قصص شعرية سوريالية تفوز بجائزة فرانك أوكانر للقصة القصيرة

             

كاريز ديفيز تأخذ لحظات ومواضيع تاريخية لتتدبرها بطرق مبتكرة تأسر القارئ

كان نقاد النثر قد وضعوا قصص إرنست همنغواي مثالا ونبراسا وهم يفتشون عن القصة المثالية، فأجمعوا طوال القرن العشرين على أن الكثافة الشعرية والتجذر في حادثة متفردة أو إدراك أوحد، هما صفتان جوهريتان تعرّفان القصة القصيرة، لذا تفوقت القصة على نوع الرواية في اقتراب تأثيرها من الشعر الغنائي، وإذ تنزع الرواية إلى إطلاعنا على كل ما هو خاف تقريبا، تكاشفنا القصة بلمحة فريدة، وبكثافة لا حدّ لها، لتنبع حقا من صفة شعرية عفوية لا تمت بصلة إلى الحافز النثري.

العرب هالة صلاح الدين:حين خطّت الكاتبة الويلزية الشابة كاريز ديفيز مجموعتها القصصية الثانية “خلاص جيلين بايك”، والمكوّنة من خمس عشرة قصة، ربما لم تكن تدري أنها ستمسي النموذج الأمثل لهذا القص الشعري المبتغى، بكل أطيافه وإرهاصاته، والمفترض وفقا للناقد البريطاني في إس بريتشيت أنه خاصية من خصائص القصة. ولا يمكن أن يفوتنا أن قصصا مثل “الشال” للقاصة الأميركية سينثيا أوزيكو، و”مينيستانج” للكاتبة الكندية أليس مونرو تزخر بفقرات غاية في الشعرية. وكذلك تحوي قصة ديفيز المهووسة باللغة اللاتينية “هيستوريا كالاماتتم ميرام” جملا تحلق في سماء الشعر ما يستعصي علينا اعتبارها نثرا.

اعتراف نقدي

وعن المجموعة القصصية نفسها نالت ديفيز منذ أيام جائزة فرانك أوكانر العالمية للقصة القصيرة، والبالغ قدرها 25 ألف يورو، متفوقة على الكاتب الأميركي توني إيرلي والكاتبة البريطانية كيرستي جان. وسوف تتسلمها رسميا في سبتمبر المقبل في ختام مهرجان كورك العالمي للقصة القصيرة.

فمن قبلها فاز بالجائزة بعض من عمالقة القصة المعاصرة كالأميركي ناثان إنجلاندر والبريطاني ديفيد كونستنتاين والياباني هاروكي موراكامي.

المجموعة فازت أيضا بجائزة جيروود للأدب المكتشف وجائزة كتّاب الشمال، وترشحت لجائزة ويلز لأفضل كتاب وجائزة إيدج هيل للقصة القصيرة. وقد وصف رئيس لجنة تحكيم فرانك أوكانر الروائي الأيرلندي إبهير والش “خلاص جيلين بايك” أنها “مليئة بقصص هزلية لاذعة، بمنعطفات وتحولات مدهشة. تتسم لغتها بالاقتصاد، بلا كلمة واحدة يمكن الاستغناء عنها. وديفيز تأخذ لحظات ومواضيع تاريخية لتتدبرها بطرق مبتكرة تأسر القارئ”.

تضمنت لجنة التحكيم الروائية الأميركية ورئيسة تحرير مجلة بلاوشيرز لاديت راندولف والروائي البريطاني كليف سينكلير والمدير الفني لمركز الأدب بمقاطعة مانستر الأيرلندية باتريك كوتر. ويرعى الجائزة مجلس مدينة كورك وكلية اللغة الإنكليزية بجامعة كورك. وقد تأسست لحث دور النشر على إصدار المزيد من المجموعات القصصية بأقلام كتاب منفردين.

“خلاص جيلين بايك” من إصدارات دار النشر المستقلة سولت بابليشينج. وهي دار بريطانية صغيرة واصلت في إصرار على مدار عقد كامل نشر المجموعات القصصية، وظلت على وفائها لها رغم تيارات الرواية الطاغية. وغالبا ما تنشر في العام الواحد عناوين قصصية تزيد على ما تنشره كبريات دور النشر الأخرى.

قلما يرتبط تطور الأدب نقديا بتطور عالم الصحافة الدورية، ولكن القصة القصيرة اتكلت منذ نشأتها بصورة مباشرة على إصدار الجرائد والمجلات التي تنشر القصة تلو القصة بعد تأليفها.

وكما نبعت القصة من رحم الصحافة، كان على القصة الانتظار حتى تثبّت الرواية أقدامها قبل أن تفصح عن نفسها. فالسرد النثري الأطول بصورته الحديثة هو ما أفرز النسخة القصيرة. ومعظم قصص مجموعة ديفيز، التي عملت في الصحافة ما يربو على خمسة عشر عاما، منشورة في الصحف أولا قبل أن تجد طريقها إلى دار النشر.


الأخت القبيحة مثالا

وفي كفاح النقاد من أمثال البريطاني والتر ألان للوقوف على ماهية القصة المعاصرة، وخيبتهم في التفرقة بينها وبين الرواية والأقصوصة، ألفوا أن القصة المعاصرة قد تتناول قضايا واقعية خليقة بالمدى الروائي كالاقتصاد المتعثر وفساد الجيش والانتهازية التجارية والاغتراب المجتمعي وهوس الغرب بكل ما هو شاب. بل إن قصصا تعود إلى عقود خلت مثل “السيدة صاحبة الكلب الصغير” لأنطون تشيخوف -ويعتبره النقاد أعظم من كتب القصة- لا تركز على حادثة واحدة.

ولا جدال في أن قصص “خلاص جيلين بايك” -ولا سيما قصة “الأخت القبيحة”- تبرهن على أن القصة المعاصرة لا يجب بالضرورة أن ترتكن إلى حادثة واحدة، وأنها تستقل بذاتها وتعبّر عن نفسها بدون شرح، طارحة انعكاسات من حياة الأشخاص، متوارية عن أعين أقرب الأقرباء إليهم.

فعلاوة على قصص مقطّرة اللغة محكمة السرد تحكي عن بلدات ويلزية فقيرة هجر سكانها التعدين منذ عقود واتجهوا إلى الخدمات، يتراءى وكأن العالم بأسره هو موقع “خلاص جيلين بايك”. إذ تترامى قصص المجموعة من شرق الكرة الأرضية إلى غربها في عالم مصغّر -وإن بدأ في الغالب بأحداث بسيطة عادية- يتردد صداه غيبيا هنا وهناك. قصص كما السحر، والغريب أننا نصدقها.

المألوف والسوريالي

في سيبيريا بثلوجها البيضاء المقفرة الوعرة يرتطم بعين بريطانية مشهد سوف يقلب حياتها رأسا على عقب في قصة لاذعة الوقع لا تاريخ محدّدا لها. ومن المألوف إلى السوريالي، ينال رجل في خريف العمر شرف لقاء الملكة فيكتوريا في بلدة بشمال إنكلترا، ويغدو ما لا يقال هو الحكم، والمنطق هو منطق الفراغ والصمت.

وبعدها نقرأ عن مراهقة تهرب من بيت أهلها ساعية إلى الخطر فيما تنشد امرأة في أعلى مرتفعات كامبريا خفية العون من عدو أبيها، وينتهي بها الأمر إلى الانزلاق إلى حافة الهاوية.

                                         
    
انتقال من الواقعي إلى الفانتازي من العقل إلى الجنون
    

ترمينا ديفيز من الغرب الأميركي الشرس بقوانين العدالة الخاصة به إلى مزرعة أسترالية نائية، وفيها نتلقى درسا في الأخلاق على يد زوجة شابة تخفي سرا إن فضحته تهدمت حياتها، وهي تسمح على مضض لجارها بدخول بيتها في مشهد يطفح تهديدا. والاقتضاب ذاته، السمة الأبدية لفن القصة، يسمو إلى مستوى آخر من الجودة في قصة “لا شيء مثل كابوسي”، أو بالأحرى يعاد تعريفه. قصة من فقرة واحدة فقط لا تزيد على مئتيْ كلمة، فيها ينشط خيال أم، فترعبها كل المصائب التي قد تحل على ابنتها في رحلتها.

ثم تعيد المؤلفة في قصة “قلنسوة” تصوير قصة حب في حياة الروائية الإنكليزية شارلوت برونتي. نشاهد امرأة القرن التاسع عشر تعشق من لا يعشقها. تبتاع قلنسوة جديدة من أجل عينيه، ثم تسلك طريقا مشؤوما إلى أرض العاصمة.

وفي خلال حمّى الذهب بقصة “العنوان”، ندلف إلى سجن بمقاطعة بايبر سيتي الأميركية رفقة عانس عجفاء الجسد قبيحة الوجه، تدين بالمسيحية. أقبلت لتلتقي برجل محكوم عليه بالإعدام شنقا في ساعاته الأخيرة. تحاول إقناعه بتطهير روحه قبل لقاء ربه، والحقيقة أنها لا ترغب في فعل الخير والمواساة بقدر ما ترنو في وحشتها إلى التواصل المجرّد مع شخص آخر، أي شخص:

“أثارت جريمة جيلين بايك اشمئزاز بيشنس اشمئزازا لم يسعها الإفصاح عنه، وفي طريقها إلى السجن لمقابلته للمرة الأولى، حدّثت نفسها بأنها لن تشغل نفسها بالأمر، سارت بمحاذاة البنك الموصد، والواجهة المغلقة للمتجر العام، ومحل الخردجيّ المغلق، والستائر المسدلة لعيادة طبيب الأسنان، أشاحت ببصرها.

سوف تقوم بما قامت به دوما مع المجرمين، سوف تجلب إلى جيلين بايك طعاما وشرابا، ستجلس معه وتتحدث إليه وترافقه في الأيام المتبقية له”.

إن هذا التدحرج من حكاية إلى أخرى مختلفة عنها تمام الاختلاف في الحبكة والتكنيك والجغرافيا يدعم ظن الكاتبة البريطانية هيزل واتسون بأن المجموعة ما هي إلا “انتقال من الواقعي إلى الفانتازي، من العقل إلى الجنون. انتباهها مركّز وكأنما من خلال عدسة مكبرة”.

وبالرغم من أن مصدر إلهام ديفيز يعود إلى القرن التاسع عشر -في شخص الروائيتين الإنكليزيتين شارلوت وإيميلي برونتي، وخطاباتهما الحميمة، والاستلاب المجتمعي والتمييز الجنسي الصارخ إبان عصرهما- يبدو تأثير الكندية مارغريت أتوود واضحا كل الوضوح على أسلوب ديفيز، وبخاصة في مجموعتها القصصية الأولى “كميْنجديد ما” (2007)، بينما يتخيلها الناقد البريطاني بيرس بلورايت “مزيجا من الروائي الأميركي مارك توين والقاصة الأميركية آني برولكس جالسين إلى مكتب معا”.

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

661 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع