د.سعد العبيدي
وأد البطل نهاية جيش وملحمة وطن
رقم الايداع في دار الوثائق والكتب في بغداد ٢١٠٢ سنة ٢٠١٢
لا يكفي اعلان العراق، دولة ديمقراطية، دون جيش مهني
يساعد على وضعه بالمرتبة الملائمة بين الدول الديمقراطية
اهـــــــــــــــــداء
الى كل العسكريين العراقيين الذين ادوا مهامهم بكفاءة واقتدار.
والآخرين السائرين في الطريق الطويل لتأديتها بامتياز.
اهدي هذا الجهد المتواضع.
آملاً في ان يعطي تفسير لنهاية جيشهم العريق في ظروف صعبة.
وسعياً لتكوين أمل لـعودة جيشهم الجـديد فـي ظروف اصعب.
عناوين الكتاب
فكرة الكتاب
الباب الاول: الهدم المنظم لاسوار العسكر
الفصل الاول: اوليات الهدم وجسامة التأثير
نظرة من زوايا البداية
خصائص غابت في طريق الهدم
الفصل الثاني: عوامل ساعدت على التسريع بعملية الهدم
العوامل المساعدة
اصول البيئة العراقية
ضعف التركيبة البنائية
اضطرابات الذات القيادية
خيانة الامانة المهنية
حرف الولاء الوطني
الفصل الثالث: الدور المليشياتي في عملية الهدم
المليشيات نموذجا
التسلل المليشياتي بعد التغيير
التأثير المليشياتي في عملية الهدم
الفصل الرابع: الانقلاب العسكري في عملية الهدم
الوضع العسكري ما قبل الانقلاب
انقلابات نجحت في اتمام عملية الهدم
رشيد عالي الكيلاني
14 تموز 1958
18 شباط 1963
18 تشرين 1963
17 تموز 1968
محاولات لم تنجح لتنفيذ الانقلاب
الانقلاب العسكري وعملية الهدم البنيوي
الفصل الخامس: الخروق الدارجة لقوانين الخدمة
مصادر الخدمة العسكرية
الخروقات الدارجة
الفصل السادس: التسييس المؤدلج
عملية التسييس
التبعييث
الباب الثاني: الحروب في عملية الهدم البنيوي
الفصل الاول: الحرب العراقية الايرانية
حالة الجيش العامة
ادارة اعمال القتال
الفصل الثاني: حرب الخليج الثانية
نهاية حرب وبداية أخرى
خطة التنفيذ المخابراتية
الاجتياح والتحضير الى المعركة الدفاعية
القصف الجوي وفعل الهجوم البري
الانسحاب السياسي
الحرب حتمية هدم منظم
الفصل الثالث: الحرب الخليجية الثالثة
الاهداف النفسية للحرب
المعركة الحاسمة في بغداد
هلع القوات المدافعة عن بغداد
الهدم النفسي
الفصل الرابع: حرب الارهاب الداخلية
نظرة عامة
الاستعدادات المنقوصة
الاعاقة في جوانب الاعداد
الفصل الخامس: آثار الحروب في عملية الهدم الاجتماعي
المسؤولية الاعتبارية
الآثار الاجتماعية المباشرة
الاثار الاجتماعية غير المباشرة
الباب الثالث: حرب البناء المؤسسي
الفصل الاول: البنية العسكرية بعد التغيير
البداية
الاثار الصدمية لفعل الحل
جدوى المطالبة باعادة الجيش السابق
الفصل الثاني: معوقات اعادة التشكيل والبناء
التعقيدات الحاصلة
الترهل الكمي
الوهن القيادي
الوسع المسافي
التعب التراكمي
الانضباط التوفيقي
التخطيط العشوائي
المسخ المهني
الوطنية المجزأة
الامن المخترق
الأعباء المنقولة
الفساد الذمي
التفكك الوظيفي
الايهام العمدي
الفصل الثالث: الهيكلية التنظيمية الجديدة
مدخل
واقع الهيكلية التنظيمية في بدايتها
الآثار السلبية لاضطراب الهيكلية التنظيمية
التعامل مع واقع الهيكلية التنظيمية
الفصل الرابع: المؤسسة العسكرية في العهد الديمقراطي
الفهم الخاطئ للديمقراطية
حيادية العسكر في النظام الديمقراطي
الفصل الخامس: النفاذ الحزبي المعاصر
اتجاهات النفاذ الحزبي
المبالغة بالنهج التحزبي
الباب الرابع: حرب الامن الداخلي
الفصل الاول: الامن الوطني
معايير الامن الوطني
التجاوز على مهام الامن الوطني
الفصل الثاني: الاجهزة الامنية في معارك الداخل
تمادي الاجهزة الامنية
جهاز الامن الخاص
جهاز المخابرات
الامن العامة
الاستخبارات العسكرية
العمل الامني المشترك
الفصل الثالث: النتائج السلبية لتعامل الاجهزة الامنية
جاهزية التهم
القلق التقييدي
التفتيت الجماعي
التيه الفكري
الاغتراب الوطني
الفصل الرابع: فك القيد المحكم
الزاوية النفسية
الزاوية الغيرية
الفصل الخامس: الحرب على الفساد
الانحراف
الفساد المؤسسي
المنافذ الرئيسية للفساد
العوامل الرئيسية لانتشار الفساد
الآثار المترتبة على الفساد
التعامل مع الفساد
الفصل السادس: المعركة الامنية في الزمن الجديد
الوضع الامني
القدرة التنفيذية
الجهد المعلوماتي في القتال الداخلي
معاضل التسليح لقتال داخلي
العامل السياسي في القتال الداخلي
العامل الشعبي في القتال الداخلي
الحرب النفسية في ساحة القتال الداخلية
تقييدات انتاج القرار الامني
مستلزمات النجاح ٥٣٠
فكرة الكتاب
البطل المعروف في ذاكرتنا، صورة بطل، او خيال عتمة مشوشة لذكرى بطل، وسط لهاث شديد، خلف ما نريده أن يكون البطل.
نرمي على اكتافه همومنا، اوجاعنا، مآسي الحياة والعمل.
كنت واحدا منهم، ركضت، فتشت عنه، وكلي أمل فوجدت بعد خمسين عاما من الخدمة المستمرة في ثكناته وساحاته وابنيته وحروبه وسجونه، انه الجيش، وان زمانه قد أفل. ووجدت انه أستُغِلَ وأستَغَلَ واسَتنجدَ به كل الحكام والامراء. ارادُوه بطلا يحمل سيفا، يحمي عرشا، يخيف التعساء. وارادَه الابناء اللاهثون، رمزا وطنيا، يتفيئ بظله الضعفاء.
فهل حقا كان هو البطل، وهل تصرف هكذا في ساحة الوفاء؟.
وهل جاء مطابقا لما اراده الاوائل، ان يكون كذلك بطل، يتسم بالرفعة والشهامة والكبرياء؟
خمسون عاما من اللهاث، نهايتها مخيبةٌ، وآمال جوفاء. حقيقتها وهم أو اقرب الى الوهم او انها موجودة فقط في عقول الخطباء.
البطل، يُنقذ شعبه، يُخلص قومه، يقارع الريح الصفراء. بطلنا الرابض في العقل المتعب من سعير الحياة، يستلم وعاء الزيت من الكبار، فرحا، لا يلتفت الى الوراء.
يصب ما فيه على النار، ليزيد سعيرها، ويقتل معنى البطولة في نفوس الشرفاء.
البطل في الاسطورة وفي واقع الحياة، يحرس الابناء، يرفع الراية الخضراء.
بطلنا الماثل في النفس القلقة، يُلبسه الكبار عباءة انقلاب صفراء. يلوح من تحتها مسرورا، بسلاح ناري. يقتل حاكم، يُنصب آخر، يسفك الدماء.
حتى ايقنت قريبا من النهاية، ان لا وجود له بطل، الا في خيال البسطاء. وأيقنت ان من يريد التكلم عن البطل، عليه ايقاظ اولئك القدامى، بدفاترهم، وخططهم، ونواياهم الخرساء.
يستعرض مسيرتهم، يتابع الاجيال التي تَلَتهم، والاحداث التي صنعتهم، وتلك التي صنعوها، وباقي النجباء. يضعهم امامه، يحاكيهم، يفهم منهم، ما ارادوه ومالم يريدوه، وما حصل لتسع عقود من زمن جله بكاء.
كان مشروعهم في الحقيقة انتاج بطل، وكانت محاولاتهم، ومن جاء بعدهم مساع للمحافظة عليه رمزا ومحجا للاتقياء. جميعهم صُدّوا، أحبطّوا، شاهد ابنائهم ومن جاء بعدهم كيف وُأِدَ البطل وانهدم البناء. فأين ذهبت محاولاتهم ودماء الشهداء؟
وأين جيشهم، وكيف غاب في ساحة العواصف الهوجاء؟.
ومن هو المسؤول عن وأده وموت الابناء؟.
الحاكم أم المحكوم. الطموحات أم الاهواء؟.
كيف حصل هذا، وكيف تخلى الكبار والصغار، وكيف صد عن مدحه الشعراء؟
تاريخ طويل وأحداث كثار، ومثلها أخطاء. وأكثر منها أوهام، وخذلان، ومشاعر احباط، يتذكرها الاحياء. مادة تجمعت في هذا الكتاب، من بحوث، ومقابلات، وشواهد، وحكايات، غلب عليها العرض والتحليل، فرشةً ملونة للقراء. غايتها اعطاء القارئ فسحة لان يعيد رسم الصورة الحقيقية لبطله، ومجموع خيام بعثرها الهواء.
لقد تناثرت الخيام، وانتهى الرمز الذي اريد له أن يكون بطلا قوي البناء. تقطعت أوصاله اشلاء. وسط ساحات القتال، بخناجر الاعداء والاصدقاء.
تناثرٌ أو حالُ هدمٍ، وازاحة وتهميش وتوريط في طريق البطولة الطويل، حاولت أن أُثبتها في ابواب هذا الكتاب، عسكريا ونفسيا وسياسيا. اقدمها، ممزوجة بخبرة عملية، لمن يشاء.
عسى ان يجد فيها تفسيرا لعملية الوأد وكيفية الهدم، ومن كان وراء هذا البلاء.
المؤلف
بغداد أيلول 2012
الباب الأول
الفصل الأول
اوليات الهدم، وجسامة التأثير
نظرة من زوايا البداية
تأسست جيوش الدول الحالية، وما قبلها جيوش العصور السابقة، وفقا للمفاهيم العسكرية المنظمة على ثلاث اعمدة رئيسية هي الانسان، مقاتل وداعم في القتال. والسلاح كاداة فاعلة للقتال. والمعدات والتجهيزات كعامل مساعد لاتمام فعل القتال. لكننا هنا وفي هذا الكتاب ولغاية قوامها تاشير طبيعة الهدم الذي شمل المؤسسة العسكرية العراقية وجيشها العريق، بطريقة وكأنها حكمت بالموت منذ اليوم الاول لمولدها. ولهذا سنتجاوز العمودين الاخيرين من تلك الاعمدة أي الاسلحة والمعدات، ونحاول التركيز على الانسان العسكري، قائدا اسهم في البناء والتطوير وآخرا شارك في الهدم والتدمير، ومقاتل نفذ اعمال الهدم والبناء. أحداث صاغها القادة العسكريون والسياسيون، وتدخل في بعض تفاصيلها الاجنبي، مهدت لعملية هدم شبه منظم، ابقت هذا الجيش الذي صنف خامسا في العالم، جسدا يحتضر لعشرات السنين، ينتظر طلقة الرحمة التي جاءته سهلة على يد الاحتلال.
أعمال تجاوز واتجاهات خلل وعوامل وهن في التنظيم والتخطيط، اصابته مقتلا لا يمكن منه النجاة. سنحاول تناول موضوعها باسلوب السرد التحليلي، من زوايا التاريخ والسياسة وعلم النفس، دون التجاوز على الزوايا الظرفية التي تأتي، مواتية لبلوغ غاية العمل هدما او بناءا في بعض الاحيان. فوجود قائد عسكري مقتدر قد يوقف عملية الهدم، ويعيد حسابات البناء، وينقذ الموقف، مثل مونتغمري في الحرب العالمية الثانية الذي اسهم في تحويل الهزيمة الى نصر.
ووجود موقف قتالي صعب مثل معارك المحمرة عام 1982 وما بعدها شرق البصرة، والفاو الاولى في الحرب العراقية الايرانية، حتمت قيام القادة الميدانيين بزج وحدات في اعمال قتال قبل اكتمال جاهزيتها، تفاديا لخسارة حرب او مخافة قائد اعلى للحرب.
ودفع فرق عسكرية والوية وافواج باعمال هجومية او دفاعية يتفوق فيها العدو بعشرات المرات (خرج اللواء التسعين من معركة خاسرة عند نهر جاسم على خط الحدود الدولية مع المحمرة عام 1986 لم تبق من قوته العمومية ما يزيد عن سرية مشاة، وقبل الشروع بالتمتع بالراحة اللازمة، واعادة التنظيم وسد النقص الحاصل بالاسلحة والعتاد والاشخاص، طلبت منه القيادة العامة للقوات المسلحة الهجوم على الموضع الدفاعي الساقط للواء التاسع والعشرين مباشرة، دون ان تلتفت الى قناعات آمره العقيد الركن فؤاد حسين علي وقائد فرقته الخامسة اللواء الركن صلاح عبود، التي تؤكد عدم أهلية اللواء لاستعادة الموضوع الدفاعي الذي يحتاج الى قوة بمستوى فرقة مشاة، ومع هذا اصرت على معاودة الهجوم، مصحوب بتهديد الاتهام بالتخاذل وتلقي عقوبة الاعدام ميدانيا.(1). وبالنتيجة لم يستعاد الموضع الدفاعي الساقط للواء الا بهجوم منظم لقوات من الحرس الجمهوري تزيد عن فرقتين متجحفلتين).
إنها أعمال ساهمت بتوافقها مع أخرى غير صحيحة، بزيادة حجم الهدم النافذ في البنية العسكرية.
وقبول القيادة السياسية، مواجهة قوات التحالف الدولي في حربي عام 1991 و2003 في ظروف تغير دولي بموازين الصراع، وتعزيز خطى العولمة وسياسة القطب الواحد، اسهم في هدم آخر دعامات البناء العسكري.
ظروفٌ على المستوى الاستراتيجي، لم تؤخذ بالحسبان، ومثلها أخرى على المستوى التعبوي، لم يأخذها القادة في الاعتبار، وبدلا من أخذها بالاعتبار، وحساب تأثيراتها على النتائج المبتغاة، لجأ بعضهم في أشتداد مصاعبها وحصول الحرج، الى التعامل مع المعية المطلوب تهيأتهم باساليب يغلب عليها التجريح، والطلب المجرد لتنفيذ الاوامر، والقاء المحاضرات، بتكرار ممل لكلام يغلب عليه التهديد، ظنا منهم انه كفيل بالتأثير على السلوك باتجاه البناء المهني وحسن التنفيذ، فأكتملت سلسلة الهدم في البناء نفسيا وماديا، دون ان يدركوا ان الكلام وحده، والتوجيهات المكررة وحدها، ومعهما التهديد المبطن، لا يمكن ان تكون فاعلة وحدها لتكوين بناءا رصينا للاداء الصحيح والدافعية المعقولة، ولا يمكن أن تكون مجدية وحدها لتعليم السلوك القتالي المطلوب، اذ لو افترضنا ان آمر السرية قد جمع جنوده قبل البدء بالتقدم الى خط الشروع، والقى عليهم محاضرة طويلة عن الشجاعة والتضحية وروح المواطنة وهددهم بشكل مبطن، وتناول بعض مساوئ السلوك، وصادف أثناء المسير الى الخط المذكور موقفا تعبويا "قصف معادي" ارتبك فيه الآمر ولجأ الى الصراخ واصدر اوامر متناقضة، سيفسر عندها آمري فصائله ومعظم الجنود سلوكه خائفا او غير متمكنا من قيادتهم، الامر الذي يضعف معنوياتهم ويقلل من دافعيتهم للقتال، وبالتالي اصبح كلامه الحاصل قبل قليل، عامل تأثير سلبي يتندر حوله المنتسبون، ومتغير سلب يسهم في الهدم البنائي للنفوس.
وأصبح من الشائع، التوجه الى التكلم عن موضوع الخطأ او الظاهرة غير السوية، باسلوب المحاضرة التقليدي، وأفتراض استيعاب المتلقين، طبيعة الدرس، امتلك في مجالها الجيش، خبرة طوية، وامتلك القادة والآمرين والموجهين، باع طويلة، جاءت نتائجها في الحروب والأزمات على الاغلب سلبية.
ومع هذا الحاصل أصروا على السير في طريقها، وأنشأوا دائرة ومقرات مختصة للتوجيه والتثقيف السياسي "الحزبي" جل عملها الكلام، حملوها مسؤولية القاء المحاضرات التوجيهية، الناصحة، المحذرة، الواعدة، وشيدوا لترويج الكلام قاعات في المقرات، وأقاموا دور استراحة سميت باستراحة المقاتلين على طرق التنقل للتشكيلات والفيالق والفرق، باتت تغص بالمحاضرين والمستمعين، لم تنفع ساعاتها الطويلة، باضافة جرعة دفع في عمل هجومي أو صمود بقتال دفاعي، لم يجري الاستعداد والتهيؤ لهما بشكل مهني جيد، ولم تحسب ملائمة الظروف لهما، بشكل مقبول (2).
البعد الامني في العمل العسكري
لقد كانت البداية التأسيسية للجيش العراقي، في ظروف داخلية صعبة أعطته وعموم المؤسسة العسكرية بعدا أمنيا داخليا أكثر من البعد الدفاعي الوطني، حتى عد بعض المحللين أنه تأسيس كان محكوما برؤية استراتيجية محددة. استطاعت في بداية القرن العشريين أن تضع الخطوط الأساسية لمستقبل العراق السياسي على نحو مهد الطريق سهلا لصناعة ألغام أمنية "أزمات" بثت على طول طريقه الوعر (3). وعموما فإن البريطانيين الذين أرادوا بدايته جيشا بديلا عن جيشهم في التعامل مع الوضع الداخلي للعراق، هم أكثر من أضفى على مشواره الطويل وباقي افرع القوات المسلحة الصيغة الغربية، البريطانية.
تنظيما: على مستوى دوائر ومؤسسات المقر العام، والتشكيلات الميدانية "فرق، ألوية، افواج، فسرايا وفصائل".
تدريبا، وتعبية لاساليب القتال على وفق السياقات البريطانية.
بقيّت غالبية مفرداتها وصيغها قائمة بشكل عام منذ التأسيس حتـى السني الاخيرة التي سبقت حله عام 2003.
لقد بات معروفا، أن من أقترح تأسيسه هو السير برسي كوكس أثناء مؤتمر القاهرة في 12 آذار 1921، باجتماع حضره العراق بوفد منه كمعتمد سامي، والجنرال ايلمر قائد القوات البريطانية، والمس بيل السكرتيرة الشرقية للمعتمد السامي، والعقيد سليتر المستشار المالي، وأتكنسن مستشار الأشغال، والميجر ايدي مستشار الدفاع بالوكالة، وعراقيان هما جعفر العسكري وزير الدفاع في حكومة النقيب المؤقتة، وزميله حسقيل ساسون وزير المالية، اللذان مثلا في اللجنة كاستشاريين يحضران اجتماعاتها عند الحاجة إليهم وبطلب من الآخرين(4).
انها صيغة تأسيس تعني ان هناك قيما وضوابط عسكرية عثمانية بريطانية، تفاعلت فيما بينها، فانتجت قيما عسكرية للقوات المسلحة العراقية تعتبر مناسبة تماما لتلك المرحلة الزمنية، خاصة لما يتعلق بالضبط والالتزام وتبادل الاحترام، وتقدير الخدمة العسكرية وطنيا.
اختراق الجدار المهني للبنية العسكرية
لقد استمرت الصيغ الاولى التي ارادها مؤسسو الجيش على ماهي عليه، حتى عام 1958 حيث التغير الواسع لما يتعلق بالتسليح والتجهيز الذي اتجه شرقا، والقيم العسكرية التي هوت انحدارا، والسياسة التي اخترقت جدار بنيته الرصينة، من خلال اختلاط العسكر باحداث الشارع، وانفعالاته السلبية. عدوى الحزبية التي انتقلت بعض معالمها عن طريق الوجبات الاولى للضباط الموفدين للدراسة والتدريب في الاتحاد السوفيتي. ومن خلال مساعي الضباط الحزبيين، البعثيين والقوميين العرب والشيوعيين الموجودين في الخدمة، الساعين الى نشر افكارهم وزيادة الكسب التنظيمي لاحزابهم. اختراقٌ، بدأ ذلك العام، وما بعده في كل الاعوام التي تلت، فتسبب في حصول تغير او تصدع في بنية القوات المسلحة، بعد ان ارسى قواعد تقاطع سياسي، وصلت مستوياته في بعض المراحل الزمنية، الى التصادم العلني بين الاحزاب النافذة في الوحدات والتشكيلات القائمة آنذاك، كل يجري بالاتجاه الذي يضمن له السيطرة عليها "القوات المسلحة" كأداة مهمة لفرض النفوذ على السياسة، وكان نصيب الشيوعيين من هذا التصادم في بدايته استحواذ على شريحة المراتب حتى عام 1963، باعتبار الحزب قاعدة للعمال والفلاحين والمحرومين، ونصيب البعثيين استحواذ واضح على مستوى الضباط، زاد بشكل كبير ليشمل عموم الضباط والمراتب بعد عام 1968.
ان هذا النوع من الاستحواذ السياسي، سبقه أستحواذ اجتماعي لا يخلوا من السياسة، اذ أقتصر القبول الى الكليات العسكرية والامنية، بداية التاسيس ولغاية عام 1958، على ابناء الذوات والعوائل المعروفة سياسيا وعسكريا وعشائريا، حتى ان المؤسسة وعندما شعرت بالحاجة الى المزيد "سد النقص الحاصل بالرتب الصغيرة بسبب التوسع بالتشكيل" بعد فترة قصيرة من التاسيس، توجهت الى العشيرة لتكون معينا لها، ومن ابناء شيوخها حصريا، يدخلوا دورات قصيرة، ويمنحوا الرتبة العسكرية، وان لم يحوزوا على الشروط المتعلقة بالتحصيل والعمر، فأخل الاستحواذ هذا بمستلزمات المهنية فنيا ومعنويا حتى بات هذا الامر اي تطويع ابناء العشائر كضباط في الجيش، موضوع استمر العسكريون المحترفون يتداولونه نقدا الى ستينات القرن الماضي، وعنه راجت عدة روايات تتعلق اغلبها بدوافع التطويع، بينها محاولة سحب العشيرة الى داخل جدار الدولة الامني، وربطها بمصالح تلزمها ان تدافع عن الدولة في ظروف باتت اغلب المشاكل تأتي من بين صفوفها.
وبينها ايضا ان الملك فيصل الاول قد استشعر الانحراف المذهبي للجيش الذي ابتعد عن الجنوب العراقي بسبب موقف المرجعية الدينية من الانتماء اليه، وسعة تأثير الضباط المؤسسين الذين ينتمون جميعهم الى طائفة واحدة، ادى الى ان يسهل كل منهم لاقاربه وابناء مدينته الدخول الى الكليات العسكرية الفتية "تأثير التوسط في القبول" مما تسبب في ان يكون سواد الضباط في الجيش والشرطة ودوائر الامن من اتجاه مذهبي واحد، ومن عشائر ومناطق محددة، صبغت القوات المسلحة بصبغة الخصوصية على حساب العمومية. خرقٌ، استشعره الملك "حسب هذا الرأي" فأمر بفتح دورة خاصة لابناء عموم العشائر العراقية "أولاد شيوخها" ليمنحوا رتبة ملازم في الجيش، الا ان القادة العسكريين الموجودين في قمة الهرم العسكري والمؤسسة الدينية اسهما من جديد في ان يكون غالبية المنتسبين الى الدورة من العشائر ذاتها الموجودة في أعلى وسط وشمال العراق التي رحبت بالفكرة ودعمتها بالكثير من الشباب، في الوقت الذي امتنعت فيه غالبية العشائر الجنوبية "باستثناء القليل" لنفس الاسباب المذكورة، فدخل الى الدورة قليل من ابنائها، سجلوا حضورا وان لن يلبي رغبة الملك التي ارادها، فقد فتح بابا كانت موصدة، لآخرين، دخلوا منها الى صفوف الجيش، بتزايد متتابع لم ينه خلل التجانس، المخل بمشاعر الانتماء الى الوطن، التي كانت من أهم عوامل الهدم.
اوليات الانحراف في العلاقة مع الدولة
لقد مرت المؤسسة العسكرية بمراحل صعبة منذ تأسيسها بعد أن وقفت المرجعية الدينية الشيعية بداية
بالضد من التطوع الى صفوفها، فكان بالمقابل اصدار قوانين التجنيد الالزامي "خدمة العلم" والعقوبات المفروضة على التملص منها، حتى دخل العامل المادي طرفا في دخولها، بالنسبة الى المراتب كمكلفين اولا، وفي مراحل لاحقة مطوعين، وبالنسبة لبعض الشباب دخول الكلية العسكرية، خلافا لتوجيهات المشيخة القبلية والمرجعية الدينية، لتكون تشكيلة منتسبيه الى وقت قريب من عام 2003، غير متجانسة، غالبية ضباط صفها وجنودها من وسط العراق وجنوبه، وغالبية ضباطها بالرتب العليا وقادتها من شمال الوسط وشماله، فكونت او كون اختلالها، علاقة من نوع خاص خارج أطر التفكير المهني بين الاعلى والادنى، فيها الاعلى مغمور بمشاعر الانتماء الى سلطة الدولة التي لابد من اكبارها والاخلاص لها، والادنى غير مقتنع بوجوده جزء منها متمنيا زوالها، غير آبه لقيمها ولا ملتزم بضوابطها، علاقة تضاد، ابقت المجال واسعا لتناقض وجداني دخلت منه عوامل الانحراف والهدم والتخريب بسهولة.
ان هذا التناقض الحاصل في معادلات الولاء والالتزام القيمي وان لم تكن علاماته واضحة خلال الحقب الزمنية لستينات القرن الماضي وما قبلها، لكنها في الواقع كانت موجودة ومغلفة باغطية لا يريد الاعلى كشفها خشية فقدان السيطرة التقليدية على الادنى، ولا يريد الادنى تجاوزها اغطية وهمية خوفا على مصدر عيشه المرتبط بها، تطورت تدريجيا لتصل إلى مستويات ملموسة فيها قليل من الكشف ابان حكم عبد السلام، وأقل منها في حكم أخيه عبد الرحمن، وأكثر بكثير في زمن البكر وصدام، فشكلت مع عوامل السياسة الاخرى بؤر تباعد نفسي، مهدت لحصول انحراف اسهم ولو بأجزاء محدودة في تكوين أجواء اضطراب، وتحلل، ودوافع أختلال قيمي غير مسبوقة مهدت مع عوامل اخرى الى انتهاء فاعلية القوات المسلحة في السيطرة والضبط داخليا، واضعاف قدرتها على تأمين التوازن المطلوب مع المحيط خارجيا.
لقد مر الجيش وعموم القوات المسلحة العراقية، بمحطات وعرة منذ التاسيس والى عام 2003 عند تعقبها تحليلا يتبين، ان الكثير من هذه المحطات سياسية حرفتها عن الطريق المهني القويم، لان السياسيين الذين استخدموها اداة انقلاب، وسيطروا عليها وسيلة نفوذ، لم يحاولوا ابعاد استخدامها اداة تأثير في صراعاتهم البينية وحروبهم الداخلية، ولم يخلقوا البيئة المهنية التي تبعد منتسبيها عن التدخل في السياسة كما مثبت في قوانينها.
وفي مجالها، لو استثنينا مرحلة التأسيس الاولى التي شهدت قوة دفع وطنية بسبب نشأة الدولة ثم الجيش والشرطة كمعيار لها فان جميع افرعها قد شهدت تناقضات السياسة واطماعها التي دفعت بعض الضباط القادة الى التمرد والانقلاب على الدولة، ودفعتها كقوات مسلحة الى الانحراف تدريجيا عن طريق العلاقة الوطنية بالدولة.
خصائص غابت في طريق الهدم
مع تلك الانحرافات التي صاحبت المؤسسة وشدة وقعها منذ التشكيل، امتازت في جل مراحلها التي سبقت عام 1968 بصفات ايجابية لا يمكن نكرانها، مثل:
1. الضبط. إن العسكرية العثمانية التي تميزت بالضبط الصارم، وممارسة العقوبة كوسيلة لترسيخ هذا الضبط، تركت بصماتها على خاصيته في عموم المؤسسة من خلال جيل الضباط الذين تطوعوا في وحداتها بداية تشكيلها، وكذلك كانت العسكرية البريطانية التي عرفت بضبطها الجيد قد تركت هي الأخــرى بصماتهـا الواضحة من خلال الخبراء والمستشارين البريطانيين الذين نُسبوا للمعاونة آنذاك، ومن البعثات التي أرسلت للدراسة في الكليات والمؤسسات البريطانية، وكذلك كفاءة وجدية أولئك الضباط العراقيين الأوائل الذين أخذوا على عاتقهم مهام بناء القوات المسلحة والتي تضافرت جميعها لتكوين مستويات ضبط جيدة في عموم الوحدات والمراكز والمؤسسات استمرت مؤشراتها "معقولة " مع تذبذب بين الحين والآخر تبعا لظروف العراق السياسية "حتى عام 1968 يوم تعاملت الحكومة مع المؤسسة بطريقة غيرت معنى الضبط من العسكري التقليدي الى آخر ممزوج بفلسفة سياسية حزبية "نفذ ثم ناقش"، ومن بعد هذا عام 1980 الذي ادخلت في بداية شهره الثامن القوات المسلحة بجميع فروعها في حرب مع إيران لثمان سنوات، عدّتْ نقطة التحول السلبية في مجال الضبط العسكري الذي اخذ بالتصدع السريع كنتيجة حتمية لطول فترتها، والتدخل السياسي في تفاصيل ادارتها.
ان الجيش بشكل خاص والقوات المسلحة على وجه العموم، مؤسسة منضبطة يجري تدريب افرادها على تنفيذ الأوامر الصادرة من القادة والآمرين، تسلسلاً من الاعلى الى الادنى... مسألة حتمت وجود سياقات عمل، وأساليب تعامل، وتدرج في الرتب، وشكل تنظيم ساعدت جميعها على تحقيق غاية تنفيذ الأوامر "الضبط"، عماد المؤسسة العسكرية، وهذه ورغم أهميتها، الا ان حدوثها بشكل مطلق اي تنفيذ الاوامر اي كانت طبيعتها على وفق مفهوم الضبط التقليدي، قد تغيرت في العام المذكور بعد ان قلقت السلطة من احتمالات انحراف القوات المسلحة عن مهامها الاساسية في حماية وجودها لمصلحة بعض الجماعات أو الأفراد واتجهت بسببه الى صياغة خاصة للضبط يبقى فيها المنتسب منفذاً لبعض الاوامر العسكرية، وممتنعاً عن تنفيذ أخرى أي تجزأة الضبط لمستويين.
الاول. يتعلق بالأوامر العسكرية الصرفة. تلك الأوامر التي تقتضي ضرورات عمل القيادة تنفيذها في كافة الظروف والمواقف، مثل التي تتصل باعمال القتال في الحرب، والشؤون الإدارية، والتنقـــل .... الخ، وما يتخللهما من أوامر وتوجيهات فرعية. وهي واجبة التنفيذ حد تحديد عقوبة الإعدام في حال الامتناع او التلكؤ عن تنفيذها في ظروف الحرب والتوتر التي سادت طوال الزمن السابق.
الثاني. ذو صلة بالأوامر العسكرية ذات الصفة السياسية. وهي الأوامر التي يمكن أن تصدر عن المستوى القيادي الأعلى، مطالبة الادنى بالقيام بفعل يهدد أمن الحزب والثورة، مثل التمرد على الحكومة ومحاولة اغتيال مسؤول من الحكومة أو التحرك لتغيير الحكومة .... الخ. وهذه يمنع تنفيذها لمستوى تحديد عقوبة الإعدام ليس فقط للذين ينفذون أوامر الجهة التي تصدرها، بل وكذلك لمن لا يُخَبِر عن آمره الذي أصدر مثل تلك الأوامر وإن لم يجر تنفيذها. وبصددها لم تكتف القيادة باصدار تعليمات توضح ابعاد هذه المعادلة، بل وتوجهت الى احتواء المؤسسة العسكرية والامنية بطريقة السيطرة الحزبية على قادتها واختيار غالبيتهم بمواصفات تتسم بالتابعية والوصولية، والخوف من السلطة، لأن خصائص من هذا النوع تجعلهم يأخذون رأي الأعلى منهم في صغائر الأمور قبل كبائرها. وتثير في داخلهم الشك بما يصدر إليهم من أوامر من الجهات الأعلى. وتجعلهم يحسبون ألف حساب قبل تنفيذ ما يصدر اليهم من اوامر، وان عرفوا بمستويات انضباطهم العالي.
وتوجهت كذلك الى حصر كثير من أنواع القرارات، والصلاحيات بالقيادة العامة للقوات المسلحة، إذ وصلت الحال في بعض مراحل الزمن السابق، أن يؤخذ رأيها بتغيير موقع دفاعي لسرية مشاة على جبهة تمتد 1200 كيلو متر وتنسيب آمر وحدة ومدير شرطة قضاء. ويؤخذ رأيها ايضا بتنسيب ضابط من وحدة إلى اخرى في بغداد او شرطي الى جهاز الامن الخاص، وسفر الضباط وتنقلهم واجازات القادة والآمرين.
إن التغير على وضع المؤسسة في مجالات الضبط وسياقات التعامل، والقيادة والسيطرة، التي تتعلق به، قد زادت شدته بشكل ملحوظ بعد العام 1979 بعد ان وُضِعتْ أداة طيعة في يد القيادة الفردية المغامرة غير العقلانية، تستخدمها بالطريقة والاتجاه الذي تريد، وان كان طريقاً لا يمكن سلوكه عملياً، وبالقدر الذي عزز من توجهات الهدم الموجودة في الاصل وإدام استمرارها.
2. الوطنية. إن مشاعر المنتسبين من الضباط للأجيال الأولى في عموم الجيش والمؤسسة العسكرية قد تأثرت بالمد الوطني الاتي من تاسيس الدولة العراقية آنذاك، حتى حاول البعض وخارج السياقات الدارجة التأكيد على أهداف عامة للجيش تتمثل في الدفاع عن حدود الدولة وحماية أمنها الخارجي رغم المخالفة في استخداماته المتكررة داخليا، وكانت تمارين تعد وتنفذ، ومناقشات تدور في هذا المجال، وأوراق بحث في كلية الأركان تنجز بحدود معقولة تجتمع في نتائجها وتوصياتها لتغطية تلك الأهداف، حتى أصبحت مفرداتها تتكرر في عقول المنتسبين وفي سلوكهم لمستوى أشعرتهم بالاعتزاز الكبير بها، وبالقوات المسلحة التي تسعى إلى تحقيقها. وهذه عند النظر إليها من زوايا النفس، نجد أن فيها أسس لمشاعر وطنية بين المنتسبين بحدود مقبولة، وان كانت مشاعر استخدمت كتبريرات لاقحامها في القتال الداخلي عشرات المرات، ومن قبل كل الحكومات بالتعاقب منذ عشرينات القرن الماضي والى عام 2003 وجميعها لجأت اليها وسيلة ضبط وتقويم، وردع قادرة على الحيلولة دون حدوث التهديد، حتى ان جميعها وكلما واجهت مأزقاً أمنياً يهدد مصيرها، اعطت لنفسها واعطاها الظرف غير المستقر الحق في الاستخدام. حقٌ تربطه دائماً بدوافع وطنية، وبالتالي لا يصبح الاستخدام الفاعل لاغراض الامن الداخلي من وجهة نظرها مثلبة او مخالفة صارخة للمشاعر الوطنية.
هكذا كان الحال، واستمر كذلك الى ما بعد 2003، اذ وعندما وجدت أول حكومة عراقية بعد ذلك العام أنها بمواجهة تهديد جدي، لجأت الى أشراكها مع قطعات امريكية وبريطانية في معركة الفلوجة الثانية تشرين الاول 2004 وان كانت بعض وحداتها حديثة التشكيل، على اساس محاربة متمردين ينتمون الى تنظيم القاعدة أو مدعومين من قبلها. كما حتمت الضرورة معاودة استخدامها في صولة الفرسان بتاريخ 25 آذار 2008 بمحافظة البصرة، لمقاتلة جماعات حسبتهم متمردين ومتجاوزين على الدولة، ومن ثم المساهمة الىى جانب وحدات من وزارة الداخلية في الخطط الامنية ببغداد وغالبية المحافظات العراقية العربية التي تعرضت الى أعمال ارهاب منظم غير مسبوقة.
من هذا يكون النظر الى مسألة استخدامها طرفاً في قتال داخلي طرفه المقابل مواطن عراقي مسألة حساسة. وعموما فان تقدير هذا النوع من القتال وطنياً من عدمه بحاجة الى الكثير من التدقيق والمتابعة، والحكم عليه صعب، لان بعض انواع القتال الداخلي يكون احد اطرافه المقابلة للقوات المسلحة في ساحة المعركة الداخلية مشبوهاً بعلاقاته الخارجية، مما يبرر للدولة في حالته الاستخدام، كما يصدف ان تتعرض الدولة ليس العراق فقط لمواقف صعبة تكون النتائج المحتملة في حال عدم استخدامها، والجيش منها على وجه الخصوص كارثة على الدولة والمجتمع، كما هو الحال بين الاعوام 2005 – 2008 عندما دخلت قوى ارهابية خارجية الى جانب قوى مقاومة داخلية، لو لم يشارك الجيش في قتالها لتغير حال العراق بالشكل الذي تريده تلك القوى تابعاً لحركة سلفية أممية طائفية أو مقسما لعدة دويلات.
من هذا يمكن وضع الوطنية في هذا النوع من القتال، علامة تتأرجح بين طرفي خط مستقيم في اقصى يمينه وطنية حقة وفي اقصى اليسار تجاوز على الوطنية. تحدد الظروف المحيطة بالاستخدام وطريقته، واسلوب التعامل مع الواقع مكان هذه العلامة على ذلك الخط.
ومن وضع الوطنية هذا لابد من الاخذ بالاعتبار حقيقة، تتمثل في ان كثر استخدام القوات المسلحة والجيش منها على وجه الخصوص في اعمال داخلية اي كان نوعها، يؤدي الى اضعاف مشاعرها، لكلا الجانبين المواطن والعسكري، ويتسبب في نشأة وانتشار انواع من الانحرافات المخلة بالمشاعر الوطنية التي تعجل بعملية الهدم. وعلى وفقها حقيقة لايمكن تجاوزها يصح القول ان مستويات المشاعر الوطنية للجيش وعموم القوات المسلحة لما قبل 14 تموز 1958 كانت تفوق ما بعدها، وانها مستويات بدأت بالتناقص من ذلك التاريخ الفاصل تدريجياً من كثر استخدامها في اعمال القتال الداخلي الى أن وصلت مستوياتها الادنى قريباً من عام 2003 وانتقلت لما بعده لاستمرارية الاستخدام وظروف التأثير السلبي الجانبية.
انها مشاعر اذا ما وضعت الى جانبها المشاعر القومية على نفس السياق، يمكن الوصول الى ذات الاستنتاج الخاص بان الاستخدام غير المبرر للقوات المسلحة خارج حدود الوطن وسوءه اثر على المشاعر القومية، اذ ان العراقيين على سبيل المثال الذين تحسسوا معاناة امتهم العربية، وتظاهروا دعماً للجزائر في حربها مع الفرنسيين وقدموا بعض المساعدات، ومثلها فعلوا مع مصر وسوريا وفلسطين في حروبهم وقدموا تضحيات، تؤشر في عموم تلك الازمنة:
وجود مشاعر قومية عربية ملموسة بين صفوف الكثير منهم"مع استثناء أبناء القوميات الكردية والتركمانية وغيرها". أمتدادات انعكست أبعادها على القوات المسلحة ومشاعر منتسبيها القومية العربية، خاصة الضباط وقناعاتهم في الدفاع عن الامة وتحقيق اهدافها، وإن دورهم في الدفاع عن العراق يُكمل دور الجيوش العربية الباقية في الدفاع عن أراضيها في إطار الأمن القومي العربي، وهذه مشاعر أعطت هذا البعد " القومي " في العقل العراقي العام وكذلك العقل العسكري العراقي مساحة معينة خاصة ما بعد سبعينات القرن الماضي التي سيطر على القوات المسلحة خلالها المد القومي المؤدلج بعثيا بمساحة قومية كانت تفوق المساحة المفترضة او المخصصة للمشاعر الوطنية العراقية. لكنها مثل المشاعر الوطنية، بدأت تنحسر مع تقادم الزمن، وسوء الاستخدام الحاصل للقوات المسلحة، والتناقض بالشعارات بين التمنيات النظرية، والحقائق العملية. بدايتها الملموسة مع الحرب التي دارت بالضد من الكويت، وردود الفعل المضادة لمحاولات الحكومة بربط موضوعها بالوحدة العربية، ربطاً لم يكن منطقياً، كوّنَ في العقل العراقي العام والعسكري على وجه الخصوص، ايحاءات مضادة للوحدة العربية كنتاج للمشاعر القومية. زاد شدتها اعتقاد غالبية العراقيين، أن تحالف بعض العرب مع الغرب والأمريكان لضرب العراق بداية الأزمة، قد تم قبل استنفاذ السبل الأخرى لإيجاد حلول مناسبة لها. ومن ثم تيقنهم أن العرب لم يستخدموا إمكاناتهم المتاحة للضغط على الحكومة العراقية آنذاك، وإجبارها على الانسحاب من الكويت دون اللجوء إلى التحالف مع الأجنبي لتدمير البلاد وتطوير الأزمة. بالاضافة الى وجود مؤشرات ميدانية عن تعامل سلبي لمنتسبي الجيوش العربية المتحالفة مع الأسرى العراقيين أثناء القتال البري، ولمستوى دفع العسكري العراقي الى التوجه في موقف الاسر وظروف القتال الصعبة الى الأجنبي دون العرب.
مشاعر قومية وصلت الى حافة الانتهاء اثناء وما بعد 2003، حتى لم يعد لها أي تأثير على أداء ودافعية المقاتل العراقي، ولم تسمح الظروف في ايجاد مشاعر وطنية عراقية تحل محلها او تملأ الفراغ الحاصل في خلايا العقل العراقي، فأسهمت مشاعر قومية متدنية مع المشاعر الوطنية التي تدنت مستوياتها أيضا في الاسراع بعملية الهدم المستمرة.
3. الشجاعة. يُشَكَل سلوك الضباط ومنذ الأيام الأولى لدخولهم طلاباً إلى الكليات العسكرية باتجاه الاعتداد بالنفس والثقة بها، وتحمل المسؤولية، والاقدام وتحدي المواقف الصعبة، مواصفات جامعة لخاصية الشجاعة، ويتعَلمونَ أساليب التعامل ومعنى الكرامة حتى يصبحوا قدوة في وحداتهم، ويصمدوا في المواجهة بالقتال قبل غيرهم "شجاعة" ويتجنبوا الهروب أو التخلي عن واجبهم وجنودهم في الظروف الصعبة "تخاذل"، وهذا نوع من السلوك تؤشر سبل تعامل النظام في الزمن السابق مع العسكر انه لم يكن مطلوبا، وبدلا عنه توجه القائد الأعلى إلى سب وشتم أعضاء في القيادة العامة وأحيانا معاقبتهم بالضرب أمام زملائهم لمجرد قيامهم بأعمال يفسرها من جانبه خطأ أو تقصيرا، وبتكرار هذا الأسلوب ولغرض التخفيف من وطأة الاعتداء الحاصل على الذات الشخصية بدأ بعض أعضاء القيادة العامة وعلى وفق آلية التقمص النفسية، يمارسون نفس السلوك أو قريباً منه مع القيادات الأدنى منهم، وهكذا انتقل إلى قادة الفيالق والفرق والآمرين ومدراء الشرطة والامن، فأصبح شتم الضابط وإهانته علناً سلوكاً شائعاً، عندها شعر العسكر بالمهانة والذل.
وبدأ الميل لتجنب المواجهة، وإن كان الثمن ضياع الوحدة والدائرة والمؤسسة أو حتى الوطن. خاصية تخاذل جاءت على النقيض من الشجاعة التي كانت موجودة او مقرونة بالأصول العشائرية، وبتاريخ الخدمة العسكرية الاولى في القوات المسلحة، التي تميزت في بعض جوانبها لعدة عقود سابقة بخصائص مثل إقدام جيد ودافعية عالية.
وقدرة على التحمل.
واستعداد للتضحية... خصائصٌ او مفردات شجاعة على مستوى الافراد وكذلك الوحدات، فقدت من درجاتها كثيراً في الحروب الاخيرة "الحربين الخليجيتين: الثانية حرب تحرير الكويت، والثالثة حرب اسقاط النظام" اللتان بينتا على المستوى العام أداء ضعيف بشكل ملموس.
وتلكؤ وبطؤ، في عملية الاقدام واضح المعالم.
ومن ثم هن نفسي مؤشر.
لقد حدث كل هذا بسبب وجود قدر من التخاذل، بالاضافة الى التفوق المطلق للخصم وسوء الادارة، وعدم تهيئة المستلزمات اللازمة للقتال.
4. المهنية. لم يكن مسموحاً لضباط الجيش وباقي أفرع القوات المسلحة، ولا لضباط صفها وجنودها منذ التأسيس والى عام 1958 ومن بعده الى عام 1968 العمل بغير المهنة العسكرية، التي يعتز بها المنتسب، ويحسب موردها كافياً لعيشه بالمستوى الذي هو فيه ضابطاً او ضابط صف او جندي مطوع. وكانت الدولة بقوانينها وأعرافها تدعم عيش المنتسب ليكون بالمستوى الذي يليق به، وهكذا حافظت على مهنيته العسكرية لفترة من الزمن لم نسمع فيها ان ضابطاً يعمل في التجارة وهو في اثناء الخدمة. ومن النادر ان نسمع بضابط صف يعمل في البناء أو في اعمال يدوية أثناء اجازته الدورية، واذا ما عمل احدهم في الحقل، فعمله يأتي لمساعدة عائلته، ويعتز بأنه قدم عونا.
لكن هذا قد تغير قليلا بعد 1968 وكثيرا بعد 1980 في اثناء الحرب التي أضعفت الضوابط القيمية، وفتحت مجالات العوز والحاجة المادية، والاستغلال الفاسد للجهد البشري العسكري في الاعمال الخاصة، فتوجه البعض من العسكريين ليكونوا مساهمين في اعمال تجارية، وآخرين اقتحموا الصناعة واستغلوا بعض من جنودهم لاغراض تتعلق بمصالحهم الشخصية، والبعض توجه لبيع سيارته الآتية مكرمة ليضعها استثمارا في مشروع او في عمل أطرافه جنود من وحدته أو زملاء له ومعارف من خارجها، واستمر الامر هكذا تصدعاً في جدار المهنية العسكرية ازداد سعة مع ازدياد سني الحرب، فكانت في نهايتها مشاريع صناعية ضخمة لضباط قادة.
واراض وحقول زراعية لضباط بمستويات مختلفة.
وسيارات أجرة يسوقها ضباط.
وجنود بملابسهم العسكرية يعملون صناعاً أو يستجدون في مواقف السيارات.
وضباط يديرون مشاريع تجارية أو صناعية لجنودهم السابقين.
حتى أصبح الامر طبيعياً، لا تقوى المؤسسة بضوابطها الموروثة الوقوف بالضد منه. قبلته تماماً عندما اصبح اعضائها في المستويات العليا يملكون، ويسعون لتوسيع ملكهم، ويدافعون عنه بصلاحياتهم المعهودة.
انه خرق للمهنية العسكرية، لا يقل عن وجود السياسة في جسمها كخرق لمهنيتها. خرقٌ، وان تكوّن بشكل واضح ومؤثر اثناء الحرب وبسبب ظروفها، الا انه استمر كسلوك هدم شائع لا يمكن التخلص منه. انتقل من الزمن السابق الى الزمن الجديد.
فالبعض الذي حصل من العسكر على رواتب جيدة، وظروف عمل مناسبة بعد عام 2003 استمر بالتسابق، وبسرع أكبر نحو العمل بمهن اضافية وتسخير المنتسبين لاغراض خاصة، واستغلال المنصب للامور الذاتية.
وبالنتيجة قل ميل العسكر لاحتراف مهنتهم العسكرية، وقلت درجات الاعتزاز بها واجباً وطنياً يفتخر به في كل الظروف والمواقف.
لقد اصبحت القوات المسلحة بسبب هذا التهافت المصلحي طرفاً من أطراف الأزمة الوطنية، لان اداؤها بالميدان قد اختلف وتدنى بمستوى أصبح غير قادر لوحده على حسم الموقف، وان بعض منتسبيها دخلوا اطرافاً بالمساومات الدائرة لخرق أمنها وعاملاً ولو غير مباشراً من عوامل استمرار الخروق الحاصلة. فتأشر أن الضابط الذي كان يفتخر بين أهله وأفراد جيله قبل 1968 أنه عسكري عراقي، وضابط الصف الذي كان يحترم حدود عسكريته ويعتز بها قد تغيرت نظرتهم هذه، وتغير سلوك تآزرهم معا كعسكريين عراقيين.
وتأشر ان العسكريين من الجيل الذي عاش خمسينات وستينات القرن الماضي قد فقدوا التفافهم المعهود حول ضابط او ضابط صف يتعرض إلى موقف اعتداء في الشارع أو في احد وسائط النقل من قبل مدنيين، وتنازلوا عن مبادراتهم للوقوف التقليدي معهم عسكريون في موقف صعب، قبل الاستفسار عن الدوافع والأسباب، وتناسوا مشاهد التدافع والانطقة النسيجية في الايادي داخل عربات القطار ومحطات ركوب السيارات، تنهال ضربا على من يجرؤ بالتطاول على عسكري فيها. ففقدوا بالمحصلة روح التعاون والاعتزاز بالعسكرية العراقية، ومهنيتها المتميزة.
هكذا تدنت مستويات المهنية الى الحضيض، وهكذا تكونت امراض تهديم في بنيته "الجيش"، رافقته عدة عقود، تسببت في خسارته المعركة قبل دخولها، وخسارة وضعه التنظيمي وهيكليته البنيوية، انتقل الكثير منها الى جسم الجيش الجديد بعد اعادة تشكيله من جديد عام 2003.
...............
يتبع....
638 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع