لا أعيش في مدينة ولا في منزل، بل أقيم في اللغة
الشاعرة اللبنانية فيوليت أبوالجلد: الشاعر يطل على المجهول وليس على القارئ أن يحميه.
العرب/شريف الشافعي:تكتب الشاعرة اللبنانية فيوليت أبوالجلد قصيدة نثر مختلفة، لا ترتهن فيها إلى النسوية السطحية، ولا تحتجز نفسها في خانة الأنوثة والجسد وقضايا المرأة، إذ تنفتح على ما هو أرحب متبنية أصوات الإنسان رجالا ونساء، ممن يغيبهم التهميش. وصدر للشاعرة منذ أيام ديوان جديد بعنوان “شبهات”، فكان لـ”العرب” هذا الحوار معها حول ملامح تجربتها.
في مرافقتها المجانين إلى عقولهم، انحنت فيوليت أبوالجلد توشوش الماء بأسرارها، فوقعت في القصيدة، وفي اللغة. هي مهمومة بالشغف والأسئلة، حواسّها مسكونة بالأشباح، وقصص الجان، والوحوش اللطيفة. رأسها يحلم بأن تكون وليمة للغياب، ولأنها ارتدت السواد طويلا، صارت تخفي امتلاءها بالكلام.
حين ترتدي فيوليت أبوالجلد الأحمر، تمنح دمها الفرصة ليتفجّر عاريا، وتهب الجرح حقه الكامل في الافتضاح، بلا مواربة. هي تقترب من القارئ بنصوص بريئة، وتكتب بيد طينية متخففة من الدنيا لأجل الحب، معتنقة روح الهامشيين المنسيين، حيث تبكي بعين واحدة، وتعشق بنصف جسد.
قدّمت الشاعرة مجموعة من الدواوين التي رسخت بها تجربتها في حركة قصيدة النثر العربية، بنكهة لا تخلو من خصوصية أنثوية، من بينها: “أوان النص أوان الجسد”، “لا أحياء على هذا الكوكب سواي”، وصولا إلى “شبهات”، ديوانها الأخير، الصادر عن دار الأهلية للنشر والتوزيع بالأردن، والذي يشتمل على أكثر من ستين قصيدة، تتحرر فيها من كافة الانتماءات الفوقية، طارحة ذاتها الفادحة، وقارئة كفّ العالم رغم إقامتها في عزلتها.
السحر المنسي
تنطلق قصيدة فيوليت أبوالجلد من التشكك، والتوتر، والقلق، كطقوس حيّة من حالات عصرنا اللاهث السريع، ومناخاته المتلاحقة. وتقر الذات الشاعرة بوصولها المتأخر عادة، مع أنها مشحونة بجمر البدايات، ودهشة الإنسان الأول، وخميرة الصلصال.
تتمسح الشاعرة بارتداد طفولي يصف براءة محتملة، لعلها تنجي من ميكانيكية واقعنا الآلي، وبارود الدمار، وتعاليم الرقمية. الحب في مواجهة الحرب، عبارة تلخّص الكثير من انزياحاتها الجمالية، بعدما كستها الروح الإنسانية عشبا له اخضرار نوعي غضّ “قليلٌ من الحب/ لأشدّ قوس الجسد../ وحدي على هذا الكوكب/ أكتب المزامير لأجيال تتوالى في رأسي/ أؤلّف القواميس/ للباحثين في اللغة النار/ في مجاز الجمر وتأويلات الحطب”.
تشير فيوليت أبوالجلد لـ”العرب” إلى أنها حين تكتب، فإنما هي عرّافة تقرأ كفّ العالم، أحيانا تتنبأ، تصنع أسرار الآخرين، كما تصنع أسرارها الخاصة “أبني كل يوم عالما موازيا، ثم أهدمه، أخاف أن يختفي البريق، بريق أي شيء يطول مكوثه أو يتكرر، بفعل العادة والطمأنينة”.
ولا تتشرنق الشاعرة داخل الأفكار المسبقة، فهي ترفض الولاء والتبعية، لسلطة أو أيديولوجيا “أكتب لأنني لست بخير، لأنني لا أفهم ما يجري، لأنني قلقة وخائفة ومتهورة، لأن يدي بركان، لأني مفترِسَة ومفتَرَسَة من كائنات تلاحقني، من خيالات تتكاثر بي من هواجسي، لأن قلبي يتصدع ولا دويّ له، له طعم مرّ”.
هناك سحر منسيّ، خلف السحر، تبحث عنه فيوليت كل يوم، هكذا تؤجل انتحارها، هكذا تغامر رغم الضجر والعزلة والمآسي. هناك لغة منسية خلف هذه اللغة، بين الألم واللذة، تقف بكامل حيرتها، تكتب لتتذكر، لتستعيد حياتها أو لتفقدها تقول “لطالما شعرتُ بأن أحدهم أضرم نارا هائلة بي، هذه النار هي الحب، حتى أنني لا أعيش في مدينة ولا في منزل، بل أقيم في اللغة، وفي هذه الكلمة تحديدا”.
وتؤكد الشاعرة اللبنانية أنه لا تفسير للحب، ولا تعريف له، ولا هوية، فهو منفلت وحرّ، في براري الجسد والروح تضيف “لا أراه داخل جدران أربعة، ولا أراه واثقا، بل مرتبكا كالاعتذار. هكذا الشعر تماما. لهذا حين نكتب كما حين نحب، نتحول إلى آلهة، فلا فرق بين امرأة ورجل، لأن الشاعر الحقيقي ينزف قلبه خاصة، ليقول: أحبك. نحن جميعا دُمى متحرّكة، في صناديق الفرجة، نبكي كبهلوانات سعيدة. يحرّكنا الحب ثم يغلق بابه على أصابعنا”.
تستند قصيدة النثر الجديدة إلى فضاءات كثيرة، على رأسها الحرية، تلك التي ربما لا يتيحها الحاضر العربي بصورة كافية، لاسيما للأقلام النسائية، التي تعاني ضغوطا ومعوّقات وإحباطات في مجتمعات تكبل المرأة بقوانينها وأعرافها.
وترفض فيوليت الانقياد بأي شكل من الأشكال، وتقول لـ”العرب”، “إذا كانت القوانين والأعراف ستكبلني، فعليّ بالسجن أو بالجهل، لا بالكتابة. الكتابة رغبة، ذروتها الحرية. الشعر ثورة، ورفض، وأسئلة، وبحث، وتنقيب، وانقلاب، وإعادة خلق. الشعر محاولة يائسة لترميم الكون، لكنها محاولة دائمة ومستمرة”.
وترى صاحبة “شبهات” أن العالم العربي منشغل بحروبه، وبالمزايدات الدينية والطائفية، التي تشل تقدمه وتطوره نحو عالم أفضل يعمه السلام والعلم والمعرفة والجمال، ولذلك فهو يضع “شروطا” للكتابة وللقصائد وللموسيقى، ويمجد القتل ويموله ويدعمه.
لا تجيد الشاعرة العيش في كل هذا الحقد، ولا تتحمل حتى متابعة أخباره “في غرفتي مكتبة كبيرة، وفي رأسي ألف سؤال وسؤال، تلاحقني خيالات وألاحقها، تشغلني اللغة أحيانا، ومن أحب غالبا، وليلا تزورني أشباحي، تطوف حولي ثم تطوف بي، هكذا تبدأ الكتابة”.
الصور الهامسة
الصورة لدى فيوليت أبوالجلد ذات طابع تشكيلي، والموسيقى خافتة إلى أبعد الحدود، رغم توتر الإيقاع. هي مشغولة دائما بالهمس، الذي هو أقرب إلى جوهر الحالة وصدقها من بيانات زائفة تحملها اللغة الزاعقة “تسكبُ خمرَ الليل في أقداح الغائبين/ لتنهال العتمة على وحشة الشمع المضاء/ على اللغة/ على نرد العمر المهدور بكسل/ على ذهب الجسد يلمع، ولا يُرى”.
وتوضح أن الشعر مثقل أصلا بحمولاته الداخلية، بقلقه وحيرته وأسئلته، بالأسى والبهجة والرضا والتمرد والندم، فلا يمكن تحميله لغة تعيق حركته في فضائه الخاص، أو تطريزه بجماليات زائفة وحركات بهلوانية، فهو ابن الروح المتعبة، سليل الحب والجمال “أتعامل مع النص الشعري بنبل ورقة، أخاف أن أخدش مجيئه، أنا المقلّة، أنتظره طويلا وأنتظره عميقا، لأكتبه صافيا نقيّا كأول الحب، وحقيقيّا كعتاب طويل، كفراق”.
تبدو نصوص الشاعرة بسيطة، وكأنها في لقاء مباشر مع قارئها، دون وسائط، في علاقة تفاعلية، بغير حجب وحواجز وهمية “لا تأتِ مع الكلام/ للكلام وتيرة وللحديث بقية/ تعالَ في اللحن/ في تانغو الخطوات/ في جاز اليدين/ في مجاز الرقص/ في طواف الأشباح الصديقة”.
وترى أبوالجلد أن العلاقة المباشرة بين الكاتب والقارئ قد تتحول مع الوقت إلى علاقة ودية مليئة بالمجاملات، فكلاهما مكشوف للآخر، وهذا برأيها أخطر ما يمكن أن يحدث لكاتب، وبخاصة لشاعر “الشاعر يطل على مجهول، على هاوية، لكنه الآن يجد دائما قارئا جاهزا لحمايته من سقوطه المر، وهذه الحماية تفقد النص تحليقه البطيء قبل ارتطامه الأخير بالواقع”.
شبح الاغتراب
يحل الاغتراب في تجربة فيوليت أبوالجلد بمعان وتأويلات شتى، منها الشرود والانفصال والانعزال النفسي، وكذلك الغياب والرحيل والموت “مفتاح السفر معي/ لكني وحيدة كقارب في لوحة معلّقة/ فقيرة كأميرة في قصص الصغار/ وفي ألعاب الكبار/ مفتاح الضحك معي/ لكني أبكي في الممرّ الطويل/ أخاف من خشخشة المفاتيح في هذا الليل/ وأخاف من هسيس الإنس/ حيث الأبواب مواربة/ حيث القلوب مشرّعة”.
وتلفت إلى أنها ابنة الوحدة والغياب والرحيل والموت، وعنها جميعا كتبتْ كثيرا، لأنها تكتب عن علاقة ذاتها بالعالم “أنا غريبة وسط عالم غريب، لا أفهمه ولا يفهمني، ولا أسعى لذلك. لا أحب المسؤوليات التي تلقى علينا ونحن نكبر يوما بعد يوم، كأنه لا يكفينا أننا نكبر. لا أعرف هل أكتب الشعر لأنني وحيدة أم أنني وحيدة لأنني أكتب الشعر؟ كأن لعنة ما تلاحقني وأحيانا ألاحقها”.
وتقرّ الشاعرة بأنها كسولة وضجرة وشاردة دائما، حيث تبحث كل لحظة عن فكرة تعاندها، كما يعاندها الحب، كما تعاندها الحياة والرفاهية، وتقول فيوليت أبوالجلد مختتمة حوارها مع “العرب”، “على الرغم من ذلك، أحب أن أضحك كثيرا، فالضحك هواية وهاوية. إنه السقوط نحو الأعلى، نحو موت مرتقب”.
858 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع