الفرقة الكونغولية تعتبر أن الغناء ما هو إلا صلاة مرتين
هالة صلاح الدين/لندن- مجرد حاجز من الصفيح الأزرق الرث يفصل أحد شوارع مدينة كينشاسا حيث تتسلل مياه المجاري إلى البيوت، عن جوسيفين موبنجو وهي تتمرن على العزف على آلة التشيلو خمسة أيام في الأسبوع؛ تصحو في الرابعة والنصف صباحا وتقف على قدميها يوما بأكمله لتبيع العجة في السوق.
ومع مجيء المساء تنطلق في رحلة تستغرق عدة ساعات، وإذا افتقدت أجرة الحافلة، فإنها تسير أميالا على قدميها، كي تعزف مع أوركسترا كيمبانجو السيمفوني، أول أوركسترا كامل من السود في العالم، والأوركسترا الوحيد المقيم في أفريقيا الوسطى.
انس كل ما تناهى إليك عن معهد الكونسرفتوار ونُوَته المصقولة وخريجيه بأناقتهم وتعليمهم المنهجي. فهذا الأوركسترا يضمّ من بين أعضائه ناتالي؛ عازفة فلوت وأم وحيدة تكسو صبيها الصغير وتدفع الإيجار بمشقة ما بعدها مشقة، تقول: “لا تعني معيشتنا في الكونغو أن نستسلم للقذارة”.
بابي عازف بوق وميكانيكي، جوزيف عازف كمان وكهربائي، وكل الأوركسترا حرفيون أو عاملون بالأجرة. يعزفون سيمفونية بيتهوفن التاسعة على حين يتبادلون الخبرات لدرء الجوع والمرض عن أولادهم. لا عجب أنهم حين وفدوا إلى بريطانيا مؤخرا، لم يتمالكوا النبس بتعليقات من قبيل: “لم نبصر لندن إلا في أفلام فان دام، انظر إلى كل هؤلاء الناس الذين يأكلون في الهواء الطلق”.
كان قائد الأوركسترا أرمان دانجيندا قد اختار اسم جده الزعيم المسيحي سيمون كيمبانجو ليكون اسم فرقته: “كان جدي يقول: إن الغناء ما هو إلا صلاة مرتين”.
لا تعدم موسيقاهم إيقاعات أفريقية غنية بينما تغني الجوقة باللغتين اللينغالا والكيكونغو. يستنكر دانجيندا أن عزف موسيقى “المستعمر” انتقاص من شأن تراث الكونغو: “كل ما نتعلمه من الموسيقى الكلاسيكية أتاح لنا إثراء موسيقانا وتخليدها من خلال كتابتها”.
لم يُعرف عن دانجيندا وقتذاك اهتماما بالموسيقى الكلاسيكية، فما كان إلا هاويا لموسيقى الريغي
ينظر العديد من أهالي كينشاسا إلى دانجيندا نظرتهم إلى إله حي. ذاع صيت جده واعظا وشافيا من الأمراض، وبثت عظاته الفخر والإيمان بالنفس في نفوس أهالي المدينة وفي الوقت ذاته أوقعت الخوف في المستعمر البلجيكي، فرماه المحتل ثلاثة عقود من عمره في السجن بتهمة التحريض على العصيان. نبس سيمون كيمبانجو يوما بما يحققه حفيده اليوم: “سوف يصير الرجل الأسود أبيض، والرجل الأبيض أسود”.
قد تظن للوهلة الأولى أن هذا الأوركسترا يشتمل على ثلة من الهواة. إن كان القصد أنهم يهوون الموسيقى؛ فهذا عن حق، وإن كان القصد أنهم لا يضاهون المحترفين؛ فهو قول باطل. نجدهم يماثلون العسكر في التزامهم، تعلو أصواتهم الشجية قوية متناغمة كمن درسوا الألحان سنوات وسنوات.
ومثلما بات أعضاء الأوركسترا خبراء في “فن” البقاء على قيد الحياة، تجلت الأوركسترا نفسها نموذجا ملحميا على الإصرار على المستحيل. كانت البداية حين خسر دانجيندا وظيفته كطيار وجنّد حفنة من منشدي كنيسة والده للتمرن على بعض آلات الكمان.
لم يُعرف عن دانجيندا وقتذاك اهتماما بالموسيقى الكلاسيكية، فما كان إلا هاويا لموسيقى الريغي. علم أعضاء الأوركسترا أنفسهم كيفية العزف على آلة التشيلو، كتبوا مئات من النوت الموسيقية بأياديهم، فكوا ألغاز بعض الألحان بالإنصات إليها ساعات طويلة، رقّعوا حوامل النوت من قطع قديمة من الخشب، خاطوا ملابس العروض بماكيناتهم الصدئة.
استعاروا آلاتهم أو صنعوا أوتار الكمان من أسلاك العَجل. ولا يزالون يصنعونها بأيديهم في واحدة من أفقر المناطق في العالم. يتمرّن أحدهم لمدة 15 دقيقة ثم يترك الآلة لغيره كي يتمرن عليها لمدة 15 دقيقة في أحد المخازن، حيث تنقطع الكهرباء تكرارا. ولو تمرنوا في العراء، لعانوا الغبار العاتي وأدخنة وسائل النقل السامة. استغرق العازفون أمدا طويلا في تعلّم العزف، إلاّ أن أصوات الجوقة منذ اللحظة الأولى تعالت مهيبة لا تشوبها شائبة.
أوركسترا معجزة، مثال مذهل على الانضباط وطموح الموهبة، يثبت ما لسنا في حاجة إلى إثباته
وبعد عشرة أشهر من التأسيس أقاموا أول عروضهم ليمارسوا بعدها أكثر الفنون نخبوية وأشدّها تعاليا. وقد ظلوا سرّ الكونغو المصون إلى أن أنتج الألمانيان كلاوس فيشمان ومارتن بار فيلما وثائقيا عنهم عام 2010.
وهكذا صار دانجيندا العاجز في بداية مشواره عن قراءة النوتة الموسيقية عضوا فخريا في الجمعية الموسيقية الملكية البريطانية، مكانة تبوأها من هم في قامة الإيطالي روسيني والألماني فاغنر. عشرون عاما كاملة تفصل بين العزف أمام حشد من الأطفال الحفاة بكينشاسا، إلى العزف لأول مرة مع أوركسترا هاليه بمانشستر وأوركسترا الشباب القومي بلندن أمام صفوف من البدل السوداء الرسمية.
وفي خلال تلك السنوات لم تتبدل روح الأوركسترا أو تنكسر. لم يتغير أيضا وضعهم المالي كثيرا، حين قدموا إلى مانشستر، قابلهم طباخ محلي ليعرض عليهم آلات موسيقية أنقذها يوما من أحد الحرائق، فأخذوها شاكرين!
وعلى مسرح بريدجووتر هوول بمانشستر تألقوا تألق المحترفين، التمعت بَشَراتهم التماع الأبنوس، عزفوا بآلاتهم أوديسة أفريقية منتشية، أنشدوا ترانيم الكونغو فعبق الجو بروح أفريقية خالصة. عزفوا كذلك سيمفونيات عالمية خالدة فأبهروا وأمتعوا.
في مدينة فوضوية بائسة مثل كينشاسا، مزقتها الحروب ونال منها الفساد، من العسير تخيّل أناس يستمعون إلى موسيقى هاندل في شوارعها، فما بالك بأوركسترا سيمفوني كامل العدد. أوركسترا معجزة، مثال مذهل على الانضباط وطموح الموهبة، يثبت ما لسنا في حاجة إلى إثباته، ألا وهو أن الموسيقى إعلان كوني يتخطى بصلابته وإنسانيته العرق ويتحدّى الأنماط المقولبة.
1149 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع