نيكولا بوسان رسام فيلسوف مزج بين المقدس والمدنس

    

        الطبيعة تحت فرشاة بوسان تتنفس هواء الماضي

يقام في متحف اللوفر معرض ضخم لأكبر فنان فرنسي في القرن السابع عشر هو نيكولا بوسّان، الذي حار المؤرخون في تصنيفه، فهو على التوالي ملحد وفاجر وفيلسوف ومسيحي. ومن ثَم كان عنوان المعرض “هل كان بوسّان يؤمن بالله؟” من أجل تبين مدى إيمانه من عدمه، انطلاقا من أعماله الفنية.

العرب - أبوبكر العيادي:للرسام نيكولا بوسّان (1594 - 1665) مكانة بارزة في تاريخ الفن الفرنسي، فالمؤرخون يعترفون بكونه سيده الأكبر، والرسام المبجل في بلاط لويس الثالث عشر، وصاحب “الفصول الأربعة” إحدى الروائع التي يفخر بها متحف اللوفر، ولكنهم يختلفون في ما عدا ذلك، فإذا هو مراوغ، لا يقرّ لمؤرخي الفن حوله قرار.

فهو في القرن الثامن عشر فيلسوف علاّمة متفصٍّ من الدين، بل خليع يعشق ربّات إلهامه. وفي القرن التاسع عشر هو رسام مسيحي بامتياز. وفي القرن العشرين واقعي يعطي أهمية تاريخية وتوثيقية كبيرة لكل ما يرسم، كما يرى الماركسيون الذين تبنّوه كواحد منهم، فيما يرى المعاصرون أن ذلك من مميزات العبقري إذ يتعدد النظر إليه باختلاف العصور. والثابت أنه فنان موهوب لا يقيّد نفسه بقوانين صارمة، بل يمارس فنه بحرية وشاعرية.

بعد بدايات محتشمة في مسقط رأسه بنورمانديا، التحق بوسّان عام 1612 بمشغل بباريس كان نافذته على المكتبة الملكية وما حوته من نسخ عن أعمال رافاييل وجول رومان وفن صنع التماثيل والنقوش البارزة القديمة وزخارف مدرسة فونتينبلو.

وكان للقائه بالإيطالي جان باتيستا مارينو دور في سفره إلى روما، فقد ساعده على اقتحام الأوساط الفنية والثقافية، وعرّفه على بربيني الذي قدّمه بدوره إلى خاله البابا أوربان الثامن، وأثمر اللقاء عن حِلْية منحوتة من الخشب أعدّها بوسّان لهيكل كنيسة القديس بطرس بروما، ولوحة أخرى عن القديس إيراسموس، ولكنها لم تنل رضا القساوسة لخروج بوسان عن القواعد المألوفة. مما اضطرّه إلى التعامل مع خواصّ يستهويهم فنه حتى يحافظ على حريته واستقلاله.


كان بوسّان يرى الرسم فنا مدينا بكل شيء للفكر، لذلك كان يُعرض عن مشاهد الحياة اليومية، لينهل من النصوص الشعرية الكبرى لأوفيد وفرجيل خاصة، محاولا نقلها بحساسية، ويستوحي من التاريخ ألوانه الجوية، الخفيفة الصافية، مستفيدا في الوقت نفسه من تجارب تيسيان وألوانه الذهبية، وخصوصا إقحامه الطبيعة بمناظرها وحيواناتها.

ثم جاءت شهرته يوم أنجز لوحة تاريخية للكردينال فرنشيسكو بربريني هي “موت جرمانيكوس″، ثم لوحة ميثولوجية هي “إيكو (ابنة الهواء والأرض) وحبيبها نرسيس″ عام 1630. بداية من 1633، تجلى في أعماله تأثير رافاييل سواء في المواضيع ذات الصبغة التاريخية أو تلك التي تصوّر مشاهد وشخصيات توراتية، كما يتبدّى في لوحتين تمثلان “رعاة أركاديا”.

ولما ذاع صيته، دعاه ريشوليو وزير الملك لويس الثالث عشر عام 1640، حيث عُيّن كرسّام القصر الأول وكُلّف بأعمال زخرفية ضخمة أهمها قاعة اللوفر الكبرى، فكانت مناسبة لربط علاقات مع هواة جمع اللوحات الفنية، الذين ظل يتعامل معهم حتى موفى 1642، حيث عاد إلى روما التي غادرها مكرها، فاتخذت المناظر لديه مكانة أكبر.

في هذه المرحلة، اهتم بوسّان بالبحث عن المعيار الصحيح، والتناسق المدروس، والشكل المعتدل. والجديد في هذا “المشهد الأمثل” إدخال شخصيات وبنى معمارية، مُثلى هي الأخرى، فبدت الطبيعة تحت فرشاته تتنفس هواء الماضي، إذ كان يقحم في مشاهده أبطالا يضفون على اللوحة حركية طريفة.

وبعد “سلسلة التعميد” التي تَعُدّ سبع لوحات، اتجه بوسّان إلى مواضيع أخلاقية مستوحاة من الإنجيل (حكم سليمان، أليعازر وربيكا) وأخرى أليغورية ليصور عظمة الطبيعة إذ تفرض قانونها على الإنسان، ويجعل الأشخاص أشبه بالمنحوتات.


تتبدّى مثالية بوسّان الفنية في اختياره أكثر حلقات الميثولوجيا اليونانية الرومانية ضمورا وأقل الفصول التوراتية انتشارا ليخضعها لمعالجة تصويرية تمنح المشهد مكانة خاصة، وتولي الأفق المنظوري أهمية تبرز عمق اللوحة.

وتتجلى أيضا في ابتكاره لونا أزرق صار يعرف به كعلامة مميزة، ما يعطي للتضادّ بين الغيوم المنفوشة وزرقة السماء سمة فريدة، مع ألوان حمراء تبدو مثل شعلة أو انبجاس لون في شريط سينمائي بالأسود والأبيض. وليس غريبا أن ينعته النقاد بـ”رافاييل الفرنسي” ولا أن يعتبروه سيد الفن في بلاده، وسيد الكلاسيكية التي تقوم على الربط بين التراث القديم والعقلانية.

ومع ذلك لم يظهر تأثيره في الأجيال التالية إلاّ بعد وفاته عام 1665، بفضل مؤسسة الأكاديمية الملكية للفن والنحت، فقد استندت في دروسها ونظرياتها إلى أفكاره وممارساته إلى جانب دروس عن أعمال رافاييل.

والخلاصة أن بوسّان جعل من الدين مسألة خاصة، فهو وإن كان مولعا بشخصيات التوراة والإنجيل، لم يتردد في المزاوجة بين الدينيّ والدنيوي والأسطوري، يقبل على تمثل موسى والبتول مثلما يحتفي بالعناصر الميثولوجية في العصور القديمة.

وفي رأي نيكولا ميلوفانوفيتش مفوض المعرض، أن مقاربة فن بوسّان من الزاوية الدينية يسمح بتسليط نظرة جديدة على الطاقة التخييلية لدى فنان استثنائي قادر على المزج بين المقدس والمدنس لتأمل أسرار الدين بطريقة أفضل.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

441 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع