ما فعلتُه في أبو غريب لا يغتفر..
إريك فير/ خدم في الجيش الأميركي في الفترة بين عامي 1995 و2000 كمترجم للعربية وعمل في العراق محققا متعاقدا في بداية عام 2004 (خدمة «نيويورك تايمز»)
لقد قضيت هذا الفصل الدراسي في تدريس الكتابة الإبداعية بجامعة ليهاي. لقد كنت في السابق جنديا، وضابط شرطة، ومحققا. لذا كان سماع الطلبة وهم ينادونني بـ«الأستاذ» وتحديد الواجبات الدراسية التي عليهم إنجازها، تغييرا كبيرا في المسار. مع ذلك لم يبعدني اسم الصف وهو «كتابة الحرب» كثيرا عن ذكرياتي التي ظلت تطاردني على مدى العقد الماضي. وأشعر بامتنان عظيم لجامعة ليهاي لمنحي هذه الفرصة لتدريس هذا «الكورس». ولعل رغبة الكلية في الاستعانة بأحد المحاربين القدامى في التدريس هي أكثر ما تحتاجه البلاد من أجل الوقوف بشكل جمعي على ما فعلته الثلاثة عشر عاما من الحرب. مع ذلك يذكرني التدريس عن الحرب يوميا بأنني لست أستاذا جامعيا؛ فقد كنت محققا في سجن أبو غريب وقمت بعمليات تعذيب. ويسيطر سجن أبو غريب على كل دقيقة من يومي. في بداية عام 2004، كان العاملون داخل سجن أبو غريب يتدافعون لتغطية صور صدام حسين الجدارية بطبقة من الطلاء الأصفر؛ وقد اتكأت دون قصد على أحد تلك الجدران، وما زلت أرتدي السترة الصوفية السوداء ذات البقعة الصفراء. ولا تزال رائحة الطلاء في أنفي، والأصوات لا تزال في أذني. كذلك ما زلت أرى رجالا كنا نطلق عليهم معتقلين. وفي الصف تحدثت عن الأمور التي قام بها الجنود الأميركيون في العراق، وأحضرت علبة سجائر مملوءة بالحلي والتذكارات التي اشتريتها من بائعين عراقيين في مطار بغداد الدولي، وجلبت معها السترة الصوفية السوداء. وعندما طلبت من الطلبة الحديث عن ذكرياتهم الخاصة بواقعة نشر صور من داخل سجن أبو غريب عام 2004 والتي سجلت الانتهاكات التي تعرض لها المعتقلون، كانت نظرات الطلبة تخبرني بأنهم كمن ينبغي عليه أن يعرف شيئا لكن الإحراج يمنعه من الإقرار بأنه لا يعرف. وتجنب أكثرهم النظر في عيني، في حين ندّت عن بعضهم إيماءات مبهمة، والتزم آخرون الأمانة التامة فاكتفوا بالتثاؤب.
لقد كانت هذه أولى مواجهاتي مع جيل لا يرى أن نشر صور أبو غريب لحظة فارقة في حياته، ولا ألومهم على ذلك. لقد كانوا في المدرسة الإعدادية في ذلك الوقت، وهذا الأمر مكانه كتب التاريخ، وموضوع يتحدث عنه الآباء. إنه مجرد إجابة عن سؤال في اختبار.
وعندما طالعت وجوههم الخالية من التعبير، أدركت أنني بإمكاني الشعور بالارتياح، فذكرى أبو غريب سوف تخبو، واعتداءاتي سوف تُنسى، لكن فقط عندما أسمح أنا لذلك بالحدوث. لقد نُشرت مقالات في صحف توضح بالتفصيل ما ارتكبناه من إساءات في التعامل مع المعتقلين العراقيين. وقد أجريت مقابلات تلفزيونية وإذاعية، وتحدثت إلى منظمات مثل منظمة العفو الدولية، واعترفت بكل شيء إلى محام من وزارة العدل، ووكيلين من إدارة التحقيقات الجنائية التابعة للجيش. لقد قلت كل شيء، وليس من الصعب التظاهر بأن أفضل ما يمكن فعله هو ترك كل شيء وراء ظهري. لقد وقفت في الصف الدراسي ذلك اليوم محاولا أن أسمح للفتور واللامبالاة بالتخفيف من حقائق التاريخ المؤلمة.
لم يعد عليّ القيام بدور المحقق السابق في سجن أبو غريب. لقد كنت أستاذا في جامعة ليهاي، ويمكنني تقييم أوراق الاختبار وقول ملاحظات ذكية في الصف. ويمكن لابني الذهاب إلى المدرسة بالحافلة والحديث مع أصدقائه عن عمل والده. لقد كنت شخصا يمكنه أن يفخر بذاته.
في النهاية شجعت طلبتي على تتبع الصور التي التقطت في سجن أبو غريب وتسجيل ردود فعلهم في مقالاتهم الإبداعية. وقد قضينا وقتا في الحديث عن الانتهاكات التي ارتكبت، بل وأطلعتهم على بعض كتاباتي. ورغم أنهم لا يزالون ينادونني بالأستاذ، أشك في أنهم يرونني كذلك. وقد أصدر مجلس الشيوخ مؤخرا تقريره عن التعذيب، الذي أذهل محتواه الكثيرين، حيث تضمن روايات عن الإغراق الوهمي، الذي فاق معدل حدوثه المعدل المذكور في التقارير السابقة، والحرمان من النوم الذي وصل لأسبوع، والإجراء المرعب المهين الذي يسمى «إعادة السوائل إلى الجسم عن طريق المستقيم». ولا يمثل هذا مفاجأة بالنسبة لي، فأنا أؤكد لكم أن هناك المزيد، وأن هناك الكثير من الأمور المستورة.
لم يقرأ أكثر الأميركيين التقرير، ولن يفعلوا، لكنه سيظل شاهدا دائما على حال بلادنا يوما ما. ربما سيطلب أحد الأساتذة، في أحد الصفوف الدراسية في الجامعة في المستقبل، من طلبته القراءة عن الأمور التي فعلتها هذه الدولة في بدايات القرن الواحد والعشرين. وسوف يكون من ضمن تلك القراءات أجزاء من تقرير مجلس الشيوخ عن التعذيب. وستخلو نظرات العيون من التعبير وسيكون هناك تثاؤب فاتر غير مبالٍ؛ كذلك سيكون هناك مقالات وفروض كتابة؛ وسيعلم الطلبة أن هذا البلد ليس دائما مصدرا للفخر والزهو.
1012 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع