الباب الثالث: حرب البناء المؤسسي
الفصل الاول: البنية العسكرية للجيش بعد التغيير
البداية غير الصحيحة
بكل أسف، انتهى الجيش العراقي عملياً، لمجرد دخول الحلفاء بغداد، وأختفاء المنتسبين واسقاط التمثال الضخم لصدام الذي نصب نفسه قائداً عاماً، ذلك التمثال الرابض في ساحة الفردوس من بين عشرات التماثيل. المشهد مثير، الجمع القريب منه يترقب، والبعيد من منتسبي الجيش والحرس الجمهوري والاجهزة الامنية الباقين في موقعهم، اداروا وجهتهم، صوب البيت بملابسهم المدنية، او بقيافة عسكرية يغطيها غبار الخسارة، وتوجه معظم قادته الكبار الى سوريا وعمان واليمن، يفتشون عن ملجأ لعيشهم القادم بعيداً عن المتابعة المتوقعة وتوجهات الانتقام. وتوارى قائده العام عن الانظار فور مشاهدة فديو سحل رأس تمثاله من قبل شباب تلقفوه هدية من الامريكان، حتى القيَّ عليه القبض من قبلهم في حفرة بقضاء الدور، فاسدل الستار عن اثنتان وثمانون عاماً عمر الجيش، كانت قد شهدت عديد من الجولات المثيرة، والمواقف الوطنية الرصينة والأخرى المسيئة للمواطن والوطن، وشهدت معها حروب دفاعية مفروضة، وأخرى هجومية غير مقبولة، وكذلك مشاركات قومية وتحرشات بالعرب المجاورين، وانقلابات بدعاوى التصحيح، مغلفة بمصالح دولية ولهاث الدوافع الذاتية، جعلت بنيته العامة، أي وضعيته في النهاية مختلفة تماماً عن البداية، وهيأته واهناً لضربة قاضية، أنهته تماماً في آخر حرب خاضها غير متكافئة بالضد من الحلفاء:
لم يقاتل فيها أغلب المنتسبين بالشكل المطلوب.
ولم تعبأ الوحدات في مواضعها القتالية بالشكل الصحيح.
ولم يعطِ القادة الميدانيون الكبار آرائهم بالشكل النزيه، وتسابق بعضهم لإعطاء أفكار عن قدرة خارقة للصمود وآخرين أوهموا بتحليلاتهم القائد العام من أن الحلفاء سوف لن يدخلوا في حرب إجتياز.
على هذا ومن خلال وقع الأحداث وعدم وجود قيادة للتفاوض ولا منتسبين في الثكنات يمكن القول أن الجيش قد انتهى ميتة فعلية مشبوهة، جعلت من غير المفيد تناول تأثيراتها على البنية، كما جرى في الباب الثاني من هذا الكتاب، لان وجودها غير الموجود عملياً قد حُسم بأمر من سلطة الائتلاف المؤقتة على حله والمؤسسة الامنية، بالامر الرقم 2 في 22 مايس 2003، الذي اثار في حينه جدلاً كبيراً، اذ وقف البعض من الساسة والأحزاب التي عملت معارضة للنظام مع حله وآخرين جاهروا بالضد من عملية الحل، دون امتلاك قدرة للتأثير... جدال أخذ بالاتساع، مع تعقيدات الخروق الأمنية، التي زادت بعد عام 2004، ليصل المؤسسات الامريكية صاحبة فكرة الحل، مما جعل بريمر يبرر اجراءاته في الحل بقوله ان الجيش العراقي لم يكن موجوداً في الاصل (1)، ومع هذا الجدال، فان حقيقة الأمر تكمن في أن الاحزاب السياسية التي تقدمت لادارة البلاد، كانت غالبيتها مع عملية الحل، اذ لم يبدِ أحد منها ممانعة، كان يمكن التصريح عنها بوسائل الاعلام التي انفتحت في تلك الايام، وكانت لغالبيتها مواقف سلبية مسبقة من جميع أفرع القوات المسلحة، ولبعضها حساباته الخاصة، تصب في اتجاه التخلص من بقايا قدرات متواضعة لجيش كان يحسب له حساب، ولها تطلعاتها الخاصة من النفوذ الى داخله، فجاءت الضربة تناغم شفوي بين الامريكان اصحاب النفوذ، وبعض الاحزاب العراقية النافذة.
خطأ استراتيجي كلف العراق ثمناً باهضاً.
أحدث اضطراب أمني اقتضى اعادة تشكيله من جديد، فأصدرت السلطة ذاتها الأمر الرقم 22 في 7 آب 2003 (2)، باعادة التشكيل في ظروف أمنية غير مستقرة، ومساعي لإعادة بناء البلاد غير واضحة، لغايات كانت أعلاها في سلم الاولويات الامريكي، محاربة الارهاب الذي بدأت علاماته بالظهور، وأعمال مقاومة مسلحة أخذت بالتصاعد.
وكأن التاريخ يعيد نفسه لما يتعلق بالجيش الذي شكل عام 1921 لأغراض الامن الداخلي، ومقاتلة ابناء العشائر آنذاك.
وكأن الغاية واحدة، وان اختلفت الأزمنة وجهات التنفيذ.
لقد شرّعَ الحاكم المدني قانوناً بالتشكيل، وبدأت وحدات عسكرية، تتشكل وتعمل ميدانياً على الفور، بقدرات قتالية ضعيفة، وهيكلية تنظيمية بسيطة، لم تأخذ بالاعتبار الحاجة الفعلية للقتال، والإمكانيات المتاحة للقيام به، والأهداف المطلوبة، وخبرة العمل المستمرة لبعض منتسبيه، الذين جاءوا من الزمن السابق. وعموماً فان الشروع باعادة التشكيل قد تأسس على وفق:
- الخبرات الأمريكية المتطورة، والأهداف الاستراتيجية الأمريكية غير المعلنة، متفاعلة مع خبرات فنية عراقية متناثرة، وغير قادرة في كثير من الأحيان على تكوين رأي قوي مستقل في قضايا التسليح والتنظيم والهيكلية.
- رؤية عراقية أولية، لما مطلوب من المؤسسة العسكرية وجيشها الجديد.
- ظروف عمل صعبة، وسط منطقة مضطربة، وبؤرة توتر شبه دائمة.
إن عملية إعادة البناء للجيش والقوات المسلحة في الزمن الجديد قد اقتضتها الحاجة، وخطط بداياتها الأجنبي"الولايات المتحدة، وبالتنسيق مع الحلف الاطلسي". والنظرة اليها تبين انها قد مرت بعدة مراحل كان التباين بينها واضحاً:
1. الأولى مع مجلس الحكم. كانت بداية بسيطة، بمقرات متفرقة، مزدحمة، وبمسؤولية ادارية وتنفيذية تقع على عاتق قوات التحالف، التي تدخلت في جوانب الهيكلية التنظيمية، وتحديد المناصب واشغالها، وتوزيع الافراد، وارسال المنتسبين من ضباط وموظفين مدنيين ومراتب الى دورات تدريب خارجية في الولايات المتحدة أو في قواعد حلف الاطلسي.
وعلى عاتق الدولة العراقية لما يتعلق بالجوانب التنسيقية، والادارية، واصدار أوامر التعيين. وكانت على وجه العموم مرحلة صعبة، مرتبكة، يكثر فيها الفساد.
2. الثانية مع أول حكومة مؤقتة. استمرت فيها المؤسستين بذات الخطى مع هامش أوسع للاختيار والتعيين والتعاقد، فتشكلت في هيكلية الجيش الجديد، أربعة فرق من المشاة، ومن بعدها لواء آلي وآخر مدرع، وادارة وجدت نفسها غارقة بإبرام العقود، وتعيين الموظفين، وإعادة الضباط، في ظل فوضى وارتباك وتجاوز، حتى تسجل عن فترتها انها الأسوء، وعن الوزارة انها الأفسد بين باقي الوزارات، والأكثر إعاقة للنمو المؤسسي، ولاعادة البناء.
لقد جاء التعيين في المؤسستين العسكرية والامنية، "الدفاع والداخلية" بدايةً، باسلوب التعاقد المؤقت بين الضابط وضابط الصف والجنود والمدنيين من جهة والوزارة من جهة أخرى، يقترن بموافقة الوزير. وتحدد رتبة الضابط لجنة يرأسها أمريكي، ويتم التنسيب الى المناصب القيادية في عموم الوزارتين والجيش والشرطة بأمر من الجهة الامريكية، هذا وفي الوقت الذي لم تثار اية اتهامات للوزارة الاولى، فقد وجهت الى الوزير في الوزارة الثانية، وبعض المفاصل العليا لادراته مثل الامين العام للوزارة، ومدير التسليح والتجهيز، عدة تهم فساد واهمال (3)، تخلصوا منها نتيجة عفو عام.
3. الثالثة مع الحكومة المنتخبة مؤقتاً. التي انتهت مهامها منتصف مايس 2006، وجدت فيها وزارة الدفاع نفسها وسط تركة ثقيلة للتجاوز، والمحسوبية، والفساد، وإجراءات الحرب ضد الإرهاب، فسجلت مواقف ومحاولات للاصلاح جدية في المستويات العليا. وفاترة تنقصها دافعية المتابعة من قبل بعض مفاصلها القيادية الوسط. وينقصها ايضا، الاخلاص في العمل. وعموماً لــم يسعفها الوقـت، ولا الروتين وشــدة الفساد، وطبيعة المهام من إتمام مهمتها كما سعت لها أن تكون.
4. الرابعة، مع الحكومة المنتخبة لأربع سنين. والتي حدد منصب وزير الدفاع فيها الى جبهة التوافق، وحوله أثير لغط واسع لايخلوا من التسييس، اذ ورد على ذمة بعض الجهات الاعلامية ان المنصب قد تم بيعه، وقبض الثمن من كبار قادة الجبهة عدة ملايين من الدولارات(4)، كما اثير حول الوزارة خلال هذه المرحلة العديد من قضايا فساد استمرت لجنة النزاهة في البرلمان التحقيق فيها حتى عام 2012، لم تحيل منها الى القضاء الا القليل، غالبيتها، معلق أو تحت المتابعة، لشدة التعقيد، وتعدد المنافذ والاتجاهات. ومع هذا فقد تسجل لهذه الوزارة والتي تبعتها، استعادة بعض الضوابط والتقاليد، ووضع القوانين، والتمسك ببعض الشروط الخاصة بالاعداد والترقية.
على وجه العموم، لقد شرعت الدولة، بحكوماتها المتعاقبة، باعادة التشكيل في ظل ظروف التوتر وعدم الاستقرار، حيث التطور السريع للعمل العسكري التخريبي المضاد للدولة، واتساع دائرة الإرهاب المنظم، مما دفع الحكومات المؤقتة المتتابعة ومن بعدها المنتخبة إلى إشراك الوحدات العسكرية، والشرطة التي تأسست حديثا في القتال اضطراراً، حتى قبل اتمام الجاهزية القتالية. كما إن الضباط الذين عادوا الى الخدمة في الجيش الجديد، وتحملوا مسؤولية التشكيل، عانوا من مشاعر متناقضة وضغو يتمثل بعضها في ان المؤسسة السياسية التي تحكم بالتتابع:
- لم تعر أي اهتمام لوجودهم المهني، رغم إنه يتأسس على التضحية بالحياة من أجل وطن فيه التضحية، والخسارة واردة بنسب كبيرة.
- لا تلتفت إلى مشاكلهم، مشغولة فقط بمشاكلها والخلافات المستعرة بين اعضائها وبامتيازاتهم الخاصة، رواتب ومخصصات واراض وعقود، فاقت المألوف وتجاوزت التوقعات.
- لا تفكر بمنحهم امتيازات اعتادوا الحصول عليها منذ تأسيس مؤسستهم، أسوة بكل المؤسسات العسكرية العالمية التي تمنح منتسبيها بعض الامتيازات لمعادلة مهنية الموت المحتمل، مع مستلزمات الحياة ورغباتها، مع بعض الاستثناءات القليلة لضباط قادة حصلوا الى قطع أراضي ونسب من العقود بطرق لا تعزز الدافعية والمهنية، بل وعلى العكس تخل بهيبة المؤسسة وسمعتها.
عواملٌ كثيرة ومتشعبة بعضها واقعي صحيح، وبعضها الآخر غير منطقي أو مبالغ في وقعه عززته في العقول دعاية التصارع وظروف أمنية ونفسية طارئة، انعكست على مستويات الاداء الذي كان متوسطها غير كاف لخطى اعادة البناء. فكانت على سبيل المثال غالبية الاعمال تنجز عن طريق اللجان، وأعضاء هذه اللجان، يبقون نظرهم شاخصاً على رئيس اللجنة، والشخص الاقوى فيها، ردود فعل غالبيتهم توفيقية كمن يريد أن يُمَشي الحال، أو يسقط فرضا.
ينظرون الى ما يبديه من رأي ليبدون رأيا متوافقاً لرأيه، واذا ما احتاجوا التصويت على موضوع مطروح، فان بعضهم يصوت، على وفق التوقع الذي يعتقدون انه ينسجم وما يريده رئيس اللجنة، ولو اعاد الرئيس التصويت على نفس الموضوع في الاجتماع اللاحق وبوجهة نظر تناقض الاولى، نجد نفس أولئك المصوتين يشيدون بوجهة النظر الجديدة على انها الصحيحة والدقيقة، ويصوتون لصالحها على النقيض من تصويتهم في الاجتماع السابق، ويخرجون من الاجتماع يضحكون وكأنهم غير معنيين بالامر.
الاثار الصدمية لفعل الحل
إن الجيش كمؤسسة عسكرية هو الركيزة الأساسية لضبط الأمن القومي، والطرف الفاعل في مقاتلة اعداء الدولة، قد شكل حله مشكلة جدية للعراق، إذ تكون فراغاً امنياً، أستمر العراقيون يدفعون ثمنه حتى نهاية عام 2012 وما بعدها، وبالمقابل فان توقيتات وظروف وطريقة إعادة تشكيله أضافت مشكلة أيضا، اذ عززت في بعض جوانبها الفراغ الأمني الحاصل في عموم العراق، باستثناء المحافظات الكردية. مشاكل تستحق التوقف عندها كثيراً في الطريق الى مناقشة واقع حاله وعموم القوات المسلحة الذي تكّونت بعد اعادة التشكيل، في الزمن الجديد.
ان البداية كانت مع قرار الحل بالطريقة الامريكية الغريبة المفاجئة، ذات الأبعاد العدائية التي قدمت بلاد وادي الرافدين طعماً سهلاً للغير من دول جواره والبعيدين عنه، ودفعت إلى الشارع بين يوم وليلة آلاف المنتسبين، التائهين، المصدومين نفسياً، حاملين على أكتافهم عبئ التلكؤ في القتال، وترك الثكنة والمقر مشروعاً للنهب، وحسرة ابقاء الأسلحة مبعثرة في المخازن والمشاجب وعلى حافة الطرقات، ليُستخدم بعضها بالضد منهم والدولة التي تعودوا حمايتها، فكانت كارثة شاركوا هم أيضاً بتحمل جزء من مسؤوليتها، وصدمة تفاعلت فيها حالتهم النفسية المتردية من نتيجة حرب خاسرة، مع قلق التيه الحاصل لما بعد الحل، فتسببت في القضاء على ما تبقى في دواخلهم من مشاعر الإحساس بالمهنية العسكرية.
إن حل هذه المؤسسة التي أُمرت من قبل سياسيي الزمن السابق غير الملتزمين، بارتكاب العديد من الأخطاء لثمان عقود متصلة، هو عمل:
- تم الاقتناع به أمراً واقعاً من غالبية السياسيين الجدد وان ادعى بعضهم العكس.
- وقف بالضد منه العرب المحيطين بالعراق باستثناء الكويتيين.
- راح ضحيته آلاف الضباط المدربين جيداً لتنفيذ الأوامر.
- دفع ثمنه العراق من أمنه واستقراره ست سنوات من الاضطراب، وثلاثة تبعتها من عدم الاستقرار يؤشر حدوثها أن الاضطراب سيتكرر بوقع أشد وخسائر أكبر وقد يستمر فترة أطول من التي مرت بالفعل.
- جاء في وقت تَغيير كان مصحوباً بفوضى الانتقال من شكل نظام إلى آخر على النقيض من طبيعته القاسية، فأثارت بين العسكريين والامنيين عديد من الأسئلة عن دوافع هذا الحل؟.
أسباب اللجوء إليه والناس تتجه إلى الانفلات؟.
دوافع الاصرار على تصفيته وبوادر الاضطراب تقترب من الحصول؟.
وعن خفايا القرار المتخذ، على العكس من منطق التعامل الذي يتطلب الإبقاء على مصادر القوة "المؤسسة العسكرية" فاعلة لبسط الامن والاستقرار؟.
أسئلة محيرة ومثيرة لعديد من علامات الاستفهام، لم يجد الذين تحملوا مسؤولية إعادة التشكيل وغالبية الضباط، إجابات لها بضوء خبرتهم العسكرية الطويلة وظروفهم النفسية الصعبة، فسار بعضهم مذهولاً وسط مجتمع هو الآخر مذهول من فرط القلق والترقب والعتب، حتى تكونت حالة ضعف في النفوس واستعداد للمشاركة في الاضطراب، زادتها عوامل أخرى ضعفاً مثل تفسيرات بعض الساسة غير الصحيحة لقرار الحل، وتبريراتهم غير المنطقية لحصوله، واللف والدوران من حوله، حتى زادت الشكوك وانتشرت بين الصفوف، كان أكثرها تكراراً وإثارة في الفترة الزمنية الانتقالية الحرجة، استنتاجين ترددا بين كبار القادة العسكريين والأمنيين:
أولهما الذي يستنتج أن حل هذه المؤسسة العريقة، جاء تلبية للرغبة الأمريكية في إعادة صياغة التوازنات بين العرب وإسرائيل، أو زيادة كفة إسرائيل كثيراً في مجالها، بإخراج العراق من معادلتها.....استنتاجٌ ذهب أصحابه للتأكيد على صحته إلى أيام الحرب العراقية الإيرانية، وما بعدها عام 1988، عندما تذكروا الحاح الأمريكان على خفض عديد القوات العراقية، وإعادة مستواها إلى ما كان عليه قبل الحرب. وهو استنتاج جاوز تأثيره السلبي تكوين الشعور بالإحباط وتقليل المعنويات إلى الاخلال بالثقة اللازمة بالجهة الأمريكية المعنية بإدارة البلاد، وإعادة بناء جيشه مهنياً.
وثانيهما، يستنتج أن ما جرى لجيشهم، كان بسبب خشية تكونت لدى الأمريكان من قيامه في حال بقاء تنظيمه وتسليحه سليماً بالانقلاب عليهم ومقاتلتهم قبل تحقيق أهدافهم، فتوجهوا إلى حـله وباقي الاجهزة بأسـرع وقت ممكن .... استنتاجٌ يدعمه اصحابه بشواهد ذات صلة بالتسليح والتجهيز، بينها ما كشفه المتحدث بإسم الجيش الأمريكي في العراق جيفري بيوكانن بتاريخ 12/10/2010 من أن واشنطن وافقت على تجهيز بغداد بطائرات أمريكية من طراز أف 16، بعد انسحابها الكامل من البلاد نهاية كانون الأول 2011. موعد وكانه قد جاء بالتأسيس على خشية استخدامها من قبل العراق بالضد من قطعاتهم قبل انسحابها نهائيا (5).
انها استنتاجات لم تأت في صالح الأمريكان ووجودهم داخل العراق، سبقتها توجهات فاعلة لعمليات نفسية معادية، دفعت بعض المنتسبين خاصة من أبناء مثلث الجزيرة، باتجاه العزلة الطائفية حماية للذات، وعززت بعض أوجه الاتهام، بعد أن أخذت كثير من الفضائيات والصحف المحلية والعربية على عاتقها ترويج بعض وجهات النظر، وتشويه الصور وزرع بعض المعتقدات، التي لا تنسجم واتجاهات التغيير إلى المجتمع الجديد، عززتها أساليب التعامل غير الصحيحة من قبل بعض الكتل والحركات السياسية، التي أفضت إلى حصول قدر من تجنب التفاعل معه كجيش جديد من قبل البعض، والنفور منه من قبل البعض الآخر...اتجاهات انفعالية، قربت أعداد غير قليلة منهم أو أوقفتهم مع الصف المعادي للنظام الجديد، ولعمليته السياسية.
وبالمحصلة أصبحت عملية حل الجيش، أحد عوامل تكوين وإثارة الاضطراب واستمراره، بعد أن أمد ساحته في السني الأولى على وجه الخصوص بمقاتلين متطوعين، وفنيين اختصاصيين، وقادة مجربين من بين منتسبيه السابقين، ألتحق بعضهم بصفوف المسلحين، وتعاون بعضهم مع الإرهابيين، وشكل بعضهم الآخر فصائل مقاومة، أقلقت الدولة والمجتمع العراقي طوال تلك السنين.
من هذا يمكن التأشير الى ان العملية "الحل" برمتها صدمة مؤلمة لمنتسبي الجيش والقوات المسلحة، خاصة الضباط منهم، وضباط الصف المتطوعين، جعلت من عاد منهم الى تشكيلاتها الجديدة ان يكون وسط دوامة القلق والترقب، الى مستوى انكار بعضهم في البداية، العودة الفعلية الى مؤسستهم العسكرية والامنية، خاصة من كان يسكن مناطق الضباط او تلك المضطربة أمنيا. ودفعت من بقي خارجها، أن يكون وسط مشاعر الحيف والحسرة على خدمة انتهت، وزمان وان لم يرض عليه، كان فيها عسكرياً يشار اليه في مواقف عديده فيها قدر من الاعتزاز ولو بسيظ .
أستمرار اتجاهات الصدمة
إن الصدمة التي نتجت من حل المؤسستين العسكرية والأمنية، لم تتوقف انفعالاتها، بل وتتابعت آثارها بعد ان تكونت أخرى معززة لها، من بين الطريقة التي أتبعها الأمريكان والحكومة المؤقتة والقيادات الميدانية، في تنفيذ عملية اعادة التشكيل، حيث:
- الاختيار وتوزيع المناصب حصصاً وتوازنات بين المكونات دون الاهتمام بالكفاءة والاقتدار.
- الأساليب غير الصحيحة للتعامل مع مستلزمات اعادة التشكيل ومع العسكر المعنيين به.
- قلة الدعم وشحة التخصيصات المالية ومساوئ التسليح.
إنها متغيرات كونت صدمة اداء ومعنويات، لم تسمح بتكوين مؤسسة أو جيش قادر على أن يكون ركيزة أمن دفاعية فاعلة، وكونت صورة كانت تنطبق على المراحل الاولى من التشكيل، اذ ان الاستعجال الوارد في مجاله والاعتماد التام لوحداته الضاربة في البداية على أعداد غير قليلة من المتطوعين غير المؤتمنين جنائياً ونفسياً، وعلى بعض الضباط غير المرتاحين من التغيير نفسياً، وقسم من المدنيين غير الكفوئين في التعامل مع العسكريين مهنياً، مما أخرَ عملية التشكيل المهني الذي تؤهله "الجيش" لان يكون أداة حسم رادعة، كما يتطلب الموقف الامني والسياسي الداخلي والاقليمي ذلك. وبصددها يمكن التأشير على ان عملية التشكيل كانت في أيامها الاولى:
- ناقصة، لم تؤمن الغاية المبتغاة في تحقيق الأمن وتجاوز الأزمة.
- اختيارات المنتسبين غير موفقة.
انه خلل يتحمل المسؤولية الاساسية عن حصوله الأمريكان الذين امتلكوا وحدهم صلاحية القبول والتعيين، ومن بعدهم الكتل السياسية المشاركة بالعملية السياسية يوم أقحمت في صفوف القوات المشكلة حديثاً بعض من جمهورها وبعض من المؤيدين لأفكارها، فتسرب الى الهيكل التنظيمي، خليط من المؤدلجين المسيسين، ومن الطائفيين الأميين، وبينهم أو في وسطهم آخرين وطنيين ومهنيين مقتدرين قد سرى الاحباط في نفوسهم، حداً أجلس بعضهم في صفوق المتفرجين.
إن هذه المواقف النفسية والاستنتاجات السلبية، التي أبقت الفعل العسكري في السني الاولى واهنا، حالةٌ صاحبتها أوجه خلل فنية وادارية واجتماعية، زادت من الوهن أو أدامت استمرار وجوده، لفترة كان العراق بحاجة ماسة إلى القوة لتحقيق الحسم في ميدان الأمن الداخلي، ومن بين أوجه الخلل هذه:
1. المزج الفلسفي غير المتجانس. كان أسلوب إعادة التشكيل الجديد، مزجاً بين الفلسفة والرغبة الأمريكية، وما تبقى من الخبرة والآمال العراقية، بطريقة أدى وجودها إلى أن يكون التنظيم العسكري والأمني في البداية، وبمستوياته القيادية العليا على وجه الخصوص، تنظيماً يبتعد نسبياً عن الأسس التنظيمية التي أعتاد العسكريون الملتحقون إلى الخدمة الجديدة من مؤسستهم السابقة، العمل على وفق صيغها، ولا يتناسب والمعايير الضبطية التي اعتادوا إصدار الأوامر على وفقها، والتنفيذ في حدود قوانينها، كما لا يقترب ولو قليلاً، من التوجهات والقدرة الأمريكية في التسليح والتجهيز والأداء، التي يُنظر إليها على إنها الأقوى والأكثر تقدماً في العالم. كما إنه أسلوب تأسس على ذات الطريقة المتبعة في إدارة العملية السياسية، جعل التنظيم الجديد يحمل في تركيبته أمراضاً، انتقلت إليه من النظام السياسي الجديد، زادت من ضعفه بعد أن أخلت بوحدته وبتجانسه المفروض:
آ. قوميا. إذ أدت طبيعة التشكيل الجديد إلى وجود وحدات وتشكيلات كردية بالكامل، وأخرى عربية تخلو من أي كردي، أو تركماني بالكامل أيضاً.
ب. مناطقياً. لقد تسببت طريقة التشكيل بتأسيس وحدات، جل ضباطها وضباط صفها وجنودها من منطقة واحدة لخدمة المنطقة ذاتها، حتى بات تحريكها، أو المناورة بها لأغراض الحركات عامي 2004 و2005 على وجه الخصوص أمراً صعباً.
ج. طائفياً. إذ أمتنع عند الشروع بالتشكيل، غالبية العرب السنة من التطوع في الجيش الجديد، وسارع غيرهم إلى الالتحاق بقوة، فتكونت أغلبية شيعية مطلقة في جميع الوحدات، وفي أكثر المفاصل القيادية.
2. غياب المسؤولية المرجعية. لو عدنا بالذاكرة في هذا المجال إلى أيام التشكيل الأولى، نجد أن الخطوات التي تم البدء باتخاذها لتأمين هذا الغرض، كانت قد تأسست في الأصل على جهود واجتهادات عدة أطراف تعاونت فيما بينها لإنجاز المهمة، وعلى توجهات من عدة جهات بادرت للمساهمة غير المباشرة في إتمام المهمة، وبسياقات متعددة، بينها:
- شركة أمريكية، يديرها ضابط عراقي سابق متجنس أمريكيا، أخذت على عاتقها جلب متطوعين ومدربين.
- وسائل إعلام محلية، أعلنت الدعوة إلى التطوع والالتحاق.
- التحرك الحثيث لعموم الأحزاب المشاركة بالحكم بحصة كانت الأعلى في تهيئة أضابير المتطوعين، وإصدار أوامر تعيينهم بداية التشكيل.
- العلاقات الخاصة بين الضباط الملتحقين بالخدمة الجديدة، ودعوة معارفهم من ضباط الجيش السابق والمتقاعدين إلى الالتحاق.
- التدخل المباشر لبعض المستشارين العراقيين العاملين في مجلس إعادة إعمار العراق الذي أُنشأ قبل الحرب بقليل بتفاهم خاص بين وزارة الدفاع الأمريكية وشركة SAIC المستقلة من معارضين بينهم ضباط أُخذ رأيهم في إعادة تشكيل الجيش وفي توزيع الرتب والمناصب(6).
إنها جهود، أو نوع من التحرك في الأيام الأولى للتشكيل الجديد، كانت الاستجابة إليها نوعية، اقتصرت على ضباط من الوسط والجنوب، يعتقدون أنهم قد واجهوا تمييزاً في أسناد المناصب زمن صدام وحكم البعث، وقليل من الضباط من شمال الوسط وغربه والشمال العربي، المتضررين من حكم صدام، والمحتاجين لتغطية نفقات العيش الصعبة، ومن بعدهم ضباط أكراد، عادوا بتنسيق مع الأحزاب الكردية المشاركة في التغيير والعملية السياسية.
من هذا باتت التشكيلة الجديدة للجيش الجديد، ضعيفة ومثيرة للاتهام بالطائفية والانحياز من قبل باقي الضباط، الذين امتنعوا هم من العودة بدوافع الشعور بالخطر، حيث الاستهداف شبه المنظم للعائدين. وتحت ضغط الأفكار والتصورات ذات الطبيعة الطائفية "المبالغ فيها"، التي تكونت في ذاكرتهم عن الحكم الجديد وأداته العسكرية والامنية، ومواقف الضد من النظام الجديد، التي دفعت بعضهم الى المشاركة بمقاتلة هذا التشكيل الجديد، في ساحة قتال تكونت ملامحها الجغرافية والايديولوجية في المحيط القريب من أصولهم السكنية.
جدوى المطالبة بإعادة الجيش السابق
لقد غلفت الدوافع السياسية والاهداف الدولية الاستراتيجية أمر حل الجيش والمؤسسة الامنية، وإعادة تشكيلهما من جديد كما ورد في أعلاه، دوافع لم توقف جهود مقابلة لها في ساحة الصراع، كونت دعوات للمطالبة بعودة مجردة لكل المنتسبين الى تنظيم تلك المؤسستين، مغلفة بالعوامل السياسية والذاتية، وبالضغوط الاقليمية والطائفية، فزادت من عتمة الموضوع وتعقيداته، واسهمت في وضع العصي في عجلة المؤسستين الناشئتين، فاخرت امكانية الحصول على قدرات عسكرية عالية "الجاهزية"، وابقت الخروق الامنية ماثلة حتى تاريخ اصدار الكتاب (2012)، وأوجدت من وسطها، دعوات وافكار بالعودة الى سابق العهد، مؤسسة عسكرية عراقية بنفس أسس القيادة والتنظيم. ومع هذا فإن المطالبة والافكار الناتجة عنها، وإن كانت بعض جذورها تعود إلى مشاعر وطنية وحرص مهني لا يمكن انكارها، وبعض أهدافها ترتبط بالحاجة الميدانية لفرض الأمن لا يمكن تجاوزها، فإنها وبعد انقضاء عقد من الزمان على الخروج من الخدمة، وعمق الانقسام الطائفي، وشكل المحاصصة في إدارة الدولة والمجتمع، ووجود قدر من الرغبات الكامنة لتعويض الشعور بالخسارة، وتجاوز الإحساس بالذنب، تصبح مطالبة غير مجدية من الناحية السياسية، تفوق فيها عوامل التصارع تلك الجذور الوطنية، والحاجة الميدانية، ولا يتعدى الالحاح حولها من الناحية السياسية، معنى المناورة، وتصبح من الناحية العملية غير واقعية، لأن:
- الدوائر والوحدات والتشكيلات الجديدة، أخذت مكانها في ساحة العمل والتدريب والقتال، واحتلت قياداتها، حيزاً في التأثير النسبي بالقرار الأمني، وبدأت مصالحها تتسع وتترسخ حداً يدفعها إلى الوقوف في الصف المواجه للعودة الى سابق العهد، وإن لم تعلن عن مواقفها هذه بصراحة.
- أوليات المؤسستين الغائبتين، ووحداتهما المقاتلة والساندة والخدمية قد تناثرت وانتهت تماماً، ومراتبهما قد توزعوا على بعض الدوائر والوحدات الجديدة، وبين صفوف المليشيات والأعمال الحرة.
- مخزون الاسلحة قد صفي تماماً، والمعدات والأجهزة قد بيعت إلى بعض وكلاء دول الجوار، ولم يتبق منه شيء والحالة هذه، يدفع أهل السياسة "مع افتراض حسن النية" للسير في طريق الإعادة الهيكلية، ولا حاجة ترغمهم والحكومة على ذلك.
- الكثير من كبار الضباط غادروا البلاد، ولا ينوون العودة في ظروف مشابهة لظروف مغادرتهم، وأسماء بعضهم مدرجة في قوائم استهداف خاصة بهم، والتنفيذ لها قد بدأ بشكل منظم عام 2005 ومن بعده بمستوى أقل، حتى إن أعمال الاغتيال الخاصة بالضباط، وبعد انحسارها طيلة السنوات التي أعقبت عام 2007 فإنها قد نشطت ثانية خلال الأشهر التي أعقبت انتخابات عام 2010 وتكررت بمسدسات كاتمة الصوت إلى مستوى قدّره بعض الضباط منتصف السنة المذكورة بما يزيد عن الخمس حالات في اليوم الواحد أحياناً.
إن المسألة لم تتوقف عند واقع عدم إمكانية إعادة المؤسسة العسكرية بجيشها السابق، بهيكليته التنظيمية عملياً، بل وتتعداها إلى عدم إمكانية إعادة ضباطها القدامى بجميع رتبهم أيضا، لأن توليفة الجيش الجديد التي أريد لها ان تلبي الحاجة الفعلية لمكافحة الإرهاب في الداخل، قبل ان يكون أداة لمقاتلتهم وردع متوازنة مع جيوش دول الإقليم في الخارج، جعلت غالبيته في السني الأولى من صنف المشاة، بأسلحة خفيفة وطيران سمتي بسيط، لأغراض النقل الميداني ومكافحة الارهاب، وقوة بحرية محدودة، مع صنوف خدمية إلى وقت قريب. مما يعني أن هيكليته التنظيمية لا تمكنه من استيعاب آلاف الضباط من كافة الصنوف، ومئات الضباط القادة والركن الذين كانوا يشكلون سبعة فيالق وفيلقين للحرس الجمهوري والخاص، مما يجعل العودة الجماعية لهؤلاء الضباط وضباط الصف بغض النظر عن الارادة السياسية، غير عملية، ويجعل التشكيل الجديد للجيش الجديد، وإن افترضنا وجود الرغبة في إقامته على أعقاب الجيش السابق، فإن فرقه الأربعة الأولى عام 2005 والسبعة عشر عام 2012، لا يمكن أن تستوعب ربع منتسبي الجيش السابق من الضباط الأعوان وضباط الصف، وأقل من 10% من الضباط القادة وهيئات الركن في أحسن الأحوال.
عليه تصبح العودة إلى ما كان في السابق مستحيلة، وضرب من الخيال. وهنا يقتضي المنطق العلمي للبحث والتحليل التأكيد على ان المؤسسة العسكرية وجيشها القديم قد انتهيا مع شديد الأسف، ولا يمكن العودة بهما إلى حالهما، كما كانا في سابق العهد، وإن صفحتهم الممتدة طويلاً قد طويت تماماً، ولا يمكن فتحها ثانية، وبدلاً منها لابد من ترك الماضي الملبد بالسواد والنحيب على الاطلال، والسير قدماً إلى الأمام في جهد مشاركة جماعي لدعم الجهود المبذولة لتقوية ودعم الجيش الجديد ليكون:
- مهنياً وطنياً غير مسيساً ولا مؤدلجاً.
- فيه حصة نفسية للجميع.
- قادراً على حماية الحدود التي فتحت وتحقيق الردع المطلوب.
- والأهم منها ترك انطباع إيجابي يزيل من الذاكرة الحيف الذي حصل من حل الجيش القديم(7). كذلك يمكن التأكيد منطقياً على أن المؤسسة العسكرية العراقية التي حُلت كنتيجة للحرب التي خسرتها الحكومة السابقة، قد أصبحت بمرور الوقت غير القليل على حلها تاريخاً، من غير الممكن العودة به وبها إلى البداية أي الى الايام السابقة عملاً وتعاملاً واتجاهاً، بعد ان اصطبغت بصبغة مختلفة، وأصبحت واقعاً جديداً، لا مجال للعسكر والسياسيين الا ان يتعاونوا في جهودهم لدعمها، وإصلاح أخطائها، وتعزيز الصحيح في مسيرتها، ليتجنوا سوية والدولة الاستجابات غير المحسوبة من وسطها، الذي نزف من فرط هدم بنيته لاكثر من تسع عقود.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
http://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/30744-2017-06-30-17-24-39.html
1050 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع