العربي الجديد:مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في العراق، تتعالى أصوات قوى برلمانية سياسية في تحالف الإطار التنسيقي الحاكم، وفصائل مسلحة لاستحداث محافظات عراقية إضافية قائمة على أساس طائفي أو قومي بحت، وسط تحذيرات من خطورة دعوات كهذه وإصرار على رفضها. مع العلم أن المحافظات العراقية الـ18، التي أُقرّت في العهد الملكي عقب تأسيس الدولة العراقية الحديثة، مطلع القرن الماضي، جرى تقسيمها على أساس جغرافي، مدفوعاً بحاجة إدارية تتعلق بالخدمات المقدمة لتلك المناطق.
تتوزع المحافظات العراقية من أقصى جنوب العراق حيث البصرة المطلة على شط العرب والحدودية مع الكويت، تليها القادسية، ثم ذي قار وواسط والمثنى، وميسان، ثم النجف وكربلاء وبابل، وبغداد وديالى وصلاح الدين وكركوك والأنبار ونينوى، بينما تقع المحافظات الثلاث المتبقية في إقليم كردستان، شمالي العراق، وهي أربيل ودهوك الحدودية مع تركيا، والسليمانية المحاذية لإيران. هذا التقسيم وفقاً للسياق العراقي التاريخي والسياسي، لم يتحدد بشكل طائفي أو قومي، إذ إن 14 محافظة من هذه المحافظات مختلفة دينياً وقومياً، وفي بعض المحافظات هناك أكثر من طيف ولون، كما في كركوك والبصرة وبغداد وديالى ونينوى.
المحافظة الـ19
موضوع استحداث محافظات عراقية انعكس، الاثنين الماضي، بتصويت البرلمان العراقي على استحداث محافظة حلبجة، وهي جزء من محافظة السليمانية بإقليم كردستان - العراق، والمعروفة في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي (مارس/ آذار 1988، أواخر الحرب الإيرانية العراقية). القرار الذي يرفع العدد الإجمالي لمحافظات البلاد إلى 19، ووصفته رئاسة الجمهورية بـ"الخطوة التاريخية"، جاء بطلب من إقليم كردستان ولدوافع تنظيمية وإدارية بعد ارتفاع عدد سكان حلبجة، والمسافة التي يتطلبها السكان للتوجه إلى السليمانية لقضاء معاملاتهم اليومية، وفقاً لمبررات مشروع القرار. يُذكر أنه قبل الهجوم الكيميائي عام 1988، لم يتجاوز عدد سكان حلبجة الـ70 ألف نسمة، بحسب وسائل إعلام في كردستان، أما اليوم فقد ارتفع العدد إلى حوالي 145 ألف نسمة. وبحسب آخر تعداد سكاني في فبراير/ شباط الماضي، فإن عدد سكان العراق يبلغ 46 مليوناً و118 ألف نسمة.
خطوة استحداث محافظات عراقية رفعت وتيرة خطاب تقسيم المحافظات، إذ تصدرت قوى سياسية شيعية لتطالب بتحويل مدن سامراء وتلعفر وسنجار والطوز وسهل نينوى إلى "محافظات مستقلة". تدعم هذا التوجه فصائل مسلحة سخّرت إعلامها للموضوع، وعلى شكل خطاب طائفي. مع العلم أن هذه المدن تم اختيارها لتتحول إلى محافظات عراقية بدوافع طائفية أو قومية، كما الحال في تلعفر ذات الأكثرية التركمانية، وسنجار ذات الأكثرية الكردية في نينوى، والطوز ذات الأكثرية الشيعية في محافظة صلاح الدين، أو سهل نينوى، ذي الأكثرية العربية المسيحية. وتشترك هذه المناطق في كونها واقعة جميعها تحت سيطرة الفصائل المسلحة، أبرزها "كتائب حزب الله" و"سرايا السلام" و"عصائب أهل الحق" و"سرايا الخراساني" و"بدر" و"بابليون".
في المقابل، يتحدث نواب وسياسيون آخرون عن مدن أخرى، أبرزها مدينة الزبير الغنية بموانئها على الخليج العربي، ومدينة خانقين في ديالى ذات الغالبية الكردية، في سابقة سياسية وطائفية في العراق. وتصدر معظم هذه المطالبات من الأحزاب الموالية لإيران التي تريد الحصول على مكاسب جديدة في كل انتخابات وما يليها من توزيع للمناصب. ويقول عضو البرلمان عن "الإطار التنسيقي" وعد القدو، في مؤتمر صحافي، الاثنين الماضي، وهو أحد قيادات منظمة بدر بزعامة هادي العامري، وتم إدراجه، أي القدو، عام 2021 على لائحة العقوبات الأميركية بتهمة ارتكاب انتهاكات حقوقية وإنسانية، إنهم أكملوا المخططات اللازمة لتحويل تلعفر وسهل نينوى إلى محافظات وعزلها عن باقي نينوى، متحدثاً عن بدء الحراك الفعلي لتقديم مشروع القانون للبرلمان.
بدورها، عادت مليشيا عصائب أهل الحق للتصعيد وتخوين كل من يرفض تحويل مدينة سامراء إلى "محافظة شيعية"، وعزلها عن محافظة صلاح الدين وعاصمتها تكريت. وسبق أن قال النائب عن "عصائب أهل الحق" والقيادي فيها علي تركي، لمحطة "العهد" التلفزيونية المملوكة لـ"العصائب"، الشهر الحالي، إن مشروعاً لتحويل سامراء إلى "مدينة شيعية" بدأ من قبلهم عبر جمع التواقيع، معتبراً أن "سامراء ستكون صبغتها صبغة شيعية أكثر مما هي صبغة وطنية".
تحذيرات من استحداث محافظات عراقية إضافية
من جهته، يحذر عضو مجلس النواب أحمد الجبوري من أن تقسيم نينوى يعني بداية تقسيم العراق. وقال الجبوري، وهو نائب عن نينوى، في مؤتمر صحافي، الاثنين الماضي، إنه "من المؤسف والمعيب أن يطلق بعض النواب دعوات لإنشاء محافظات بعد اقتطاعها من نينوى بدوافع دينية وقومية ومذهبية"، واصفاً إياها بأنها دعوة صريحة لتقسيم المحافظة وتقسيم البلاد. وأضاف أن "بعض النواب والجهات السياسية استغلوا إعلان حلبجة المحافظة الـ19 وطرحوا مشروعهم لتقسيم نينوى"، مشيراً إلى أن هذه الجهات تحاول منح الصلاحيات في موضوع استحداث المحافظات إلى مجلس الوزراء ليتم تجاهل رأي نواب المحافظة ومجالس المحافظات والحكومات المحلية فيها.
وأعلنت كتلة نينوى الموحدة التي تمثل القوى العربية السنية في مجلس محافظة نينوى، عقب تصويت يوم الاثنين في البرلمان، رفضها محاولات تقسيم المحافظة على أسس مذهبية وطائفية. وأكدت في بيان رفضها "لإقحام المحافظة في سياق سياسي لا يمتّ إلى واقعها الإداري والاجتماعي بصلة، وذلك من خلال طرح مقترحات تدعو إلى استحداث محافظات إضافية من جسد نينوى، تشمل تلعفر وسنجار وسهل نينوى". وعدت الكتلة هذه الدعوات "مخالفة صريحة للدستور، وانتهاكاً لمبدأ وحدة المحافظة، ومحاولة مكشوفة لتمزيق نينوى على أسس طائفية وعرقية ومناطقية، بما يهدد السلم المجتمعي، ويضرب مبدأ العيش المشترك الذي اختاره أبناء نينوى بكل مكوناتهم". كما أعلن تحالف السيادة بزعامة خميس الخنجر في بيان، الاثنين، رفضه لدعوات تقسيم المحافظة واستحداث محافظات عراقية إضافية في تلعفر أو سنجار أو سهل نينوى تحت أي ذريعة، داعياً القوى السياسية العراقية إلى تحمل مسؤوليتها الوطنية في حماية وحدة نينوى والابتعاد عن مشاريع التجزئة أو الهيمنة أو الإقصاء.
ورغم الرفض والاستهجان الشعبي وحتى من بعض أعضاء مجلس النواب والأحزاب الذين حذروا من مخاطر هذا الخطاب وتقسيم البلاد على أساس إثني أو عرقي، إلا أن الدفع ما زال مستمراً بهذا الشأن، تدعمه الأحزاب التابعة لتحالف قوى "الإطار التنسيقي". وتقف بوجه هذه التوجهات بعض الحركات المدنية والوطنية التي تخشى أن يأخذ هذا التقسيم أبعاداً سياسية تضر بالعراقيين والمجتمعات المحلية من ألوان مختلفة، خصوصاً أن معظم الأقضية التي يراد تحويلها إلى محافظات تعتبر من المدن المختلطة مذهبياً وطائفياً وقومياً، بالإضافة إلى تسهيل السيطرة على المحافظات من النفوذ الإيراني في البلاد، حسب تعليقاتهم. لكن الأحزاب الراغبة بالتحول (مدن إلى محافظات)، تواصل حراكها دون الالتفات إلى المطالبات بمنع التقسيم الذي قد يُبعد المسافات بين أبناء المحافظة الواحدة، كما في محافظة نينوى.
حسابات سياسية
يقول عضو اللجنة القانونية في البرلمان والنائب عن محافظة النجف محمد عنوز إن "مجلس النواب لا يتجه إلى إقرار تحويل مدينة معينة إلى محافظة إلا إذا كانت مستوفية شروط الترقية الإدارية"، مضيفاً في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "قرار تحويل حلبجة إلى محافظة لا يحتوي على أي خلل قانوني". ويبيّن أن "بقية المدن التي تسعى بعض الأحزاب لتحويلها إلى محافظات يخضع (التحويل) إلى قراءات قانونية وأخرى من وزارة التخطيط وبقية الجهات المعنية، ولا يكون عبر الضغط السياسي". مع العلم أن بعض التوجهات، وفق عنوز، مدفوعة "سياسياً من أجل السيطرة على بعض المناطق العراقية، وهذا واضح وليس مستتراً في الوضع السياسي العراقي".
من جهته، يشير عضو مجلس النواب عن محافظة البصرة رفيق الصالحي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "جلسة البرلمان التي شهدت التصويت على تحويل حلبجة إلى محافظة، شهدت أيضاً إدراج قضاء تلعفر على جدول أعمال المجلس، والبحث في تحويله إدارياً إلى محافظة". يستدعي ذلك، وفق الصالحي، الدفع "باتجاه تحويل قضاء الزبير في البصرة إلى محافظة، خصوصاً أنه من أكبر الأقضية في العراق، وأن عدد سكانه يتجاوز مليون نسمة، كما أن لديه منافذه الحدودية وثرواته الاقتصادية". وبرأيه، "أهل الزبير لا بد أن تجتمع كلمتهم من أجل تحويل مدينتهم إلى محافظة، وهذه ليست رغبة سياسية، بل شعبية واجتماعية، من أجل الدفع بعجلة الخدمات نحو التقدم".
يجري هذا الحديث في ظل صمت وزارة التخطيط التي تعد أكثر الجهات الحكومية المسؤولة عن هذا الملف، لكن مصدراً حكومياً يقول لـ"العربي الجديد"، إن "المطالبات تتلخص معظمها في أسباب طائفية، وتحديداً في المحافظات ذات الغالبية السنية، حيث تسعى بعض الأحزاب الشيعية مدفوعة بمباركة تحالف الإطار التنسيقي وإيران للسيطرة سياسية وحكومياً على مناطق داخلها". ويشير المصدر نفسه إلى أن جميع المطالبات السياسية بشأن تحويل بعض المدن إلى محافظات عراقية "لم تدرج أي مدينة (ذات غالبية) شيعية، لذلك فإن حكومة محمد شياع السوداني لا تتعاطى كثيراً مع هذه التوجهات، وبالتالي فهي تتعرض إلى هجوم إعلامي مستمر من قبل الأحزاب الداعمة للحكومة، وهي الأحزاب الشيعية".
من جانبه، يلفت الباحث العراقي في الشأن السياسي عبد الله الركابي إلى أن "توجهات بعض الأحزاب الشيعية تتلخص في العمل خلال السنوات المقبلة لتحويل العراق إلى 25 محافظة، وهذا يعني 25 مجلساً و25 محافظاً". ويوضح في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الموازنات المحلية للمحافظات ستكون على عدد المحافظات، أي أننا سنشهد 25 موازنة محلية تكون بيد الأحزاب الحاكمة في تلك المحافظات، وعلى الأغلب ستكون لهذه الأحزاب فصائل مسلحة". يستدعي استحداث محافظات عراقية إضافية، وفق الركابي، "زيادة عدد أعضاء مجلس النواب، بالإضافة إلى آليات جديدة في توزيع الوزارات والهيئات والمناصب العليا في الدولة، ما يعني أن هذه المطالب لا تخرج عن كونها مطالب حزبية سياسية مدفوعة داخلياً وخارجياً".
بدوره، يدرج الناشط السياسي العراقي مصطفى العبيدي دعوة تقسيم المحافظات "ضمن التسويق والترويج الانتخابي الذي تسعى إليه بعض الجهات التي تعيش وتكبر على الخلافات وإثارة المشاكل". ويضيف في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "تحويل هذه المناطق (المذكورة) إلى محافظات سيكون بداية لاقتتال داخلي بين الأقليات، إذ سيكون الصراع بين الكرد والمسيحيين والشبك على حكم سهل نينوى". أيضاً سيكون الصراع "سنياً – شيعياً في تلعفر، على اعتبار أن أغلبية سكان قضاء تلعفر هم من العرب والتركمان السنة بينما تحاول الأقلية الشيعية التركمانية حكم المنطقة". وباعتقاده، فإن "تحويل سنجار إلى محافظة سيكون كفيلاً أيضاً بخضوعها الكامل لنفوذ حزب العمال (الكردستاني)، ووحدات حماية سنجار (المرتبطة بالحزب)، والجهات التابعة لها". ويستبعد العبيدي "تمرير هذا المشروع وتحويل تلك المناطق إلى محافظات، لأن غالبية سكانها يرفضون الفكرة"، عازياً ذلك أيضاً إلى "أن الوضع العام في العراق لا يتحمل المزيد من التصعيد السياسي في ظل الظروف التي تعيشها المنطقة حالياً".
799 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع