الغد - ميدل إيست أونلاين ترجمة: عبد الرحمن الحسيني - عندما ننظر إلى المذبحة الإنسانية الأخيرة في باريس، أو إلى القرابين التي ذبحت في البرجين التوأمين في نيويورك قبل 14 عاماً، فإننا نشاهد خليطاً من الرعب والألم والمعاناة الإنسانيين، لكننا نفشل في السؤال عن الأسباب.
* * *
متى سترى نخبة أميركا نصف الذكية التي تدير وزارة الدفاع الأميركية ووزارة الخارجية الضوء، وتقر بأن الولايات المتحدة ربما تفتقر إلى المؤهلات، أو الموارد، لإدارة أو التأثير بقوة على الجيوساسات في كوكب الأرض برمته؟ ربما كان ذلك ممكناً لفترة عقدين أو ثلاثة عقود في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لكن أواخر السبعينيات أصبحت من الماضي السحيق، بينما انكمشت الهيمنة الأميركية على ناتج الاقتصاد العالمي الآن إلى مجرد 18 في المائة، في مقابل 28 في المائة في العام 1950. وكذلك حال هيمنتنا العسكرية.
لا يبدو أن القيادة في أميركا فهمت ذلك. والأفكار التي طرحها جورج سانتايانا: "أولئك الذين لا يتذكرون الماضي صائرون إلى تكراره"، وكارل سيغان: "يجب أن تعرف الماضي لكي تفهم الحاضر) أصبحت شعارات منسية. وهكذا، ترد الحكومة ووسائل إعلامها المتطفلة على التطورات بطريقة عاطفية وغير عقلانية في الغالب، بحيث تفسد فهم العامة لهذه التطورات.
عندما ننظر إلى المجزرة الإنسانية الأخيرة في باريس، أو القرابين التي سقطت في البرجين التوأمين قبل 14 عاماً، فإننا نشاهد نسيجاً من الرعب والألم والمعاناة البشرية، لكننا نفشل في التساؤل عن السب أو الأسباب التي جلبت هذه الأعمال المرعبة، أو السلوك/ النتائج غير الإنسانية. وننحو باللائمة على الإرهاب والإرادة الشريرة لمجموعات صغيرة من الأشخاص المدفوعين أيديولوجياً، ولهم أجندة أو غرض؛ ونادراً ما ننظر أو نسعى إلى معرفة السبب الحقيقي، إذا نظرنا أصلاً. كما أننا نستغفل أنفسنا على الأغلب، بحملها على الاعتقاد بأن هذه المجموعات التي نصنفها بأنها إرهابية لا تمثل نفس مشاعر أغلبية مخصوصة من المواطنين، عندما تفعل في الغالب... حتى لو كان نفس هؤلاء المواطنين، الذين قد يعرفون بلداً أو منطقة، يبدون وأنهم يعيشون في حالة سبات سياسي أو مقموعين.
بينما نفشل في تعريف الأسباب التي تجلب ما نسميه الإرهاب، فإننا نفشل أيضاً في إدراك أن هذه الأسباب تجلب قضايا أيديولوجية أعلى: أهدافاً ومبادئ تخدمها قيادة متشددة بإخلاص وحماس، والتي نصفها بطريقة تبسيطية بأنها إرهابيين، بينما يتيح لنا السياق بأن نزعم في الغرب بأننا أصحاب الحق، بينما نلقي بكل اللوم على أي جيشان إقليمي "عليهم". وتمتد تلك المنطقة التي يغمرها الجيشان الآن إلى ما وراء الشرق الأدنى/ الأوسط، حيث تتفرع مشاعر عدم الرضا من أفغانستان (شرقاً) إلى المغرب (غرباً)، لدى ثقافات متنوعة مخلصة للإسلام ومتأثرة كثيراً بالنجاح الذي تحققه ما تدعى الدولة الإسلامية.
تحت رعاية الأمم المتحدة والقيادة الدبلوماسية لجون كيري (الولايات المتحدة) وسيرغي لافروف ( روسيا)، تمت للتو في فيينا صياغة خطة لإضفاء الاستقرار على سورية؛ خطة شاملة للكل باستثناء مجموعة عدوة واحدة. وذلك الاستثناء هو "الدولة الإسلامية في العراق والشام" أو "داعش" أو أي اسم يرغب المرء في استخدامه لتعريف الدولة الإسلامية الجديدة العازمة، والتي تسيطر راهناً على مساحات شاسعة من أراضي العراق وسورية، بينما تؤسس نفسها كمتعهد لإضافة المزيد من الأراضي والطموح في إقامة خلافة.
لكن إضفاء الاستقرار على سورية، مع أهميته في أعقاب حرب أهلية كارثية، لن يبدأ في شفاء المشكلات الجيوسياسية في ذلك الجزء من العالم؛ مشكلات كانت بريطانيا الإمبريالية قد أسستها قبل أكثر من ستة عقود مضت، ثم تبنتها وفاقمتها لاحقاً أميركا الامبريالية الطموحة والقوية بنفس المقدار؛ مشكلات ليست ذات جذور اقتصادية عميقة وحسبت، وإنما غطاء كثيف من الإجحاف والكذب والخداع. وقد لعبت بريطانيا والولايات المتحدة أدواراً تخريبية مدمرة في الشرق الأوسط حين صنعتا الحدود الجغرافية، وقامتا بتنصيب وخلع الحكام حسب الرغبة، وتدخلتا قسراً في جيوسياسات المنطقة، في تدخل وصل ذروة الجنون بغزو جورج بوش للعراق وخلع صدام حسين، الدكتاتور الذي كانت له جذور راسخة، والذي حافظ لأمد طويل على بعض التوازن السياسي في المنطقة. وكان ذلك أكبر خطأ على الإطلاق في سجلات السياسة الخارجية الأميركية؛ واحداً سيتعقب إلى التاريخ أثر رئيس غير بارع، والذي اعتمد في اتخاذ قراراته على كادر من المستشارين الذين أثبتوا أنهم ليسوا من الساسة اللامعين هم أنفسهم (ديك تشيني، ودونالد رامسفيلد، وربما نوعية بيتر برنسيب وكولن باول، في القمة).
إن جهل القادة الأميركيين أو تجاهلهم التاريخ، خلقا بغزو العراق -ليس مجرد حرب خيار غير مشروعة وغير لازمة، وإنما إخلالا بميزان قائم للثقافات والأديان والأعراق والسلطات الاجتماعية-الاقتصادية الحاكمة. وفي العقد الذي تبع الغزو، ساعدت الغالبية الشيعية المتعطشة للانتقام والتي اعتلت السلطة، سوية مع الانتخابات والدعم الأميركي، في خلق أرضية خصبة لحركة تمرد سنية تحت قيادة قادرة من أعضاء سابقين في حكومة صدام حسين. سوى أن هؤلاء المتمردين ينظرون هذه المرة إلى الدين –الإسلام- على أنه المحرك الرئيسي لوجودهم، والشيء الذي يبقيهم أقوياء ومعاً. وذلك، ولا شيء غيره، هو "الدولة الإسلامية" الباحثة عن هويتها، أو خلافة الوقت الراهن.. والتي جاءت إلى العالم هدية من جورج دبليو بوش.
على الرغم أننا في الولايات المتحدة قد نذرف دموع النفاق على إخوتنا الفرنسيين، بينما ننسى المجازر الأخيرة في بيروت وإسطنبول أو الطائرة الروسية التي أسقطت فوق سيناء، فإنه قد يكون من الجدير التأمل في حكومات الغرب وساسته، الذين يبدون وأنهم يفتقرون إلى إدراك مسألة سياسية واضحة: أن القضايا (المبادئ التي تتم خدمتها بإخلاص وتحمس... وغالباً بتشدد)، إنما جاءت من أسباب (تطورات أو ظروف مسؤولة عن عمل أو نتيجة). وكان إعلان الرئيس هولاند الأخير عن شن الحرب على "داعش" مجرد رد فعل عاطفي وسياسي، والذي لن يحول في حد ذاته دون حدوث عنف مستقبلي، وإنما قد يزيده.
ستفعل الولايات المتحدة (والغرب) خيراً بتحسين علاقاتهم مع روسيا وإيران للمساعدة في حل وضع الشرق الأوسط، ناهيك عن الجرح المفتوح مسبقاً في فلسطين -والذي يجب أن يُشفى قبل أن تحصل المنطقة فعلاً على السلام، وحيث يجب على كافة الأطراف تعلم كيفية التفريق بين الأسباب والقضايا التي تعمل في هذه المنطقة من العالم: مهد الحضارة ومكان ولادة الديانات السماوية الثلاث.
وبالنسبة لنا نحن في الغرب، فإنه ربما يتوجب علينا توجيه تعاطفنا الأخوي -ليس لضحايا باريس وحسب، وإنما أيضاً لأولئك الذين سقطوا في بيروت وإسطنبول وسيناء... ولكل المواقع الأخرى التي ترك فيها "داعش" بطاقة دعوته غير الإنسانية.
1080 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع