رواية - حفل رئاسي - الموت الأول

   

                الموت الأول

   

  

وصل رئيس الجهاز الخاص بالمخابرات هذا القطاع من سجن أبو غريب خافياً وجهه بنظارة سوداء، يريد التأكد من تنفيذ تعليماته حرفياً. 

وقف الى جانبه لامع، منتشياً بالإشادة التي قدمها له شخصياً، كان قد أدار حفلات التعذيب بإتقان حسب اعتراف الشهود المندسين. كان وصوله ايذاناً بتطبيق مرحلة جديدة من التعذيب، المفضي الى التدجين أو تعديل السلوك، كما كان يحلو له تسميته في نقاشاته، مع الرئيس الأعلى للبلاد، عندما يتذكر الموضوع.
تعديلٌ مطلوب تطبيقه على الجميع حرفياً، ليس فقط لأنهم مشتركون في مؤامرة، صدق مع نفسه حدوثها من كثر المناقشة الخاصة بتفاصيلها، وتدريس وقائعها في دورات الاعداد الحزبي، بل ولمدهم جسور تدجين للغير من الحزبيين، وباقي العراقيين، ليسيروا في الطريق الذي يراه الرئيس من جانبه، مسلكاً وحيداً لبسط نفوذه، في عموم البلاد.
كان الوقت عصراً، وكانوا قد أتموا نوبة تعذيب بوضع التعري لما بعد الظهر. عادوا الى زنازينهم يلعقون جراحات، كوّنتها هراوات وأنابيب مطاط، سقطت على أجسادهم قاسية بإفراط، حتى تركت أخاديد زرقاء، وبقع على الجلود يقترب لونها من الأسود. لاحظها رئيس الجهاز الواقف على جنب، فأثنى على طاقم التدجين، وطالب بنوبة جديدة بضوء تعليمات جديدة، تطبق فيها آليات الصمت، حيث المنع الكلي للصراخ والنطق بحرف واحد وتبادل الكلام.
من الآن فصاعداً، طوال الليل والنهار، يجب أن تصمتوا سكان هذا القاطع الأوباش، لا همس مسموح بينكم، ولا شكوى منكم ولا أنين، قالها چاسب بوجه مكفهر أثناء التجمع، لتنفيذ نوبة تعذيب صامتة، على شرف السيد رئيس الجهاز، واضاف بصوت جهوري، من يتكلم حرفاً واحداً سُيقطع لسانه.
كانت غايته إسماع رئيس الجهاز، سبيل تنفيذ أوامره حرفياً، وهو مازال واقفاً في مكانه بالزاوية الشمالية، لا يريد أحداً تمييزه، لكن سرمد الذي يعرفه جيداً، أستطاع تمييزه من مشيته، ونظاراته غالية الثمن. كما أن المفوض كريم أكد صحة التمييز، عند تبادلهم الحديث معاً، في المطبخ بعد يوم من التفقد المذكور.
لم يعد الصمت عذاباً مميزاً بالمقارنة مع، الاستلقاء على أرضية ندية في عز الشتاء، وألم التيار الكهربائي من قطبين، موصولين بالأذنين، وإدخال أسياخ الحديد المحلزنة في الأدبار، ولم يعد مشكلة بعد استبدال الكلام المنطوق، بآخر غير مسموع، عن طريق الاشارة وتحريك الشفاه، حتى بات سرمد وطارق وحليم وعزام وحامد قادرين على التعبير عن آرائهم، ونقل الأخبار، وإتمام الحوار بشكل كاف، عبر الاشارة والشفاه. وكان سرمد أكثرهم حماساً، لاستبدال الكلام المسموع بلغة الاشارة، وتحريك الشفاه، بعدما تأكد من زرع لاقطات صغيرة جداً، لأغراض الاستراق المنظم للسمع، في المصابيح المعلقة بسقوف الزنازين، قادرة على تسجيل الهمس، وأبلغهم بحقيقتها.
من أين لك هذه المعلومة البلوى؟. سأل عزام صاحبه سرمد بلغة الاشارة خلال المواجهة الصباحية، في الحمامات دون ملاحظة الحارس، لحركة الشفاه أثناء الحوار. فأجاب، أن فنيٌ من الجهاز قد حضر الى القاطع، غيّر جميع المصابيح، اثناء نوبة الصباح يوم أمس. لقد شاهدت المصابيح بعيني مركونة في غرفة الخفر، ومعها علبة معدنية محكمة، مكتوب عليها باللغة الانجليزية (special instrument)، تقارب تلك التي استوردتها الاستخبارات العسكرية، واستخدمتها حتى مجيئي مديراً لشعبتها الثالثة، ومنعي استخدامها، الا في الحالات التي تؤشر نشاطاً تجسسياً. ثم اني سمعت هذا الفني خلال ادخالي الطعام غرفة الخفر، وهو يتكلم من الهاتف الموجود فيها مع شخص أعلى منه رتبةً، يؤكد انجازه المهمة، بوضع الدبوس في مكانه، واجراء تجربة عملية له، وللجهاز الموجود في الغرفة.
ختم كلامه بعبارة واضحة لا تقبل الشك "الان نسمع دبيب النمل".
وقف ياسين في باب الزنزانة الخامسة. حاول فتح مزلاجها بعدائيته المعهودة وخبثه المعروف، فضج في طريقه الى الفتح، ورغم هذا الضجيج العالي، لم يفق النيام من غفوتهم بعد صلاة تراويح قضوا منها أكثر من مائة ركعة.
أنت "الأصگع"، قالها وصوب بقدمه اليمنى ركلة الى جسم مرتضى، النائم على أرض الزنزانة.
أيقظه من كوامنه، وأفكاره وحزم الأسئلة الشائكة في خلايا عقل، كانت تراوده كوابيس أحلام مفزعة.
وقف مرتضى مذعوراً.
كاد يهوى من طوله، وقد غامت الدنيا بعينيه، حتى لم يعد يرى ياسين، الذي انتصب واقفاً بمواجهته. حاول الرد بصوت مسموع، توقف الكلام في حنجرته، عجز أن يخرجه من مكانه. فجاءه السؤال مدوياً من هذا الآدمي، الذي كانوا يسمونه الوحش من قساوته، ألا تسمع؟.
أستجمع قواه وبلع ريقه، ساعياً لتنشيط حباله الصوتية، التي كَسُلت بسبب عدم استخدامها منذ ما يقارب الشهر، وأخيراً استطاع اخراج كلمتي نعم سيدي متعثرة.
تعال معي، أنت مطلوب، عساك أن لا ترجع ثانية الى هذا القبر العفن.
نعم سيدي، قالها هذه المرة بوضوح أكثر.
غرق طارق في بؤسه، وهو يشاهد مرتضى في هذه الحال، مثل أمير وقع أسيراً عند عدو لا يرحم.
وضع وجهه في كلتا يديه.
بكى بحرقة مدفوعة بخزين هائل من الحزن، حاول إخراجه من مكمنه عن طريق البكاء. زاد الليل، وعدم عودة صاحبه حتى هذا الوقت المتأخر، شدة الأسى، حتى أحس وكأن الزنزانة من دونه، أصبحت مسكناً تملأه الأشباح.
حاول النوم باستدراج شخوص الزوجة والبنات، التي درب جهازه الحسي في هذه العزلة على تحسس وجودهن الوهمي. تكلم مع الزوجة الحبيبة، مثل كل يوم قبل أن يسلم نفسه الى سلطان النوم، لم يقدر هذه المرة، فعالم الحواس قد تعطل بغياب مرتضى الانسان، الذي مثل سفراً لتخفيف الأسى، الآتي من نوبات التدجين وغيرها.
لماذا القلق؟، قال في نفسه، وأعطاها جواباً من عنده:
لقد حصل على عفوٍ من الرئيس، فهو عضو قيادة قطرية سابق، ووزير معروف، أو أن ميشيل عفلق قد تدخل عند الرئيس، شفاعة لإتمام العفو... كل شيء وارد!.
رفع يديه إلى أعلى سقف الزنزانة، داعياً خالقه بهمس، أن يكون هذا هو الاحتمال. صلى ركعتين، دعماً لدعواه في أن يكون هو الاحتمال... تفسيرٌ قَبِلهُ العقل المهموم، ساعده على النوم، آخر ساعة من فجر كره طلوعه، لأنه يمثل يوم عذاب جديد.
كان هو وزهير في الزنزانة غارقين في بحور همومهم، وكان القلق من غياب مرتضى واضحاً على وجوههم، وبعد آخر الليلة الثالثة، فُتحت باب الزنزانة، والقي فيها هذا الغائب كشوال من الحنطة المعفرّة بالزرنيخ.
نظرا اليه جيداً، وجداه باق على حاله. اللحية كما هي تغطي الرقبة أعلى الصدر. بقايا شعر رأس تساقط معظمه، بات متوزعاً على الكتفين المتهدلتين من دون انتظام.
في اللحظة الفريدة هذه، استفاق طارق من قلقه، كأنه تخلص من شعور بالتوتر رافقه داخل هذه الزنزانة، لثلاثة أيام بلياليها. نسيَّ تحريمات النطق، هم بالسؤال حال رمي الغائب، عائداً الى بيته المسجل بالزنزانة الرقم (5).
أختلط مزاجه بتركيبة غريبة، من الحزن على عدم إطلاق سراحه، بعفو كما توقع، أو كما أقنع نفسه في الليلة الأولى، ومن الفرح بعودته سالماً، من موت بالإعدام وضعه احتمالاً، تعمد استبعاده من العقل، بغية تخفيف الضغط على النفس التي تصارع النوم. أشر له مرتضى بإصبع السبابة اليمنى، الذي مده منتصباً على شفتيه، إشارة السكوت، مستغلاً وجود الحارس خلفه مباشرة.
أين كنت بالله عليك؟.
لقد أقلقنا غيابك حتى لم نستطع النوم، قالها طارق بحركة بطيئة للشفاه، بعد غلق الحارس للمزلاج، والذهاب بإتجاه غرفته في آخر القاطع ليستريح.
جلس الى جانبه، وقد غلفه حزن كبير، صار الخوف سيد هواجسه، بعد هذا الغياب الذي لا يريد التصريح به، فأجاب والخوف قد أخذ منه مأخذاً، سنموت هنا.
لقد حُفرت قبورنا هنا.
لا تسألوني أكثر، لأني سوف لن أجيب!.
لم يجب على أية أسئلة، متوسداً أرض الزنزانة الاسمنتية، غاطاً في النوم كمن لم ينم خلال الليالي الثلاث التي غابها، أو إنه يريد من هذا النوم المستعجل، الهروب من الموقف، وإبقاء ما عنده طي الكتمان، مثلها مثل أمور كثيرة في حياة، بات يكرر على مسامع شركائه عدم جدواها، وانها بلا معنى، لا فائدة من استمرارها .... كأنه أصبح يمهد الى الموت، كمن يراه قريب جداً.
انطفأت الكهرباء في هذا القاطع اللعين أول مرة، خلافاً لأوامر صريحة، بإبقاء مصابيحه مضاءة ليل نهار. سأل سرمد خفير هذا اليوم المفوض كريم، أثناء تقديم الفطور له جالساً حول الطاولة الوحيدة، في غرفة الخفر صباح اليوم الذي تلى الانقطاع، عن أسبابه مستغرباً.
كان لدى سرمد جرأة التخاطب مع كريم، عندما يكون معه على انفراد، فكريم عنصر يمتلك في داخله قدراً من الرحمة، بالمقارنة مع چاسب وياسين والآخرين. كما إن سرمد قد اقترب منه كثيراً، حتى عرف غالبية سكان هذا القاطع، التمكن من كسبه الى الصف الذي هم فيه، أواخر السنة الأولى من السجن، وبشهادة عزام وطارق وحليم، بات لا يقسوا عليهم بالضرب، عندما يكون وحيداً في الخفارة، كذلك يحاول في اليوم الذي يكون معه أحد، يكبره في الرتبة والمنزلة، إسقاط الهراوات خفيفة، على مناطق محددة من الجسم، يقل فيها الضرر والاحساس بالألم. وعرفَ طارق بالذات أن سرمد وعد كريم بمنحه رتبة ملازم، عند نجاح خطتهم في الهروب الى سوريا، وقدم له عن طريق قريب له في الأعظمية، مبلغاً لشراء سيارة كوستر يعمل عليها في أوقات استراحته، ويهيئها وسيلة لتنفيذ خطة الهروب عندما تحين الفرصة.
أجاب كريم تلقائيا، لقد قُصفت محطة كهرباء الدورة.
كان وقع الاجابة مثيراً للدهشة، ومثيراً لسؤال آخر عمن قصفها. مما دفع كريم من استعادة وعيه، الذي شعر وكأنه فقده بهذه الاجابة المحذورة، فقال مرتبكاً بعض الشيء،
صحيح انتم لا تعرفون أن حرباً قد حصلت مع إيران، هناك حرب تدور رحاها منذ أشهر، أنتصر فيها العراق.
لقد أعدنا المحمرة، ومعظم أراضي الأهواز الى بلادنا العظيمة، وقد قامت طائرات إيرانية، بقصف محطة كهرباء الدورة عصر أمس. أُسقِطتْ إحداها، وَمُسك طيارها أسيراً، عرضه تلفزيون بغداد على الملأ بنفس الليلة.
وبعد أن أكمل شرحه لأسباب الانقطاع، رجا سرمد عدم التكلم عن الموضوع، قائلا:
كأني لم أخبرك بشيء، إذ لو عرفوا في الجهاز اني أفشيت سراً، فسوف لن يكتفون بعقابي مثل عقابكم، سَيُرَحلُوني الى الأخرة على طول.
طبعاً ننتصر، قالها سرمد ليداري موقف المفاجأة. وفي المساء عَبرت منه عن طريق الاشارة، الى رمزي وحليم اللذان يشاركانه السكن في الزنزانة، ومنهم انتقلت الى الجميع دون معرفة المصدر، لأنه عبّرها بصيغة السماع من الحراس أثناء إعداد وجبة الغداء.
كان الأول من حزيران عام 1980، يوم قائض، رطوبته عالية، حظر چاسب بعد ظهره، وقد تغيرت نبرة صوته، اراد الظهور بمظهر المهتم بصحة سجنائه، فنادى بصوت خال من التهديد، على من يشكو حالة تستدعي مراجعة الطبيب، إخراج يده من بين القضبان على الفور، لقد وصل الطبيب تواً، لديه تعليمات بمعالجة من يحتاج العلاج، لا وقت له لانتظار طويل.
أخرج حليم كلتا يديه، فقد كان يشكو آلام قرحة معوية شديدة، واضطراب القولون العصبي، فأنزلها چاسب بضربة من عصاه، متهماً اياه بالتمارض، وقال بصوت سمعه الجميع، إن الطبيب لا يريد النظر بهذا الوجه العابس، ثم أكمل بصيغة الأمر:
إدخلها والا كسرتها بضربة أخرى، أشد قسوة.
فأدخل حليم كلتا يديه، وتمتم مع نفسه، لم جاء الطبيب يا ربي؟.
وقف چاسب أمام الزنزانة الرقم (5)، سجل إسم مرتضى الذي كان قد أخرج يده من بين قضبان زنزانته، وأكتفى به مريضاً واحداً يعاينه الطبيب لهذا اليوم.
خيراً أبو محمد؟، أرى صحتك طبيعية. ما الداعي الى المراجعة؟. إنهم يأتون بالأطباء كنوع من إسقاط الفروض، ولربما لإبقائنا على قيد الحياة، نتلقى التعذيب الى أمد طويل، قال طارق مخاطباً مرتضى، الذي نوه بالقول الى أن الكسر الذي أحدثته في ضلعي، أخامص بنادقهم قبل أيام، أستطيع تلمس نتوءه، من تحت جلدي اليابس، أحس وكأنه قد خرج من مكانه، بات مؤلماً يصعب تحمل وخزاته، وجعاً في جوف صدري الواهن.
ألمه يفوق كل أوجاعي.
أوجاعي يا أخي، خناجر تقطع أوصالي من الداخل، عسى من جاء طبيباً أو مضمداً صحياً، يعطيني ما يهدئ بعضها أو حتى يميتني، فالموت هنا وفي هذا الزمان، الذي صنعناه بأنفسنا، أرحم من الحياة.
كرر طارق مسألة إسقاط الفروض، واطالة العمر لأغراض التمتع بالتعذيب، مبيناً في أن الألم سينتهي بالتآم الكسر، طبيعياً وخلال أيام.
حاول نهييه عن الذهاب الى طبيب، يرى أنه ليس طبيباً في الأصل، ولا يمكنه معالجة كسور غائرة في الجسم، يريدون أن يحسبوه طبيباً.
كرر محاولة المنع، مدفوعاً بشيء ما لا يعلمه، أسماه فيما بعد الحادثة بالحدس.
لا، سأذهب الى هذا الطبيب، طبيباً كان أو حتى حلاق يمارس الطب مثل أيام زمان، احسبها مجرد محاولة لتقليل الأوجاع، أو سعيٌ لقضاء الوقت الذي بات ثقيلاً على نفسي، قالها مرتضى، وجلس على أرض الزنزانة واضعاً يديه، متشابكة على ركبتيه، ينتظر مناداته من أجل العرض على الطبيب.
انتظر طارق وزهير عودة ثالثهما مرتضى من الطبيب، قبل أنتصاف النهار، فقد تعودوا ثلاثتهم تناول نصف الصمونة المقررة تعييناً للغداء، خلال هذا الشهر. عاد منتعشاً بعض الشيء، عاتباً تردد زهير، ونهيّ طارق عن مراجعة الطبيب.
خاطب طارق، واصفاً إياه بالمتردد والشكاك، وسأله لماذا لم تراجع، وقلبك الموجوع لم تتوقف نوبات ضعفه؟. سأل سؤاله هذا، وهو مستمر بالحديث عن مآثر الطب، في تخفيف آلام البشرية، وأضاف قائلاً بثقة عالية، أن الطبيب الذي راجعته شاب لطيف، تصوروا قال لي تفضل بالجلوس على الكرسي المقابل لطاولته.
أصر على الجلوس قبل الإيذان بشرح الأوجاع. ولما قلت له لم يبقَّ شيئاً في جسمي بلا وجع، ضحك وقال لي، تفضل لأفحصك بإمعان على الطاولة، التي وضع عليها ورقاً من الذي يستخدمه الأطباء المرموقين، على أرائك الفحص مرة واحدة.
لقد أتم الفحص بإمعان، تحسس الكسر بتروي، تأسف للطريقة التي حصل فيها.... إنه يا سادة رحيم قولاً وفعلاً، أخطأتم بوصفه مضمداً. لقد ناولني بيده الحبة التي قال عنها ستؤدي فعل التهدئة، حتى يلتئم الكسر طبيعياً، وناول بيده الأخرى قدح الماء دون تكبّر أو استعلاء.... يا له من طبيب، عراقي أصيل.
حفظه الله لأهله وللعراق.
لم يترك مريضه الذي حسبه انسان، الا بعد التأكد من بلع الحبة الوحيدة على وجه التمام.
كان الهدوء داخل القاطع شاملاً، لا فعاليات في هذا المساء ولا نوبات تعذيب، أرجعه طارق الى وجود الطبيب، وفسره زهير، استراحة مؤقتة، واستمر خلاله مرتضى يتكلم عن مآثر الطبيب.
اتركنا من الطبيب الآن، علينا النوم، فالليل أقترب من منتصفه، وفرصة الهدوء هذه لا تعوض، قال طارق.
أصر على أداء الصلاة، يريد هذه الليلة البقاء خاشعاً الى الله حتى الفجر، لقد بات زاهداً بعد عودته من الغياب ثلاثة أيام بلياليها، يرى في الصلاة وسيلة تقرب الى الله، وسبيل مضمون لتطهير النفس من درن الأخطاء. على هذا زاد من عددها المطلوب شرعياً، بات يصلي بدل الوقت الواحد، ثلاث مرات، ويركع خلالها عشرات المرات، كأنه من عرف قرب نهايته المحتومة، وبات يسابق الزمن لمحو آثام أعتقد ارتكابها، كونه حزبياً.
أكبر الآثام التي يقول عن نفسه قد ارتكبها، مشاركته الرفاق صنع أحداث هذا الزمن البائس.
طيب صلِ يا شيخنا، سنخلد الى النوم، نأخذ جرعاً من الراحة، تؤهلنا لتحمل عذابات يوم جديد، قال طارق بصوت يقترب من الهمس. فرد مرتضى بصوت هادئ، هنيئا لكم نومكم، وأحلام اتمناها خالية من كوابيس العصي، وأنابيب المطاط، وتوجه صوب القبلة يتلي الصلاة التي أراد.
لم يكمل السجدة الثانية.
سقط دون سيطرة على جسمه الضعيف.
صرخ من وجع في معدته الخاوية، صراخاً زلزل جدران السجن.
انحسر صوته تدريجياً، حاول جاهداً فجاءت جملته الأخيرة.
آه من هذا الألم، مثاقب، تحفر في كل أجزائي، لقد فعلها الأنجاس.
زحف باتجاه الزاوية المقابلة لزاويته، مثل أفعى تتلوى على رمال الصحراء، وتكور فيها كأنه ينتظر شيئاً كان متوقعاً.
نادى زهير بصوت يرتجف، طالباً الطبيب الذي أعطاه دواءً بعد الظهر، فلم يجبه أحد.
جلس طارق عند رأسه، مستمر في القول، اللعنة على چاسب هذا الذي لم يستجب للصراخ واستجداء استقدام الطبيب.
اللعنة على هذا الطبيب الذي خرج تواً من القاطع، مستعجلاً حال سماع الصراخ. فضحَ خروجه صوت الغلق المسموع لمزلاج الباب الحديدي الخارجي الخاص بهذا القاطع، كأنه كان ينتظر هذه اللحظة، انتظاراً مرهونا بفاعلية الحبة التي أعطاها سماً فاعلاً بالثاليوم، لقد تظاهر هذا الشيطان بالرحمة وسيلة قتل مروع، ألا فلعنة الله عليه.
ألم من تقطيع أوصال يتعاظم، لم يكن بد من التعامل معه سوى الصراخ، إذ لم يبق مجالاً لتحمله. أخذ نفساً عميقاً، تركه يمضي الى نهاية المشوار، كمن يحاول إبقاء عقله متنبهاً على العكس من الجسم الذي بات عاجزاً عن إكمال فعل التقيؤ.
حاول مد أصابعه في الفم المفتوح، فشل من عجزه في ادخالها لإخراج الاحشاء سبيلاً لإيقاف الالم الناتج عن تقطيعها، فَشلَ أيضاً في السيطرة على القلب الذي علت ضرباته حداً، يبدو وكأنه يهم في الخروج من قفصه الحصين.
لحظة موت قاسية تخللتها صحوة عابرة، رفع بها رأسه الى صديقه الأقرب طارق. أطلق صيحة احتجاج تردد صداها في عموم الزنزانات المرصوفة على نحو يصم الآذان، ثم أسلم الروح، ورأسه قد أستقر في حضن طارق، الذي فقد قدرة السيطرة على الذات الخاوية، بعد أن دخلت مشاعر الخوف إلى نفسه دفقة واحدة، جعلته يهذي بصوت لا يكاد يسمعه زهير المصاب كذلك بالذهول، فيقول:
لماذا سبقتني في الموت، وتجاوزت على عهدنا الذهاب الى الخالق معاً؟.
أهكذا تكون نهاية حلمنا بالغد الأفضل، لهذه الامة وعلى يد الرفاق؟.
لا أريد البقاء من بعدك.
أعاهدك أني سأتبعك، لنشكو الأمر الى لله معاً.
تدخل چاسب، تأكد بنفسه من الموت، سأل عن فحوى الكلام الصادر، وعندما لم يجد إجابة، أمر الزميلان المتبقيان في الزنزانة بالتوجه الى النوم. فأجاباه معاً، بأنه قد مات. لم يعر كلامهما أي اهتمام، بل وعلى العكس من ابداء الاهتمام، سأل وما المشكلة في موت إنسان تآمر على السيد الرئيس؟. وأكمل ما بعد السؤال جملته اللعينة، جميعكم أوغاد ستموتون، هو أول الميتين هنا، ولا نعلم بعده، من سيكون.
طلبا إخراج الجثة من الزنزانة، ووضعها في أي مكان خارجها، حتى حلول الصباح. عنفّهم بشدة على الضجة التي اثاروها لسبب تافه. تركهما دقيقة واحدة وعاد اليهما، وبيده بطانية من التي كانوا يستخدمونها قبل الدخول الى برنامج النوم بلا فراش. رماها لهم من بين القضبان، طالباً من طارق الذي ناداه بكنيته أبو صماخ أن يكون على يمين الجثة، ومن زهير الذي أسماه بالأهبل، حسب الكنية أيضاً على يسارها، يبقيانها وسطهم، يضعون البطانية غطاءً لهم الثلاثة، حذرهم من التحرك ولو شعرة الى جهة اليمين أو الشمال، توقف قليلاً قبل المغادرة قائلاً:
البقاء هكذا حتى حلول الصباح. أقسم بالله العظيم، إذا ما سمعت صوتاً من أحدكم، أو وجدته قد تحرك من مكانه، سألحقه مع "الأصگع" هذا الى جهنم على الفور.
التحف طارق البطانية والجثة، ترك الألم في داخله جانباً، صار يفكر في الرئيس وزبانيته، من المسؤولين عن بحور الأسى والآلام، التي تكونت في داخلهم، ومثلهم آلاف يعيشون في أبو غريب وسجون أخرى، وكم يحملون من ذنوب. عندها فقط شعر وكأنه قادر على الصمود جنب الجثة، متماسك من دون أن يفقد عقله. وعندما حل الصباح وأعلنت اشارة التجمع لأغراض التعداد، قال لصاحبه سرمد، لقد حفر موت مرتضى في نفسي حزناً عميقاً، سوف لن يغادرني ما بقيّت حياً، فرد عليه سرمد، ألا أتعلم ان إماتة مرتضى يوم أمس، جاءت في يوم التأميم الخاص بالنفط الذي رأس مفاوضاته عام 1972، فهل هذه صدفة؟.
وألا تعلم أن الذين شاركوه المفاوضات، من أعضاء القيادة، قتلوا جميعاً، فمحمد فاضل أعدم مع ناظم كزار عام 1973، وعدنان الحمداني وغانم عبد الجليل، أعدما في هذه المؤامرة الوهمية، التي تسجلنا من بين ضحاياها.
وألا تعلم أيضاً، أن الناجي الوحيد من أولئك المفاوضين حتى اليوم، هو سعدون حمادي، الذي يقال أن له موقفاً من التأميم كان مختلفاً.
أما چاسب الذي كان واقفاً مع عصاً له لم تفارقه قالك
أنت أبو صماخ وصاحبك الأهبل، اخرجا الجثة حالاً.
خرجا من زنزانتهما وقد تورمت أعينهما من البكاء. حملوا فقيدهم العزيز في البطانية التي تشاركوها غطاءً لهم طوال الليل. غسلاه في قاطع الحمامات، وكفناه بكفن جلبه چاسب، وعادوا الى زنزانتهم، يجران مشاعر الخيبة المُرة لهذا الزمان.
تمنى طارق حال دخولهم اليها، أن يكون الثاني في وداع هذه الدنيا البائسة، أن يموت سريعاً، لأن الموت من وجهة نظره آت لا محالة، مثلما تنبأ مرتضى بعد عودته من الاختفاء لثلاثة أيام. ولأن العد التنازلي لتراجع آمال الخروج من هذا الجب بسلام، قد بدأ برحيله مسجلاً، أنه الرقم الذي بدأ منه العد.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/39225-2019-03-01-07-41-47.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1031 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع