القصد والتلقائية في فن محمود العبيدي
شهد منتصف القرن الماضي تغييرات حاسمة هزّت البنى الحضارية للمجتمع العراقي وأشعلت حماس الشعراء والأدباء والفنانين الشباب بإتجاه ترجمة تطلعاتهم الحداثية وإزالة العوائق الفكرية ، وتخطي التراكمات الثقيلة للكلاسكية المهيمنة على المشهد الإبداعي ، الآفلة شمسها ، والسعي لتغيير الأدوات والأساليب البالية في الفنون والثقافة للحاق بركب التغيير وإحلال بدائل حديثة تمتزج فيها المنجزات الغربية مع الخصوصيات القومية والوطنية العراقية المحلية .
في خضم هذا الطقس المشحون بالعواصف طرح الراحل محمود العبيدي الفنان التشكيلي والنحات نفسه مع زميليه سنان سعيد وصديق أحمد على الساحة الفنية عبر تأسيس جماعة فناني كركوك عام 1952 وذلك بهدف التصدي لمهمة حضارية كبيرة في ظل تحفظ التقليديين ومعارضتهم الشديدة التفاعل مع المتغييرات القادمة .
لقد كان المنطق يفرض أن يتسلح الفنان او المثقف بعمق فكري يؤهله قيادة الإتجاهات أو على الأقل تحييده ، وإستقطاب رضا المتلقي وضمان تفاعله مع الأفكار الجديدة والأطر غير المعهودة في الرسم والنحت وحتى الشعر ، وتلك كانت المعضلة الحقيقية التي أقحم الراحل الكبير العبيدي نفسه ورفيقيه في أتونها عندما بادروا الى تأسيس الجماعة والتي لا يمكن لأي دارس أو ناقد تجاهل الإنعكاسات المباشرة لتشكيل ( جماعة بغداد للفن الحديث ) التي كان الفنان القدير الراحل جواد سليم عرابها قبل تأسيس جماعة كركوك بسنة واحدة فقط .
ولعل التحدي الكبير الذي واجه العبيدي بل وجماعة كركوك كان يكمن في غياب المنظور الفكري الذي كان يجب أن يؤطر أعمالهم الإبداعية والذي بدا أنه غير واضح بما فيه الكفاية ، وهذه حقيقة يؤكدها أحد أقطاب الجماعة المتمثل بالدكتور سنان سعيد الذي أشار في حديث له إلى أنها (إندفعت نحو إنشاء حركة فنية تتجاوز المحلية الرتيبة لكن دون الإرتباط بوثيقة نظرية وبرنامج عمل مدون ، إلاَ أنهم إلتقوا وإتفقوا في الموقف من العمل الفني وإنتهجوا الواقعية بالإتجاه الى الحياة والطبيعة والعناية بالعالم المرئي وإستلهام المواضيع من واقع المجتمع ، ونبذ محاكاة الطبيعة والأشخاص بصيغة النقل الفوتوغرافي الجامد ، الذي كان متبعاً في العراق لفترة طويلة من الزمن ) وهذا ما جسده نتاج محمود العبيدي في المعرض الأول الذي أقيم عام 1954 في كركوك بإسم ( معرض أصدقاء الفن ) . لكن السمات الغالبة على لوحات المعرض أوحت أيضاً بالتأثير المباشر للبيان الأول الذي أصدره جماعة بغداد للفن الحديث والذي كتب نصه الراحل جواد سليم ، مؤكدا ً فيه على حرية التعبير لدى الفنان والعمل على فهم العمل الفني على أساس كونه (وحدة متكاملة) ما بين الفنان والجمهور ، وتجسيد فكرته عن الجمع بين الأسلوب الفني الحديث وبين إستلهام الفن العراقي القديم والفن الإسلامي ) ، من هذا المنطلق فقد يكون محمود العبيدي قد وجد مبتغاه في هذا البيان وفي معطيات الحركة النهضوية لفناني بغداد بإعتبار الساحة الإبداعية الفنية للمحافظات كانت تشكل إمتدادا ًطبيعياً لبغداد العاصمة ، إنطلاقاً من مبدأ وحدة المشهد الفني الوطني العراقي ككل .
وبنظرة فاحصة الى نتاجات محمود العبيدي سواء في الرسم او النحت فإننا نلمس بوضوح البصمات التي تركها أساتذته في الفن على أعماله الفنية ، عندما كان طالبا في دار المعلمين في بغداد أربعينيات القرن الماضي ، حافظ الدروبي ، جواد سليم ، وخالد الرحال ، هذا التأثير الذي يبدو جليـّا ً في توهج روح التمرد لديه على الأساليب القديمة ، والنزوع الى التغيير، والتغلغل في أعماق المدينة وحياة ناسها دون تجاهل الغنى الحضاري للجذور الذي أسبغ الحيوية على هذه النتاجات ، لقد أضفت هذه المفاهيم على نتاجاته واعماله الفنية طابعا ً مميزاً لعطائه الثر ، عليه فإنه يمكن الجزم بأنه هيأ مساراً مستقبلياً واعداً ، وقوة دفع ذات تقنية حية مع ميلٍ شديد بالفطرة الى إستخدام محددات المدرسة الواقعية في طرح إنحيازه الأكاديمي ، وحسه الشعبي المترع بالبساطة والصرامة معاً و التي كان دفق الحياة تطل بين فجواتها ، وهذا ما كان يؤكد نهجه حتى في مؤلفاته أو مع طلبته أو زملائه الفنانين .
ومثلما لم تكن بعض لوحات العبيدي بعيدة عن التوظيف التركيبي أو الهندسي وخاصة في لوحات (الحمالون) و(بائع الملح) و(منظر من القرية ) وغيرها إلاَ أنها كانت تشي بتوتر داخلي ينمو بإتجاه تركيز الإنتباه البصري إليها ، لقد كانت قدرة هذا الفنان الرائد الذي إحتلّ بجدارة مكانة بارزة في الحياة الفنية لمدينة كركوك على إمتداد النصف الثاني من القرن الماضي ، فذ ّة ومعبـّرة وجديرة بالمتابعة والتسجيل .وهذا يدلل على نزوعه الى الطبيعة عبر لوحاته ، هذا النزوع الذي جاء نتيجة طبيعية للتأثيرات التي أحاطت به ففجرت فيه رؤواه الإبداعية الكامنة وعواطفه الفائضة ومشاعره الذاتية وتجاربه في حس حاد وعناق حميم بين حاستي البصر واللمس ليمارس تأثيره في الصورة وتحقيق الصدمة الحضارية في أوساط الفلاحين والمزارعين البسطاء من خلال أعماله التشكيلية في معرض له في قرية بشير عام 1948 .
إذا ً لقد إستخدم العبيدي ملامح الحياة في القر ية في عملية التجريب المستمرة ، وكما يقول الكاتب الصحفي أحمد محمد كركوكلي في مقالته الموسومة (محمود العبيدي في ذاكرة الفن العراقي) بهذا الصدد ( إنه إستلهم الطبيعة الخلابة وحركة الناس في الحقول ومواقع العمل ، جسدها بفرشاته في لوحات جميلة بألوان هادئة وضعها في أطر إنطباعية وواقعية وتعبيرية ) أي إنه إنحاز تماماً الى جذوره الأصيلة والى الناس الذين إنحدر منهم وأحبهم فحاول أن يجسد واقعهم وتطلعاتهم وآمالهم بالفرشاة واللون .
وفي النحت فقد أفلح العبيدي أن يروض الحجر والموزائيك في كم ٍ كبير من الأعمال المميزة بإتجاه مزج دلالات التأريخ العريق للفكر العربي والإسلامي مع معطيات الحاضر النابض بروح التغيير والتطلع الى الحداثة ، فكانت تماثيل الشاعر أبو علاء المعري والفيلسوف الكندي وفيما بعد تمثال الجندي والجداريات الضخمة التي زينت معالم مدينة كركوك الأثرية والحضارية والساحات في عدد من المحافظات العراقية ، تعبير عملي عن فيض من الموهبة التلقائية التي كان العبيدي يتحلى بها والتي كانت مبعث جدلية متواصلة بينها وبين المدلولات والمفاهيم التقنية والإنتاجية القصدية التي يرنو الى ترجمته عبر الفرشاة او الأزميل .
إن الناقد يلحظ تماماً حرص العبيدي على تقليص المساحات الفسيحة بين المقاييس الطبيعية في أعماله النحتية وبين الرؤية الفنية التي لم تكن أحياناً تتطابق مع المفاهيم السائدة للمتلقي المعتاد على أسلوب النقل المتماثل والصيغ الجاهزة ، مع أنه كان يطالب طلابه وزملائه الآخرين بإحترام هذه الضوابط الحرفية سواء ً في الرسم أو النحت ، ويمكن العودة بهذا الصدد الى مؤلفاته التعليمية المطبوعة (فن الرسم) ، (كيف تصنع المجسمات ؟ )، (الأشغال اليدوية) ، (الحفر على الخشب .. ) في الوقت الذي كان فيه ينأى بنفسه أحيانا ًعن التقيد بها ، وهذا المعنى بالضبط كان قد قصده من قبله الفنان بيكاسو عندما أشار الى حرية الفنان في التعبير والإبداع بعيداً عن العوائق والقيود المسبقة فقال : أنه ليس ثمة فن أكاديمي قوي وقادر على تهديم العوائق ، فرفع العوائق لا تكفي ولا يخدم غرضاً سوى جعل الأشياء عديمة الشخصية ، عديمة العمود الفقري ، عديمة الشكل ، عديمة المعنى ، صفرا ً ! ، إلاّ أن هذه الملاحظة التي قد تبدو مجحفة نوعاً ما يجب أن لا تقلل من القيم الجمالية والفنية ، ولا تمس بفرادة النماذج التي أنتجها أنامل هذا الفنان الرصين والمتألق .
لقد نجح العبيدي في فرض وإقامة توتر ٍ نفسي مشحون بطاقة تعبيرية في غاية النضوج بحيث حّول الفكرة المجردة والأشكال النابعة من المنحنيات والمستقيمات الى شئ ٍ أشبه بالمفردة الشعرية المبهرة ، مفردة إستجابت ليد ٍ فنان بعثر دواخله الكامنة على الحجر الأصم فأحاله الى ميدان حياة مفعمة بالمعاني الغنية .
وفي المراحل اللاحقة لحياته الفنية الحافلة ، خاض العبيدي في تسعينيات القرن الماضي ، معترك الإحتراف الفعلي لإسلوب الرسم على السيراميك بعد أن طـّور ادواته الفنية ووسائله التصنيعية والإنتاجية في مرسمه الذي إحتل جزءاً كبيرا من منزله ، وقد هيأ هذا النزوع لفرص إنتاج كم ٍ كبير من اللوحات والجداريات، والتي كنت آنذاك أشعر أن بعضها قد تفتقر الى حد ٍ ما الى المنظور الجمالي والفني ، وقد دافع عن ذلك في نقاش مباشر لي معه عن ذلك ، وفسّر ملاحظتي بالتأكيد على أن الفنان يجب أن لا يطمئن الى مستوى إنجازاته اليومية لكي لا يراوح ويقف في مكانه ، وأنه لا يتفق معي في ملاحظتي ذلك لأنه يرى أن وظيفة الفنان لا تقتصر على نقل مظاهر الحياة من حوله بالشكل الذي يتماثل مع عدسة المصور الفوتوغرافي وإلاّ فأنه يفقد شخصيته الفنية ، ويضّيع ديناميكية أسلوبه الخاص !
لقد كان محمود العبيدي مخلصاً لفنه وأدواته التعبيرية ومدرسته ، وكان طيلة حياته التي توقفت في العام 2008 ، منجماً دافقاً لسيل من التراكمات الفنية ذات الإستجابات المتباينة ، منجماً أضاف الى رصيده الكثير ، وصنع من لوحاته ومنحوتاته وجدارياته إرثاً يجمع بحميمية بين القصد المسبق وبين التلقائية والعفوية الفائقة ، النابضة بعبق الماضي والمتطلعة الى المستقبل المفعم بالأمل ، فأغنى بأعماله الحركة الفنية الوطنية والمحلية الى يومنا هذا .
1955 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع