شارع الرشيد في بغداد، 7 فبراير 2025
العربي الجديد:يزداد التمظهر الديني داخل العراق على حساب مبادئ المواطنة والمدنية، ليرسم بعد 22 عاماً على الغزو الأميركي للبلاد ملامح دولة يخشى العراقيون من تغولها أكثر وأكثر، ما يؤثر على حياتهم الشخصية والعامة، عبر سلسلة إجراءات قانونية تتخذها السلطات وقوانين أقرت في البرلمان.
ممارسات دينية "مقوننة"
وتؤكد حزمة القوانين الأخيرة التي أقرّها البرلمان واعتمدتها الحكومة ذلك، أبرزها قانون الأحوال الشخصية ضمن المفهوم الجعفري والسُنّي وإلغاء قانون الأحوال المدني المعمول به منذ عام 1958، وقرار حظر بيع وتصنيع واستيراد المشروبات الكحولية، وقانون العطل والمناسبات الدينية، وقانون "مكافحة المثلية". وتضاف إلى ذلك مشاريع قوانين تنتظر التصويت، أبرزها إقرار وضع خاص متعلق بـ"قدسية" بعض المدن التي تضم المزارات الدينية، ناهيك عن الممارسات الأمنية التي تكرّس تجاوزات لحقوق الإنسان وحريات الأفراد والمجتمعات، من بينها اعتقال المفطرين خلال شهر رمضان من العام الحالي، وحملات ما يسمى بـ"منع السفور" بحجج التبرج وتحت عنوان القداسة، ومنع إقامة الحفلات الغنائية مثلاً في أوقات محددة من السنة.
هذه الممارسات المدروسة والمتفق عليها من قبل الأحزاب الدينية الحاكمة في البلاد، تدفع تدريجياً إلى تراجع مستوى الحريات والديمقراطية في بلاد الرافدين، بالإضافة إلى التضييق على مساحات الأحزاب العلمانية والمدنية أمام الصعود السريع للأحزاب الدينية، فيما تشير منظمات المجتمع المدني والعاملون فيها من متطوعين ونشطاء إلى أن السلطات العراقية تتجه نحو تكوين وتمكين النظام "الأبوي" القريب من مفهوم الشمولية. وعلى الرغم من أن البلاد تحكمها أحزاب متعددة، إلا أنها تتفق في آليات ومنهج الحكم السياسي عبر مبدأ المحاصصة الحزبية والطائفية في تقاسم المناصب والموارد، أما الأحكام على المجتمع، فإنها أحكام دينية وعرفية لا تنسجم مع طبيعة المجتمع العراقي المدني.
ويظهر مؤشر الديمقراطية للعام 2024 العراق ضمن نهج الأنظمة الاستبدادية في العالم، إذ يشير تقرير صدر عن وحدة "ذي إيكونوميست إنتليجانس للأبحاث والتحليل" التابعة لمجموعة "ذي إيكونوميست"، إلى أن العراق احتل المرتبة 126 من أصل 167 دولة وصنف باعتباره دولة استبدادية وبلغ عدد نقاطه 2.8 من عشر نقاط، وعموماً تراجعت نقاط العراق باستمرار حيث كانت نقاطه في 2023 تبلغ 2.9 في انخفاض مستمر منذ 2018 عندما كانت نقاط العراق 4.1 نقاط.
العراق... صراع القوى الدينية والمدنية
ويؤكد ناشطون وسياسيون وأعضاء في الحركات المدنية العراقية التراجع الواضح والمتصاعد للحرّيات، التي تعتبر من أبرز ما تحقق للعراقيين بعد الغزو الأميركي للبلاد، بالإضافة إلى التعسف في استخدام القانون لملاحقة الناشطين والمدونين والتضييق على الصحافيين خلال العامين الماضيين، أي خلال فترة حكومة محمد شيّاع السوداني، فيما يعتبر أعضاء في أحزاب مدنية أن وجه الدولة الدينية يتضح يوماً بعد يوم من جراء ممارسات السلطة تجاه أغلبية الشعب، في حين يعتبرون أن المواجهة بين الطرفين صعبة بفعل امتلاك السلطة كل الأدوات لإجهاض أي حراك ناشئ.
في السياق، يقول القيادي في حزب "الخط الوطني" حامد السيد إن "المواجهة بين الأحزاب الدينية والحركات والمنظمات المدنية ليست مواجهة بالمعنى الحرفي، بل هي طرق تحايل وانتحال للجسم المدني من قبل القوى الإسلامية والجماعات المتطرفة التي كانت تواجه المدنيين باعتبارهم عدواً جوهرياً لثوابت الإسلام، وهناك بعض القوى ترتدي لباس المدنية وهي بجوهرها إسلامية ومتفقة مع الإسلام السياسي، والدليل أنه في أقرب مناكفة تحدث تحول الصراع من سياسي إلى وجودي مع المؤسسات أو المنظمات المدنية". ويعتبر السيد في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن "الأحزاب الدينية في العراق بلا جمهور وهي مدركة أنها منعزلة، بالتالي توجه سهامها نحو المدنيين لصناعة عدو تهاجمه مع كل خسارة تصيبها".
كما يتطرق السيد إلى "المؤسسات الدينية التي توغلت في قلب مؤسسات الدولة، من ضمنها أقسام الإرشاد الديني في وزارتي الدفاع والداخلية، وإخضاع المنتسبين والمقاتلين إلى المعتقد الديني، رغم غياب المسوغ القانوني لهذا الإجراء". ويتساءل: "إذا كان الإجراء حكومياً، فلماذا لم يشمل كل الوزارات، لماذا خُصّص لوزارتين معنيتين بالأمن والعسكرية وحماية العراقيين؟ مع العلم أن أقسام الإرشاد الديني موزعة سياسياً وتحمل ألواناً طائفية، وأقصد هنا الشيعة والسنّة... ويمكن القول إن المشكلة الحالية هي أن النظام بات بلا ملامح وبحاجة إلى إعادة نظر وتصحيح".
من جهته، يشير محيي الأنصاري، وهو رئيس حراك "البيت العراقي"، أحد التكتلات السياسية المدنية في العراق، إلى أن "الحركات المدنية في البلاد، قبل احتجاجات تشرين وبعدها، عانت من مشكلات بنيوية وتنظيمية عدة حالت دون إنتاج نموذج مدني علماني قادر على التأثير العميق والمستدام في المجتمع، ومنها الافتقار إلى التنظيم والتماسك الداخلي، وضعف الاستقلالية المالية، بالإضافة إلى القمع والترهيب، حيث تعرض النشطاء المدنيون وما زالوا يتعرضون للاغتيال والاعتقال والتهديد، كما لا بد من الاعتراف بأن المفاهيم المدنية والعلمانية لم تترسخ في الوعي الشعبي لغاية الآن كنقيض واضح وواقعي لهيمنة الإسلام السياسي".
ويوضح الأنصاري في حديث مع "العربي الجديد"، أن "شرائح من المجتمع التقليدي ما زالت تتوجس من المدنية بسبب حملات الشيطنة التي مارستها أحزاب الإسلام السياسي بشكلٍ ممنهج وكبير ومدفوع بواسطة المال السياسي". ويعتبر أن "الأحزاب الدينية وسلوكها الخاطئ والفاسد أدّى إلى تشويه الهوية الوطنية من خلال تغليب الانتماءات الطائفية والعرقية على الهوية الوطنية، ما أضعف فكرة الدولة المدنية القائمة على المواطنة".
من جهته، يعتبر الباحث في الشأن العراقي غالب الشابندر، وهو عضو سابق في حزب الدعوة الإسلامية، أن "من يملك المال في العراق يحكم ويسيطر، وللأسف فإن الأحزاب الدينية واصلت فرض مفاهيم دينية وطائفية على الشعب العراقي، كما أن الأحزاب التي كانت تعارض صدام حسين حينما دخلت إلى العراق عام 2003، تعاملت مع العراقيين باعتبارهم ليسوا متدينين، وكان بعض قادة وأعضاء هذه الأحزاب يعتقدون بأن العراقيين متأثرون بالعلمانية والأفكار اليسارية والاشتراكية".
ويرى الشابندر في حديثه مع "العربي الجديد"، أن "الأحزاب الدينية في العراق استخدمت المليشيات المسلحة لابتزاز معارضيها وتهديدهم وإسكات الأصوات المدنية والوطنية، وتظاهرات تشرين كانت مثالاً على قتل المحتجين عبر السلاح التابع للسلطة، بل إن فتاوى صدرت بحق مدنيين من أجل تصفيتهم".
وبحسب الشابندر، فإن "القوى المدنية مشتتة، ولم تتمكن من صناعة جبهة سياسية واحدة لثلاثة أسباب: الأول المال السياسي الذي اشترى شريحة منهم، والثاني غياب الخبرة السياسية، والثالث الخلافات الشخصية والاتهامات المتبادلة والسعي لزعامة المشهد المدني، وهذه الأخيرة تحصل في دهاليز الأحزاب الدينية". ويؤكد أن "العراق يسير باتجاه المدنية، وهنا أقصد الشعب وليس الدولة، وهو ما قد ينعكس في وقت لاحق على نتائج الانتخابات، والجهات المدنية بحاجة للتوغل في اختراق الطبقات الشعبية والريفية بشكل واسع، وتوسيع نطاق العمل الميداني، وتفكيك سلطة المليشيات بطرق ثقافية واعية".
أما الكاتب والباحث العراقي إياد الدليمي، فيشدّد في حديث مع "العربي الجديد"، على أن "القوى والأحزاب العراقية المعارضة قبل سقوط النظام السابق (صدام حسين) كانت في غالبيتها دينية مؤدلجة، وخصوصاً تلك التي كانت تتخذ من إيران مقراً لها، وحين أمسكت بالسلطة في العراق، استغلت ما عرف بإرث المظلومية لدى شيعة العراق لتزيد رصيدها الشعبي مستفيدة من دعم لا محدود قدمته المرجعيات الدينية لهذه القوى السياسية الدينية، فيما لم تتمكن القوى المدنية من إنضاج تجربتها". ويشير الدليمي إلى أن "محاولات جرت لتحويل العراق إلى دولة دينية ثيوقراطية على شاكلة إيران، لكن الصراع بين الجهات الدينية والمدنية لم يحسم بعد، بل في كل مناسبة عامة يمكن أن يتجدد، لذلك فشل الأحزاب الدينية سيسرّع إيجاد دولة مدنية في العراق".
وعلى الرغم من ذلك، فإن السلطات العراقية سعت في أكثر من مناسبة إلى سنّ قانون حرّية التعبير، الذي يجده صحافيون وناشطون حصاراً قانونياً عليهم، فيما هاجمته منظمة يونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة)، في وقتٍ سابق، معتبرة أن "أجندة سياسية تقف خلفه، وأنه يخالف الدستور العراقي ولا يتماشى مع المعايير الدولية لحرية الرأي". وتتضمن نسخة هذا القانون فقرات تقيّد حريات التعبير وتفرض عقوبات وغرامات مالية.
1064 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع