الظهور العلني لطائفة من أعضاء الكهنوت الزرادشتية في حديقة شرق إيران في حفل يسمى “ساد” بداية شهر فبراير الجاري، واستعدادهم لتنظيم عيد النوروز والاحتفال بمولد زرادشت، هي مظاهر متضافرة على الوجود العلني لأتباع الديانة الزرادشتية. وجود يثير مفارقة متصلة بدواعي تغاضي نظام سياسي ديني منغلق مثل النظام الإيراني عن تواصل وجود هذه الديانة القديمة، ويدفع إلى البحث في العوامل الكامنة وراء تواصل بقاء هذا المكون الديني في ظل نظام يقصي كل ما يختلف عن صياغته للدين والمذهب.
العرب عبدالجليل معالي:الزرادشتية ديانة إيرانية قديمة وفلسفة دينية في آن، ظهرت في بلاد فارس قبل حوالي 3500 سنة، ذاع صيتها في إيران والهند وأفغانستان وأذربيجان وينتشر أتباعها أيضا في العراق وتركيا وغيرهما. زرادشت مؤسس الديانة الزرادشتية عاش في شمال وشرق إيران بين 1400 و1200 قبل الميلاد (رغم اختلاف المصادر في تحديد تاريخ مولده ووفاته، إذ تعتبر مصادر أخرى أنه عاش في القرن السابع قبل الميلاد). صاغ زرادشت تعاليمه في كتاب مقدس يعرف بـ”الآفيستا”.
وتعرف الزرادشتية في النصوص الإسلامية بـ”المجوسية”، وهي عقيدة دينية توحيدية تتمحور حول إله واحد مطلق مجرد، حيث يقول زرادشت في الآفيستا
“إني لأدرك أنك أنت وحدك الإله وأنك الأوحد الأحد، وإني من صحة إدراكي هذا أوقن تمام اليقين أنك أنت الإله الأوحد….”.
ارتبطت الديانة الزرادشتية بإيران باعتبارها الديانة الرسمية للبلاد إلى حدود الفتح الإسلامي، لكن الحضور العربي في تلك المناطق ولئن حول الإسلام إلى الدين الرسمي للبلاد إلا أنه لم يمنع تواصل وجود الزرادشتية رغم انحسارها في مناطق محدودة نائية؛ مثل مدينة يزد وهي الآن مركز تجمع الزرادشتيين.
ما الذي حافظ على الزرادشتية قائمة في إيران رغم تعاقب المراحل التاريخية، وهي مراحل وفرت رؤى سياسية لا تنظر إلى الزرادشتية بارتياح بدءا من الفتح الإسلامي مرورا بتشيع الدولة الإيرانية مع إسماعيل الصفوي (عام 1502) وصولا إلى الثورة الإسلامية الخمينية؟ هل توجد داخل المجتمع الإيراني عوامل تصنع بقاء هذه الديانة واستمرارها؟ وهل توفرت عوامل جديدة حاثة على الإجهار بالانتماء إلى هذه الديانة؟
الفتح العربي الإسلامي لإيران حول المجتمع الفارسي إلى مجتمع مسلم وأحال الديانة الزرادشتية إلى “مجوسية” إلا أن المجتمع الفارسي تشبث بفارسيته بل أضاف لها صنوفا شتى من العداء للآخر، وعندما قرر إسماعيل الصفوي، في القرن السادس عشر، اعتماد المذهب الشيعي الإثني عشري مذهبا رسميا لدولته، فقد تنكر للأصل التاريخي للإسلام وانطلق في سعي محموم لاستئصال الوجود السني في إيران، وحاول نشر التشيع الرسمي بحد السيف. ثم جاءت الثورة الإيرانية عام 1979 لتكرس التصور الصفوي وتطوره إلى “ثورة” إسلامية بمذاق شيعي سعت إلى تصديره خارج مجالها السياسي.
في كل هذه المحطات كانت الزرادشتية حاضرة في المخيال الشعبي الإيراني، بل كانت مستفيدة من هذا التعاقب، فبعد الفتح الإسلامي كانت الزرادشتية بالنسبة إلى الفرس (حتى من غير المؤمنين بها) تمثل ضربا من الانتماء إلى مرحلة ما قبل العرب، أي أنها كانت إحالة على الماضي الفارسي التليد بالنسبة إليهم، ذلك أن العصبية الإيرانية ولئن استوعبت الإسلام إلا أنها واصلت عنصريتها تجاه العرب. تشبثت بالإسلام وحاولت احتكاره وفي ذات الوقت كانت تنظر إلى الزرادشتية باعتبارها منهلا حضاريا يحق لها أن تفخر به. سعي إسماعيل الصفوي لنشر التشيع بالقوة والذي صاحبه إجبار للناس على تغيير مذهبهم وسك العملة باسم أهل البيت وتدمير مساجد أهل السنة ومصادرة الممتلكات والأراضي السنية، كان يترافق (للمفارقة) مع ربط التشيع بالموروث الحضاري والقومي لبلاد فارس والشعب الفارسي، بما يعني أنه كان يستنجد بالتاريخ (بكل ما يحتويه) لإعلاء القومية الفارسية.
النظام القائم بعد الثورة الإيرانية مارس “غض نظر” واضح عن الديانة الزرادشتية. كان النظام الإيراني يحارب أصحاب البدع الدينية ويصدر أحكاما بالإعدام بتهمة “محاربة الله وتهديد الأمن القومي الفارسي”، وفي الوقت نفسه كانت الديانة الزرادشتية تحظى بممثل في مجلس النواب من منطلق “الحريات الدينية”. كان النظام الإيراني بهذه الازدواجية يضرب عصافير عديدة بحجر واحد، فهو يقدم صورة للعالم على أنه متسامح مع الأديان والمذاهب، وهو يغازل المجتمع الإيراني بتصالحه مع ما تمثله الزرادشتية من إرث لدى عموم الشعب، وهو يقدم ما يثبت وفاءه للحظة إسماعيل الصفوي وعنصرية المجتمع الفارسي، أي أنه لا يلبس تهمة “محاربة الله” لكل ما يصدر عن الثقافة الفارسية.
الثابت أن العقل الإيراني توصل إلى صياغة متصور ثقافي مركب يسعى إلى التوفيق بين الأصل الزرادشتي والتشيع الرسمي، فاللغة الفارسية والتقويم والأشهر والعادات والاحتفالات وحتى مكان دفن الإمام علي الرضا الإمام الثامن المجاور لمدفن زرادشت، كلها مظاهر دالة على التشبث الإيراني بالمنطلق الزرادشتي، بل توجد العديد من القراءات التي تعتبر أنه تم تطويع العادات الزرادشتية القديمة لخدمة التشيع السياسي الإيراني.
الاحتفالات السنوية بعيد النوروز (رأس السنة الفارسية الذي يحتفل به يوم 21 مارس من كل عام)، وهي في حقيقتها احتفال زرادشتي، تمارس علنا وبتشجيع رسمي إيراني وتمارس خلالها تقاليد القفز فوق النار، لتتاح الفرصة بعد ذلك للزرادشتيين لإحياء مولد زرادشت بعد أيام قليلة من رأس السنة الفارسية.
السياسة الإيرانية الملتبسة تجاه الأديان الأخرى والأقليات الدينية، وخاصة التسامح تجاه الزرادشتية، أتاحت للمجتمع الإيراني قوة استطاع من خلالها أن ينفذ من القهر الممارس منذ عام 1979، إذ تمثل الزرادشتية اليوم بالنسبة إلى المجتمع الإيراني منفذا ثقافيا وحضاريا وتاريخيا للتخلص من المراقبة والمعاقبة الرسميتين. ساير المجتمع دولته في الاحتفاء بالزرادشتية كنوع من التملص من الانضباط الذي تفرضه الدولة وأجهزتها، والجديد هو العودة الكبيرة لهذه الديانة، وهي عودة تشير إليها العديد من القراءات التي سلطت الضوء على ظواهر الإلحاد والعودة إلى الزرادشتية من خلال إحصاء المئات من المواقع الإلكترونية والآلاف من الصفحات على المواقع الاجتماعية التي تؤشر على هذه الظواهر. يضاف إلى ذلك أن التطرف الممارس من قبل العديد من التيارات الإسلامية (السنية أو الشيعية) دفع البعض إلى انتحاء مكان ديني قصي يتمثل في الزرادشتية أو في غيرها.
الحضور المتزايد للديانة الزرادشتية القديمة في إيران، هو تعبير عن تداخل العوامل التاريخية والقومية والدينية والمذهبية والاجتماعية. تحرص إيران على إعلاء قوميتها على الآخرين، وتتكئ على تاريخها وتبحث في ثناياه عما يفيد الأيديولوجية الحاكمة.
554 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع