مشاريع كرخية لم تكتمل .. مشاريع لم ترَ النور....
جاءت خطوة أستملاك وهدم محلات الكرخ القديمة التي تؤلف العمود الفقري لهذا الجانب الحيوي الهام من بغداد ضربة موجعة لكل مناصري التراث والمحافظة عليه من الضياع وأنتصاراً لتيار الحداثة.
وشملت الخطوة أستملاك وهدم الدور في سوق الجديد وسوق حمادة والشيخ صندل والست نفيسة وخضر الياس في العام 1956، لكن تنفيذ القرار تلكأ كثيراً ولم تبادر الجهات الحكومية للبدء بتنفيذ قرار الهدم والشروع بتطوير الكرخ وشارع حيفا ألا الى بدايات العام 1980.
صورة تمثل البدء بعملية مشروع تطوير شارع حيفا
لكن المشروع كان في حقيقته يرمي الى دفن مناطق شاسعة من أحياء بغداد القديمة التي تتمثل بالبناء العربي القديم المتداخل المزين بالشناشيل والأعمدة والأزقة المتداخلة والضيقة والمتفرعة، حيث تسبب أنشاء هذا الشارع على تضييع هوية بغداد ألأساسية في جانب الكرخ للزائر والناظر، كما تم تفتيت سكنة هذه المحلات ألأصليين وتركهم يواجهون مصير اختيار محل سكناهم الجديد بأنفسهم وأينما أتفق بعد أن تسلموا مبالغ التعويضات والتي كانت أقيامها لا تمكن الغالبية العظمى منهم لبناء دار سكن بديل عن سكنه القديم فألتجأ الأغلبية منهم الى استئجار دور في مناطق الجعيفر الثانية والرحمانية والعطيفية وأماكن بعيدة عن مركز بغداد الذي تعودوا عليه منذ القدم مما ساهم بأفراغ مركز الكرخ من سكنته الأصليين ودمرت العديد من دورها التراثية والتي لم تستوعبها منظومة الحداثة ، مما تسبب باختلال منظومة القيم الاجتماعية التي كانت سائدة وجلب أشخاص غريبين عن البيئة، بحجة أن دور هذه المحلات لم تعد تمارس دورها في تأمين السكن اللائق لسكانها ، فهي أمست دهاليز مظلمة وضيقة وأبواب متقاربة وأصبحت أطلالاً وبقايا دور آيلة للسقوط في أغلب المناطق.
المحلة الكرخية القديمة وأزقتها وبيوتها وشناشيلها
حدث ذلك منذ أن بدأ البيت الكرخي يئن تحت وطئة الزمن ويشعر بالتعب ولم يعد يصمد بوجه التقلبات الجوية والتغيرات الجغرافية، ففقد قدرته على مسايرة الحداثة في البناء، فأستسلم لأفكار المهندسين وتحولت المحلة المشبعة برائحة وأريج الماضي وحلاوة العلاقات الاجتماعية الى عمارات شاهقة وأبنية كونكريتية وشوارع وأسواق ومكاتب ومحال ضمن مشروع عملاق عرف رسميا باسم (مشروع تطوير شارع حيفا).
منظر عام لشارع حيفا
لا أحد يعرف على وجه الدقة الأسس التي أرتكز عليها مصممو البيوت الكرخية، ففي الكرخ القديمة لا وجود للشوارع التي يمكن أن تسير فيها المركبات، بل تتقارب البيوت الى حد اشتراكها أحياناً بجار واحد، وتضيق الأزقة وتلتوي لتسمح للسابلة فقط بالسير فيها، والذي أعتقده أن هذا الطراز قد تم نقله الى الأحياء الكرخية عند نزوح السكان اليها من أقضيتهم ونواحيهم، فكنت ترى بيوت مدينة تكريت القديمة (القلعة) و(الحارة) ودوَم البيجي المشيدة باللبن (أللبن = هو مزيج التراب والماء يضاف لهما القش أي التبن لتقوية الخليط) تتشابه كليا مع طراز البيوت الكرخية القديمة. أما البيت البغدادي ومن أساسياته فأنه يجب أن يحتوي على تلك الفسحة الوسطية (الحوش) التي تجعل الساكن على أتصال مباشر مع السماء، ومن بغداد الى الشام أنتقلت هذه العمارة الى الأندلس أبان الدولة ألأموية فيها، وتم بناء الدور والقصور على شكل البيوت البغدادية والشامية من حيث وجود (الباتيو) الكلمة الإسبانية المحورة عن الكلمة العربية المرادفة لها وهي (الباحة) الموجودة في دورألشرق.
شكل العمارة الأندلسية منقولا عن العمارة البغدادية والشامية
كما كان البيت الكرخي القديم يفتقد الى الحدائق الأمامية والخلفية والى الممرات الجانبية، فهو عبارة عن غرف وجدران وسطوح منخفضة جداً طالما شهدت قصص الحب الجميلة بين أبناء وبنات الجيران، ويبدو أن تعذر تقديم الخدمات اليه أصبح من الملائم أنتفاء الحاجة اليها وألأنتقال الى شكل دور جديدة تلبي حاجة أهلها والمحلة بشكل عام. لقد كانت أغلب الدور التي شيدت في المحلات الجديدة كالجعيفر الثانية والرحمانية والعطيفية لأولى لاحقاً هو رد فعل طبيعي على تطوير البيت الكرخي القديم الذي لم يعد يلائم أهله ومحلته، وتوجب لذلك ألأنتقال به الى هندسة البيت البغدادي الأكثر حداثة وجمال وتخصص في مرافقه.
وقد حمل الكثير من المهندسين والكتّاب والمثقفين هاجس أن تفقد بغداد وجهها الحضاري وتدمر بيوتها التراثية لصالح صناديق ألأسمنت المسلح التي تفضي بالتالي الى تدمير العلاقات ألأجتماعية ووشائج ألآلفة والتعاون بين الجيران والتي ما برح المواطن البغدادي يحرص ويحافظ عليها وهو الذي أعتبرها دستور حياة أطر مسيرته لمئات السنين. ولقد لمسنا لمس اليد أن العلاقات بين سكان عمارات شارع حيفا هي أقل بكثير من حرارة العلاقات بين بيوت وجيران محلة الجعيفر الثانية أو العطيفية أو المشاهدة، صحيح أن هذه المحلات قد أنتقلت من بيوت الكرخ المغلقة الى بيوت بغداد المفتوحة، مما سمح للأفراد الذين أنتقلوا مجبرين من محلاتهم في سوق الجديد والست نفيسة والشيخ صندل الى المحلات الجديدة أن يبقوا إلى حد ما على وشائج علاقاتهم وصداقاتهم، كون أنهم من محلات كرخية متقاربة التوجهات والتطلعات وحتى المستويات ألأجتماعية والثقافية. ولكنها بالنتيجة حرمت بغداد من مركز ثقلها ألأجتماعي متمثلا بتمزيق قلبها ومحلاتها وثقافتها وهويتها القائمة على الحب ومساعدة ألأخرين، بهذا ألأتجاه أستشعر كثيرون الخطر الذي سيمثله كل ذلك على مستقبل بغداد إذا تم أجتثاث الماضي بشكل عنيف ودون مقاربات مقبولة تتيح توئمة ألأجراءات أنتقالاً الى الحداثة.
منظر عام لشارع حيفا عند الصباح
وأنبرى أحد الكرخيين المعروفين وهو ألأستاذ عبد الستار عبد الجبار الدوري السفير السابق الى تقديم مشروع متكامل أختط له كل المساحة التي يشغلها مطار المثنى ليتم نقل وبناء كرخ قديم جديد ليشغل كامل المساحة، على أن تتم المحافظة على جميع السمات التراثية التي كانت سائدة في محلات وأزقة محلات الكرخ القديمة كبائع الطرشي والفرارات والمهن القديمة كخياط الصحون والركاع والمصور الشمسي، وألا يسمح أطلاقا بدخول المركبات اليه بل تجوب طرقاته وأزقته العربانة التي تجر بالخيول (ألربل)، وأن يتم بناء الدور على هيئة بيوت الشناشيل والعكود الضيقة كي تتم الاستفادة من هذه الهندسة المعمارية في كسر حرارة الجو لصالح الساكنين في الدور.
صاحب المشروع السفير عبد الستار وكاتب المقال أثناء حفل أستقبال في سفارتنا بكاراكاس سنة 1985
وبعد أستكمال كافة المستلزمات النظرية للمشروع المقترح تم تقديمه من قبل ألأستاذ عبد الستار الدوري للقيادة آنذاك لدراسته والبت فيه، ولكن وكما يبدو فأن أتجاهاً داخل القيادة كان يحبذ ألأستمرار بمشروع تطوير الكرخ وشارع حيفا وتوزيع الكرخيين على أحياء بغداد المختلفة كي لا يصبحوا مثار متاعب مستقبلا وهذا ما حصل مع ألأسف.
برأينا المتواضع أن مشروع تطوير الكرخ وشارع حيفا قد نقل العمارة البغدادية الى بعد أخر ولكنه أجهز على حميمية العلاقات التي كان سيبقيها دافئة مشروع الأستاذ الدوري على أرض مطار المثنى لو كتب له النور، بدلا من جعل أهل الكرخ عرضة للأخطار بإبقاء هذا المطار وتطويره، وهو ما عشناه جميعاً خلال أيام القصف على بغداد آبان الحرب العراقية – ألأيرانية.
فعلى أرض مطار المثنى، الذي كان المطار المدني الوحيد في المدينة حتى نهاية الستينات، وتحول لاحقاً الى مطار للخطوط الداخلية من بغداد الى كل من البصرة والموصل في السبعينات، ليُغلق في وجه حركة الطيران المدني تماماً، ويُصبح مطاراً عسكرياً لأغراض الشحن وبعض المهمات المتعلقة بالتعبئة أثناء الحرب مع إيران، على هذه الأرض بدأت الاستعدادات لإقامة "جامع صدام الكبير".
جامع صدام الكبير بعد أنشاء الركائز والأعمدة الكونكريتية له
بدأت السلطات العراقية الحديث عن مشروع لإقامة أكبر جامع في العالم العربي منذ عام 1995،وقدر مكتب هندسي مختص تكاليفه بـ 500 مليون دولار وينفذ خلال ثلاث سنوات وأعلنت أنها بصدد تنظيم مسابقة للتصميمات التي ستأخذ في اعتبارها سعة المكان لتكون كيلومتراً عرضاً وخمسة كيلومترات طولاً، وناشدت الجهة المسؤولة عن المشروع، وهي الدائرة الهندسية في ديوان الرئاسة، المصممين أن يأخذوا في اعتبارهم وجود بحيرة ضخمة من الماء سيقام فوقها مبنى الجامع وملحقاته لتدخل بحيرة الماء ضمن كتلته المعمارية، وأعلن رسمياً عن بدء الاستعدادات لتنفيذ المشروع، عندما ظهر الرئيس الراحل صدام حسين وهو يناقش مع مجموعة من الوزراء والعاملين بالدائرة الهندسية في ديوانه الرئاسي، تصميمات للمشروع الذي سينفذ على أرض مطار المثنى وسيحمل أسم "جامع صدام الكبير".
الرئيس صدام حسين ونموذج من الجامع الذي كان ينفذ على أرض مطار المثنى
كذلك ناقش الرئيس الراحل تصميمات مشروع آخر يحمل اسم "جامع الرحمن" ويقع في منطقة المنصور ببغداد ويقام على أنقاض مبنى كان يشكل ظاهرة اجتماعية سابقاً هو "ميدان سباق الخيل". وكان الرئيس الراحل قد أدخل عدة تعديلات على تصميمَي الجامعين "صدام الكبير" و"الرحمن" إذ غيّر ارتفاع القبة الرئيسية والقباب الأربع المجاورة ليغدو هناك تناسقاً في الكتلة المعمارية في الثاني وألغى الساحة في الأول وحدد شكلاً لبحيرة الماء التي ستمر تحت مبناه، وقال: "يجب ان تكون البحيرة على شكل خريطة الوطن العربي".
جامع الرحمن والذي لم يكتمل هو ألأخر
إلا أن بدء الحرب العدوانية على العراق في التاسع عشر من أذار 2003 أوقفت العمل بهذين المشروعين الكبيرين لتحرم الكرخ من صرحين عملاقين كانا يمكن أن يمهدا لوضع أسس جديدة للعمارة في العراق.
962 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع