الباب الرابع: حروب الأمن الداخلي
الفصل الأول: الأمن الوطني
معايير الامن الوطني
الامن الوطني، موضوع يرتبط اسلوب ادارته، وتقديرات خطورته بطبيعة نظام الحكم القائم، وماهية الأهداف الاستراتيجية التي يراها ملائمة لوجوده، إذ أن النظم الديمقراطية المتحضرة، أو غالبيتها تتمتع بقدر عال من الاحساس بالأمن الوطني "استقرار" يفوق ما يحسه قادة ومواطنو وعسكر النظم الديكتاتورية المتخلفة، لان الأولى "الديمقراطية" تفسر الخطر، بمدى تهديده لنظام الدولة وليس لنظام الحكم في الدولة، أو رئيس الدولة في حين تفسره الثانية "الديكتاتورية" في الاعم، انه تهديد للحكومة القائمة ورئيسها الاعلى، وبالتالي وعلى ضوء هذا التحسس تصبح ادارة وتعامل كل منهما مع الاجهزة المعنية بالأمن الوطني مختلفة، وتفاصيل مهامهما ميدانيا مختلفة أيضا. إذ تسقط كل واحدة منهما ارهاصاتها وقلقها وتفاسيرها الاضطهادية على تلك الاجهزة لتنتقل اسقاطات مضافة على المواطن داخل الدولة وعلى اسلوب ادارته والتعامل معه ميدانيا. هذا واذا ما تجاوزنا الجانب الاستراتيجي في الموضوع الذي فيه خلاف بين الانظمة المذكورة كما مبين سابقاً وانتقلنا الى الجانب التطبيقي ذو الصلة بمفهوم الحماية الامنية، نجد ان الخلاف يتسع بشكل أكبر، حيث تحاول الاجهزة الامنية في النظم الديمقراطية وقاية المواطن أي ابعاده عن الخطر جهد الامكان، وبمعنى أدق انها اذا ما لاحظت احتمال تورط مواطن في موضوع مخل بالأمن، يمكن ان تحذره من احتمالات الخطر الذي يحيط به فيما اذا استمر، وعلى نفس الاساس نجد علامات تحذير في الطرق العامة، تعطي المواطن الذي يقود سيارته تحذيرا بتجاوز السرعة المحددة وتُعلِمهُ بوجود كامرة لتصوير المخالف، وهذا تحذير يقع في اطار الوقاية من الوقوع بالخطأ، وهي لا تعتقل في سياقات الاعتقال العامة، مواطن دون توفر الادلة الكافية، حتى انها تقوم بإخباره احيانا في انها تشك بارتكابه الخطأ، لكنها لا تملك الدليل وستسعى لامتلاكه، ويوم تمتلكه ستقوم باعتقاله واحالته الى المحاكم المختصة، بينما نجد العكس من هذا في الدول الديكتاتورية والمتخلفة، حيث العمل على توريط المواطن، وهي ان لاحظت احدهم متجها الى مكان فيه خطر، تعمل على مراقبته، وربما تقوم بدفعه للوقوع بالخطأ، حتى تحاسبه شاعرة بنشوة العقاب. وإذا ما تيسرت لديها معلومات ولو من مصدر واحد عن مواطن يرتكب خطأ أو خرق أمني، تقوم باعتقاله على الفور وتضغط عليه لإثبات صحة اجراءاتها في الاعتقال.
التعامل الامني القلق
ان التعامل المذكور في اعلاه، نوع من التعامل القلق، يدفع الدولة الى الاكثار من عدد الاجهزة الامنية، ويدفع الى تداخل الاجراءات الامنية لتكون المحصلة، عمل لحماية النظام الحاكم من الإنسان المواطن. وفي مجالها يكون النشاط العام لذلك الإنسان، واتجاهاته وقيمه وتطلعاته وحريته، هي الأهداف النهائية لتلك الأجهزة، التي لا تتوقف عند حدود معينة. مهام في الداخل، تماثلها أخرى في الخارج، متممة لها في استهداف الانسان. وبذا يصبح النشاط الامني الاستخباري للدولة في مجمله عملية تتركز على:
- توفير المعلومات عن علاقات الارتباط الموجودة، لمن في الخارج مع أهل الداخل.
- الافراط بإجراءات المراقبة، والتنصت على مواطني الدولة وموظفيها وعسكرها العاملين في الخارج، والمارين به في سعي دائم لوضعهم في دائرة الخوف والتقييد وبالتالي عزلهم عن مصادر الخارج.
هذا ما كان يحصل في أروقة الاجهزة الامنية الاستخبارية العراقية للزمن السابق، التي عملت وكأن مجمل عملها استهداف المواطن العراقي، اينما يكون في الداخل والخارج، دون التقيد بأية ضوابط وقوانين محددة وأعراف دبلوماسية معتادة، ودون الاخذ بالاعتبار الخسائر المترتبة للفعل الامني المرتكب على المجتمع والدولة، حتى انها بعد عام 1968 نفذت جميعها أعمال اختطاف لمواطنين وضباط من الشارع، لمجرد الشك في السلوك، وعند الاستفسار منها من قبل المراجع السياسية والعسكرية عن صحة وجود المختطف أو المعتقل لديها، لا ترد على الاغلب، وان ردت تكون الاجابة نفياً لوجوده.
كذلك خولت الدولة آنذاك كافة أجهزتها الامنية، صلاحية الاغتيال والاختطاف وتنفيذ حكم الاعدام، وارتكب جهاز المخابرات تماشياً وهذا التخويل كثير من الاعمال التي أحرجت الدبلوماسية العراقية، مثل اغتيال نائب رئيس الجمهورية الفريق الطيار الركن حردان عبد الغفار في الكويت بتاريخ 30/3/1971، ورئيس الوزراء عبد الرزاق النايف في لندن بتاريخ 9/7/1978، والمعارض العراقي طالب السهيل في بيروت بشهر نيسان عام 1994، والدكتور أياد حباش في روما بشهر تشرين الاول عام 1986، والسيد مهدي الحكيم في الخرطوم بشهر كانون الثاني عام 1988(1)، والمحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس الامريكي جورج بوش في الكويت بشهر نيسان عام 1993 .... الخ.
انها أعمال وتجاوزات، وان أبعدت بعض التهديدات عن جسم الدولة والحاكم لفترة محدوة في ذلك الزمن، لكنها بالمحصلة فتحت ثغرة في جدار الامن الوطني العراقي، دخلت منها قوى التحالف الدولي، لتنهي النظام وتغير معايير الامن الوطني، وتهدم ما تبقى من اعمدة ساندة لاستمرار الجيش والقوات المسلحة.
التجاوز على مهام الأمن الوطني
لقد جرى تداخل في الاعمال، وتشابك وتوسع في الواجبات الخاصة بالاجهزة الامنية والاستخبارية للدولة في الزمن السابق على الرغم من انها قد حددت مهامها قانونياً.
فالمخابرات معنية بأعمال مكافحة التجسس في الداخل والخارج، وتأمين المعلومات الاستراتيجية للدولة.
والامن العامة تهتم بالامن الداخلي ومكافحة التحرك الحزبي المضاد.
والاستخبارات العسكرية لتأمين المعلومات التعبوية والاستراتيجية اللازمة للقوات المسلحة.
ومع هذا التحديد في المهام كان عملها كأجهزة متعددة متداخلاً، فالمخابرات عملت لفترة بحماية امن الرئيس وكبار المسؤولين، وتابعت الاعمال التي تصنفها بالضد من أمن الدولة، واشتركت بالجهد المُستنفر للقضاء على الانتفاضة، وكذلك فعلت الامن العامة، التي حققت مع ضباط عسكريين وتابعت انشطتهم التي تصنفها مضادة للدولة، ومثلها فعلت الاستخبارت العسكرية، التي لجأت الى اعتقال مدنيين. انه عمل فيه قدر من التداخل، وفيه تنسيق على كافة المستويات، يستهدف جميعه ابعاد الانسان العراقي عن خطوط التماس بالحاكم والحكم بكل الوسائل المتاحة بينها الاغتيال.
خرق الاجهزة الامنية لقوانين الدولة
ان الاجهزة الأمنية في النظم الشمولية تستمر في التمادي طرفاً غير مباشراً لتشريع وخرق القوانين العامة للدولة، حتى تصبح بحكم التحرك المطلق، وثقة الحاكم بأنشطتها في حمايته، متمتعة بصلاحيات غير محدودة في الحبس والحجز والإخفاء والاغتيال وتوجيه الاتهام والتغطية على الجريمة وحجب المعلومات وتسريبها ... الخ. ومتمتعة أيضاً بحق غير مقيد في التدخل بشؤون القضاء، للحيلولة دون فرض أحكام يقتضيها القانون أو فرض أخرى لا تنسجم ومقتضيات مواده، اذا ما كانت تصب في صالح الامن الذاتي للحاكم والحكم، وبحجج تصاغ بطبيعة الحال على وفق مقتضيات المصلحة العامة التي تحدد هي طبيعتها.
كذلك التدخل في الجوانب الفنية لإدارة شؤون الدولة خاصة في مجال نقل وتعيين الموظفين وإسناد الوظائف والترقيات والعزل والفصل من الخدمة والإحالة على التقاعد، وغيرها اعمال في الادارة لا تدخل في صلب اختصاصاتها من الناحية القانونية.
هذا ويستمر التدخل في بعض الاحيان ليشمل الاقتصاد حيث التحكم بموافقات إحالة المقاولات، ومنح إجازات إقامة المشاريع، وتأسيس المصانع وفتح الاعتمادات والتعاقد مع الشركات، وفقاً لمعايير أمنية تكون فيها القرابة والعشيرة والمنطقة معياراً أمنيا على أساسٍ قوامهُ الولاء المفترض للحكم، والاستعداد المسبق إلى تقديم الخدمة الأمنية المجانية في محيط العمل.
ويشمل أي التدخل كذلك حرية المواطن، حيث السعي الى تحديد السفر إلى الخارج بشروط خاصة، وبموافقات محددة، وتعريض العائدين من السفر إلى المساءلة في أحيان ليست قليلة، حتى ان المواطن العراقي في الزمن السابق كان يشعر بنوع من الارتياح، لمجرد اجتياز الطائرة التي تقله، او الحافلة التي توصله الحدود العراقية، وكأن عبئا ثقيلاً قد ازيح من على صدره. وعلى العكس من هذا تماماً، سرعان ما يشعر بالانقباض، عندما يُعلن عن دخول الطائرة الاجواء العراقية أو الحافلة الارض العراقية، ومرد هذا الى عشوائية عمل الاجهزة الامنية وتقييدها الحرية، وخوف المواطن من اتهاماتها العشوائية.
إن التدخل مسألة لا تتوقف عند الحدود المذكورة إذ أنه يطال جوانب أخرى مثل مراقبة الهواتف لمن لهم أقارب في الخارج، ومنع المواطن من ممارسة شعائره وطقوسه الدينية والاجتماعية، ومنع التعبير عن الرأي إذا ما كان مخالفاً لتوجهات الحكومة والحزب، وعدم السماح بالنقد في أي مجال من المجالات العامة أو الخاصة، وكذلك بالنشر الذي لا ينسجم والفكر السائد للحزب والحاكم، حتى ساهمت أو قادت الاجهزة الامنية توجهات المراقبة المستمرة للأنشطة الاعلامية والمصنفات الفكرية والانتاجات الادبية والثقافية، واستمرت بالتدخل حتى في الخطب الدينية المعدة للصلاة أو للمناسبات الدينية، وفي المناهج الدراسية العامة، والتخصصية في أحيان كثيرة.
ان تدخل الاجهزة الامنية في الزمن السابق، فاق المكتوب في التعاليم والادبيات الامنية، ليصل الى مستويات التسقيط الأمني والأخلاقي لبعض المستهدفين في المجتمع وذلك بصياغة التهم والوقائع والتوريط الجنسي والاغتصاب في أحيان معينة.
وبالمحصلة تم انتاج اداء أمني لعموم الاجهزة الامنية والاستخبارية، لغالبية المرحلة الزمنية السابقة يمكن وصفه، بفعلٍ قسري يضع الحاكم في منزلة التمجيد والتعظيم من جانب، وفي خانة الاخافة والترهيب من شخصه من جانب آخر، لغاية قوامها ابقاءه زعيماً أوحداً في عقل المتلقي، وابقاء المجتمع خاضعاً لسلطته، مستسلماً لرغباته. صيغةٌ تعينه "الاوحد" على التحكم بكل المجريات داخل الحكومة والمجتمع، وتدفع به إلى أن يكون المرجع الأعلى لجميع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، والإعلامية "السلطة الرابعة" في هرم للدولة هو في أعلى قمته، وبالتالي تشبع رغباته غير السوية في توزيع وفرض العقاب على شرائح المجتمع جميعها دون المقربين الذين يخضعون لسلطته المباشرة.
التشابه البنائي للأجهزة الامنية في النظم السياسية
إن إلقاء النظرة الأولية على حال وإجراءات وممارسات الأجهزة الأمنية في النظم الديكتاتورية يبين أن هناك تشابها في موضوع التعدد الحاصل لتلك الأجهزة، وكذلك فيما يتعلق بالمهام وبأساليب العمل القسرية، وبشكل الارتباط المباشر برئيس الدولة، أو أحد القريبين منه، لكنها وفي العراق خلال حكم الحزب الواحد في الزمن السابق، تميزت بخصائص الافراط بالقسرية، وقلة الحياء المهني، خصائص إضافية اكتسبتها من طبيعة نظام الحكم التسلطي المفرط خاصة بعد عام 1979، وحتى انتهاءه عام 2003، ومن خشية فقدان الحكم التي تولدت في نفوس المسؤولين الحزبيين من كثر التعرض إلى التهديد لما بعد عام 1968، والتي تركت تجربة مريرة في نفوس البعثيين، ودفعتهم صوب المغالاة بالسيطرة المطلقة على القوات المسلحة والاجهزة الامنية، وتغيير ارتباطها الفني والاداري برأس الدولة والحزب، ومن الخصائص النفسية لرئيس الدولة، المسؤول الاعلى لها، حيث الشعور بالعظمة والرغبة في السيطرة والسعي لمد النفوذ والميل للعدوان.
خصائص جعلتها أجهزة تتشبع بأفكار الشك والتوجس والإفراط في القمع بمستويات فاقت كثيراً مثيلاتها في الأنظمة المشابهة في المجتمعات الأخرى، وانعكست على توجهات الدولة لتشكيل المزيد من الاجهزة الامنية، وتحديد مهامها، وصياغة أساليبها في التعامل مع المواطن تعاملاً اضطهاديا، عطل مسيرة تقدمه، وتفاعله مع غيره من ابناء بلده، ووضعه في حالة قلق وترقب ساعدت في التسريع بعملية الهدم.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
http://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/31893-2017-09-14-08-44-23.html
564 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع