الباب الرابع: حرب الأمن الداخلي
الفصل الثالث: النتائج السلبية لتعامل الأجهزة الأمنية.
الانتقال الى الزمن الجديد أمنياً
كان للأجهزة الامنية منذ الشروع بتطويرها في حقبة السبعينات العائدة الى القرن الماضي "العشرين"، حتى انتهاء الجمهورية السادسة "صدام حسين" بداية القرن الحالي "الحادي والعشرين"، اساليبها في التعامل مع:
الانسان العراقي، الذي وضعته في زاوية الاتهام، جاعلة ذاته المتعبة تدور في دوامة اثبات البراءة، خائفاً، مهزوماً على الدوام.
المجتمع العراقي، الذي حشرته في خانة الشك بالولاء، دافعة مكوناته الاجتماعية المرعوبة الى التفتيش عن رضا الحاكم على الدوام.
أساليبٌ غلب عليها الميل الى استخدام الشدة في الوصول الى الغاية المبتغاة، سواء في مجال انتزاع الاعتراف، أو تأمين المعلومة اللازمة، أو التوريط لتنفيذ مهمة خاصة. وغلب عليها، كذلك الشك في الطرف المقابل، وان كان قادماً لخدمتها طوعياً. شكٌ في مصداقية ما يقدمه، أو في نواياه واخلاصه، وولاءه للجهة التي تتعامل معه، استمر طويلاً، فعزز من استخدام القوة سبيلاً للوصول الى الحقيقة، التي لم تكن موجودة أحياناً إلا في عقل الرجل الامني، الذي يفتش عنها بين أكوام النوايا والمعتقدات، مستعجل يحث الخطى على الطريق المليء بالحفر والمطبات، لإثباتها، وهي الغير موجودة في احيان ليست قليلة، لا ينتظر اكتمال الادلة والبراهين، لإتمام عملية الاثبات. مستعد لخرق المعايير والضوابط القانونية، التي تلزمه التقيد بها انسانياً، لا يأبه لحاجة الشعب الى الالتزام بها من أجل العيش الآمن. حتى أمكن الجزم على انه ومن النادر، وربما من غير الممكن، ان نجد في سجلات الاجهزة الامنية التي مُزقت، وخبراتها التي تبعثرت، تحقيقاً في قضية ما او متابعة لحالة ما قد استمرتا سنيناً متعددة، تحت بند الحاجة لاكتمال الادلة والبراهين. وقليل جداً، وكذلك من النادر جداً ان تستمر مراقبة هدف ما "باستثناء الدبلوماسي الاجنبي" لعدة سنوات، تقتضي اثبات صحة قيامه بفعل مخالف من عدمه. لكننا من السهل ان نستدل في مجالها، على كثر التدخلات الآتية من الجهات العليا في تفاصيل العمل المهني، للتحقيق في القضايا او المراقبة وتقصي المعلومات، لاختصار الزمن، وحسم الموضوع، اي التجاوز على الحاجة الفعلية للأدلة والبراهين. نتيجته رعب يعيشه رجل الامن المعني، يصبه مزيداً من الرعب على ضحاياه المرعوبين على الدوام. وإذا ما جاء هذا التدخل من جهة الرئيس وطاقمه، فان رجل الامن المعني، سوف يتجاوز الاستعجال في الحسم الى تقديم النتيجة كاملة، واذا ما نقصت في ملفها الادلة، فان لديه الاستعداد والخبرة لتحصيلها تلفيقا باعترافات تستخدم لانتزاعها القوة، وبعض الاساليب غير الاخلاقية.
ان طبيعة العمل الامني كانت في الزمن السابق وكما ورد اعلاه، عبارة عن توجهات لاستخدام القهر والتعذيب والاضطهاد، كمثيرات شبه مستمرة لأكثر من ثلاثين عاماً، كونت في الشخصية العراقية استجابات ذات طابع سلبي، وعادات، بعضها غير مقبول لمستوى تركت في ذاكرة انسانها، بكافة شرائحه الاجتماعية، ومستوياته الثقافية، وتعدداته القومية والدينية والطائفية أثر، لمفردات الكره حد البغض في حالات لا تستحقهما في المعتاد، والحقد الى مستوى العداء، لأمور لا تستوجبهما في غالب الاحيان. كذلك الابتعاد عن العمل بالمبدأ القانوني القائل بان المتهم بريء حتى تثبت ادانته، وكأن القائمين على الامن، قد استبدلوه بحقيقة ان الانسان العراقي في زمنهم متهم حتى تثبت ادانته. فتكون بَعدَ أمد طويل من الخطأ والتجاوز في هذا الشأن، صورة للجهاز الامني، فيها:
- مساحة واسعة للريبة، والتجاوز على القانون، وعدم الالتزام بحقوق الانسان.
- صفة العداء لذاته وللمجتمع واضحة بشكل ملموس.
واقعٌ، اثبتته الاحداث التي حصلت بعد عام 2003، اذ وبعد ان شكلت اجهزة جديدة، ودرب بعض كوادرها على يد الامريكان ودول الحلفاء، تدريباً فيه الكثير من مفردات التعامل على وفق التأني في توجيه الاتهام، والالتزام القانوني بحقوق الانسان، وبعد تأكيد مؤسسات الدولة بينها الحكومة على ضرورة التقيد به، لم يستمر العمل على أساسه طويلاً، وكأن تلك الصفات التي علقت في الذاكرة الامنية العراقية، قد انتقلت من تلك الاجهزة المنحلة الى هذه المشَكَلة حديثا، فكُتب عن تجاوزات على انسانية الانسان، وعن اعتقال دون توفر أدلة، واستخدام مفرط للقوة، وشَكَت منظمات لحقوق الانسان، عراقية ودولية، من حصول حالات تعذيب. ونوه البعض من المعتقلين الى أن اساليب كانت مستخدمة في الزمن السابق، باتت تستخدم في الزمن الجديد، وكأنها مستنسخة عنه، مثل التعليق بالمراوح السقفية، والاغراق بالماء حتى انقطاع النفس، واستخدام الأنابيب المطاطية أو السلكية "الكيبلات"، وتعريض الاعضاء التناسلية لتيار كهربائي، والكي بأعقاب السكائر.
وبعضها جديد وأقسى من السابق، مثل استخدام الثاقب "الدريل" والتجويع وغيرها.
وبعضها الآخر تهم ملفقة تصاغ داخل الغرف السياسية لأغراض سياسية.
ان السلوك العدائي الموصوف اعلاه، لمنتسبي الاجهزة القادمين من المجتمع الواسع، مثير للاستغراب، فيه تجاوز وتناقض، كوّنَ ارتداد عدائي حد المقت، لدى العديد من أبناء المجتمع، لعموم الأجهزة ككيانات تنظيمية، وكمنتسبين جعلتها مخيفة، مكروهة من قبل الجميع، حتى المتعاملين معها عن قرب والمستفيدين من وجودها عن منفعة. مشاعر كان لها دور كبير في دفع عموم العراقيين لعدم التأسف عليها عند حلها، وانشاء بديل عنها بعد التغيير، ودفع البعض الى استباحة ونهب مقراتها، وتصفيتها تماما، عندما سنحت الفرصة لاخراج المشاعر، سلوك عدائي مرتد، ودفع منتسبيها من الرتب الصغيرة في أول يوم من السقوط، الى تركها مذعورين، يتوارون عن الانظار، ودفع منتسبيها من الضباط القادة نحو الحدود، حاملين حقائبهم وبعض وثائقهم وتاريخهم المؤلم، ليتوزعوا بين الاردن وسوريا واليمن وقطر والامارات العربية المتحدة، حائرين بين لوم الذات على اثر مهدم. وتمني العودة الى سالف زمان تهدم. ودفع الجمهور العادي بدخول مقراتها الرئيسية والبديلة، بروح المنتصر عليها، نهب ما تبقى من اجهزتها الخاصة، ووثائقها الامنية، وحواسيبها الخاصة، غنائم حرب توزع بعضها بين الاحزاب السياسية، وبيع بعضها الآخر داخل وخارج العراق، لمن يدفع اكثر وان صنف عدو للعراق. انها مشاعر تدمير ذاتي، جاءت من نظام امني بنيَّ في الاصل على فلسفة القسر، لا يمكن ان يكون وقائيا، ولا يمكن ان يكون مهنيا، خاصة في الفترة التي سُخرت فيها كل الاجهزة المدنية والعسكرية والامنية، تحت سلطة الشخص الواحد "الرئيس" دون حساب المواطن صاحب المصلحة الرئيسية في الامن.... مشاعر كونت بالاضافة الى مسعى التدمير الذاتي، احساس مُخل في داخل المواطن، قوامه ان الامن فعل تجنب لما يمس الحكومة، واحساس مقابل في داخل المنتسب الامني، يتعلق بجدوى مؤسسته، وفاعليتها لردع الفعل غير المرغوب من قبل الحكومة. انه تناقض بالاتجاه بين المواطن، والمنتسب تسبب في تصدع النظام الامني النفسي، تصدعا انهارت بسببه معالم الإحساس بالأمن والشعور بالاطمئنان. وبات بسببه اللون الأمني السائد في الذاكرة العراقية لونا داكنا. وبات صداه في العقل صدا محبطا ومثيرا، لكل أنواع التآكل والوهن. وفي إطاره غابت الشروط الأمنية الكفيلة باستقرار المواطن والوطن.
ان المشاعر والاحاسيس وصدى الامن المحبط المذكورة، لم تدفع المواطن العراقي الى الخروج من طوق التقييد الى مجال الانفلات، إلا بالمرحلة التي أعقبت التغيير مباشرة لغياب المنتسب، وسلطته الامنية عن الساحة المتسمة بالتوتر وعدم الاستقرار، وغياب الحكومة كسلطة ضبط رادعة بخوف. وهو وان صنف كنوع من كسر القيود المحكمة للوعي "تحرير الوعي المقيد"، يمكن تصنيفه بعد تسع سنوات من التغيير، الى انه خطير على المجتمع والدولة، لان:
المشاعر السلبية المذكورة، بقيت راسخة في العقل، قريباً من سطح الذاكرة، يسهل اخراجها، مع اول علامات ضعف محتملة لسلطات الدولة.
علاقة المواطن بسلطة الامن، لم تتغير بتغير سلطة الدولة، فبقيَّ في داخله ناظراً اليها، مصدر تهديد لاستقراره النفسي، والاحساس بالخوف من بطش الاجهزة، لم يمحى من الذاكرة الجمعية، والسعي اليه وسيلة للسيطرة، لم تلغَ من الذاكرة العامة للمنتسبين.
البعض غير القليل من الناس قد تكّيفوا له، وبنوا وأنتجوا نفسيات قلقة متوترة تعيش حالة العنف والعدوان فيما بينها، حالة قوامها الانتقاد والتجاوز وعدم الثقة وسرعة الانفعال.
… الخ من الخصائص والتوجهات، حتى انهم وعندما أتيحت لهم فرصة التحرر الطوعي من قيود الوعي بعد 2003، وبدلاً من تحويلها مشاعراً وأفعالاً إلى خارجهم، أي باتجاه السبب الاصلي للمشكلة "شكل نظام الحكم او الحاكم" حولوها الى دواخلهم، فعاش الكثير منهم، ولفترات زمنية حرجة، حالة مؤلمة من انعدام التوازن، وغياب الرؤيا الصحيحة في العلاقة والتعامل مع الاجهزة الامنية، توصف بحالة تناقض نفسي، اذ انهم يريدونها لانهم محتاجين لها، وهم في نفس الوقت يخافونها، لأنها قد تضطهدهم، فيتجنبون التعاون معها، على الرغم من ان التعاون يعود بالنتيجة لصالحهم.
حالة تناقض صعب، تمثلت ببعض انواع السلوك للفترة الزمنية بين الاعوام 2006- 2008، اذ أن كثر الخسائر، وشدة التهديد التي اشعرت العموم، وكأنهم يسيرون في فراغ قاتل مدمر، لا ربان لسفينتهم، ولا قائد لمسيرتهم، ولا بوصلة ترشدهم، وكأن الضربات على رؤوسهم يتلقونها مستمرة من الخارج والداخل، ومع هذا لم يجرؤ الشاهد على الخطأ، البوح بشهادته عند المعني بالأمن، ولم يبادر العارف بمقر خفي للإرهاب جوار بيته، الاخبار عن وجوده. يريد الغير ان يحل محله في البوح والاخبار، كنوع من العلاقة الطبيعية بين الجهاز الامني والمواطن.
واقع مختل، لتناقض صعب، يمكن رده الى ضغوط التجاوز الامني، التي شَوهَت باستمرارها طويلاً، كل شيء في الذاكرة الجمعية. واثرت بأخطائها العديدة على قدرتها العامة، حتى ان خيالات البعض باتت تنتج في مواقف الاحباط "وهي كثيرة" دفاعات لحماية الذات على شكل تفسيرات خاطئة لهذا الواقع المحبط تقدم بصيغة اقاويل، وبصوت مسموع احياناً، وخافِت احياناً أخرى مثل "لا فائدة من القيام بأي عمل، ونحن ضعفاء لا حول لنا ولا قوة"....اقاويل "افكار" تبخيس وتعجيز ذاتي، وشعور بالاكتئاب، أوجدها الأمن القسري سلوكاً بين العراقيين، لم تتوقف حدوده عند هذا المستوى، بل وتوجهت هذه الاجهزة الأمنية بكل قواها إلى دفع المجتمع للإدمان على ظاهرة التراخي والتقاعس وعدم بذل الجهد اللازم، لتفعيل محاولة تغيير الواقع المعاش إلى الأحسن الذي ينبغي ان يعاش.
ترسبات الأمن القسري
إن التأثيرات الأمنية في النفس العراقية تركت ترسبات عديدة، جعلتها مشكلة معقدة بسبب شدة ضغوطها المسلطة على العقل الجمعي، أدت وبسبب عدم القدرة على تحملها نفسياً إلى أن يتجه البعض في محاولة جادة لعقلنة القصور في الفعل المناسب للتعامل مع الازمة. إذ أنه وفي أية ازمة يمرون بها، يضعون لها تقديرات سياسية واجتماعية وفلسفية مختلفة عن حقيقتها الاصلية، أساسها ألوان من المواقف الإنسحابية ليبرروا الهروب من مواجهتها. يمكن ملاحظتها بسهولة على سلوك تمجيد الحاكم ليس حباً به وتأييداً لأفكاره بل لتجنب غضبه.
إن هذا القصور، اضطراب في قوة البصيرة، انسحبت آثاره لما بعد السياسة وشؤونها، لتصل الأمور الخاصة، وشؤون الحياة المختلفة، وعند مستويات وعي اعتكف فيها البعض مع ذواتهم، فاصبحوا شكوكيين مغالين بالتحسب، الا ما يتعلق بتمجيد الاعلى" الأب ــ الحاكم ــ الآمر ــ المدير ــ القائد" حتى أصبح أي التمجيد حد الاسراف بمستوياته، سلوك شائع بين الموظفين تجاه مدرائهم، والمنتسبين العسكريين تجاه آمريهم وقادتهم، يرتقي الى ان يكون عادة، فيه اشادة من الادنى لآمره او مديره الاعلى، لكل عمل يقوم به وان كان عادياً لا يستحق الاشادة، وغالباً ما تكون الاشادة معجونة بقدر من التملق الذي يمكن ملاحظته في سلوك الموجودين في الموقف بسهولة.
ان الغريب في هذا النوع من السلوك هو ان الشخص الملاحِظ، وعندما يأتي دوره في التعامل مع الاعلى، يقوم بنفس الاشادة والتملق بقناعة يعبر عنها بمقولة مع نفسه احياناً "قابل بقت عليَّ". انه اتجاه أو أصبح هكذا بمساعدة التأثيرات غير المباشرة للأجهزة الامنية، يوم عممت العقاب الصارم على مرتكب الخطأ وامتداداته الى الأهل والأقارب في أحيان كثيرة، فكونت قبولاً للظلم داخل النفوس بات مستمراً. وللموت الحتمي المؤجل، دون المجازفة بقول كلمة حق في مكانها. وللعزوف عن المساهمة بمقاومة الخطأ في أوانه.
انه اتجاه حصر وتقييد فكري، دام مستمراً لعشرات السنين، تبين استجابات السلوك الناتج عن وجوده ان:
- العديد لا يريدون التعرف على قيودهم، محاولين القفز من على الحقائق ذات الصلة بها، وبدلاً من التعرف كونوا مجالاً واسعاً لتفسيرات امنية ذاتية، تفضي إلى حالة من القلق، داخل مجتمع الدولة الذي تحول إلى مصدر للخطر، بدلاً من ان يكون ملاذاً أو مصدراً للأمان والاطمئنان.
- العقل في غالبيته بات محكوماً بسياسة المحاور المتبدلة، والمتغيرة دائماً، فمنهم من يؤكد هذا الرأي ثم يعود لمعارضته إن شعر باحتمالات عدم قبول الاعلى، هذا وان كثرة المحاور، بطبيعة الحال تصيب الإنسان بالإحباط، وتدخله في قناعة أن اللامعقول يصبح معقولاً ، ولكن بشكل غير عقلاني ، فيحس البؤس والخذلان.
- طبيعة الإجراءات الأمنية القسرية، قد كونت تقاطعاً في داخل العقل لمفهوم العلاقة بين الفرد والسلطة، أي اختلافاً وتناقضاً بين الذاتية "ما هو موجود" وبين الموضوعية "ما ينبغي أن يكون"، فأخلّت بعملية التجانس بين المكونات الاجتماعية، وبروابط الانسجام اللازمة للاستقرار، وبالتوافق المطلوب بين المواطن والسلطة.
وبالمحصلة النهائية يتبين من التحليل والمتابعة انه قد كان للأمن بإجراءاته واساليب تعامله وعلاقاته العامة، حصة في عموم الاضطرابات النفسية والاجتماعية والادارية التي حصلت، والتي ستحصل في المستقبل، يمكن إدراك طبيعتها بشكل ملموس من خلال مناقشة بعض العناوين التي تغطي الارهاصات والمعاناة والتجاوزات التي تركت أثرها على السلوك الفردي والجماعي العام بينها:
1. القلق التقييدي.
لم تتوقف حكومات الزمن السابق يوماً عن التفكير في السيطرة على انسان هذا الوادي، وتسخيره لمصالحها العليا في ارساء قواعد الحكم المستبد، آلة طيعة يؤدي ما تطلبه من أعمال، تصب في ديمومة البقاء المستمر للحكم. ينفذ الاوامر الصادرة دون تردد. مدني كان ام عسكري محترف. يؤيد ما تسعى اليه وبصره ممتد اليها. يستجدي رضاها، مصدراً وحيداً للحياة. اولوياتها الادارية والسياسية تتركز على كيفية السيطرة على هذا الانسان، وضبط سلوكه، والتحكم باستجاباته قبل تعليمه، وقبل منحه فرصة مناسبة الى التمتع بالحرية. هذا وقد رأت أن أسهل طريق لتنفيذ هذه الاولويات، أجهزة امنية، وأجهزة أخرى حزبية:
- أداؤها متميز على الدوام في اصول الاخضاع والسيطرة والقمع. واجراءاتها في هذا الشأن مستمرة، لم تتوقف يوماً عن العمل في أشد الظروف حراجة، وكأنها في حرب داخلية مستمرة، طرفها الاول، هي ذاتها الاجهزة القمعية، وطرفها الثاني، عدو لها، الانسان العراقي بذاته المقهورة.
أساليبها في غالبية الازمنة، وفي كافة العهود خرق لمواد القانون، وتجاوز على حصانة الانسان، ومسخ لإنسانيته، تتطور أحياناً في فن الخرق والتجاوز لتدميره، وتفتيت المعايير والضوابط والتقاليد القيمية التي تعودَ العيش معها، بوسائل اذلال واضطهاد. لا تحسب ردود الافعال السلبية، ولا الاثر الذي يمكن ان تتركه تدميراً للذات الانسانية.
ومع هذا الايغال بأساليبها في التعامل هدماً وتجريحاً وتشويهاً واستعباداً، يسأل اصحابها والاعلى في سدة الحكم القائم عليها، بين الحين والآخر.
لماذا يعزف الانسان الذي تَحكُم السيطرة عليه عن التعاون معها؟.
لماذا لم يبلغها عن الخرق الامني، والتجاوز على القانون؟.
لماذا يفضل الوقوف متفرجاً أو السكوت كأضعف الايمان؟.
لا تسأل نفسها ولا يسأل خبراؤها، لماذا لا يتقرب الانسان منها الا صاغراً، بطرق الوشاية وكتابة التقارير؟.
حالة قلق في داخلها نفرة من وانجذاب الى، تصيب في المعتاد المجتمعات التي تدار من اجهزة أمنية قسرية بينها العراق، خطورتها في تقييد الوعي، وبما تتركه من ترسبات في الافكار وانحرافات في السلوك، تبقي الانسان جانباً، وكأنه من بلد آخر وكأن البلد الذي يعيش فيه ليس بلده الاصلي، شواهدها بعد انتهاء سلطة هذه الاجهزة، أي حلها بعد التغيير:
تلك العصابات التي انتشرت بين السكان، تتحرك علناً في وضح النهار، ولا احد منهم يقصد الدولة لمعاونتها في الحد من نشاطها.
والجماعات الارهابية، التي عملت لسنوات وسط الأهالي، تتنقل دون خوف او خشية في الليل والنهار، ولا أحد يجرؤ في الوقوف بالضد منها أو يُخبر الدولة عن وجودها. وكأن الجميع محايدين بين الدولة وأعدائها، أو انهم لا يدركون الخطورة بسبب قلق التقييد الحاصل لوعيهم.
إن الضوابط الأمنية، وضوابط تحريم انتقاد مفاصل السلطة، ومنع التعبير عن الرأي المخالف لتلك التوجهات، وقمع النوايا غير المتسقة والرغبات العليا للسلطة، والقتل والتوقيف بلا محاكمة، والإخفاء العمدي في السجون غير المؤشرة، تدفع جميعها إلى الجزم بان الاجراءات الأمنية التي قيدت الوعي من خلال بعض الاجراءات القسرية، جاءت نتائجها إقامة موانع، ودفاعات ذاتية في داخل العقل العراقي " وكأن على أبواب وعي المواطن شرطي أمن يمثل السلطة"، لا يسمح بخروج الأفكار غير المنسجمة وتوجهات السلطة أو دخول أخرى من خارجه، وان خرج البعض منها تحت أي ظرف من الظروف سوف لن تكون لها قوة الفعل في تعديل السلوك، بما يؤدي الى تفكيك القيد واخراج المعني من طوق التقييد، لان أي محاولة من هذا النوع ستضع العقل في حالة صراع بين الأفكار الساعية الى الخروج، وبين الرقيب الداخلي أي شرطي الأمن الذاتي الافتراضي. صراع تأتي نتائجه في الغالب، ولنسب ليست قليلة من العراقيين قلق تقييدي يقترب من حدود اضطراب الامن النفسي.
انها تقييدات سوّرت الوعي بأسوار أو قُيدّته بقيود أمنية ذاتية يصعب فتحها من الداخل إلى الخارج، على أساسها بدأت خطوات البعض من العراقيين خلال الزمن السابق في تعود الكتمان أو بالمعنى الصحيح التفكير بصوت غير مسمو. هذا، وإذا ما امتلأ وعاء الوعي بالمتناقضات وتكلم أحد تحت ضرورات التنفيس، يتجه فوراً إلى صديق أو قريب مؤتمن، يفضفض بوجوده، لكنه ورغم هذه الفضفضة، يعود إلى بيته بعد أن أفرغ قليلاً مما في وعائه الممتلئ، قلقاً متوتراً، يخشى من تسرب ما قاله إلى الأجهزة الأمنية حتى من صديقه الحميم، ويبقى قلقه هذا ينحت في صحته، وإن كان متوازناً بعض الشيء يقتنع بعدها، أن ما قاله قد بقي بينه وبين الصديق. ومن كان حظه عاثراً، وتكلم في حضور أكثر من واحد سيكون قلقه أشد حدة، لأن فرصة وصول ما قاله إلى الأجهزة الأمنية أكثر احتمالاً.
ان قلق التقييد، وما فرض من حصار وتطويق فكري للعقل، وكم الموانع الموجودة في طريق الاطلاع على الحقائق من الداخل والخارج تؤشر أن الخزين في مجالات الوعي العراقي بشكل عام وطيلة الزمن السابق، تم انتقاءه، انتقاءً محدداً وبطريقة امنية شبه قصدية. وهذه إذا ما وضعت مع خبرات التقييد الاعلامي، لفترة زمنية طويلة تؤشر ان:
- الاجراءات الامنية أفقرت الوعي العراقي.
- الاجهزة الامنية، استُخدمت جميعها أدوات، لتحديد مجالات الوعي بأضيق الحدود.
- الخزين المسموح بقاءه في مجالات الوعي لفترة عقود من الزمن، كان انتقائياً تفرضه الحكومة بالقوة، عن طريق أدواتها الأمنية، ومحدداته الخارجية عند غالبية العراقيين موجودة بشكل عام، ومتشابهة إلى حد كبير.
إن اجراءات الامن، مع توجهات السياسة مفاصل عمل، وحلقات تصب متناغمة أفكاراً محددة وآراءً معينه في وعي لم يسمح لـه الانفتاح على الذات والاخرين، فكانت أساس تشكيل حدوده، وتبويب مجالاته، عززتها الأجهزة المعنية بضوابط أمنية، وأساليب قسرية هددت كيان الفرد، وتحكمت بمستقبله لفترة ليست قصيرة، بقصد الاحتفاظ بها أفكارا طافية علـى سطح الوعي أو بمعنى آخر إبقائها ماثلة للعيان تدفع صاحبها كل الوقت إلى الخوف، والتحسب من احتمالات التقصير في تطبيقها أو مخالفة قواعدها.
إن العقل العراقي الذي زود بمعلومات خاطئة ومحوّرة ومثيرة للقلق، بطريقة حشر امنية قسرية لفترة زمنية ليست قصيرة، أدى بالإضافة لذلك إلى اضطراب التوقعات، خاصية تكاد ان تكون عامة، حيث الخوف البيّن للزميل من زميله، وعدم اطمئنان الجليس لجليسه، وخشية القريب من قريب له يقوم بالوشاية عن واقعة حضروها سوية أو معلومة سمعوها سوية أو طرفة ضحكوا عليها معاً، نتيجتها دفع الحياة ثمناً لمن لم يبلغ عنها.
ان التبليغ هو الاحتمال الاقوى للشريحة الواسعة المصابة باضطراب التوقع لتجنب الشر ولتفادي احتمالات التبليغ من الغير، "تبرير"، وهذا توجه عزز سلوك الوشاية في النفوس، دون ان يدرك الواشون أنهم او القريبين منهم قد يدفعون ثمناً لتطبيقاته الآنية والمستقبلية من قبل واشين آخرين مصابين بنفس الداء. اذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن الانسان العراقي في الزمن السابق كانت سيطرته على ما يحيط به من متغيرات ناقصة، وفي اطار احداثها، لعبت الوشاية دوراً كبيراً في انكشافها، حتى أمكن القول انه وان تمكن أحدهم أن لا يتكلم منتقداً السلطة، فقد لا يضمن سكوت أخيه بمواجهة نفس الموقف، وان أغلق أحد أذنيه فإنه غير قادر على غلق آذان زملاءه الموجودين معه في موقف انتقاد السلطة، كما ان قضايا الخلل والتجاوز والانحراف في سياقات عمل السلطة، من الكثرة حداً أصبح من الصعب ان يسيطر الانسان على مخارج كلامه بشكل مطلق في انتقاد او ذم بعضها، وبالتالي عندما يبادر واش ليكتب عن واقعة، سيجد من يكتب عنه، وعن زميله او ابنه في واقعة أخرى، بسبب تعميم هذا السلوك الشائن وانتشاره، عندها سيعاقب الزميل أو الأخ او الابن كنتيجة للوشاية، فراح البعض من الواشين وكتبة التقارير، قرابين لعمل اعتقدوا في مرحلة من مراحل الزمن السابق، وبسبب توقعاتهم المضطربة أن القيام به سيجنبهم شرور السلطة الذي ليس له حدود، وثبت فشلهم.
ان الوشاية التي تعد وسيلة تنفيس لسلوك التقييد، طوال الزمن السابق وما قبله بأزمنة أخرى، انتقلت دوافعها وآثارها الى الزمن الجديد. شكى من انتقالها بذات السعة والاساليب، العديد من السياسيين والناس العاديين والقادة العسكريين والامنيين، مؤكدين بشكواهم أن ثمناً قد دفعه البعض اجحافاً من حياته أو حريته. كما ان اوجه السلوك المقَيد في عراق سابق، تُقيّم طبيعته اضطراباً اجتماعياً بالمعنى النفسي لحالة التقييد، قد تعزز في العقل الشعبي العام بإحكام، فجعل مجالات وعي الجميع، بينهم اصحاب الشأن من رجال الامن والقادة العسكريين والحزبيين، قد طوقت أيضاً، بطريقة لم تترك لهم مجالاً للتعبير بتلقائية عما يودون التعبير عنه، وإن كان ذا صلة بمسألة الاختصاص فنياً أو بالوطن تحسباً.
انه واقع قيد للوعي، اكتملت صورته القاتمة في الزمن السابق، واستمرت ممتدة بعض معالمها الى الزمن الحالي، تغيرت في موضوعها فقط، بعض مواد التقييد، وكأن المجتمع قد تعود التقييد، لا يمكنه العيش طبيعياً بدونه. حتى وبعد ان تمتع بفترة انفلات ضعفت فيها القيود بعد التغيير مباشرة، وانتهت فيها الاجهزة الامنية والحزبية التي تفرض التقييد، أنتج هو من عنده مواد جديدة حلت محل القديمة، فكان المذهب قيداً جديداً والمرجع الديني قيداً جديداً، واساليب الانتخاب المنحاز دينياً وقومياً قيداً آخراً. وبعد ان صحا الغالبية من صدمة الانفلات، وضمد بعضهم جراح سببها الانفلات، عاودوا اللهج بقناعات تقييد كانت سائدة، واقاويل تقييد كانت متداولة، وكأنهم لا يستطيعون الاستمرار بوضع الحرية التي حلت بلا دفاعات مقيدة، ونادى الكثيرون بأعلى أصواتهم: (العراقي لا تنفع معه الا القوة. العصا طلعت من الجنة. الشدة هي الحل). .... الخ من افكار وصياغات اقاويل تفضي الى التقييد، عززتها اخطاء ارتكبت من بعض منتسبي الاجهزة الامنية والاستخبارية والمفتشيات العامة، والشؤون الداخلية، ومحاولات للامتداد الى داخل الدوائر والمؤسسات على وفق توجهات للقسر تقترب مستويات حصول بعضها، من ذلك الذي حصل في الزمن السابق. حتى بات اللهج والمطالبة والانفلات، خطر او دقٍ لناقوس الخطر، أو قفز من على واقع أخطاء تحصل في المعتاد خلال مرحلة انتقال غير مستقرة، قد تعيد قيود الوعي الى مستوياتها السابقة، وتعيد المواطنون عاجزون عن التعبير بحرية، وقد تعيد رجال الامن الى سابق العهد يمسكون بهراوات التقييد، وقد تعيد الى عقول الجميع ذلك الشرطي القابع في داخلها رقيباً على الذات.
ان التقييد في الزمن السابق، مشكلة حقيقية، لأنها تجاوزت حدود الفرد أو القلة الموجودة في المجتمع، الى محيط الجماعة أو الغالبية فيه، فاصبح سمة ميزت العراق وحكامه لفترات من الزمن، كانت طويلة نسبياً الى الحد الذي تركت آثاراً يصعب محوها من السلوك الذي تعودها، أي ان وجودها بات محكماً، وصل الى مستوى الاكتساب لهذا النوع من السلوك، وثبت الى مستوى الاعتياد عليه، وبات التخلص منه ليس سهلا.ً ولأن التأثيرات الجانبية للتقييد لم تتوقف عند حدود الدفع باتجاه القيام بالفعل الخطأ، بل تجاوزته إلى امتناع الكثيرين عن فعل الصحيح الذي يمكن أن ينجيهم من القهر، ويخرجهم من السجن الذي انحبست فيه نفوسهم، وشلت حركتهم، ومن الوهم الذي عاشوه أو عيشوهم فيه منذ عدة عقود، وما زال كذلك ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين.
أساليب تهديم أسهمت بتعميم حالة العجز والتجزئة والتفتيت، يخشى ان يؤثر ما تسرب منها الى الزمن الجديد، بعد الافاقة من الصدمة، باتجاه العودة الى النهج الامني القديم في ظروف قتال داخلي صعبة، تقتضي احياناً استخدام القوة المقيدة. بعض مؤشراتها التوجه للحصول على موافقات امنية للسفر، قبل البت بالموافقة ادارياً. وأسهمت أيضا بظهور اصوات تنادي وزارة الثقافة لتدقق المصنفات والمؤلفات، وحذف المقاطع والمواضيع التي يعتقدونها غير ملائمة مع النهج الجديد، وتحسس بعض اللجان المؤلفة للتدقيق في كتب يراد طبعها او شراؤها، لصالح مؤسسة ما، من عبارات وان جاءت في سياق علمي بحت. وأسهمت كذلك بالمناداة بضرورة التعكز على الرأي الأمني في ابداء الرأي، واصدار القرار.
ان مشكلة التقييد ونتائجه السلبية، نفسية وطنية، أكبر من كونها مشكلة امنية أو مشكلة يتوقف وجودها واستمرارها على الاجراءات والاساليب الامنية، وهي كذلك مشكلة ذات جذور وابعاد اجتماعية، أسهمت من جانبها في تهديم علاقة المواطن بالوطن.
مخاطرها في بقاء معالم السلوك السلبي الناتج عنها على ما هو عليه وأكثر سلبية، على الرغم من افتراض مساهمة التغيير في انهاء التقييد كأحد متغيرات انتاجه، وافتراض اعادة ترتيب العلاقة الايجابية بين المواطن والوطن الى حالتها الطبيعة بعد انتهاء الاجهزة التي تسببت في حصوله.
مؤشراتها ذلك النوع من السلوك السلبي المخل لأولئك الذين ينادون جهراً بالوطن الواحد قيمة عليا، ويبيعون عتاد بنادقهم لمتمردين على الوطن، يهدمون أركانه، قبل اكتمال البناء، لا يحسون وزر عملهم ولا عواقبه على مجتمعهم واهلهم وابنائهم من بعدهم، ولا يحسبون ما يقومون به هدم للعلاقة الافتراضية مع الوطن:
- فلاحون، يتكلمون في مضائف شيوخهم كثيراً عن الشرف والامانة والعفة، ويضعون في صباح اليوم الثاني، الطماطم التالف في سلة قش مغطاة بطبقة من الطماطم الجيد، يبيعونها على ان جميعها هكذا، حالها جيد، ويقسمون بالله الذي لا يتركون صلواته مرة في الليل والنهار، على انها من النوع الجيد، لا يحسبون ما يقومون به غشاً، ولا حرام قد يفسد حياتهم ويخرب علاقتهم بالوطن الحامي لوجودهم.
- مهندسون، يخالفون خبرتهم المتعلمة، بقبول الخروج عن القياس الصحيح في تسليح سقف بناية حكومية، مشرفون على تشييدها، يشهدون تصدعها، لا يفكر أحدهم ولو مرة، انها قد تنهدم على احد من عائلته او احباءه، عندما يدخلها صدفة، ولا يفكرون بخيانة الامانة المهنية، وبدورهم في اعادة بناء الوطن.
- أدعياء دين، ملئوا الشوارع تديناً طقوسياً، ظاهرياً، يشرعنون به التجاوزات التي يريدونها خدمة لمصالحهم الخاصة، لا يدركون ان مثل هذا السلوك يؤخر بناء الدولة او يبنيها بطريقة غير صحيحة يمكن ان تضيع في واقعها كل المصالح الوطنية.
- دعاة تغيير واعادة بناء البلد الجديد، يستغلون مراكزهم لأغراض شخصية، يُسَخرون جهدهم الوظيفي لمكاسبهم غير المشروعة، لم يأتِ على بالهم انهم قد ينكشفون، وان الاجهزة المعنية بكشفهم قد تكتمل، وترجع اليهم رجوعاً، يفقدون وكل ما كسبوه بشكل غير شرعي، ويفقدون معه اصول المواطنة العراقية.
- وغيرهم في الطب والتدريس، والبيئة العسكرية، وكأنهم جميعاً أعداء للدولة والمجتمع الذين يعيشون فيه، لا يأبهون لطبيعة العلاقة التبادلية مع وطن هم ابناءه، وكأنهم قد فقدوا بصيرتهم ذات الصلة بدورهم الوطني.
انها شواهد عملية لقلق القيد ونتائجه السلبية في الاخلال بالعلاقة بين المواطن والوطن، خطورتها في ان قادة الاجهزة الامنية ومسؤوليها السابقين، لا يعون انهم قد اسهموا بأساليبهم المنتقاة في حصولها، عندما وضعوا المواطنون في غشاوة، لا يرون المعايير التي يفترض ان يرجعون إليها في تقييم أعمالهم، ويعودون إليها في النظرة إلى واقعهم، وتأمل مستقبلهم، وان قادة الاجهزة الجدد قد لا يعون طبيعتها، ويعودون لممارسة ذات الاساليب المقيدة تحت بند الضرورة، وخطورتها في فقدان الضمير فاعليته لمحاسبة النفس على أخطائها، وانتهاء دور القائد/ الآمر / المدير القدوة، والأداة الفاعلة لمنع ارتكاب الزلل في التجاوز على الوطن.
اشارة تنويهية
هنا تقتضي الامانة العلمية التنويه، الى أن القلق التقييدي قد خفت وطأته عند العراقيين لما يقارب الست سنين الاولى بعد التغيير، وعاش الغالبية حرية تامة دون أية قيود، بقوة دفع التغيير الى الديمقراطية، وغياب الاجهزة الامنية. الا ان الملاحظ بدءاً من العام 2010 فما فوق بدأت بعض القيود البسيطة تفرض، بتصاعد تدريجي مع تطور بنية الاجهزة الامنية، وبدأ القلق واضحاً والخوف موجوداً من ابداء الرأي العلني قولاً او كتابةً، وبمستوى بسيط ايضاً، يتصاعد تدريجياً مع تصاعد الثقة بعمل الاجهزة الامنية، وبدأت الخشية من سد الاسوار وتقييد الوعي تتصاعد كذلك تدريجياً، لكنها مؤشرات ما زالت في البداية، تلقى مقاومة من قوى سياسية في الحكومة والدولة وفي الصف المقابل لهما ايضاً.
2. التفتيت الجماعي.
استهداف أمن الانسان النفسي من اجهزة الامن المملوكة الى السلطة الحاكمة، هو القاعدة الاساسية في العلاقة بين المواطن والدولة، في منطقة الشرق العربية بشكل عام، وفي العراق طيلة الزمن السابق على وجه الخصوص، اذ ان تلك الاجهزة التابعة الى الرجل الاول في الدولة، تعمل جاهدة على تنفيذ رغباته في السيطرة بكل الوسائل بينها القوة المفرطة، مع اعتقاد مفاده ان التهاون في مساعيها هذه، يمكن ان يتسبب في انهيار السلطة، واضطراب المجتمع، وخسارة نفوذها ومكاسب لها، تحقت عبر تلك الوسائل.
ان هذه الاجهزة الامنية، وعلى ضوء فلسفتها هذه، مستعدة الى التحول في الولاء الى الاعلى، وفي الانضباط العالي "التنفيذ الحرفي" تنفيذاً لتوجيهاته من حاكم سابق، يبسط سلطته مهيمناً هذا اليوم، الى آخر لاحق، عمل انقلاب في اليوم التالي، وفرض سلطة جديدة بقوة السلاح الذي يأتمر بأمره. انصياع عادة ما يكون سريع، وتحول في خدمة الاتجاه الجديد، عادة ما يكون عال المستوى، يأتي لأسباب يتعلق بعضها بالانضباط العالي، والرغبة في استمرار العيش لعدم امتلاك مهنة أخرى، وتجنب الحساب الذي قد يحصل لأعمال تجاوز قسري حصلت في السابق، وبعضها الآخر نتيجة الاعتياد على استخدام القمع والقسوة، خاصية تدفع الى ترجيح كفة العودة الى المهنة وسهولة قبول تبعاتها. وللتاريخ وانسجاما مع سياق العرض الذي استند على وقائعه، تجدر الاشارة الى أن بعض توجهات القسر قد توقفت مؤقتا عام 1958، تماشياً مع توجهات القادة العسكريين آنذاك بدفع مجالات الوعي صوب العراقية، وكانت اولى تباشيره تبدل في الشعور بالانتماء من العائلة والعشيرة والطائفة "الوعي المجتمعي المجزئ" إلى الانتماء وبشكل تدريجي للمجتمع المدني العراقي الأكبر بصفته مجتمعاً إنسانياً شاملاً. وبعد أن تحققت خطوات ملموسة بهذا الاتجاه، وتحول البعض غير القليل إلى الكلية في التفكير والسلوك، واقتربوا على ضوئها من العالم الأكثر تحضراً، حصلت انتكاسة كبيرة في العام 1963، اعقبتها أخرى اشد عام 1968، بدأت منها خطوات تقييد وتفتيت، مازالت آثارها مستمرة حتى وقتنا الراهن، وهو بوجه العموم توقف وان حسب لصالح شخصية عبد الكريم قاسم، الا ان الصحيح يحسب الى الانقلاب، الذي اسس قوة دفعه على، هدف القضاء على التخلف، واقامة المجتمع المتحضر، بسبب امتدادات القائمين عليه الى اليسار، وحاجة المجتمع الى هكذا أهداف للوقوف معهم. والمرحلة الزمنية، التي كانت ثقافتها آنذاك تدفع بهذا الاتجاه. عندها اصبحت سمة التغيير سعي للتحضر، أسهم بتقويته الشارع الذي يسيطر عليه الشيوعيون الذين حصلوا على نفوذ جيد في سلطة الدولة، بالسنين الاولى لتلك الحقبة الزمنية على اقل تقدير.
ان الانصياع الذي حصل نسبياً بالنسبة الى الاجهزة الامنية في التاريخ المذكور، قلل شدة القسر مؤقتاً كفترة ترقب أو هدنة، سرعان ما عاد الحال الى سابق العهد، وأكثر استخداماً للقسر والتجاوز والقوة، وأكثر سعة في امتداد التأثيرات " التي اسهمت في تفتيت الوعي الجماعي، حتى اصبح في النهاية لكل جماعة وعيها الخاص.
ان البداية الفعلية لهذا النهج التفتيتي، كانت مع البداية المنظمة لاستخدام العنف سبيلاً الى السيطرة أو مع التغير الجذري في رؤية الامن عام 1963، عندما قاد الانقلابيون توجهات نحو السيطرة المطلقة على المجتمع العراقي، تعاون بفرضها الحزب مع الاجهزة الامنية، والحرس القومي، وبسرعة كبيرة حيث الاجراءات العنيفة لفرض الانصياع، واستخدام الشدة المفرطة لتحقيقه، عندها اتجه العديد من العراقيين وكرد فعل لهذه الاجراءات الى التمحور حول الجماعة الأصغر، بوعي منفصل مجزأ بادئين في اعداد كبيرة خطى الانتماء الى الحزب الذي يحكم، والغاء أية انتماءات أخرى خارجه. ومن هنا أصبح التمحور حول الجماعة الاصغر أي التفتت، راسخاً في العقل العراقي. فبعد التغيير، وعندما لم يجد الجمع في الصورة السياسية حزب واحد، ولم يجد حاكم واحد، يملك كل متغيرات السلطة، تقسم ابناءه بين الاحزاب الحاكمة أو المؤمل ان تحكم، وعادوا الى العشيرة في تقربها من الحكم، والى الطائفة الساعية الى الحكم، وكأنهم في توجههم القديم هذا والجديد، يفتشون عن انتماء جديد الى المجموعة الاقوى القادرة على توفير أمن أفضل، لم يستطع العراق كمجموعة أكبر من توفيره بشكل مرض.
ان الانتماء المذكور، انتماء حصري إلى الجزء، وارتداد وعي الى الماضي البعيد، نزع عند البعض غير القليل، الميول والرغبات الخاصة بالانتماء الى الكل "الوطن"، ودفعهم الى السير باتجاهات متعددة، متناثرة، تجاوزت آثارها السلبية كثيراً وجهات نظر الفرد ودوره في المجتمع، وأصابت الغالبية بعد فترة هدوء نسبي من 1964 الى 1968 بقصور الرؤيا العامة لما يتعلق بعلاقتهم بالدولة والحزب والاجهزة الامنية. اذ وبعد فشل البعثيين في الاستمرار بالحكم، ونجاح الانقلاب عليهم في 18 تشرين الثاني 1963 ارتدت مستويات القسر والشدة في التعامل مع المواطن من قبل الاجهزة الامنية، وحصل نوع من التوقف في التفتيت والعودة الى الماضي المجزأ، خاصة في زمن عبد الرحمن عارف الذي يعد الزمن الاكثر حرية وانسانية طوال مراحل الجمهوريات المتتالية الى عام 2003. لكنه ارتداد مؤقت اذ عاودت هذه الاجهزة الى اساليب القسر وبشدة باتت تزداد تدريجياً كلما ابتعدنا صعوداً عن عام 1968، حتى كانت على اشدها خلال الفترة التي اصبح فيها صدام رئيسا للبلاد من عام 1979 الى 2003. وبسبب هذا القصور في التصور مال المواطنون وبنسب ليست قليلة إلى التقوقع جماعات صغيرة أو مجرد تراكم بشري، وليس جماعة فاعلة لها قوانينها وضوابطها وعاداتها وطقوسها وأفعالها ووقائعها. جماعة تمتلك مرجعية تسمح بحصر الأفكار والكلام والأفعال باتجاه تحقيق أهدافها، وطموحاتها المشتركة للغالبية. هذا ولو أتيحت الفرصة هنا للعودة الفكرية الى ثمانينات وتسعينات القرن الماضي ومتابعة السلوك الفردي والجماعي للإنسان العراقي عن طريق الاستفسار من الاجيال التي كانت تعيش تلك الحقبة الزمنية، سيتلمس المتابع من جملة الاجابات، وكأن كل شخص آنذاك يسير باتجاه لا علاقة له بمن يسير قريباً منه، واذا ما سؤل عن أمر يتعلق بالغير او بالجماعة، فتكون اجاباته على الاغلب (هذا لا يهمني. انا لا علاقة لي. وهل الامر باق علي ؟). ....الخ، وكأن اجراءات السلطة في الضبط والسيطرة لم تتركه والجماعة الصغيرة على سجيتهم العراقية الأصيلة، وتقاليدهم الشائعة، التي يدفع وجودها إلى ضبط السلوك وتوجيهه طوعياً، بل وتدخل في عديد من خصوصياتهم، حتى جعلت بعض اهتماماتهم ورغباتهم وهمومهم وأساليب إشباع حاجاتهم تتضارب، فتمزقت الجماعات الاكبر بينها الوطن نفسياً، وانغلق البعض من أفرادها على أنفسهم، وامتنعوا من التفاعل مع الأحداث التي يمر بها وطنهم. هذا وبتوجههم الى الجماعة الاصغر بهذه النفسية المحبطة، جعلوها جماعة كئيبة، فاترة الشعور، ولفظية في عديد من توجهاتها، تبتعد عن المشاركة بالطاقات والهمم والقدرات، وكذلك بالإدراكات الحسية والأفكار والمشاعر والإرادات، كأحد مقومات وجودها، جماعة متفاعلة كما يراها علم الاجتماع (4).
لأن اجراءات الامن قامت في الواقع بإبعادها عن أية مشاركة تؤكد وحدتها كجماعة، وأصالتها كمرجعية وطنية، إلا ما يتعلق بالأمن الخاص للحكومة والحزب.
ولان العودة الى الجماعة الصغيرة بينها العشيرة التي نشطت نهاية سبعينات القرن الماضي وبداية ثمانينياته كانت في الاصل عودة هروب محبط، لم تثمر بحماية الفرد والجماعة من القلق، ولم تقوي العشيرة حضارياً، وانما على العكس من هذا، عززت من استبداد الشيخ، الى مستوى بات يتحكم بأبنائها على وفق مستويات تفكيره المتخلفة، ورغبته بالعودة الى تقاليد ماضية، لا تتوافق وعيش الحاضر. هذا وما ينطبق على العشيرة يمكن تعميمه على الطائفة، وعلى الجماعات التي تقل في حجمها عن الوطن الاكبر.
ان الابتعاد عن المشاركة "الا ما يتعلق بدعم الحكم" كهدف امني أو المشاركة المشوشة أو الفوضوية أو الانتهازية النفعية، انعكست آثارها السلبية على قدرة الجماعة الأصغر في صون وحدتها والمحافظة على كيانها، ودفعتها أن تتجه بالتدريج لان تعمل بتأثير الضغط الخارجي، أي من سلطة الحكم القسرية، والأجهزة الأمنية، وهذا احد مطالب السلطة في صون الامن من وجهة نظرها، تحاول تأمينه وان اسهم في ابتعاد الانسان عن وطنه، والانسحاب من الموقف الذي يفترض ان يتفاعل معه او يشارك فيه، خاصية لازمت الانسان العراقي في العقود الاربعة الاخيرة واستمرت معه حتى يومنا هذا. فأصبحت بسببها معالم سلوكه موسومة في بعض الاحيان بالآتي:
- الابتعاد عن تقديم المبادرة الوطنية.
- انتظار الاوامر والتوجيهات التي تأتي من الاعلى.
- عدم البت بمسألة تهم الدولة.
- كل شيء عنده مرهون بالأعلى، سلسلة تمتد بالمحصلة النهائية من الأعلى الى الادنى.
سلوك يمكن وصفه وكأن اجهزة الامن قد اوجدت نظاماً فريداً للتبعية الإنسحابية الى الاعلى، يعتمد عليه الجميع بغذائهم الفكري وحاجاتهم العضوية، لغاية وحيدة هي ابقاءه "الحاكم " محتلاً الحيز الاكبر من نهج التفكير، وبما يحول دون التفكير في الوقوف بالضد منه قولاً أو فعلاً باي حال من الاحوال.
3. التيه الفكري.
الدولة العراقية منذ تأسيسها، لم تكن مستقرة بمقاييس السياسة وموازين الصراع، وكذلك العسكر فيها والاجهزة الامنية، الذين أضحوا بحالة استنفار على طول الخط، والحاكم الاعلى في قمتها، يشعر بتهديد القريبين منه والبعيدين عنه. وجماعة الحزب والكتلة والطائفة والرفقة، وسط هذه الاجواء المتوترة، غير متماسكين بتقادير الوقائع الاجتماعية. والمجتمع الحاضن لهم كجماعات، صغيرة مبعثرة متباين في مستوى الثقافة والتحصيل، تمتد بعض جذوره الى الصحراء القاحلة وسالف الزمان، واخرى تنبت وسط المدينة بين جدران الحضارة الانسانية، المتلكئة في محيطهم. وضعٌ في العراق أنتج انسان قلق يفتش عن منافذ للتقليل من قلقه، وجد في عداوة الوطن ايسرها للتنفيس، وأنتج في كل الازمنة الماضية حاكم اكثر قلقا، يرى في عداوة المواطن خير سبيل للتبديد، فتعادى الحاكم والمواطن والوطن، في معادلة علاقات للحكم اساسها عند المحكوم انسحاباً سلبياً للتخلص من القلق، وسبيلها عند الحاكم استبداد قسري لتوزيع القلق، واذا ما وصل في مجالها متزن الى منصة الحكم، سرعان ما يخلق بسبب الاحساس بالقلق اتباع قريبين يحثونه على الاستبداد في الحكم، واستخدام القوة المفرطة لتثبيت أواصر الحكم. وفي طريقه الى هذا، سرعان ما يصطدم بفوضى الذاتية، واضطراب التجزئة، وتناحر الرعية، فيؤمن برأي الاتباع بالحاجة الى القسوة لفرض السيطرة، يعززها ببقايا افكار عالقة في ذاكرته السياسية، عندما كان خارج الحكم فيغير من طبعه. ويكمل مسيرة من سبقه في حث الاجهزة الامنية لتنفيذ احكام السيطرة القسرية. وبفعلته هذه شبه المحتومة يعيد المجتمع الى حيرته، والى نقطة الصفر التي يصنف فيها مصاباً بنوع من القلق الوجودي، او كأنه هكذا عندما يبقى الواحد من ابناءه ثابتاً في مكانه، يترقب رأي الاعلى. ويبقى العسكري في ساحة قتاله حائراً، ينتظر أمر الاعلى. والعامل في معمله مشدوهاً، حتى مجيئ التوجيه الأعلى. وأكثر من هذا:
- ينتقد العمل الذي لم يأت من المرجع الأعلى.
- يتمنى الخلاص من مصيبته عن طريق الغير.
- لا يفكر بالكيفية او بجدية المساهمة في الجهود اللازمة للخلاص.
- يهرب أحيانا في خيالاته إلى الخلف، واحيانا الى الامام، فيغوص في مصطلحات التمني والينبغي واليجب وكأنه يطلب المستحيل.
- يذكر امثلة من الماضي السحيق، يضع على اساسها اهداف لا يمكن بلوغها منطقيا.
- يجعل نفسه مع اول خطوة له في السياسة، بديل عن الحاكم المتمرس في فن السيطرة على الحكم.
- يناقش أقرانه في المقهى والشارع بأحقيته في هذا الطرح، وبعضهم يتحمس له راضٍ عن طروحاته عسى ان يكون يوماً من التابعين له في الحكم.
كأنه في قلقه الهائم هذا، يعيش تيهاً فكرياً أو غيبوبة تيه فكري. مؤشراته في الوقت الراهن، وقبل عشر سنين، ونصف قرن من الآن وقوف للبعض غير القليل عند نقاط ثانوية، لها علاقة بطبيعة الحكم وأحقية من يحكم قبل ألف وخمسمائة عام، يتجادلون بصددها، ويختلفون بجدالهم حد التصادم احياناً، متجاوزين حاجة مجتمعهم الآن الى صيغة حكم صحيحة، يربطون خياراتهم الجدلية بالماضي المختلف عليه.
يغالون في التدقيق بمسألة، لا علاقة لها بموضوع العراق من بعيد أو قريب، ويتركون ما يهم مستقبلهم والبلاد.
يكلفون غيرهم بمهام المشاركة في حل مشاكلهم، ويتوجهون او يتوجه كبارهم افواجاً الى الغير للاستعانة به في فرض الحلول التي تناسبهم.
يكونون جاهزين لانتقاد الطرف المقابل لهم عند توجهه صوب الغير، الذي لا يتفقون مع رؤياه في الحل طائفياً أو قومياً.
يديرون ظهورهم لما يجري من بطش وظلم، إذا ما جاء من جماعات ينتمون اليها، ويصرخون بأعلى اصواتهم اذا ما جاء قليله من جماعات لا يرجعون اليها.
يتكاسل كثيرون منهم او يشعرون باليأس، فيتركون المسؤولية والمهام الوطنية الى أشخاص أقل قدرة منهم على إنجاحها، ويجلسون في مقاهيهم ودواوين بيوتهم ينتقدونهم على الفشل والتقصير وعدم الكفاءة.
تيهٌ كأنه محكم، أغلق منافذ الحل على الابناء، الذين اسهموا بتيههم في احكامه، مؤشرات سلوك انسانه، تؤكده نوعاً من التيه انتقل من الفرد إلى الجماعة، ومنها الى المؤسسة الاعلى في السياسة، التي يسعى بعض دعاتها الى التفريق بحجج الرغبة بالتوحيد. وانتقل ايضاً الى الجماعة الاصغر في العشيرة، التي يتجه افرادها الى التفتيت بقصد التجميع، وكذلك الى الطائفة المبنية على رؤيا التفتيت بقصد الإصلاح والتصويب.
انه تيهٌ مخيب للآمال، ومخل بإنسانية الإنسان، وحقه في العيش الآمن، ومنتهك لروح الالفة الجماعية التي يفترض ان تكون موجودة عاموداً من أعمدة الأمن النفسي.
تيهٌ، جعل الاجهزة الامنية تعتقد ان اساليبها في العنف هي الانسب، حتى ان الدولة في تسعينات القرن الماضي، يوم ادركت تأثير بعض جوانبه "العنف" على وحدة المجتمع التي قد تهدد مستقبلها، وحاولت التدخل من جانبها لترميم الخلل الحاصل، جاءت محاولتها من رحم القسرية في الادارة، والاساليب الفوقية في تقديم الرشا للمتنفذين والحزبيين والشيوخ الانتهازيين، فتكوّن بنتيجة عملها هذا سلطات أمنية مضافة تُعاقب من يخالف التوجهات العامة لسلطة الحكومة من ابنائها، تتجسس على افرادها. فزاد التيه شدة، وفقدت الجماعة الاصغر أحد أهم مقومات تماسكها ومعايير قيادتها الاعتبارية، بعيداً عن روح التفاني من أجل الوجود الآمن لها ولمجتمعها الاوسع.
تيهٌ، تسبب نفسياً في اضطراب القيم والمعايير، اذ اننا نرى على سبيل المثال، انه وعلى الرغم من العودة الى العشيرة، جماعة تفتيت أصغر من الوطن، فإنها في الواقع عودة موقفية قلقة، لجأ اليها الابناء من أجل الحماية من اعتداء الغير في العشائر الاخرى او الاستقواء بها في الاعتداء على الغير، من ابناء العشائر الاخرى. عودة لم تعيدها عملياً الى سابق العهد سلطة ضبط، وتوجيه ايجابي لسلوك ابنائها، وحولتها الى سلطة أمنية سياسية انتهازية، يتدافع شيخها مع المتدافعين ليجد له مكاناً على موائد السلطات الامنية والسياسة، متهالكاً على الفتات والمصالح الذاتية. وتسبب كذلك في التقليل من التكافل، والتعاون والالتزام، حتى يلاحظ على السلوك العام في العقود الاربعة الاخيرة أن البعض يدعي التدين، وينادي بتطبيق الشريعة الاسلامية، وفي واقعه غير قادر على القيام بما يلزمه الدين تطبيقاً لشرائعه. ويلاحظ ان الكثير تنادي بالوطنية، وتقف على التل تتفرج، وتنتظر من الغير مسعى التدخل لصالح الوطن، أو فاقدة للمبادرة، تريد المحافظة على الوضع الراهن، لان تغييره يحتاج الى الحركة التي يعجزون عن ادائها.
بسبب هذا التيه وأمور اخرى، تتعلق بالإدارة والامن انفتحت مجالات الوعي الجمعي واسعة للإيماء والتقليد والخدر والركون للأمر الواقع، منتجة خضوع مهين للأعلى في سلطة الدولة من جهة، ورغبة في التخلص منه من جهة أخرى، اصابت العقل الجمعي بطعنة، حطمت الصورة الايجابية عن الذات، وهزت الثقة بالنفس. فكان تيها بالمعنى النفسي افقد الانسان العراقي الاحساس بطعم الحياة(5)، وقيد حركته، وسيستمر بتقييدها الى سنوات أخرى مقبلة.
4. الاغتراب الوطني
يخطأ الاوربيون باللفظ بين العراق وايران، ومتوقع ان يُسئل العراقي المتجول في احد شوارع أوربا من اين انت، ومتوقع ايضاً ان يحصل لبس في سماع الاجابة عند لفظ عراقي، فيعيد السائل سؤاله مكرراً، هل انت ايراني؟. فيبادر العراقي وعلى الفور، كلا أنا عراقي. كان هذا حتى نهاية سبعينات القرن الماضي، عندما كانت المشاعر الوطنية العراقية راسخة في النفوس بقدر مقبول، وكان الاعتزاز بالعراق وطناً بالمستوى المعقول. من بعدها وتحديداً مع بداية الثمانينات، تبدلت الاجابات بتبدل المشاعر، حتى أصبح العراقي نهاية القرن الماضي وبداية القرن الجديد:
- يشعر بالنقيض من مشاعره السابقة، يخجل من عراقيته.
- يحاول ان يخفيها عند السير في أي بلد اجنبي، وأحيانا يذمها مع نفسه، وامام ابناءه ومعارفه.
فتشوهت صورة الوطن داخل نفس المواطن، ومن تسبب في تشويهها تعامل الادارة معه، تعاملاً غير صحيحاً، كل فروع الادارة بينها ما يتعلق بالأمن الذي ارهق جهازه العصبي طوال الوقت، واخل بالعناصر المكونة لوطنيته العراقية، حتى أصبحت "الوطنية" منذ ثلاثة عقود وحتى وقتنا الراهن على قدر من الفوضى واللاعقلانية، لان سياسة الامن التي كانت متبعة، قد احتوته انساناً، وسلبت قدرته على التفكير العقلاني في أمور حيوية، منها ما يتعلق بواقع بلده، أي العراق وتركته جسماً بيولوجياً:
- يتخبط في المحيط غير المضمون.
- يفتش عن حاجات تبقيه على قيد الحياة.
- يحاول إشباعها بلا انقطاع، دون النظر إلى المحيط" الوطن " من حوله. لان النظر اليه نظرة سليمة تأتي من عملية التفاعل بين عدة عناصر بينها شكل الحكم، واسلوب التعامل ومقادير الرضا، وطبيعة الانسان وسط عملية التفاعل.
هذه في العراق لم تحدث بالشكل الطبيعي منذ تأسيس الدولة وحتى وقتنا الراهن، وتلك كانت من أكثر التأثيرات خطورة على العراق، وما زالت كذلك، لأنها أدت إلى أن يكون البعض من العراقيين وبينهم العسكريين وفي أحيان ليست قليلة:
- مواطنون موزع قسم منهم الى انتماءات أخرى دون الوطن كانتماء عام أو بقليل منه.
- تسيطر عليهم النوازع والأهواء الشخصية، والانتماءات الجماعية المختلفة.
- مواطنون لا رغبة لعديد منهم بالتعاون مع أخوتهم، ولا دافعية للعمل من أجل صيغة قد تساعدهم على الخلاص أو حتى التقليل من همومهم.
والدولة من حولهم فقدت كثيراً من مقوماتها، فلا هيبة لها ولا مصداقية، ولا قدرة لحماية السيادة، ولا إمكانيات لتأمين العيش للغالبية من الأبناء.
عندها اختل طرفا المعادلة، واختلت النتيجة أي الوطنية، المتأتية من تفاعلهما، واضطرب الشعور بها، وباتت صفة يحاول البعض الابتعاد عنها بعدما كان يتفاخر بها، وأكثر من ذلك اندفع البعض الأخر يتهرب منها مهاجراً أو لاجئاً أو باحثاً عن جواز سفر لدولة أخرى أو واقفاً على الطريق، لا يتجرأ البوح بعراقيته الأصيلة، حتى تسجل بشكل صريح قيام بعض اللاجئين العراقيين بتغيير اماكن تولدهم العراقية المعروفة أثناء التقديم على اللجوء او لاحقاً على الجنسية، الى آخر لا يمكن التعرف على أصول صاحبه العراقية، من اللفظ المثبت، مثل الدوز او حلة وغيرها، ويحاولون كتابتها بأحرف لاتينية لا يمكن الاستدلال منها على تلك الاصول، وكأن الواحد منهم يحاول الهروب من اصول لا يعتز بها او لا تعنيه بشيء على اقل تقدير.
لقد استمر التردي، وأصبحت الصورة اكثر عتمة عندما توجه البعض لمعاداة وطنهم، والسعي الى تدميره رمزاً لوجود، اعتقدوا بسبب ضغوط الأمن، وإجراءاته التعسفية، انه وهمُ أو مشاعر ارتبط وجودها بالحاكم، فرداً او حزباً، فتوجهوا لضربه بأماكن مختلفة، ضربات لا تَخلْ بطبيعة الطوق المفروض لتكبيل الوعي، وإنما تتجه لتدمير كل ما يرتبط به. وكانت قسم من ضرباتهم متمثلة بالآتي:
- عدم المحافظة على أملاك الدولة والمال العام، والسعي لإتلافها وتبذيرها وتحليل الاستحواذ عليها شرعياً.
- التقصير المتعمد في تأدية الواجبات، وان كان البعض منها يهم المواطن ذاته.
- شيوع اعمال التجاوز والرشا والتزوير، حدوداً لا تثير الدهشة، ولا الاستغراب.
انه هدم للمعايير الوطنية، وتخريب لبنية المجتمع الوطني، وضبابية في تصور المصالح العليا له، وابتعاد عن الالتزام بمعاييره، أحد الدوافع الرئيسية لإضفاء صفة الامن والاستقرار.
وبصددها يمكن التأكيد، انه وعندما يفقد المجتمع استقراره كما هو الحال في العراق لما يقارب الاربعة عقود، يصبح التطابق بين مصالح المجتمع وأفراده في أدنى حالاته، وتستبدل مشاعر التوحد، بالتفكك إلى جماعات صغيرة، تغلب على توجهاتها المصالح الذاتية، ويحكم سلوكها التعصب والأنانية وتغيب عنها الروح الوطنية.
ان الضبابية في تصور المصالح كما ورد في أعلاه، أثرت على جوانب أخرى من الفاعلية المطلوبة لتكوين الإرادة والإدراك، اللذان يعدان جوهر الفاعلية الذاتية لعمليات الوعي، ولب عناصر الوطنية. لان الإرادة التي تعني الإصرار والسعي والفعل، مجالات في عقل العراقيين تقلصت بشكل كبير، وبتقلصها أصبح الشعور بالوطنية وان وجد بمستوى معين ليس ذات جدوى لتحويل الشعور إلى فعل لصالح الوطن أو الحيلولة دون القيام بفعل ضد مصالحه أيضا، في ظروف صعبة مثل الظروف التي سادت بعد التغيير والى عام 2012. كما ان الإدراك الذي يرتبط مع الإرادة، قد تعطل هو الآخر أو ضعف على مستوى الفهم المقبول لما يحيط بالعراقي من وقائع وأخطار واتجاهات، إذ لم يع البعض تلك الأخطار البعيدة المدى لحكم الحزب الواحد والجماعة الواحدة والنوايا المبيتة والغايات المبطنة والارتباطات غير الواضحة، رغم الوضوح البين لبعض الأعمال المتأتية من وسطها مثل القتل والاغتيال وافتعال التناحر والحروب والتدميـر والتعصب والطـائفية والإقليميـة، وغيرها أعمال كأن العقل المنتج لوقائعها قد تعطل أو تكاسل إبان حدوثها فلم يعد يدرك ماهيتها.
ان عموم الاعمال المذكورة أضعفت الإرادة الوطنية، وخفضت مستويات الشعور بالمواطنة بحدود كبيرة، وتسببت في حصول نوع من الانفصال الاجتماعي عن الوطن العراقي لدى نسبة ليست قليلة بعد أن وُضع الانسان الفرد أو الحزب بديلاً عن رمزية الوطن، وعندما فشل في أن يكون كذلك، تقلص الإحساس بالوطن كحضن آمن، وهربت كثير من موجودات الوعي إلى اللاوعي، الذي أصبح بالنسبة للكثير علبة محقونة بصور غير متجانسة، في معظمها بقايا ذكريات للخوف، والهلع كرموز للخطر والتهديد.
مع هذا فان أحكام من هذا النوع لا يمكن ان تكون مطلقة من الناحية المنطقية، إذ أن البعض من العراقيين أدركوا الخطر مبكراً، ولم ينفصلوا عن الوطن، ولم يختل وعيهم، رغم إجراءات الامن المشار إليها، لكن واقع حالهم يشير إلى أن البعض منهم دفع حياته ثمناً لهذا الإدراك، والبعض الآخر غادر العراق في غربة طويلة كانت هي الأخرى ثمناً له. انها صورة حفظت على مستوى اللاوعي، وتفاعلت مع صور اخرى محفوظة، فتحولت إلى عناصر اضطهاد وإحساس بالاغتراب، صعب على البعض مواجهتها أو وضع حواجز لها أو موانع تحول دون قيامهم بما يخل بوطنيتهم. اغترابٌ، ترك بصماته على سلوك العراقيين بشكل قدري، فطبع الوعي بطابع السوداوية المتشائمة. دفع البعض إلى أن يسّخر كل حركة يقوم بها أو سلوك يؤديه في سبيل تعويض هذا النقص، رغم أن نتائج هذه المحاولات لا تجدي نفعاً للتعويض، وستبقى عملاً لا إرادياً تكمن أهميته في أدائه حركة أكثر مما تنفع في اتجاهاته لتحقيق الأهداف.
اغتراب، دفع من ناحية أخرى إلى الشعور برغبة في التشكي، يعود معظمها إلى وطن غاب أو حضن آمن انتهت فاعليته، ويئس من احتمال عودته قريباً، وعلى أساسها ابتعد البعض عن الوطن بمشاعره، محاولاً استبداله بالطائفة والكتلة او الحزب. لكنه استبدال ببديل ضائع هو الآخر. ومع هذا الغياب والشعور بالاغتراب، ضعف دور المؤسسة العسكرية والامنية التي يمكن أن تلعب دور الحضن الدافئ لعموم العراقيين، كما ورد في أعلاه، فغاب بسببها منطقياً، التآزر والتعاون والتكافل والتضحية كعناصر للوطنية. لان عدم الدفء الذي أشر ضعفاً لمستويات الوطنية، أصبح كذلك مصدراً للقلق والتأزم والارتباك والفوضى والحزن شبه المستمر لغالبية العراقيين.
ان الاغتراب الذي حصل في عموم المجتمع، نوع من الاضطراب الضاغط على العقل، بالشدة التي جعلت الأمزجة مشبعة بالتشاؤم واللامبالاة والتباطؤ ولوم الضمير، وجعلت الاحباط شعور مسيطر، موجه فيه العدوان على الذات، بدلاً من إسقاطها على الخارج كمصدر للإيذاء.
من وضعها هذا، يمكن تفسير السلوك الشائع بالتنحي جانباً، لما يتعلق بمصائب الوطن موصوفاً بالعبارة الشعبية الدارجة "آني شَعْليّةَ"، وعدم الرضا عن الحاكم اي كان، وسهولة توجيه الاتهام الذي يجرح الذات الوطنية العراقية أو يرغب في تدميرها أحياناً، عندما تصل الحالة إلى اتهامها بالعجز والقصور وترديد عبارات اليأس مثل "نحن لا نستطيع. لا نقدر. لا أمل لنا". وغيرها من عبارات، ومثلها امثال شائعة، تحبط السامع، وتسحبه كثيراً الى الوراء، خاصة عند مصاحبتها تمجيد عال للذات المنكوبة بطريقة تدفع السامع الى الرغبة بالانعزال، وربما اللجوء الى البكاء على مجد لم يستطع المحافظة عليه كالآخرين من العرب وغيرهم. وهي أيضاً محاولة للهروب من مواجهة الواقع الحقيقي الذي يعيشه على مستوى الوعي المحاصر المجزأ المشبع بالاغتراب.
للرغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
http://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/32280-2017-10-13-10-27-36.html
391 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع