مرابع النشأة الأولى .. مدارس التربية الإسلامية

   

   مرابع النشأة الأولى .. مدرسة التربية الإسلامية

            

       

لم تكن "التربية الاسلامية" مجرد مدرسة، بل كانت عبارة عن منظومة قيمية متكاملة نادرة الوجود، لم أجد أو أسمع لها نداً أو شبيهاً، إنها مدرسة التربية الإسلامية في الكرخ، التي أسستها (جمعية التربية الاسلامية) وأدارها بكفاءة وإقتدار نادرين الشيخ الجليل والمربي الفاضل عبدالوهاب عبدالرزاق السامرائي يرحمه الله.

ولقد أثارت فيّ رسائل عدد من الأخوة زملاء الدراسة في التربية الإسلامية ممن حفزتهم مقالتنا السابقة عن المدرسة في مجالس حمدان، للتواصل والإستذكار وتجديد علاقات الأخوة،

وأخص بالذكر منهم: الأخوة الأعزاء فؤاد حسين علي وأكرم علي السبتي وعبدالوهاب الجواري وباسم يحيى نزهت وأحمد زيدان وعبدالكريم الحسيني وزاهد عبدالحميد وغيرهم، مشاعر الحنين والشوق لأيام الصبا والشباب التي قضيناها في واحدة من أعظم صروح العلم والمعرفة والتربية في العراق والعالم العربي، ألا وهي مدرسة التربية الإسلامية بالكرخ (سوق الجديد) في مرحلة الخمسينات والستينات.. ووجدت الحاجة قائمة لتكرار التطرق لموضوع سبق ان نشرته مجالس حمدان، وأعدت توليفه من جديد، لما أجد وألتمس فيه من وفاء وعرفان واجبين لأساتذة أكارم علّمونا وربّونا ولهم الفضل في ما وصلنا إليه، وكم أتمنى لو أن رابطة لخريجي التربية الاسلامية تجمعنا من خلال مجلة الكاردينيا الرائعة والفكرة مطروحة على الأحبة من خريجي ودارسي هذه المدرسة، واتمنى أن يدلي كل منهم بدلوه بأية ذكرى أو خاطرة أو موقف عن أيام الدراسة في التربية الاسلامية توثيقا وخدمة للأجيال، ولقد استبشرت خيرا حين سمعت أن جمعية التربية الاسلامية الحالية بشخص رئيسها استاذنا الفاضل الشيخ ابراهيم منير المدرس تنوي اصدار كتاب يؤرخ للمدرسة العريقة ويوثق مراحلها ويؤرشف لأساتذتها ومعلميها وطلابها وهو عمل عظيم نتمنى أن يرى النور في يوم قريب.

  


قصة تأسيس التربية الإسلامية

قصة تأسيس التربية الاسلامية كما رواها أخي الفاضل الأستاذ عبدالوهاب عبدالستار الجواري في مقالته بمجالس حمدان الموسومة (شئ من الذكرى عن مدرسة التربية الاسلامية) وهو من الجيل الأول الذي سبقنا للتسجيل بالمدرسة: " كان ذلك في العام 1948 من القرن الماضي، حيث أفتتحت في

جانب الكرخ وبالذات في محلة التكارته المدرسة التابعه لجمعية التربيه الاسلاميه التي ترأسها المغفور له سماحة علامة العراق الشيخ أمجد الزهاوي وبرفقته جمع من الموءمنين وفي المقدمة منهم المحامي عبدالوهاب عبدالرزاق السامرائي الذي تولى إدارة المدرسة، واختار لمعاونته الاستاذ المحامي كامل اسماعيل الهيتي. وهكذا بدأت المدرسة بالعمل، فأنتسب لها عدد من ابناء المحلة والمناطق المجاورة لها .. وبحكم الصداقة التي كانت تجمع بين شقيقي المرحوم الدكتور احمد عبدالستار الجواري والاستاذ عبدالوهاب السامرائي رحمه الله، كونهما ابناء منطقة واحدة، وتجمعهما ميول دينية وتربية اسلامية، ونزعة مخلصة لخدمة الدين والوطن وابنائه خالصة لوجه الله تعالى، وبهدف تعزيز مكانة المدرسة وحرصاً منه على مستقبلي، فقد اختار اخي الدكتور أحمد الجواري (يرحمه الله) ان يُلحقني بهذه المدرسة، وكان ذلك في عام 1949 وعُمري يومها كان ست سنوات، فأدخلتُ الصف التمهيدي" ..

                   

صوره للساحة الرئيسية لمدرسة وجمعية التربية الاسلامية قبل ان يتم تشييد الطابق الثاني لبناية المدرسة

             

صورة جوية لمنطقة سوق الجديد تظهر فيها ثانوية الكرخ للبنين وللبنات ومدرسة التربية الاسلامية وجامع القمرية ومحلة سوق الجديد

موقع المدرسة:

وعن موقع المدرسة الأول يقول الأخ الأستاذ عبدالوهاب الجواري أن مقر المدرسة الاول كان بدار تقع على الشارع العام المعروف لدى ابناء المنطقه بـ (السكة) (أو السجة) أو شارع موسى الكاظم، وتحديداً مقابل مركز شرطة سوق الجديد، المجاور لبيت حسين الطوبان عائلة مطاعم الباجه المعروفين بالكرخ، ومن ثم انتقلت المدرسة الى دار في الزقاق المجاور وبجوار دار عائلة الاستاذ سالم الالوسي (أمدّ الله في عمره)، وبعد اكتمال بنايتها في سوق الجديد تحولت المدرسة الى هناك.

ملاحظة: لعل سبب تسمية الكرخيين لشارع موسى الكاظم بـ (السجة) لكون سكة الترام (الكَاري) الذي يصل ما بين ساحة الشهداء والكاظمية كان يمر عبر هذا الشارع فبقيت تسمية (السجة) متداولة بينهم ولدى أولادهم وليس الشارع، وأذكر أن بيتنا كان يقع على بعد أمتار من شارع موسى الكاظم، وكنا نقول نعبر السجة ولا نقول نعبر الشارع!!!

في يوم خريفي لا ينسى من عام 1954:

لن يغيب عن ذاكرتي أبداً ذلك اليوم الخريفي من عام 1954 يوم اصطحبني المرحوم والدي، ليُسَجلّني في "مدرسة التربية الاسلامية" القريبة من دارنا في منطقة سوق الجديد بالكرخ، فقد كان (رحمة الله عليه) حريصاً على أن أتلقى تعليماً تربوياً وإسلامياً خاصاً، في مدرسة خاصة، ولم يُسجّلني في مدرسة حكوميّة مجانية مع توفرها في منطقتنا، وبالرغم من أنّه كان من ذوي الدخل المحدود، وبقيتُ طالباً في مدرسة "التربية الاسلامية" لغاية عام 1963 حيث اكملت الدراستين الابتدائية والمتوسطة فيها، ولأنني رغبت بالفرع الادبي بينما "التربية الاسلامية" لم تفتح سوى الفرع العلمي، لأن المدير المرحوم عبدالوهاب السامرائي، كان يحرص أن يدخل جميع طلبته إلى الفرع العلمي، فاضطررت للانتقال الى "ثانوية الاعظمية"، ومن ثم عدت للكرخ والى الثانوية العربية بالعطيفية التي تخرجت منها عام 1965. ورغم دراستي في ثانويتي الاعظمية والعربية، إلا أنني أحسست بالفرق الشاسع بين نظام التعليم التربوي المنضبط في التربية الاسلامية وبين نظام التعليم في المدارس الأخرى. وكان قرار إغلاق التربية الاسلامية بموجب قرار الغاء المدارس الأهلية أوائل السبعينات ضربة قاصمة وقرار مجحف لأنه أغلق معملا لصناعة البشر وتربيتهم تربية علمية وأخلاقية.

                                                    
الأستاذ الفاضل المرحوم عبدالوهاب السامرائي مدير المدرسة

أول من التقيته وتعرّفتُ عليه في اليوم الأول، يوم تسجيلي، من أساتذة مدارس التربية الاسلامية هو مديرها الجليل المرحوم المربي الفاضل الاستاذ عبدالوهاب عبدالرزاق السامرائي، حيث كان لا يتم تسجيل اي طالب في المدرسة الا بعد مقابلته ووالده من قبل المدير وموافقته على تسجيله لأنه كان حريصاً على إنتقاء طلاب مدرسته والتعرف على ذويهم.

 
                                 

ثم تعرفت على المرحوم الاستاذ (كامل الهيتي) معاون المدير وكنا نسميه (كامل أبو سيدارة) لأنه كان يرتدي السيدارة الفيصلية البغدادية الشهيرة، تمييزاً له عن المرحوم الأستاذ (كامل محمد علي) الذي ربطتني به فيما بعد علاقة أخوية صادقة إلى أن توفاه الله بدولة الأمارات قبل بضعة سنوات، علما أن العلاقة التربوية التعليمية التي كانت تربطني بكثير من أساتذتي في التربية الاسلامية تحولت فيما بعد تخرجي وتقدم العمر الى صداقات أخوية عميقة الجذور.

  

الشيخ عبدالودود رشيد المعلم في التربية الاسلامية مع مجموعة من المعلمين في سفرة القدس الشريف

وكذا قابلت الاستاذ المرحوم (عبدالله الجميلي) المعاون الآخر للمدرسة، والذي كنت قد رثيته في الگاردينيا لوفاته قبل عام تقريباً. ثم باشرت الدوام في الصف الأول إبتدائي، وتعاقب على تدريسي جمع طيب من خيرة الأساتذة المربين أذكر منهم الأفاضل وكانوا من المعمّمين الشيخ ياسين منصور السعدي والشيخ عبدالودود رشيد المشهداني ...


                                                   
والشهيد الشيخ عبدالعزيز البدري (الذي إغتاله المجرم ناظم كزار)، ومن الأساتذة (الأفندية) الذين درّسونا السادة ميمون الكبيسي، وعلي الكبيسي وعلي السعدون، والشقيقين فاضل صالح السامرائي، والمرحوم مهدي صالح السامرائي ومحمد مهدي السامرائي والمرحوم ثامر محسن، والمرحوم أحمد حميد المدرس، والمرحوم كامل محمد علي المشهور بإبتسامته الوديعة التي لا تفارق محياه حتى وهو في أشد حالات الغضب!!، وجميعهم أثروا فينا.. كما كان هناك عدد من المعلمين الفلسطينيين أذكر منهم بسام صادق ومحمد علي الحانوتي ووالده العلامة علي الحانوتي وبشير صادق وفي الدراسة المتوسطة درست على يد الأجلاء المرحوم كاظم المشايخي (الذي اليه يعود الفضل في توعيتنا باخطار المخططات الصهيونية في المنطقة العربية وكان يحوّل درس التاريخ الى توعية وطنية وإسلامية) وكذلك الأساتذة عبدالجبار المفتي وصائب المعاضيدي يرحمه الله (الذي نشرت على الموقع عنه نعياً عن وفاته)، وناصر الحديثي، وأمين ياسين السامرائي (الذي درّسني بالمتوسطة ومن ثم درسني في كلية الآداب فرع اللغة الإنكليزية بالمستنصرية فيما بعد)،، وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم اليوم، أو لأنهم لم يُدَرّسوا صفي. وكلهم أساتذة أجلاء لأن المرحوم مدير المدرسة كان يتشدد في إختيار من يقبله معلما في المدرسة بأن يكون من الثقاة والمربّين الكفوئين علمياً وتربوياً.

    

صورة لطلاب متوسطة التربية الاسلامية

من أسماء الدارسين بالتربية الاسلامية:

ذكَّرَنا الأستاذ عبدالوهاب الجواري في مقالته عن أسماء عدد من الرعيل الأول من طلاب المدرسة فذكر منهم (المرحوم مصطفى المختار، والدكتور خليفة طه العزاوي، واللواء مزاحم شهاب التكريتي، وعبدالفتاح عسكر، والمرحوم حكمت عبدالرزاق الهجو، وأحمد رشيد، وطارق محمد الجبوري، وعبدالكريم الزقة الفلسطيني، وعلاء يوسف حمادي، وأكرم ياسين السعودي، المرحوم عامر عبدالعزيز الشيخ أمين، ومحمد وأمين ولدي السيد جاسم الشيخ أمين بائع السيكاير الشهير في منطقة سوق الجديد.

                                            

                 الاستاذ المرحوم كاظم المشايخي

ويذكر الأخ الجواري: "كما رافقنا في الدراسة الاخوة عبدالقادر نجم وابن عمته خالد محمد الذي لايزال يعمل في جمعية التربيه الاسلامية، والسفير سعد جاسم الحياني والمرحوم رياض ابن عبدالله حنانش ابو الطرشي المشهور في الكرخ.. ومن الاخوة الذين سبقونا في الالتحاق بالمدرسه الاخ الحاج سعيد حسن الطوبان وشقيقه فليح واكرم صالح السعدون، الذي كان شقيقه (علي) من اوائل المدرسين في المدرسة.. وممن اسهم في التدريس المرحوم الاستاذ عبدالخالق عثمان المشايخي وكذلك السادة الاجلاء ياسين منصور السعدي وعبدالودود رشيد وعبدالله الجميلي الذين لا يمكن أن ينسى فضلهم علينا" ..

أساتذتي في التربية الاسلامية كانوا قمة في الخلق والعلم والأدب، والحرص على طلابهم، وتنمية كوامن الأخلاق والتصرف الحسن والالتزام بالنهج القويم، فكانوا معلمين ومربين، يمتازون بالحزم والصلابة والشخصية النافذة، وكان الطلاب يهابون المعلم لشخصيته القوية والصارمة بالحق.

                               
منظومة تربوية:

كانت التربية الاسلامية عبارة عن منظومة قيمية تربوية أخلاقية يوجهها ويقودها الشيخ عبدالوهاب السامرائي يرحمه الله، حيث كان السامرائي يحسن إنتقاء الملاك التدريسي للمدرسة من خيرة المربين وأكفأ المعلمين، ومن المشهود لهم بالتقوى والصلاح والكفاءة العلمية.

 

كما كانت المدرسة مؤسسة تعليمية تربوية متميزة، تضم جميع شرائح الشعب من فقراء ومتوسطي حال وأغنياء، حتى أن المدير كان يقبل أبناء الفقراء طلابا في المدرسة معفوين عن دفع أية رسوم بل كان يمنحهم مساعدات من تبرعات الأخيار وكان هو ومعاونيه يتابعون أحوال الناس ويتفقدون الفقراء والمحتاجين ، ويحرصون على إيصال زكوات وصدقات الأغنياء والموسرين إلى من يستحقها من العوائل الفقيرة،وكان على الدوام موضع ثقة الناس من كل الدرجات والمشارب، وكانت المدرسة تنظم حملات التبرع بالملابس الزائدة تحت عنوان (معونة الشتاء) لتعزيز علاقات التكافل الاجتماعي.
   

                                            

مدارس التربية الإسلامية كانت بفضل إدارة المغفور له عبدالوهاب السامرائي منظومة قيمية متكاملة، هدفها ليس الكسب المادي بقدر غاية نشر القيم الإسلامية والتربية الإسلامية الصحيحة. وكان يعتمد على تبرعات المُحسنين من داخل العراق ومن دول الخليج لكي يوسّع من مباني ومنشئات المدرسة التي أقيمت (للأسف) على أرض تعود للأوقاف على سبيل (المساطحة) ثم آلت مع بناياتها إلى الأوقاف فيما بعد، فاضطرت الجمعية إلى شراء عقار بديل بمنطقة المنصور خلف مستشفى الهلال الأحمر، وانتقلت اليها، إلى أن صدر قرار الحكومة 1974 بإلغاء تراخيص المدارس الخاصة، ومنها التربية الإسلامية، فكان القرار (طعنة نجلاء) لمن يهمهم نشر التربية الإسلامية، لأن مدرسة كانت تأخذ على عاتقها تربية الأجيال تربية إسلامية صحيحة قد تم إلغاؤها، ولكن بقي نشاط الجمعية وبالأخص إصدار مجلة التربية الإسلامية والأنشطة الإجتماعية.

                                   

لا يمكن أن تُذكر التربية الإسلامية، كمدارس، وكجمعية، وكمجلة، إلا ويذكر معها إسم رائدها الشيخ الجليل عبدالوهاب السامرائي يرحمه الله، فقد كانت المدرسة وطلابها ومعلموها والجمعية والمجلة، كلهم يعيشون ويشغلون كل وقته وحياته، كان رجلا مربيا عالما يتميز بالتقوى والورع، حين تقابله تشعر أنك في حضرة ولي من أولياء الله الصالحين، تميّز بالثبات على مبادئه، ولم يندفع لكسب رضا الحاكمين، كان قدوته في الحياة الشيخ أمجد الزهاوي يرحمه الله.

  

سفرة القدس الشريف والمسجد الاقصى ويبدو الاستاذ عبدالوهاب السامرائي مدير المدرسة وعدد من المدرسين

كان يرحمه الله يُحسن إختيار العاملين في المدرسة من أساتذة ومعلمين وإداريين بل وحتى (الفراشين) فقد كان ينتقيهم من خيرة الناس وكان هؤلاء الفراشون لنا مربين أفاضل، مثل معلمينا واساتذتنا، وكنا نتعلم منهم الانضباط والتقوى ومخافة الله وأذكر منهم (العم محمود) و(العم عزاوي (عبدالعزيز) والد الخطاط العراقي الفنان غني عبدالعزيز، والعم (علوان)، وآخرين طيبين أيضاً غابت أسمائهم عني ولكن لم تغب صورهم من الذاكرة وفي القلب.

لم تكن التربية الاسلامية، مدرسة طائفية، فقد كان هناك بين الطلاب شيعة وسنة، ولم يكن احد يفكر بالمذهبية، ولا بالتعصب، وإنما كانت المدرسة تربي الطلبة على مبادئ وأخلاق الدين الحنيف، وكان بيننا من الطلبة من جنسيات عربية أتذكر طالبا لبنانيا اسمه (طلال)، وآخر هو (رياض إبن وديع خوندة).

يوم في المدرسة:

عودٌ إلى أيام المدرسة، فقد كان الدوام يأخذ منا كامل النهار تقريبا، ففي الصبح يبدأ الدوام في السابعة والنصف بأربع محاضرات لغاية صلاة الظهر التي نؤديها سوية في مسجد المدرسة الكبير الذي يسع لاكثر من 500 شخص، ثم نأخذ فترة راحة لتناول الطعام لحد الساعة الواحدة، حيث كان يُسمح فقط لسكنة الكرخ وسوق الجديد وسوق حمادة والجعيفر وغيرها بالذهاب لتناول الطعام في بيوتهم والعودة، بينما الذين يأتون من مختلف مناطق بغداد وتجلبهم باصات المدرسة فعليهم أن يجلبوا طعام الغداء معهم من دورهم، وخصصت المدرسة قاعة خاصة لتناول طعام الطلبة، وبعد انتهاء فترة استراحة الغداء، نعود لنأخذ محاضرتين بعد الظهر تستغرق بنا حتى الرابعة، حيث نصلي العصر جماعة في مسجد المدرسة، وبعدها ننصرف إلى بيوتنا لنبدأ التحضير لدروس اليوم التالي.

مناهج تعليم وتربية

في التربية الإسلامية نشأنا وترعرعنا على محبة كتاب الله وسنة نبيه، فقد كانت الدراسة تتضمن المناهج الحكومية المقررة من وزارة المعارف آنذاك، مضافاً إليها مناهج إسلامية تخصصّية هي علوم القرآن والتفسير، الفقه والسنة النبوية، الدعوة والعقيدة، وعلوم التجويد. وكانت المدرسة تتعامل مع كلا النوعين من الدروس (الرسمية والدينية) بذات الجدية والإلزام.

كانت باصات المدرسة تنقل الطلاب من وإلى دورهم لقاء مبالغ زهيدة جداً، حيث لم يقتصر القبول على أبناء الكرخ (حيث تقع المدرسة) بل من جميع أنحاء بغداد بجانبيها الرصافة والكرخ. ففي المدرسة كان هناك خليط متنوع منسجم، طلاب من عوائل غنية معروفة (أمثال بيت طبرة وآل الرحيّم وبيت قدوري الحداد وبيت بُنيّة)، وغيرها، وطلاب من عوائل متوسطة وآخرون من عوائل فقيرة، فقد كانت إدارة المدرسة تقبل أعداداً من الطلبة الفقراء ممن لايتمكن آباؤهم من دفع رسوم الدراسة، لكنك داخل الصف والمدرسة لاتشعر بفرق أو تمييز بين الطلبة، فالكل منسجمون مع بعضهم، والنجاح يتحقق فقط لمن يجتهد ويتفوق، والكل يقفون صفاً واحداً لأداء الصلاة بمسجد المدرسة دون تمييز بين غني وفقير.

كان مدير المدرسة وإدارتها حريصون جدا على إنتظام دوام الطلبة وعدم تخلفهم ولا أتذكر أنني غبت ساعة واحدة عن الدوام طيلة دراستي بالتربية الاسلامية إلا لمرض، وكان يجب على أهل المريض ان يأتوا للمدرسة ليأخذوا له ورقة عيادة طبية الى الصحة المدرسية في منطقة الشواكة للعلاج أو للاستراحة الطبية حسب الحاجة. كما صادف أن

التهبت مدارس منطقة الكرخ عام 1956 بالتظاهرات تأييداً لمصر ضد العدوان الثلاثي، وكانت ثانوية الكرخ منطلق التظاهرات الكرخية مجاورة لمدرستنا، وكانت محاولات من طلبة الثانوية لإجبار طلاب التربية الاسلامية على الخروج معهم في التظاهرات الا أن المدير المرحوم عبدالوهاب السامرائي كان يحرص على الطلبة، خاصة وانهم يأتون من مختلف مناطق بغداد، فلم يكن يسمح بخروج أحد منهم للمشاركة بالتظاهرات مطلقا.

 

صدام حسين/ الثالث من اليمين

وأذكر أن الشرطة يومها كانت تطارد بعض المتظاهرين من ثانوية الكرخ بينهم (الطالب صدام حسين) حينها كان يسكن بيت خاله في سوق الجديد ويداوم طالبا في ثانوية الكرخ، الذين التجأوا إلى مدرستنا ورمتهم الشرطة بالقنابل المسيلة للدموع داخل ساحة المدرسة للقبض عليهم وهو منظر بقي في مخيلتي لا انساه لأنني لأول مرة أشاهد القنابل مسيلة الدموع!!.

                            

كما تكررت التظاهرات الكرخية المشهورة بعد عام 1959 أغلبها من المعارضين لحكم عبدالكريم قاسم، وجاء الاضراب الطلابي الشهير أواخر عام 1962، ولكن موقف المرحوم مدير المدرسة عبدالوهاب السامرائي بقي صارما كما هو نفسه بعدم الزجّ بطلبة التربية الاسلامية مطلقا في أية تظاهرة سياسية من منطلق حرصه على سلامتهم.

       

     

    الاستاذ ميمون الكبيسي حفظه الله مع الطلبة في سفرة مدرسية

زملائي في التربية الاسلامية:

كنت أود أن أتطرق إلى زملائي في التربية الاسلامية لكن خشيتي من ان تخونني الذاكرة وانا في هذا العمر بعد أكثر من نصف قرن على أيام الدراسة أن أنسى أحدا منهم، فيعاتبني، ولكن مثل أي ذكريات دراسية تبقى في الذاكرة

   

الصديق العزيز زاهد عبدالحميد اتصل بي قبل اسبوع بعد انقطاع نصف قرن يذكرني بصورتنا سوية في رحلة مدرسية إلى آثار بابل كان وما زال من أعز الأصدقاء

اسماء من تواصلنا واياهم بعد الدراسة، وقد ذكرت في البدء بعضا منهم وتبقى اسماء أخرى كانوا قريبين لي جدا ولا أدري أين حل فيهم الدهر أمثال الأخوة طارق رشيد شلال، قبس فاضل، قحطان علي الدهري، عبدالرحمن عبدالحميد ،عبدالكريم خضر الطائي.

  

صورتي في سفرة مدرسية مع الأخ الدكتور محمد كامل الوسواسي ولا أعرف أخباره اليوم
وأعرف منهم الأخ د. عامر سلوم (الطبيب المتمرس في علم التغذية وصاحب البرنامج التلفزيوني الشهير ومدير معهد التغذية والذي التقيته في عمان، وكذلك الأخ زاهد عبدالحميد الذي اتصل بي مؤخرا، وكذلك أولاد الشهيد ناظم الطبقجلي نزار ونمير ونجيب ونبيل وكلهم اصدقاء لي، وكذلك مختار محلة سوق الجديد عامراسماعيل السامرائي، والأخ باسم يحيى نزهت وصادق جبوري، وفيصل ، وستار بلدية، ومنذر وقيس أولاد قدوري الحداد، وأحد أولاد بيت بنية التقيته في زيارتي لقصر شعشوع على كورنيش الاعظمية...واتذكر الشهيد المرحوم المقدم مهند قاسم المدرس الذي استشهد في الحرب العراقية الايرانية، وأذكر الأخ اللواء عبدالجبار الذي أبتعث الى لندن لكونه الأول على الكلية العسكرية..

    

في سفرة مدرسية أثناء الدراسة في مدرسة التربية الأسلامية الى سامراء عام 1962 ويظهر الشيخ عبدالعزيز البدري واضعا يده اليمنى على كتفي

  

مجلة التربية الإسلامية:

   

مجلةالتربية الاسلامية

في 1959 أصدرت جمعية التربية الإسلامية (مجلة التربية الإسلامية)، التي تعدّ من أقدم وأبرز المجلات الإسلامية في العراق والوطن العربي، كما كان يصدر معها ملحق خاص بطلبة ومعلمي التربية الإسلامية عنوانه (لواء التربية الإسلامية) يضم كتابات المعلمين والطلاب، وأتشرف أن أكون من ضمن المساهمين بالكتابة فيه من العدد الأول رغم كوني آنذاك بالدراسة المتوسطة. ومازالت المجلة الأصلية "التربية الإسلامية" تصدر عن الجمعية بإنتظام وبنفس الروحية والتنوع. كما كانت هناك نشرات حائط مدرسية تتنافس فيها مختلف صفوف المدرسة. وكان الطابور أو التجمع الصباحي قبل دخول الصفوف مناسبة لإنشاد عدد من الأناشيد الإسلامية مثل نشيد الفتوة الاسلامي (لاحت رؤس الحراب)، ثم يتم إختيار عدد من الطلاب لإلقاء قصيدة أو نشيد من أجل تعويد الطلبة على الشجاعة الأدبية. وكانت هناك نشاطات لاصفية ممتعة منها جماعة الدعوة ويشرف عليها الشيخ الشهيد عبدالعزيز البدري، وكانت جماعات أخرى للأدب والقصيدة وغيرها. كما كانت إدارة المدرسة تنظم سفرة أو سفرتين دراسيتين خلال العام بباصات المدرسة إلى أماكن دينية أو سياحية يشارك فيها الطلبة ومعلموهم.

سأبقى ما عشت مديناً للتربية الإسلامية ومعلميها ومدرسيها وللمرحوم مديرها عبدالوهاب السامرائي، فقد كانت المنار الذي أنار حياتي السابقة واللاحقة، وأرجو الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان ويجمعنا بالصالحين ممن علّمنا ودرّسنا وهدانا إلى طريق الحق، يرحمهم الله جميعا. وليعذرني من غفلت عن ذكر اسمائهم سهواً لا تقصّداً.

   

مقالتي في رثاء المرحوم عبدالوهاب السامرائي

عند سماعي نبأ وفاة المرحوم عبدالوهاب السامرائي عام 2006 كتبت نعياً نشرته في بعض المجلات والصحف وهذا نصه:

في رثاء راعي ومؤسس "التربية الإسلامية" عبدالوهاب السامرائي

أكرم المشهداني

يبدو أن قَدَرَنا في هذه الأّيام العصيبة أن نفقِدَ عُلَمائنا، ومفكرينا، الواحد تلو الآخر، في وقت نحن أحوج مانكون فيه إلى وجود هؤلاء المُرَبّين الدُعاة القادة، لينيروا لنا الدرب في دياجير ظلمة واقعنا المؤلم، فلقد رُزِءَتْ بغداد المنكوبة، دار السلام، وفجع العراق والعالم الاسلامي عامة مؤخرا بفقد واحد من خيرة علماء العراق العاملين الأجلاء، ومُربّيها الفضلاء، إنه الشيخ الجليل الأستاذ (عبدالوهاب عبدالرزاق السامرائي طَيَّبَ الله ثُراه 1915 – 2006) الداعية المجاهد، والمربي الفاضل، والقدوة الصالحة، مؤسس وراعي مدارس وجمعية التربية الإسلامية، ومؤسس ورئيس تحرير مجلة "التربية الإسلامية"، منذ 1959 وهي واحدة من أشهر وأقدم المجلات الإسلامية على صعيد العالم الإسلامي.

نعم فقد فقد العراق بوفاة الأستاذ السامرائي واحدا من علمائه الأجلاء ورائدا من رواد التربية والفكر والإصلاح، والفقيد الراحل هو الذي أسس مع عدد من اخوانه، منارات وصروح علمية رائدة على مستوى العراق والعالم الإسلامي، إذ أنشأ عام 1949 سلسلة مدارس التربية الأسلامية (تمهيدي وإبتدائي ومتوسطة ومن ثم

ثانوية علمي) في جانب الكرخ من بغداد، ورعاها بعقله وقلبه ورهن كل حياته لها، وهي المدارس التي احتضنت بين جنباتها المئات من طلاب العلم الذين تتلمذوا وتربوا ونهلوا العلم والمعرفة والعقيدة الصحيحة على يد الشيخ السامرائي ومن معه من علماء العراق الأجلاء، ليحملوا فيما بعد لواء العلم والأيمان، وأصبح الكثير منهم يشار لهم بالبنان رجال فكر وأساتذة وموظفون ورجال أعمال وضباط وكتاب ومهنيون وغيرهم، وتوسعت المدارس لتضم مدارس إبتدائية ومتوسطة وثانوية، للبنين ثم للبنات، إلا أن قرار الحكومة المؤسف أوائل السبعينات من القرن الماضي بإلغاء التعليم الأهلي أدى إلى إغلاق هذه المدارس، ولكن استمرت نشاطات "جمعية التربية الإسلامية" وكذلك إصدار مجلتها الشهرية بإسمها.

أما مجلة "التربية الإسلامية" التي أسسها الراحل السامرائي عام 1959 ومازالت تصدر للآن، فهي واحدة من أشهر المجلات الإسلامية على نطاق العالم الإسلامي، والتي استطاعت بحصافة عقل مؤسسها وراعيها وحسن تدبيره ان تتخطى براثن ودهاليز الساسة، ولم تخنع لسلطة حاكمة ولم تداهن حاكماً، وظلت ثابتة على نهجها رغم العديد من العراقيل التي وضعتها السلطات المتعسفة في درب المجلة من أجل إثنائها عن الصدور، وكرست المجلة جل نتاجها للتربية الأسلامية فدخلت كل بيت ولم تستطع السلطات الحاكمة في العراق على تعاقبها وتباين ميولها ومشاربها من أن تمنعها بل أنها تعدت حدود العراق الى مختلف أقطار العالم الإسلامي، وكان الشيخ السامرائي يحرص على إيصالها إلى جميع المساجد ودور العلم وكل مناطق العراق ودول العالم الإسلامي بأقل التكاليف، وغالبا ماكان يوصلها

مجانا لمدارس العلم ولطالبيه، وكان يرحمه الله يحرص على كتابة مقالتها الإفتتاحية بكلمات قصيرة وبسيطة تؤكد على الإيمان الصافي الصحيح والمحبة والتآخي، فلم يؤخذ عليها طيلة 47 عاما تحيّزاً طائفياً ولا مذهبياً بل كانت تؤكد على وحدة المسلمين وتآخي العراقيين.

تتلمذ شيخنا الراحل عبدالوهاب السامرائي على يد علامة العراق الأول المجاهد الشيخ (أمجد الزهاوي) يرحمه الله، وكان متأثرا به إلى حد كبير، وهو ما دفعه الى وضع آليات وأفكار توخىّ من خلالها نشر حقائق الأسلام وتوسيع حيز تعاليمه في التربية الأسلامية بين جنبات المجتمع العراقي، وكان متأثرا بتشجيع الشيخ الزهاوي على التعليم إذ كان يؤكد له أن التعليم هو أكثر المهن بركة وأجرا وفائدة للمسلمين.

لقد تعايش شيخنا الجليل الراحل عبد الوهاب السامرائي مع الناس (وبخاصة الفقراء والمحتاجين) في همومهم ومشاغلهم ومشاكلهم، وكان يتابع أحوال الناس ويتفقد الفقراء والمحتاجين، ويحرص على إيصال زكوات وصدقات الأغنياء والموسرين إلى من يستحقها من المسلمين، وكان على الدوام موضع ثقة الناس من كل الدرجات والمشارب، حتى أنه كان يقبل أبناء الفقراء طلابا في المدرسة معفوين عن دفع أية رسوم بل كان يمنحهم مساعدات من تبرعات الأخيار.

بوفاته، يرحمه الله، خسر العالم الإسلامي رجلا من خيرة الرجال وأنقاهم وأصفاهم، قلَّ أن يجود الزمان بمثله، مستقل التفكير حظي بإحترام جميع الإتجاهات والطوائف

والمشارب.. وكانت وفاته ليلة الإثنين 5 شعبان 1427 للهجرة الموافق 28 آب 2006 للميلاد.

إن وفاة الأستاذ الشيخ المربي والعالم عبد الوهاب السامرائي مثلت خسارة كبيرة للتربية، والفكر والثقافة، والدعوة الأسلامية الصافية النقية في العراق... تغمد الله استاذنا الشيخ عبد الوهاب السامرائي بوسيع رحمته، وأسكنه فسيح جناته، وعَوَّضَ المسلمين خيرا عن خسارتهم بفقدانه، وإنا لله وإنا إليه راجعون

                                

العلامة الشيخ أمجد الزهاوي، يرحمه الله

..تتلمذ شيخنا الراحل عبدالوهاب السامرائي على يد علامة العراق الأول المجاهد الشيخ (أمجد الزهاوي) يرحمه الله،

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

570 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع