دعوات لإعادة النظر في مجمل التركيبة السياسية والثقافية والاقتصادية
الشرق الأوسط- لندن/ندى حطيط:النّسب المُفجعة للإصابة والوفيات بـ«كوفيد – 19» بين الأقليّات العِرقيّة من السود وغيرهم كمجموعات الشّعوب الأصليّة مقارنةً بالمجموعة البيضاء –التي تجاوزت وفق أرقام رسميّة حاجز الـ4 أضعاف– كانت بمثابة دعوة للمنظِّرين والفلاسفة كي يُدلوا بدلوهم تفسيراً لهذا التفاوت المريع في مجتمعات لطالما تغنّت بالديمقراطيّة والمساواة والعدالة.
مفكرون يساريون وعلماء الاقتصاد السياسي ذهبوا إلى تأكيد فكرة سيدريك روبنسون في كتابه الشهير «الماركسيّة السّوداء - Black Marxism» عن أن «نشوء الرأسماليّة وانتظامها وتوسعها اتّخذ دائماً اتجاهات عنصريّة الطابع»، وأن مجموع الظروف الاقتصادية والاجتماعية للأقليّات السوداء والملونة والسّكان الأصليين وطبيعة الوظائف التي يقومون بها وطبقتهم، مؤشرات كافية لتوقع أوضاعهم الصحيّة عموماً لا سيّما في حالة انتشار الوباء. فيما مال آخرون لاعتبار ما يجري كأنه «تجسيد محض لفكرة ميشيل فوكو عن (البيوباور) أو منطق التعامل مع البشر ككتل صمّاء أو مجموع أرقام دون أدنى اعتناء بالفرد في حسابات الحياة والموت، والحقوق، وملكيّة الجسد» كما يقول إريك لارسون ونعومي كلاين، والأخيرة –مؤلفة الكتاب الشهير «عقيدة الصدمة – The Shock Doctrine»– ذهبت في مقابلة لها إلى حد وصف هذه التفاوتات بـ«رأسماليّة فيروس (كورونا)» التي تمكنت من تنفيذ كثير من الخصخصة وتعظيم التحكم بحياة الأفراد وتوجيه الموارد العامّة لإنقاذ مصالح الأعمال والأثرياء، وهي أمور كانت ستثير مقاومة -ولو شكليّة- في ظروف لا وبائيّة. لكنّ هذه الأفكار جميعها تشترك معاً في اعتبار الرأسماليّة مصدراً للشرور، وأنّه يمكن -نظريّاً– إنقاذ هذه الأقليات والمجموعات العِرقيّة من خلال تحسين أوضاعها الماديّة وهي بذلك تغفل بشكل ما الإجابة عن السؤال الأساس: لِمَ تتّبع مصاعب البيولوجيا في المجتمعات الغربيّة (الديمقراطيّة) خطوط الانقسام العِرقي بهذا الشكل الفجّ والمباشر؟
البروفسور تومي كري –أحد أهم الأصوات الأكاديميّة المعاصرة المعنية بدراسات العِرق ببريطانيا- يرى «أنّ العنصريّة العِرقيّة في المجتمعات الغربيّة ليست مرضاً يمكن الشفاء منه بجرعات ديمقراطيّة مكثفّة، وليست عَرضاً زائلاً وإنما هي جزء رئيس من التكوين المجتمعي في الغرب وهيكليّة القوّة فيه ونظام الأشياء في توجيه الطموحات الفرديّة للأشخاص». ولذلك فإن مسائل مثل منظومة العبوديّة، وسلسلة المذابح الجماعيّة والحروب الكبرى في القرنين الأخيرين هي أقرب لأن تكون عرضاً لهذا التكوين القائم على هيمنة مجموعة بشريّة على أخرى ويمكن أن يتمظهر بأشكال متفاوتة، حسب مجمل الأوضاع السياسيّة والاجتماعية والتقنيّة دون أن تتغيّر الهيكليّة مطلقاً.
ويبني الفيلسوف الكاميروني أشيل ميمبي في كتابه عن «سياسة الموت – Necropolitics» على تصوّر ميشيل فوكو لـ«البيوباور»، آخذاً هذه المقاربة بشأن المسألة العِرقيّة في المجتمعات الغربيّة إلى أقصاها، متهماً النخب المهيمنة بإدارة دولها لا بغاية توسيع نطاق حريّة الأفراد وضمان حقوقهم (الديمقراطيّة)، ولكن لتمكين عمليّة السيطرة على وجودهم وتحويلهم إلى أدوات والتخلّص من الفئات غير المرغوب فيها عبر تدمير ممنهج لأجسادهم كمجموعات. ويشير ميمبي إلى أن هذه النخب توظّف ترسانة من الأسلحة والسّياسات والتشريعات المختلفة التي تحطم حياة الأفراد المنتمين إلى تلك الفئات خالقة بذلك فضاءات للفناء –مقابل فضاءات الحياة في كل تجمّع حضري- يكون الأفراد فيها أقرب إلى حالة (زومبيّة) ما بين الحياة والموت. وفضاءات الفناء تحديداً تكون بحكم وضعها المادي والاجتماعي هدفاً سهلاً لكل الأمراض والأوبئة والآفات البيولوجيّة أقلّه بالمقارنة بفضاءات الحياة على الجانب الآخر من المجتمع، وهذه بدورها إن لم تقضِ على الأفراد فإنها تنخر أجسادهم وتجعلهم أضعف في مواجهة المشكلات الصحيّة والماديّة الأخرى وغير قادرين على الوصول بالحياة البشريّة إلى إمكاناتها الوجوديّة.
ومع أن ميمبي رَسَمَ فكرة تَناقُضِ تجربة فضاءات الحياة في ظل النّموذج الرأسمالي الغربي مع تجربة فضاءات الفناء قبل ظهور أولى حالات «كوفيد – 19»، إلا أن طبيعة تأثير هذا الوباء المستجدّ على البشريّة تأتي بعد دراستها مؤخراً كأنها تأكيد لصحّة تقييمه النّظري لبنية المجتمعات الغربيّة. إذ إن نسب الوفيات بـ«كوفيد - 19» لا تزال أقلّ بكثير منها في أوبئة أخرى عصفت بحياة البشر خلال عصور سابقة -كما في حالة الطاعون الأسود مثلاً بأوروبا العصور الوسطى- ومع ذلك فإن تأثيره على المصابين به ليس مؤقتاً. إذ إنّ الفيروس يتسبب في دمار شديد للأوعيّة الدمويّة متسبباً بحدوث تجلطات تؤدي إلى فشل جزئي أو كلي في مختلف الأعضاء بسبب عدم تدفق الدّم إليها بالشكل الكافي وإن كان الجهاز التنفسي الأسرع بينها في إظهار عجزه أمام ذلك. ولذا فحتى في حالة الشفاء من المرض ثمة آثار سلبيّة لا يمكن محوها وتتسبب بإضعاف قدرة الجسد على مقارعة المصاعب الأخرى –أي أقرب للفناء من مواطنيهم الأصحاء. ولذا فإن تضاعف نسب الإصابة لأربع مرّات أو أكثر بالوباء الحالي بين الأقليّات المحاصرة في فضاءات الفناء سيجعل من المحتّم تضاعف فرص تعرضّهم للإصابة وللموت لحظة انتشار وباءات مستقبليّة، وهكذا، فيما سيستمر البعض في تفسير ذلك ربطاً بعوامل عرقيّة واجتماعيّة –الطبقة، والوضع الاقتصادي، وضعف التعليم، وطبيعة المهن وغيرها– مع إهمال البنية الهيكلية للمجتمع التي تجعل من كل ذلك الانشطار ممكناً.
ومما يدعم البناء النظري لأفكار ميمبي هذه، حقيقة أن ذات النسب المتفاوتة للإصابة والموت بـ«كوفيد - 19» بين المجموعات العِرقيّة تكررت بحذافيرها بين مجتمعات عدّة غربيّة متباعدة جغرافياً –في بريطانيا والولايات المتحدّة وأستراليا مثلاً- كما أن خطوط الانقسام التي برزت هنا تطابقت حدّ الذّهول مع نسب وفيات الأمهات عند الولادة، وحوادث القتل على يد الشرطة، وأعداد نزلاء السجون –والإعدامات المرتبطة بالجرائم في الولايات المتحدّة- وحتى انتشار أمراض القلب وضغط الدّم.
ليس في «كورونا» أي خير للبشريّة، ولا بدّ من التوحد، مجتمعاتٍ وأمماً، في مواجهته وإعدامه بالرصاص، ولكنه مع ذلك كشف، وإنْ بثمن باهظ للغاية، عن العيب البنيوي الفاضح في بنية المجتمعات المعاصرة لا سيّما تلك التي تخلع على ذاتها ادّعاءات التنظيم الديمقراطي للحياة السياسيّة وتبنّي قيم الحريّة والمساواة وحقوق الإنسان.
إن العنصريّة العِرقيّة كما ينبغي أن تُفهم اليوم أقرب لما يصفه توم كري في كتابه «اللاإنسان – The Man - Not» بشبكة معقدّة من معمار إدراكي للفرز على أساسات شكليّة يُوَظّف لابتداع وافتعال تقسيمات تكرّس على مستويات متقاطعة سياسيّة وثقافيّة واقتصاديّة وسايكولوجيّة عمليّات اجتماعيّة تمكّن بدورها لهيمنة مجموعة عرقيّة – ثقافيّة - طبقيّة على مجموعات أخرى وتضعها في دائرة تنحو إلى الفناء وتقلّص بشكل ملموس من إمكانيات الحياة الإنسانيّة لمصلحة المجموعة المهيمنة وتمنع بقسوة بالغة إمكان تبلور أي تحدٍّ فاعل لسيطرتها.
لقد أدّى «كوفيد - 19» دوره وأضاء على ديناميكيّات الانقسام القاتلة، فيما انتقلت الكرة الآن إلى ملعب العقلاء والمفكرين في المجتمعات للخروج من يوتوبيا رومانسيّة لطالما رُوّج لها عن المجتمعات الحرّة التي تتبنى الديمقراطيّة منهجاً، وإعادة النّظر في مجمل التركيبة السياسيّة الثقافية الاقتصادية التي تكرسّت في عهد الرأسماليّة المتأخرّة وسمحت باستمرار هذا التبذير للحياة الإنسانيّة. وأي تقاعس عن ذلك لا يمكن توصيفه بأقل من استقالة تامة من الواجب وشراكة –ولو سلبيّة– بالجريمة الهائلة التي يَستمر ارتكابها في كل لحظة.
878 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع