستغلال المقصود لحالها هذا اليوم، وترك شذی، مشغولة بالقراءة طوال اليوم، والالحاح على تشغيل المولدة الموجودة في الحديقة، بغية الحصول على نسمة هواء من مروحة منضدية اعتادوا تشغيلها عند انقطاع الكهرباء.
هدوء، أوامر، مشاكسات، ضحكات الوقت ذاته الذي يجلس فيه ستة أشخاص مسلحين من أحد تنظيمات الجهاد الإسلامي، في سيارة نيسان باترول، ذات لون أبيض، لا تحمل أرقاماً. تقف في الجانب الآخر من الشارع، على بعد خمسين متراً من البيت. يراجع من فيها خطتهم المعتمدة من أمير المنطقة المنصب حديثا. يحسبون توزيع الأدوار بقيادته شخصياً، لاقتحام البيت قبل الشروع بتناول الافطار. يستعجلون التنفيذ (لابد أن يتم قبل تناول الإفطار، ليغادر المستهدفون دنیاهم جياعاً)، هكذا هي توجيهات الأمير.
تجاوزت الساعة الخامسة بقليل، لم يبق على أذان المغرب إلا دقائق معدودات، في جو صيفي يستمر حاراً، وإن تداخل مع الخريف، يحتاج خلاله البيت إلى تبريد، والكهرباء لا أثر لها، لا يمكن تشغيل التبريد.
تعاود شذى اليائسة من عودة الكهرباء، إلحاحها على تشغيل المولدة، وربط المروحة المنضدية في غرفة الطعام.... إلحاح يستسلم الوالد لتكراره، ولأوامر الوالدة حول الموضوع نفسه، فيشير إلى سامر الذي يتنقل بين المطبخ والصالة من دون عمل مفيد بالصعود إلى المخزن، بغية جلب السلك الكهربائي الخاص بالتوصيل، وتشغيل المولدة (لابد من أن يتم التشغيل قبل حلول الافطار ليتناولوه وجبة مميزة بارتياح).
كان المخزن الذي يحوي السلك المطلوب في الطابق الثاني، يحوي كذلك جميع العدد، واللوازم المطلوبة لإدامة البيت. مبعثر بعضها، ومرتب بعضها الآخر على رفوف نظامية، وطبقة من الخشب، تجعل نصفه مقسما ًعلى طابقين، تشرف بابه على غرفة الجلوس بزاوية رؤية عريضة، وشباكه الصغير يطل على ممر خلفي، يفصل بينه وبين الجيران.
.............
856 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع