الباب الرابع: حرب الأمن الداخلي
الفصل الرابع: فك القيد المحكم
المسؤولية
المسؤولية الفردية
إن التكلم عن موضوع توجه الحكومات العراقية المتعاقبة، في إجراءاتها الأمنية القسرية في التعامل مع مواطنيها، والمساهمة في انتاج الوعي المجتزأ، المقيد، وتأثيراته على السلوك والاداء الآني والمستقبلي، وعلى الحالة النفسية والمشاعر الوطنية العامة للمجتمع، يحتم السير الى آخر المطاف، الى الكيفية التي يمكن بموجبها التخلص من هذا الطوق، الذي كونه استهداف السلطة المستمر لذوات مواطنيها. ويحتم النظر الى موضوعه من زوايا عدة بينها الزاوية النفسية أو الحالة النفسية، التي حدثت التجزئة والتيه والتقييد في اطارها أولا، وتناولها هنا يعد امراً ضرورياً، وممكناً، لأن كل جوانبها تتعلق بالإنسان العراقي، واحساسه بالم التشتت والتقييد وعدم الاستقرار، ومساعيه الذاتية للتخلص من حصره، وميوله الى التجزئة ورغبته في تجاوزها، وبالقوى الأخرى المنظمة من خارج جسم الدولة التي يمكن أن تساعده في مشكلته المعقدة. خاصة وإن الوعي والآثار السلبية، لما آلت إليه إجراءات الأمن التي عرض بعضها في ثنايا هذا الموضوع. مجسـّمٌ لمساحة الحياة التي يتحرك فيها العراقيون مواطنون كما يتصورونها من جهة، وكما يعيشونها من جهة ثانية، وهي بالتالي مساحة مستوى الطموحات والتطلعات والمعاناة والآراء والمعتقدات، متقاطعة مع واقعهم الراهن أفراداً وجماعات.
ان الوعي المقيد، ومسألة فكه وتحريره على وجه العموم، صعب، بسبب حساسية التعامل مع الجوانب الخاصة بالإنسان، مثل المشاعر والأحاسيس والرغبات والميول، وهي في المجتمع العراقي أكثر صعوبة لأن منافذ الوعي قد اغلقت لفترات طويلة.
ولأن الدولة في الزمن الجديد، لا تمتلك أدوات قادرة على فتحها.
لذا يتحمل الانسان العراقي مسؤولية كبيرة في التخلص من الطوق، أي ان تكون نقطة البداية للتحرر من داخله، بخطوة تبدأ بالاطلاع والتحاور وتوسيع المعرفة الذاتية، لأن الامية قيد والجهل وقلة المعرفة قيد مضاف، على أن يساعده فيها بخطوات تساير خطواته وتتفاعل معها:
المثقف والمتخصص والسياسي الوطني والاديب والفنان، من خلال التوجيه والارشاد.
ان البداية من الفرد بمعاونة الفرد الآخر، فرصة للانفتاح على الذات المقيدة، المبعثرة، التائهة، وفرصة لالغاء الرقيب الداخلي. بمعنى اشمل ان يقتحم الواحد نفسه من الداخل، يحرر نفسه من صدى الطوق الموجود بشكل إرادي واعي. والبداية الصحيحة، تأتي من استعراض ما ترسب بالذاكرة من أحداث، وبقايا معالم تدمير، وخراب لأكثر من نصف قرن من الزمان، عندها سيجد العراقي الذي يستعرض بطريقة حيادية انه كان ولفترة ليست قصيرة، كأنه مسجون طوعاً في سجن كبير أسواره كل حدود العراق، وحراسه اجهزة السلطة وبعض المعايير الاجتماعية المتخلفة.
وسيجد أن مشاعره ومزاجه قد اضطربا لفترة من الزمن، جعلته قلقاً طوال الوقت، حزيناً معظم الاحيان، وقد تغيرت معالم أهدافه المنطقية في الحياة أو تلاشت، إلا ما يتعلق منها باستمرار البقاء على قيد الحياة.
وسيجد ايضاص أنه قد عاش زمناً لا راحة فيه ولا استقرار ولا أمان ولا متعة من متع الدنيا التي عاشها اقرانه في باقي بلاد العالم. وسيجد في نهاية المطاف ان الاسهل له ولمن حوله:
خرق الطوق الذي قيد وعيه.
تهديم الأسوار النفسية التي وضعت من حول انشطته الفكرية.
محو المجالات التي حشرت في داخله، عن الخطر والخوف والتحسب.
هذه بعض التصورات النفسية عن البدايات الممكنة للتحرر، لابد أن يبدأها الفرد الراغب مع ذاته. لأن من لا طاقة لـه على الفعل مع داخل نفسه، ليس باستطاعته العيش بحرية، ولا بمقدوره تحرير الغير.
عليه أن يجربها مع نفسه، ثم مع أقرب الناس إليه، والتوسع بها تدريجياً لمساعدة الآخرين على تحرير ذواتهم. اتجاهات أو توجهات هي في الاصل جزء مهم من الحياة اليومية أو هي الحياة التي سيكون لها طعم جديد، وأهداف جديدة تفوق في أهميتها مجرد إشباع البطون.
اذا ما سار عليها المعني، سيجد ان مع كل خطوة ينجح فيها بفك القيد، وان كانت بسيطة ستتسع رقعتها بحكم التراكم الكمي للجهود، وستتحول حتماً إلى فعل وأداء يساعدان في العمل من أجل التعميم الاكبر للتجربة لتشمل الغير في الموقع والمكان.
عندها أو بعدها سيكون الانسان حراً، لأن الحرية ليست بداية أولى بشكل مطلق للفعل، ولا هي بهذه الصفة شرطاً ضرورياً لـه. وحده فعل التحرر من قيود الوعي الذي يؤدي إلى الحرية، وأنه وحده طريق التحرير من الواقع الذي يعيشه مقيداً، مضطرباً.
المسؤولية الجماعية
ان ادراك الفرد لحالته، وقيامه بفعل التحرر هو الخطوة الاولى، ومع هذا فان التعامل الاجدى نفعاً للمجتمع والدولة، يأتي من خلال التوجه الى الجماعة صاحبة التأثير الفعلي في المجتمع. لان التقويم والاصلاح، وفك الطوق "التحرر" غالباً ما يكون أو يأتي من الكل، من نهج التفكير الجماعي الذي تكوّن بطريقة حبس وتيه مخطوءة.
ولأن تأثيرات الفرد عند توجهه للتفكير والسلوك بشكل متحرر لا تفيد كثيراً، اذا لم تمر عبر الجمهور أو الأغلبية المصابة بآفة الحصر والتقييد الحاصلة للوعي.
ولان مساعي فكهما "تحرير الوعي" اذا لم تتخطى الفرد إلى الجماعة، ستبقى مجرد مشروع في ذهن صاحبه، ولا أهمية لـه من الناحية العملية، إلا بتجاوزه المستويات الفردية إلى المستويات التي تقنن ضبط علاقته بالجماعة.
يضاف الى هذا، ان القيد الذي فرضه الحاكم الفرد "صدام حسين" طيلة فترة حكمه الطويلة نسبياً، عن طريق ادواته المتمثلة بالاجهزة الامنية المتعددة، قد استمرت بعض من توجهاته الى الزمن الحالي، باسلوب تَجاوزَ الفرد الذي يحكم البلاد، ليأتي من الجماعة "الكتلة الدينية، والجماعة الحزبية" وباداوت لم تكن الاجهزة الامنية فاعلة فيها، لمعظم السنوات التسع التي اعقبت التغيير، بل من مليشيات، وجماعات ضغط، واجهزة اعلام موجهة، ومخابرات أجنبية، غطت على أو حالت دون اتمام عملية التفكيك "التحرر التلقائي" التي يفترض أن تستمر بعد التغيير الى النظام الديمقراطي. اذ وبعد ان انتهت سلطة الامن القسري الضابطة، وانتهى معها الخوف المقيد للنفوس، وشعر العراقيون بالتحرر من قيود كبلتهم في الماضي، وبدأوا التكلم والتفكير في عديد من المجالات بحرية مطلقة، عاودتهم بعض الهواجس ثانية. كما ان ظروف السياسة والحكم وطريقة الانتقال، تسببت في وجود اضطرابات وفوضى وتسابق اثرت على نهج التفكير الحماعي، الذي بات في عديد من المجالات مرهوناً بوجهة نظر الطائفة والكتلة، وبسببها أصبح البعض يعبرون عن وجهة نظرهم بحضور آخرين من طائفة اخرى، بشكل مختلف عن وجهة نظرهم بحضور جماعة من طائفتهم، وباتوا يخّشونَ القريبن من نفس الطائفة، اذا ما عبروا عن وجهة نظر مختلفة عن ما هو سائد عند الطائفة، خشية النبذ والاتهام بالخروج عن مسارها كجماعة. وهذا عود هواجس، امتد من الناس العاديين الى المسؤولين سياسياً وبرلمانياً، فأعضاء في البرلمان مثلاً، يصوتون بالاتجاه الذي يحدده رئيس الكتلة، على الرغم من اختلاف قناعاتهم الخاصة معه. وامتد ايضا الى الكتلة ذاتها اذ لم نجد مثلاً ان كتلة سنية استطاعت ان تخرج من سنيتها في مسألة تقع بين السعودية وايران، وكذلك الحال بالنسبة الى الكتلة الشيعية، اللتان بقيتا محكومتين بقيود فكرية طائفية منحازة مسبقا في بعض المواقف والاحيان.
إذا كانت البداية كما ورد أعلاه، عقلية عقلانية تـُخـضع مختلف الفعاليات لمراقبة الفكر الفذ النير الواعي، سيجد المتحررون أنفسهم مدفوعون أفراداً يفتشوا عن الأدوات والوسائل، عن الطرق والسبل، التي يُنَظمّوا بها أنفسهم جماعات فاعلة، خارج صيغ الطائفة الواحدة، والكتلة النوعية الواحدة، التي تسهم بفرض القيود والتجزئة للزمن الحالي، وباتجاه العراق الواحد الموحد غير المقيد لمواطنيه. لكن هذا أمر صعب، يحتاج الى:
- نهضة حضارية.
- رموز عظام في قيادة الدولة، تدفع المواطن الى الامام تحصيلاً، وثقافة تساعده على الانطلاق، وعلى الاستمرار بانطلاقته، بزخم يكفي لتمزيق القيود.
وهذه في الواقع غير ممكنة بالحسابات الدولية والمحلية الآن "2012".
الزاوية الغيرية
ان الاعتماد على الذات في تحرير الوعي هو الاسلم، لان العراقي وبعد ان تخلص مؤقتاً من سلطة الامن القسرية لما بعد التغيير:
- وقع على الفور وكما مبين في اعلاه، تحت سلطة الجماعة المؤدلجة القسرية، وبسعة حالت دون فائدة الجهد الذي بذلته بعض الشخصيات والجماعات، والتنظيمات في إعطاء جرعات الى التحرر من قيود فكرية، فرضت على الوعي الفردي والجماعي.
- دفع باتجاه التماسك للتخلص من التجزئة والتفتت التي أصابت المجتمع بشكل عام، والتكامل في الجهود، لجعل البلاد وطناً واحداً، والانتماء لوطن يمكن الاحساس في العيش به بأمان.
لانها جرُع، لا تتناسب في واقع الحال مع حجم التقييد الحاصل "التخريب" من ناحية، ولا مع الجهد المخصص من قبل الجماعة المؤدلجة لإغراق المواطن بفروض جديدة من القيود الفكرية من ناحية اخرى. حتى ان انسان ما بعد التغيير، وان تخلص من أعباء ظلم السلطة الامنية السابقة، فان تخلصه منقوص، لأنه قابع في مكانه ينتظر بناء السلطة الامنية الجديدة، وفي ذهنه جملة أسئلة بحاجة الى اجابة سريعة مثل هل تبنى هذه الاجهزة على وفق فلسفة الامن الوقائي، أم تترك للمحاولة والخطأ التي تنتج القسر بحكم الحاجة والضرورة؟.
وهل ستمتلك المعرفة الكافية، والاخلاق المناسبة في ان تعتقل بقرينة متاحة، وتحقق بأدلة ميسورة، لكي تتجاوز فعل التقييد الذي كونته الاجهزة السابقة؟.
هذا ولتبيان الصورة الخاصة بالإجابة على هذين السؤالين، لابد من الاخذ بالاعتبار بان العراقي الذي تخلص من سلطة امن الدولة المرعبة للسنوات التسع الماضية، فقد وقع تحت سلطات امن جديدة، متعددة، غير منظورة "غالبيتها غير رسمية" باتت تخيفه بشكل ملموس، قد يسهم مستوى الخوف منها، اذا ما زادت شدته في اعادة بعض قيود الوعي الى مستوياتها السابقة. ثم ان الجهد المبذول جماعياً على مستوى الدولة على وجه الخصوص، لم تتبدل فيه صيغ التركيز على الامن اسبقية اولى، كما هو الحال في الزمن السابق، لظروف عدم الاستقرار وحرب مكافحة الارهاب، التي تستوجب ان تعطي الدولة موضوع الأمن، والتعامل مع القوى المضادة اسبقية أولى، مقارنة بالتعليم والبناء واعادة الأعمار، وكم الاستثمار في مجالات الثقافة والتحصيل.
ولم تتفعل فيه جهود مؤسسات المجتمع المدني التي بقيت في غالبيتها غير فاعلة، خاضعة لبعض توجهات التقييد، حتى يلاحظ خط سيرها بعد التغيير خلال التسع سنين خطوة إلى الأمام واخرى تصطدم بالطوق الموجود، فتتراجع خطوات إلى الوراء، مكونة في بعض الأحيان صراعات وردود فعل تسهم دون رغبة منها بتعزيز التقييد الفكري والفرقة والتباعد، والقناعات المبنية على اليأس والاحباط .
فاعلية الجهد المبذول
ان الدولة المسؤول الاول اعتبارياً عن فك القيد، ومعها منظمات المجتمع المدني والصحافة، ومؤسسات الثقافة، لا يمكن أن يكون جهدها مفيداً اذ لم تعِ طبيعة الأخطار المترتبة على واقع التجزئة والتقييد، وتبدأ بتنسيق جهودها في مجاله، وان يتم استثمار ما بقي من قيم وتقاليد وأعراف اجتماعية كانت ضابطة وموجهة للسلوك الجمعي العراقي في الماضي، لأن الماضي يعيش بعض منه في اللاوعي، يظهر على شكل حنين يحرك الفرد بالرموز على الأغلب، ومن خلاله يمكن خلق وعي بأقل ما يمكن من التجزئة والتشتت والتيه والتقييد. ويجري الدفع باتجاه التفاعل الجماعي مع الجهد المنظم، والتركيز على النفع العام من فك القيد، وتنشيطه في الوعي الحالي، ومن ثم العمل على تحويل مجالات الوعي بالتدريج من قلق الفراغ، والتحسب والإحباط، إلى الثقة والرغبة والاقتدار التي تنتج أمنا اجتماعياً قادراً على توجيه السلوك ضد الخطأ اي كانت مصادره. كذلك السعي لان تبادر تلك الجهود المنظمة في كل مجالات عملها وتحركها وإعلامها ومؤتمراتها، لأعطاء مثال في سلوكها الهادئ المتزن بعيداً عن التناحر والفرقة والانقسام والتشتت، وتثبت قبولها الاختلاف بالرأي مع الغير، والتوجه لتقدير ودعم الجهد المبذول لفك القيد مجالات إيجابية في وعيهـا الجمعي. اي ان تساعد هذه الجهات والمنظمات العراقيين بكل الوسائل المتاحة، لما يتعلق بالانتقال من دوامــة الانفعال إلى خضم الفعل باتجاه تحرير الوعي، ولو بحوار مع الذات، ينتقل تدريجياً إلى حوار مع الآخرين يمتد إلى الوعي المجتمعي. على ان يجري معه تركيز في العلن على ضرورة عدم السكوت على جريمة تقييد الوعي، والمناداة بان التقييد أصبح كارثة على الحاضـر والمستقبل، والتنبه في ذات الوقت إلى حقيقة أن العراقيين بسكوتهم قد خسروا أنفسهم لفترة طويلة، وسيخسرون العالم من حولهم إذا ما استمروا بالسكوت.... حقيقة تقتضي الضرورة أن يمسكوا بها مباشرة، ويُوسعّوها في مجالات الوعي المجتمعي دون أي التواء أو تأجيل. بالإضافة الى تخصيص هامش أوسع في الإعلام الوطني لإزالة أوهام علقت في الوعي، وساعدت على تقييده كل الفترة السابقة بأفكار بعضها وهمية، والتوسع في نشر الحقائق بكل الوسائل المتاحة سيكون مفيداً، لأن الكثير مما يعيه أبناء العراق والقوات المسلحة عن عراقهم ليس حقيقياً، والكثير من الحقائق الخاصة به لا تقع ضمن وعيهم، على ان تنسق الجهود من قبل الحكومة والقوى السياسية لوضع استراتيجية معلنة لإتمام خطوات الديمقراطية، وبما يسهـم مع غيـرهـا من العوامل في إخراج الوعي العراقي من حالة الركود شبه التام، إلى الفعل المؤطر باتجاه هدف يستحق المجازفة في العمل من أجله. لأن اخراجه على المستوى الجماهيري كمعضلة أي تحرير المواطنون من قيوده، خطوة ستؤدي إلى إدراك سلطة الامن لحدودها، وادراك الحاكم اي كان لحدوده في توجيه هذه السلطة لتقوية سلطته، وهذا ان حصل باي مستوى سيكون من السهل تعميمه على كافة العراقيين، وكذلك استثماره وطنياً، لأن أي عملية تحرير منظمة للوعي مسألة قابلة للانتقال بالتقليد والعدوى وبسرعة كبيرة. وسرعة انتقالها تأتي من كونها ضغطـاً على الإنسان يحاول التخلص منه، وإذا ما وجد الفرصة متاحة، سيبدأ بنفسه ويساعد القريبين، ويشجع الآخرين على تقليده. عندها سنجد أن الغالبية يمكن ان تبدأ، وأن القيود يمكن ان تتصدع من الداخل.
اعادة تمثيل الماضي
ان سـد الثغرة أو الفجوة التي تكونت عبر الزمن في الوعي المجتمعي، مسألة ضرورية لاكتمال الجهد الخاص بالتحرر من القيود المفروضة، من خلال اعادة تمثيل وتجسيد وتحريك الماضي على مسرح الحاضر الراهن، وبما يسمح بالحديث عن إحياء الضمير العراقي. كما ان التكلم عن الوعي يعني التكلم عن ذلك الجزء المفترض من النفس البشرية، الذي تبقى فيه الوقائع والأحداث والذكريات والمعلومات، معطيات قابلة للاسترجاع دون جهد، وهي القادرة في حال بقائها على التأثير في السلوك الإنساني على مستوى الأفراد والجماعات في آن معاً، والتركيز عليها بهذه الطريقة جاء لعدة اعتبارات في مقدمتها الاعتقاد وعلـى ضوء الكثير من الحقائق أن العراقيين واجهوا وما زالوا يواجهون مشكلة تقييد لوعيهم لم تنته. امثلتها من الزمن السابق على سبيل المثال، ان العديد من العراقيين، وبينهم بعثيين كانوا يعرفون جيداً أن النظام الحاكم، أسهم بتدمير العراق، وسخَّرَ بعضهم للتدمير، وتعامل بأساليب خطأ امعانا بالتدمير. وانهم يتلمسون بكل حواسهم معالم هذا التدمير التي علقت كثير من صوره في مجالات وعيهم. ويتذكرون جيداً انه نظام حكم فردي:
- ظللهم اكثر من مرة.
- خدعهم في نوايا واهداف الحروب التي افتعلها اكثر من مرة.
- تسبب بأساليب ادارته للحكم غير الصحيحة في افقارهم.
ومع هذا كثيراً ما استسلموا بتقبل مقصود لأفكاره واكاذيبه وخدعه، وكأن الاستسلام قيد يطوق وعيهم، لا يستطيعون بسببه النفاذ الى الحقيقية بشكل معلن، حتى اضحى الكذب صفة عامة، بل وفي بعض الاحيان، يعدها البعض نوع من الشطارة، وقدرة لاستعراضها مع الغير، دفعتهم بتراكمه سلوك شائع من طرف في الموقف، وقبوله من الطرف المقابل بنفس الموقف الى الاستمرار على الكذب. طوقٌ يحول دون اخراج الحقيقة، وعادة تطويق للوعي يصعب التخلص منها.
ان الكذب وان ينكر البعض غير القليل حصوله او وجوده عند التحاور مع الغير وعند التطرق الى موضوعه، فانه في الواقع موجود وبسعة جعلته مشكلة معقدة، وعائق حال مع غيره من العوائق التي تطويق الوعي، دون التخلص من الآفات التي علقت على اكتاف العراقيين، وسحبتهم الى التخلف والتأخر عن الركب الحضاري السائر الى الامام بسرعة يصعب اللحاق بها في الزمن القريب. وامثلتها من الزمن الحالي ايضا كثيرة، بينها:
- ان اهل الكتلة التي تحكم يدركون طريقتهم في التفرد والاستحواذ تثير لهم الكثير من المشاكل في طريق الحكم، ويصرون على انها الطريقة الوحيدة النافعة في الحكم.
- وان الجماعات التي خسرت الحكم المتوارث طائفياً منذ عشرات السنين، تعي ان لا فرص لها في العودة الى الحكم، ومع هذا تثير المشاكل والعراقيل امام المشاركة في الحكم، بقصد الافشال والتأخير في عملية اعادة البناء.
- تدرك جميع الاطراف ان الطائفية آفة خطرة، والتوافق بدعة غير نافعة، ومع هذا فانهم جميعاً يعودون الى الطائفة للاستقواء بها، ويتوجهون الى التوافق الانتقائي عندما يتمكنون منه، وكأن العودة والتوجه والرغبة قيداً، حال دون خروج الاصوب في ادارة الدولة والمجتمع. وبسببها بقيت المعاناة ذاتها والشكوى على مستواها بين العموم.
عالمية التقييد
إن موضوع الوعي وتقييده وفكه في الواقع موضوعاً لا يتعلق بالعراق وحده، رغم أن الوضوح فيه أكثر من باقي المجتمعات الأخرى، لظروفه الامنية والاجتماعية، لكننا ومن باب الإنصاف يمكن الإشارة إلى أن بعض النظم في العالم النامي على وجه الخصوص، تؤدي أساليبها في الإدارة الامنية إلى تقييد الوعي، وبدرجات مختلفة تتباين تأثيراتها من مجتمع لآخر، تبعاً لبعض الخصائص والقيم والمعاير النفسية والاجتماعية لتلك المجتمعات وشدة الإجراءات الأمنية التي تقوم بها الدولة، وهي ليست قليلة في عالمنا المعاصر.
1.حصل بعد التغيير انشاء آلاف المنظمات المدنية غير الحكومية دون ضوابط، ومن بعد فترة خضعت الى التقنين والى الاجازة من جهات حكومية، ومن بعدها وضعت ضوابط وعراقيل، يصعب النفاذ منها الا للجماعات المؤدلجة، فتكونت منظمات تابعة الى نفس الكتل والاحزاب الحاكمة والمشاركة في الحكم، ونفذت توجهات تقترب من التقييد المؤدلج لبعض قطاعات وشرائح المجتمع، مما يؤشر صحة مساهمة بعضها في عودة التقييد. ومع هذا فلا يمكن استثناء جهد بعضها، والصحافة المنصفة للتعامل مع واقع القيد، رغم أن عقل قسم منها مصاب بذات الاضطرابات، التي انتقلت إليها من المجتمع العراقي الذي يشكل هيكليتها.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/32498-2017-10-28-17-37-46.html
749 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع