رواية حفل رئاسي - ما بعد المؤامرة
يئس السيد شكري الحديثي، سفير العراق في المجر، من أن يحصل على ردٍّ من هاتف صديقه السفير طارق، أو من سكرتيرته التي اعتاد مهاتفتها يومياً، وعندما اشتد استغرابه، طلب أخوه السفير محمد، الذي سبق له العمل وكيلا لوزارة الخارجية، والذي يتمتع بعلاقات جيدة مع عموم موظفيها، العارفين بما يجري، القريبين من الوزير، الموجود حالياً في اجازة يقضيها في بغداد، ليستفسر منه شخصياً عن موضوع البرقية التي أشارت الى ضرورة حضوره الفوري الى الوزارة، لكنه لم يحصل على الرد، كان الهاتف مغلقاً. حول طلبه صوب شقيقه الإعلامي السيد راجي الموجود في لندن، متأملاً الاستفسار عن أنباء نشرتها الصحف النمساوية والأمريكية، وتداولتها وسائل إعلام محلية، عن انقلاب حصل في العراق، أجبر رئيسه البكرعلى التنحي لنائبه القوي صدام حسين.
أعاد السماعة الى مكانها، فالخط مشغول.
قلق الاستدعاء في داخله، لم يعطه الفرصة أن يهدأ، فتوجه بمعاودة الاتصال ثالثة بالسفير طارق، وكأن في داخله سعي مُلح للحصول على إجابة، يريدها سريعة لتخفف القلق المتصاعد في داخله، مثل وهج النار، متيقناً أن الإجابة الصحيحة سيحصل عليها منه شخصياً، باعتباره الصديق المقرب من السيد النائب الذي أصبح رئيسا حاليا للعراق.
قال لنفسه وهو يقطع غرفة المكتب، ذهابا ومجيئاَ، إن طارق حزبيٌّ نافذ، يعرف بواطن الأمور، بالقدر الذي يسمح بإعطاء الاجابة الصحيحة. لكنه لم يجب، فاتجه الى السكرتيرة التي تكلمت معه ببطء، كمن بات يفقد وعيه بالتدريج، قائلةً، سأتصل بك لاحقاً، السيد السفير يعاني من وعكة صحية. مع السلامة.
شعربنوبة نحس تدفعه مرغماً الى ترك الهاتف، وإبقاء وقع الاتصال مفتوحاً مع منابع الذكريات، توصله سريعاً الى سؤال عن حقيقة مايجري في العاصمة بغداد، وعن علاقته بموضوع الاستدعاء، فازداد القلق في داخله درجات، يصعب تحملها في المعتاد.
هناك في برلين، وقفت السكرتيرة تتابع سفيرها، بنظرات ملؤهها الحزن، وهو محمول على الكرسي المدفوع.
تيقنت عدم قدرتها البقاء واقفة في المكان، كأنها تودع مسافراً الى المجهول بلا عودة، فقررت السير خلف موكبه راجلة، حتى سيارة الاسعاف.
تأملت مشهد نزول السلم الكهربائي من الإسعاف، وصعود الكرسي النقال الى داخلها، المهيأ مستشفى ميدان متنقل، وبعد أن كبس الأسى قلبها، قالت مع نفسها وعينيها تذرفان الدمع، سيصل بالوقت المحدد.
سيحصل على العلاج اللازم في الوقت المحدد.
سيعود الى مكتبه بوقع أنشط مثلما رأيته مفعماً بالحيوية والأمل، عند عملي معه سكرتيرة شخصية، قبل ثلاثة شهور من الآن.
سيعتني أطباء مستشفى "شاريتيه" الحكومي بقلبه العليل.
انهم أطباء متميزون.
قطع السفير شكري اتصاله مع سلسلة الافكار، فقد الشعور بنفسه وبتواصله مع العالم المعتاد، وكأن منادٍ في داخله يجيب، بعدم جدوى التداعي الخاص بالأفكار. ولكي يُنقذُ نفسه المتعبة من أنياب القلق، التي غُرِزت بتلافيف عقله، قرر التوجه صوب مطعم قديم، مكتوب اسمه باللغة المحلية "Peter" أعلى التلة التي تمتد الى حصن "فيشرمان" ارتادته شخصيات مشهورة عالمياً، وُضعت صورهم على حائطه المكسو، بورق تزينه ورود بارزة، بينهم فرويد، وستالين، والعراقي يونس بحري، وجمال عبد الناصر. آخر الصور على هذا الحائط، الذي يشبه متحفاً تراثياً، كانت للدكتور كورت فالدهايم، كتب تحتها بلغة ألمانية بليغة، وخط مذهب "سياسي ودبلوماسي نمساوي دولي.
المطعم مميز بتربع إطلالته الواسعة، على تلة تغطيها أشجار العنب في ضواحي العاصمة بودابست. أعتاد السفير شكري إرتياده وحيداً في الاوقات التي تهاجمه الأفكار المقلقة. يتلذذ طعامه المحلي، وقليل من النبيذ الزهري على طاولاته، المصنوعة من خشب الابنوس، أيام الامبراطورية النمساوية المجرية، يحلم بوضع صورة مناضل عراقي، من الجيل الجديد على أحد جدرانه، أسوة بتلك الشخصيات المشهورة.
لم لا؟. فهناك شخصيات تستحق، أن تجاور صورها هؤلاء المشهورين.
ينقطع الحلم قريباً من باب السفارة الخارجية، بمجرد ظهور السكرتير الاول لها، حاملاً برقية تأكيد على البرقية التي وصلت قبل ساعة، تطالبه إشعار الوزارة، برقم الرحلة التي سيحجز عليها الى بغداد، ليتمّ استقباله من قبل دائرة المراسم.
وقف في مكانه، حزين غائم النظرت، لم يعد يملك من القوة ما يكفي، للحيلولة من دون اصابته بأعلى درجات القلق.
استجمع ذاته التي بعثرها القلق، ألقى نظرة على البرقية، لمح في أعلى متنها إشارة، الى أن نسخة منها أعطيت الى محطة المخابرات في السفارة.
تلفت يميناً وشمالاً، أراد أن يتكلم بدوافع التنفيس، لمشاعر القلق المتزايد، أوقفته دفاعات العقل التي حالت دون خروج الكلمات. شعر وكأن رأسه يدور كحجر الرحى، يطحن أحلام عن بغداد عاصمة اليقظة العربية، طالما تمناها بداية انتماءه الى الحزب. كاد الدوار يسقطه أرضاً، لكنه تماسك بقوة جسم، بنيت عضلاته على ممارسات طويلة لكرة القدم، قضاها في فريق الشباب العائد الى قضاء حديثة، ومن بعدها منتخب الجامعة المستنصرية.
عاد الى مكتبه محملاً بهواجس وأحاسيس غير مريحة، يردد بعض الأخبار التي أشارت، الى اشتراك السفير مرتضى الحديثي وزير الخارجية السابق في المؤامرة، وعاد الى ترديدها مع نفسه مرات عديدة، لم يكتف بالمرور عليها كأخبار تناقلتها جميع الوكالات. راح يحلل العوامل التي دفعت، مثل أولئك القادة الكبار للتآمر على الرئيس، ولم تمض على ترؤسه الدولة والحزب، سوى ليلة واحدة، لا سيما الحديثي مرتضى الذي عرفه صبياً نشطاً في المدرسة الابتدائية والمتوسطة، وشاباً مضحياً ملتزماً، قدوة للآخرين في الدراسة الثانوية، وصاحب مبادئ عليا ليس من بينها الالتفاف على الرفقة.
ألم يكن هذا وقع غريب؟، سأل نفسه، وأعطى لها جواباً للسؤال، لابد وأن المؤامرة قديمة، واستغل المتآمرون ظروف انتقال السلطة، ونفذوها بالوقت الحاضر.
أعاد قراءة البرقية، وهو جالس حول مكتبه الضخم، كمن يجلس على صندوق بارود. وبعد اتمام جملتها الأخيرة، انشغل بما ورائها في ظروف التطورات الحاصلة، وما تردد من أنباء عن اتساع رقعة الاعتقالات، لتشمل أعضاء شعب وفروع في الحزب، فضلاً عن وزراء ووكلاء وزارات، وقادة عسكريين، وأعضاء في القيادة القطرية.
لم يسأل نفسه هذه المرة، بل كلمها منوهاً الى أن المؤامرة تبدو محكمة، والمشاركون في تنفيذها كبار المسؤولين، وأمرُ فشلها يبدو عجيباً، وقد أشترك بها كل هذا العدد من الحزبيين المدنيين والعسكريين، لو كتب لها النجاح، لتدحرجت آلاف الرؤوس، من يدري أي الرؤوس كانت مرشحة للتدحرج، لكنها ستتدحرج حتماً، كأنه يحس تدحرجها، وهو في مكانه البعيد عن بغداد.
لم يا ترى الاستدعاء في هذا الوقت بالذات؟.
هدأ مكتفياً بعلامات البؤس، وبقدر من الحزن، ثم حوّل وجهته من المطعم المؤمل افراغ كدره المتزايد على موائده المعزولة، الى بيته على نهر الدانوب، قريباً من السفارة، ليناقش تفاصيل سفر تملأه الريبة، وثنايا المجهول مع الزوجة القريبة من القلب.
مستشفى "شاريتيه" تلوح في الأفق القريب. تشغل مكاناً وسط العاصمة العامرة برلين. كانت وما زالت مستشفاً خاصاً، يقتصر العلاج في ردهاتها الأربع، على كبار القادة الالمان الشرقيين، يحضرها بين الحين والآخر، أطباء سوفييت مشهورين لدعم الألمان، بجهد طبي سوفييتي، لتعميم المنفعة العلمية الى جميع دول حلف وارشو، لا يستغرق الطريق اليها من السفارة، سوى دقائق لا تزيد عن الخمسة في أسوء الأحوال. سيارات الاسعاف لا تتأخر في الوصول اليها، فالنظام المروري، أعطى لصفيرها قوة خرق، لبعض سياقات السير عند الضرورة، وألزم سائقو السيارات الآخرين والمارة، بالتنحي جانباً، وفسح المجال لها بقوة القانون.
تمسكُ ساعتها. لم يفارق نظرها تلك العقارب التي تدور مستمرة. عدّت سبع دقائق، وفي بداية الثامنة أتصلت بالمستشفى. تأكدت من الوصول، اطمأنت من إنه سيلقى الرعاية الكاملة، ويحصل على العلاج اللازم، وسيعود في القريب. سيعود حتماً، جسمه قوي يتحمل هجمات الزمن الطارئة، أيا كانت، هكذا تظن.
وجهها الجميل بات مسترخياً رائقاً، لا تظهر على قسماته المرسومة بإتقان، أية معالم خوف اضافي. ومع هذا الوسع في الاطمئنان، فقد استسلمت بعد عودتها الى المكتب لبعض أفكار مزعجة، أخذت تمررها من دون سيطرة على انبعاثها سيلاً من خلايا العقل الباطن، حتى لم تعد قادرة على رفع سماعة الهاتف، التي عاودت الرنين.
قبل توجهه الى البيت القريب، وقبل أن يخطو خطوته الأولى نحو الباب الرئيسي للسفارة، عاد السفير شكري الى التلفون كمن نسيّ أمراً. طلب السكرتيرة نهى مرة أخرى على هاتفها الخاص، في المكتب المزين بباقات ورد طبيعي، وزعته بيدها على مزهريات من الكريستال البوهيمي غالي الثمن، امتثالاً لهواية نثر الورود، وعشق ألوانها الحمراء.
أبقى جرس الهاتف فاعلاً، كمن يتعمد ابقائه وسيلة ضغط حتى تجيب، وقد أجابت في آخر المطاف تحت ضغط الرنين المتواصل، سألها بشكل مباشر، فيما إذا تم استدعاء "أبو نداء" الى وزارة الخارجية في بغداد؟.
ردت بصوت كئيب ساخر عالي النبرات، لم تصلنا أية برقية، ولا أعرف شيئاً عن الموضوع.
توقف عن الكلام، كأنه لم يتوقع الإجابة، ولمدارات حرجه من صيغة السؤال المباشر، سألها عن تطورات الوضع الصحي للسيد السفير.
960 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع