" محمد بهجت الاثري: العالم الموسوعي ومعلم الاجيال ومنقح التراث وفارس اللغة والشعر"
العراق بلاد ما بين النهرين عريق في العلوم والثقافة، وظهر في سماء الادب العديد من الشعراء منذ العصور الاولى لحضاراته، وشيدت فيها مدن كأور وبابل ونينوى وعكركوف وواسط، وبعد الاسلام، البصرة والكوفة وسرعان ما تحولت تلك المدن الى مراكز للعلوم والفقه والأدب والعمران، وبعدها بغداد التي عدت من اهم حواظر العرب ورابع عاصمة لمركز خلافتهم، بعد المدينة المنورة والكوفة ودمشق، واتخذها العباسيون في زمن الخليفة ابو جعفر المنصور عاصمة الخلافة، وقد اشتهرت كمدينة تجتذب العلم والعلماء والزهاد والفقهاء والمتحدثين والشعراء، مثلما عرفت بعمارتها وقصورها وشوارعها ومساجدها والاديرة ومدارس العلم وبيوت المغنين والحمامات، وبها اصبحت بلاد الرافدين مهداً لجميع العلوم الانسانية والأدبية فضلا عن العلوم الشرعية، فكانوا منارة في كل مفاصلها بما في ذلك في الشعر والنثر العربي، ثم سقط اساسها وبقي اسمها في زمن التتار، ثم عادت من جديد لتنفض عنها الغبار ولتصبح مرجعا لكل المواهب العلمية، وكأن شيئا لم يحدث البتة ومن يطالع كتاب تاريخ بغداد يرى العجب مما انجبته هذه المدينة العريقة من علماء في شتى الفنون والعلوم ومنها الشعر، ولست مخطأً، فأن تراث بلاد الرافدين يحوي في اعماقة الكثير من اللالئ المكنونة التي تحتاج من يستخرجها من اعماق التاريخ ليعرضها الى من يستمتع بالنظر اليها، وان كانت هي في نفسها ثمينة قبل ان يثمنها احد، وذلك بابرازها للعيان ليظهر شرفها وقيمتها ان تراث العراق المتمثل بعلمائة وشعرائه وقرائه وفقهائه، كانت بصمات علمهم وأفعالهم منارة سطعت وغطت انوارها جبل المعرفة والابتكار والرقي...
برز عدد من الاعلام الاجلاء في العراق بلاد النهرين جيلنا ومن بعده يتفاخر ويتباهى بامثالهم، لما قدموه من دور في النهضة العلمية في اواخر القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين واصبحت اسمائهم لامعة في سماء العراق والعالم العربي، واسماء اخرى حفرت على تراب الوطن ذكريات جميلة لا تنسى في المجالات العلمية والثقافية والادبية والتربوية والسياسية طيلة هذه السنين.
زخرت ذاكرة بغداد أسمائهم ومكانتهم وابداعهم، لها الاثر الجلي والمؤثر في مختلف الميادين، بعضها غادر الحياة تاركا وراءه ارثاً تنهل منه الأجيال، واعطت حياتهم العلمية والمهنية والاجتماعية وحتى السياسية مناراً للأقتداء، نذكر اولئك الاخيار ونتأسى بهم، مما يشكل دفعا معنويا للجيل والاجيال القادمة في مواصلة المسيرة العلمية والمهنية، فيستمر خيرهم زمنا طويلاً، فهناك رجال يبقون في ذاكرة الشعوب والأفراد، وقد عرفنا بعض من هؤلاء العلماء، ومنهم العلامة الشيخ محمد بهجت الأثري.
محمد بهجة بن محمود أفندي ابن عبد القادر بن احمد بن محمود، من عائلة معروفة في عالم الاقتصاد والتجارة ولها أملاك وأراضي على امتداد العراق، يعود أصل عائلته إلى منطقة ديار بكر، غادرتها على أثر خلاف مع السلطات باتجاه أربيل، ومنها إلى بغداد حيث استقرت في جانب الرصافة من بغداد، وكان لوالده متجر في شارع المتنبي، ولد لأب عربي وام تركمانية في محلة جديد حسن باشا في جانب الرصافة من قلب بغداد بتأريخ 28|9| 1902م، وكانت أحسن أحياء بغداد، على مقربة من نهر دجلة وجسرها جسر بغداد او جسر الشاعر العربي علي بن الجهم صاحب:
عيون المها بين الرصافة والجسر*** جلبن الهوى من حيث أدري ولا ادري،
ومن المدرسة المستنصرية العباسية المعروفة في التراث العربي الإسلامي، تحيط به المساجد الكبرى والدواوين الرئيسية للحكومة وأسواق التجارة وخاناتها الكبيرة، عاش ايام الطفولة والشباب كما ورد على لسانه:
قد كان من حسن الحظ ان والدي وانا اول اولادة كان حريصا غاية الحرص على تهذيبي وتثقيفي فكان ان اشركني في اعماله ،ويجب ان اتعلم اي علم فاستفدت من هذا التوجيه السديد، وساقتني الحياة يمينا وشمالا تارة تاجرا معه وتارة معتنيا بعلم الخيل والفروسية، وقد كان لوالدي اهتمام عريق موروث من ابيه وجدة بالخيل والفروسية وجربت شؤوناً مختلفه لا اظنها اتيحت لغيري من طبقتي في العمر والنشاة، وكل ماكان يدور حولي كنت اتامله وبيتنا في وسط حافل بالمدارس بين المساجد والجوامع الضخمة، وكنت اسمع اناء الليل واطراف النهار اسم الله الاعلى تجلجل به الاصوات من الماذن واري الصالحين في حي من علماء ووجهاء وفضلاء لهم السلوك الرفيع والمنزولة الكريمة،هذا ميدان واسع لامجال الان للخوض في اوصافه وموحياته الى العقل والقلب ولكنني استطيع ان اقول كان هذه العوامل كلها وهي غاية في النفس.
تعلم مبادئ القرآن والكتابة على امرأة كانت تعلم الصبيان في حيه ثم قرأ القرآن الكريم في كُتّابٍ آخر فأتم قرائته وهو ابن ست سنوات وتلقى ثقافته الإبتدائية باللغة التركية وتعلم الفرنسية كما درس في المدارس الرسمية وبعد الإحتلال البريطاني للعراق سنة 1917 تعلم اللغة الإنجليزية على مدرسين مختصين، ثم انصرف إلى التخصص بالعلوم العربية والإسلامية فأخذ عن علماء العراق ولازم خاصة دروس العلامة الأديب الشاعر اللغوي علي علاء الدين الألوسي البغدادي،
بعدها درس على علامة العراق وأديبه السيد محمود شكري الألوسي ولازمه مدة أربع سنوات حتى وفاته، أخذ عنه البحث والتحقيق وطريقة التأليف ، لقبه الألوسي بالأثري لشدة ولوعه بالأثر (الحديث الشريف)، واهتمامه بالبحث عن الآثار العلمية واصلها، يذكر أن العلامة الألوسي هو الذي أطلق على الشاعر معروف عبد الغني الجباري " الرصافي" لقبه الذي اشتهر به، حين قال له<<سيكون لك يا معروف شأن فيما بعد، فان كانت الكرخ تفتخر بمعروف الكرخي فما احرى الرصافة ان تفتخر بمعروف الرصافي>>، ، على أن صفة الرصافي جاءت من حنكته في رصف العروض والقوافي لنبوغ شاعريته المبكر، وليس من نسبته إلى جانب الرصافة من بغداد، حيث مقام الشاعر ومركز مدرسة الألوسي في جامع الحيدرخانة، وكل من لقبي "الأثري، والرصافي" لم يعرف بهما أحد غيرهما.
درس الأثري النحو والصرف والبلاغة والعروض واللغة والأدب والحديث والتفسير والفقه وتاريخ العرب والأنساب والبحث والمناظرة والحكمة والمنطق والهيئة، دخل الرشدية العسكرية فلم تقوَ بنيته على التدريس العسكري فأمضى دور النقاهة مداوماً في محكمة الاستئناف يتدرب على الإنشاء التركي، وأولع من يومه بالشعر والنثر والبحث والنقد والتحقيق والنشر، ولما بلغ العشرين من عمره عين مدرسا، فدرس العربية وآدابها في ثانوية التفيض الاهلية عام(1924-1925)،
ومدرساً في الثانوية المركزية عام 1926م، ثم مفتشا للغة العربية في ديوان المعارف، ودرب على التجارة والفروسية، وترك الوظيفة ليتفرغ للتخصص في العربية وعلومها، مضى في بداية العشرينيات يكتب الفصول الأدبية في الصحف، تولى رئاسة تحرير مجلة البدائع الأسبوعية وجعلها ميدان جهاده الاجتماعي والأدبي، وطفق يبحث عن مخلفات السلف في الأدب واللغة.
عمل معلما في مدرسة التفيض الاهلية عام (1924 - 1925م) ومدرسا في الثانوية المركزية عام 1926م، عين رئيس تشريفات في الديوان الملكي العراقي (أوّل عهد الملك فيصل الأوّل)، وعين مديرا لاوقاف بغداد عام 1936م يوم كانت المساجد هي المدارس الشعبية عند العراقيين، ثم مفتشا اختصاصيا للغة العربية والدين حتى عام 1941م، وفي عام 1941 أنضم إلى ثورة مايس وساندها بشعره، وبعد فشل الثورة أصدرت الحكومة آنذاك أمراً بفصله واعتقاله جزاء مساندته الثورة، عضو لجنة التأليف والترجمة والنشر في وزارة المعارف عام 1944م، تدريس اللغة والأدب وفلسفة علم الكلام لطلبة كلية الشرطة، انتخب عضوا عاملا في المجمع العلمي العراقي عام 1948م ونائبا لرئيسه، نائب رئيس المجمع العلمي العراقي عام1949م، عضو في العديد من مجامع اللغة العربية في دمشق والقاهرة والمغرب والهند وغيرها.
بعد ثورة 14 تموز عام 1958 اختير مديرا عاما للاوقاف، فكانت له أعمال مشهورة في تعمير المساجد، ومنها مسجد 14 رمضان الواقع عند نصب الجندي المجهول، والتي تسمى الان ساحة الفردوس، واشرف على اكمال اعماره ومنها استقدامه لأفضل المهندسين وخبراء الزخرفة من المملكة المغربية.
محاضر في عدد من الجامعات العربية والغربية، منها الجامعة الامريكية في بيروت ومعهد الدراسات العليا في القاهرة،عضو كامل العضوية في المجمع العلمي العراقي (1979)، وعضوا مشاركا في اكاديمية المملكة المغربية عام 1980م، واختير عضوا مؤازرا في مجمع اللغة العربية الاردني عام 1981، ومَثّل العراق في عدد من المؤتمرات الدولية التي اقيمت في جامعة القرويين في المغرب العربي وجامعة الرياض وجامعة محمد بن سعود الاسلامية واتحاد المجامع العلمية العربية، وشارك في عديد من الندوات العلمية والفكرية داخل القطر وخارجه،ومنح درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة بغداد عام 1992م.
في عام 1963 أحيل على التقاعد، إلا أنه لم ينقطع عن البحث والمشاركة والانتاج العلمي والأدبي المتنوع، فوضع عديد المؤلفات، لم يطبع منها غير القليل.
توفِّي العلامة محمد بهجة الأثري، رحمه الله، ببغداد في 25-3-1996م/6-ذو القعدة – 1416هـ، واقيم مجلس الفاتحة على روحه في في جامع 14 رمضان في الجندي المجهول وهو نفس الجامع الذي اشرف على بنائه، وقد أصدر المجمع العلمي العراقي كتاباً تذكارياً في تكريمه والإشادة بجهوده العلمية،ضم عدة بحوث عن سيرته وشعره ومشاركاته العلمية، عندما كان الدكتور ناجح الراوي رئيساً للمجمع، وأطلق اسمه على إحدى قاعات المجمع، كما كُتبت عنه أكثر من رسالة جامعية.
كان من أفذاذ علماء العراق في القرن العشرين، الذين نبغوا بعلومهم وآدابهم حتى ذاع صيتهم، عرف عالماً لغوياً وتأريخياً ومحققاً بارعاً، كما عرف شاعراً اصيلاً بروح عربية نابعة من وجدانه الوطني، وله ديوانان ضخمان يشملان قصائد عصماء، جمع مكتبة عامرة وهي من اكبر مكتبات بغداد ،هو في فلسفته متفائل وواقعي لأبعد حد، هذه الفلسفة القائمة على التفاؤل والاهام الروحي بالمثابرة لبلوغ الهدف الانساني بالحياة، جسدها، وظف فيها إبداعه الفلسفي في رسم الحياة المعرفية والاجتماعية والتأريخية التراثية منها والشعرية، وهكذا فالحياة في نظر محمد بهجت الاثري موجودة يجدر بالإنسان أن يغتنمها منفتحا على جمالها ومستمتعا بما تقدمه من نعمة خلقها رب الطبيعة.
برع في فن الخط على قاعدة نس تعليق، وكان خطه أشبه بخط استاذه محمود شكري الألوسي في الرسم والضبط، وله نماذج من خطه في المجمع العلمي العراقي، فهل سلمت عندما استبيحت بعد العدوان فتم سرقة وتخريب ما موجود في تلك المؤسسة العريقة؟، وقد خط وكتب كثيرا من الكتب لنفسه ولأستاذه، نشر بحوثاً ودراسات يقدر عددها 50 في اللغة والتأريخ والحضارة والفكر، له العديد من المؤلفات تصل إلى خمسة وعشرين مؤلفا، من أشهر مؤلفاته:
«أعلام العراق» و«الاتجاهات الحديثة في الإسلام» و«المجمل في تأريخ الأدب العربي» و«المدخل في تأريخ الأدب العربي» (مشاركة) مع د. مصطفى جواد وكمال ابراهيم، وهي مادة تدرس لطلاب دار المعلمين العالية،
و«الموفق في التاريخ العربي» <<محمود شكري الآلوسي.. حياته وأراؤه اللغوية>> و«مهذب تاريخ مساجد بغداد وآثارها» و«مأساة الشاعر وضاح اليمن» و«الأتجاهات الحديثة في الأسلام» و«الظواهر الكونية في القرآن» و«ذرائع العصبيات العنصرية» وغيرها.
كما له تحقيقات لعدد من كتب التراث المهمة للمكتبة الحديثة منها «بلوغ الأرب في أحوال العرب للآلوسي»، و «أم الرجز للعجلي»، و«كتاب النغم لابن المنجم» و«صورة الأرض للإدريسي» و«فريدة القصر وجريدة العصر» للعماد الاصفهاني "الجزء الخاص بالعراق" مشاركة مع د.جميل سعيد، و«مناقب بغداد لابن الجوزي»، و«أدب الكتابة لأبي بكر المولى», و«قسم شعراء العراق للعماد الاصفهاني»، <<تحقيق كتاب تاريخ نجد لأستاذه العلامة محمود شكري الآلوسي>> القاهرة 1998.، <<تحقيق كتاب تاريخ دمشق- بغداد>>1980، <<مصادر تاريخ الجزيرة>> دراسات ج1 1979، <<تحقيق تفسير أرجوزة أبي نؤاس في تقريظ الفضل بن الربيع وزير الرشيد والامين لابن جنّي>> دمشق.1980
اما دواوينه الشعرية: الأول: ملاحم وأزهار (1974) في القاهرة، والثاني: ديوان الأثري- ج1 (1990) عن المجمع العلمي في بغداد، والثالث: ديوان الأثري- ج2 (1996) عن المجمع العلمي في بغداد، اصدر المجمع العلمي العراقي عام (1994) لمناسبة بلوغه التسعين كتابا ضمّ دراسات وبحوثا في سيرته وشعره ونشاطاته العلمية، كما أصدر المجمع العلمي كتاباً في تكريمه والإشادة بجهوده العلمية، ولا تزال له مخطوطات وآثار قلمية كثيرة لم تطبع بعد.
العلامة محمد بهجة الأثري رابع الجالسين من اليمين وهو يتكأ على عصاه ..والى يساره الدكتور عبد العزيز البسام والدكتور أحمد مطلوب والى يمين العلامة الأثري الدكتور صالح أحمد العلي أمين عام المجمع العلمي العراقي ثم الدكتور نوري حمودي القيسي(الصورة في إحدى جلسات المجمع العلمي العراقي)/الصورة من ارشيف الأستاذ الدكتور ابراهيم العلاف
الاثري وعائلة الآلوسي:
كان معجبا وتأثراً بعائلة الآلوسي لما لها من مكانة في العلم والثقافة والادب ، فكتب عن استاذه ومعلمه العلامة الشيخ محمود شكري الآلوسي وفاءً لدوره التعليمي وتوجيهاته له في مختلف الشؤون العلمية والتربوية، رثى العلامة الاثري شيخه العلامة محمود شكر الالوسي نذكر بعض ابياتها الحزينة والمعبرة:
بغدادُ قد أقفرت من بعد مصرعه *** فقلقل الركبُ عن بغداد أهبالا
هذي المدارس أضحت وهي باكية *** من بعد شيخ بنى الآداب أطلالا
الأثري وشاعر الهند طاغور:
زار شاعر الهند الكبير طاغور العراق بدعوة من ملك العراق فيصل الاول عام 1931، وكان طاغور يدعوا الى المسالمة والمودعة والتعايش وهي نابعة من ثقافة الهند وتراثهم، لكن الاثري كان له موقف آخر حيث كان العراق في حينه يعيش تفاعلات الصراع الاهلي مع الملكية والاستعمار، فقام بقراءة شعر وجهها الى الشاعر طاغور نقتبس بعض منها:
بسمت لبغدادٍ وبغدادُ ثاكلة*** وبغداد ثغر صاغه الله باسما
إذا ما اقشعر الدهر فارقب فعالها*** واصغ إلى صوت القواضب قاصلة
فأنا على حال إذا ما دريته*** فلم تر إلا أن تهشّ مجاملة
لكل أديب حط فيه رواحله*** واصغ إلى صوت القواضب فعالها
ألا لا يرعك القول مني أقوله*** عذلت ورمت العفو ان كنت جاهله
الاثري وثورة مايس 1941:
عاصر أخطر الحوادث في العراق، فعندما اندلعت ثورة الجيش بقيادة رشيد عالي الكيلاني في آيار من عام 1941م ضد الانكليز، اسهم فيها مع رجال الفكر والسياسة والجيش، ومنها قصيدته الثورية تهاجم الإنجليز القاها من مبنى الإذاعة بينما كانت الطائرات تحوم فوقه، وكان يؤدي دوره الوطني الكبير في هذه الحقبة الحرجة، وتسجَّل أعماله ومواقفه بأحرف من نور، وبعد فشلها، فُصِل من وظيفته واعتقل ثم نفي إلى سجن الفاو أقصى جنوب العراق ثم إلى معتقل سامراء فمعتقل العمارة ثم أفرج عنه آواخر 1944 فدامت مدة اعتقاله أكثر من ثلاث سنوات، عاد الى وظيفته ليعين عضوا في لجنة الترجمة والتأليف والنشر في وزارة المعارف، فقد عاش للعراق ولأمته العربية والاسلامية، فكان حياً في قلوب الناس، وتجرد لخدمة اللغة والثقافة وتهذيب التراث وتأريخه، فأحبّه الناس، ولا ينبغي إلا أن يكون حاله هكذا، وضحّى بعمره كله في سبيل هذه الاهداف العظيمه.
مواقف الاثري من قضايا العرب :
لقد كانت مواقفه عروبية اسلامية، لقد قال الاثري:ان مصير العرب والمسلمين مرهون إيجابا في عودة فلسطين إلى أيدي اهلها مهما كانت وتكن الاسباب، ومحدد سلبا في ضياعها من هاته الايدي، لنتحاش لعنة التاريخ وحكمه من هنا ما في الاتحاد والوحدة التكاثف والتعاضد على الجهاد في سبيل استرداد الحق المسلوب والشرف المهدر من معنى ودلالة، فقد تجاوب مع قضايا أمته، تجِد في شعره صدًى للأحداث الجِسام التي ألمت بالأمة العربية والإسلاميَّ، وقصائده الخرائد ملاحِم حربيَّة ومطوَّلات ثوريَّة لقضايا الأمَّة، وفي مقدمتها أحداث فلسطين وثورة الجزائر، نقتبس ما قاله عن فلسطين:
يانياما ضيعوا ما ورثو*** ضيعوا عهد العلى والشرف
أما ان لكما نبتعثوا *** سيرة الهادي ومجد السلف
ان اهل الكهف قبل ان بعثوا *** من رقاد طال تحت السدف
ومنال المجد رهن الدأب *** فاستفيقوا واثيروا العربا
طال يا قوم رقاد العرب.
وما قاله عن الثورة الجزائرية:
باريس يا بنت الحضارة*** ليت من ولدتك عاقرا
هل انت منا خنت***على الباستيل واصطلت النوائر
وأطحخت طاغية الملوك*** كما يطيح الشاة جازر
وكتبت تحرير الورى*** ووضعت تقرير المصائر
سكن ومجلس الأثري:
منطقة الأعظمية ذات الارث الجميل، اخذت اسمها نسبة إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، التي تقع على الجانب الشرقي لنهر دجلة التي اعطاها رونقا في غاية الجمال، ومنها محلة نجيب باشا وشارع طه، لعقود من الزمن موطنا لستة رؤساء وزراء و12 وزيرا وسياسيين ومفكرين وادباء ومعماريين وتجار، اتخذها العلامة الاثري سكناً له، وبيته من البيوتات الجميلة، وشهد البيت مجالس الاثري وملتقى كبار الشخصيات الثقافية والمجتمعية، في سنواته الأخيرة كان أحد الذين يستانس الرئيس العراقي صدام حسين بالاستماع إليهم من بين العلماء والمفكرين. يذكر ان سكرتير الرئيس يومذاك الاستاذ حامد يوسف حمادي اتصل به، يبلغه برغبة الرئيس في رؤيته، وان سيارة سوف تحضر لتقله للديوان، فاعتذر بمرضه وتقدمه بالسنّ، وبعد حين عاد واتصل به يخبره أن السيّد الرئيس سيزوره في منزله، كما ضيف الشاعر الهندي والفيلسوف "طاغور"، بالاضافة الى أعلام الأدب والسياسة والثقافة من جميع بقاع الوطن العربي والعالم.
هل كان الاثري حزبياً؟:
في ارشيف الموسوعي حميد المطبعي الخاص اوراق للاثري تقول انه عمل في مسرح السياسة منذ العشرينات اسس او اشترك في جمعيات و منظمات تقول دساتيرها انها تعمل في اهداف اجتماعية عامة لكنها في حقيقتها اهداف سياسية لانها اعتمدت التنظيم والاعلان والنشر والتبليغ والاثري يرفض هذا التفسير وانا لا اجد مبررا لهذا الرفض ٍ الا انه يعود ويحدد بداية عمله السياسي بعد اطلاق سراحه من المعتقلات الثلاثة التي دخلها بسبب مساندته لحركة مايس 1941 وهي معتقلات الفاو وسامراء والعمارة ثم ترك السياسة بهذا التعليل : ولكن صحتي المتداعية وشؤون خاصة من شؤون الحياة صرفتني عنها وكان الله تعالى اختار لي ان اخدم امتي بالعلم والأدب وما شاء الله كان.. وفي يوم من الايام كتب لي الاثري يقول... اعتقلت في سنة1941 على اثر اخفاق ثورة الجيش والامة على الاحتلال البريطاني المبرقع والسياسة المحلية التي تبرقعه بخمارها الاسود .. ولكنه ليس <خمار المليحة> الاسود الذي تغزل بها الشاعر القديم ليروج لتاجر اخمرة بيع بضاعته.
وبالرغم من دعوات الأثري إلى الإسلام المثالي واتباع تعاليمه لصالح بني الإنسان في كل الأجيال فإنه لا يتوانى عن المطالبة بالأخذ من الحضارة الغربية ما هو ملائم لمقتضيات وجودنا وتقاليدنا وتطلعاتنا من الأساليب المبتكرة والفلسفات الحديثة والاكتشافات الفنية الرائعة. انه يقول: (.. إلى جانب ما يتحتم علينا اقتباسه من علوم العصر واستخدامه من مرافق مدنية الغرب المادية من مخترعات آلية ومكتشفات علوم العصر ولا كانت هذه العزلة الروحية عن الإسلام وهو أسمى ما عرفه البشر إلى الآن من النظم العادلة الضامنة لسلامته).
اعجب بشعر أمير الشعراء أحمد شوقي ذات التوجه والمواقف الاسلامية وخاصة، قصائده: سلو قلبي، ولد الهدى، ونهج البردة حيث قال:
دع عنكَ روما وأثينا وماحوتا*** كلَ كل اليواقيت في بغداد والتؤمِ ِ
التقاه في دمشق صيف (1925م) قبيل نشوب الثورة السورية على الفرنسيين بأيام، وقد رفع الأثري أبياتًا من الشعر إلى شوقي حين بلغه أنه أصيب بنزيفٍ في دماغه متمنيًا زوال الداء وقرب الشفاء نشرتها صحيفة الجامعة العربية المقدسية سنة 1931م، وبعد وفاة أمير الشعراء رثاه بقصيدة عصماء جاوزت الخمس والسبعون بيت في حفلٍ حاشد أقامه في جمعية الشبان المسلمين ببغداد.
زارت ام كلثوم العراق، حضر الحفل العلامة محمد بهجت الأثري ممثلا عن الحكومة العراقية، وقال في قصيدة ترحيب بها:
روحٌ من الملأ الأعلي يناجينا*** أم باغمٌ من ظباء الخلد يشجينا
ماذا أحس بنفسي غير أن صدي*** يكاد من رقةٍ يفني ويُفنينا
حمامة النيل، والدنيا علي قدمٍ*** تُصغي إليك بأذان المشوقينا
رفقاً بأرواح مسحورين قد ثملوا*** لَّما هتفتِ، وهاموا فيك صابينا
عاصر شاعري العراق جميل صدقي الزهاوي ومعروف عبد الغني الرصافي وكان له معهما سجالات ادبية واختلافات بوجهات النظر في القضايا الشرعية والحياتية وادعاء كلاهما إلى تحرير المرأة ونزع الحجاب (العباءة) السفور، والعلمانية التي كانا يؤمنان بها ، ووصلت السجالات على صفحات الجرائد، وع ذلك كان يجالسهما ومنها جلسة صلح نظمها محمود صبحي الدفتري في داره في الحيدرخانة وقد حضر الجلسة عبد العزيز الثعالبي وروفائيل بطي وفؤاد السمعاني والعلامة محمد بهجت الأثري والمحامي شاكر ال غصيبة، اما خلافه مع الجواهري فهي غير معلنة، ومع الشيخ جلال الحنفي فقد منعه من القاء الخطب في يوم الجمعة عندما كان مسؤولاً عن الاوقاف بسبب ان الحنفي كان يلقي خطب الجمعة بطريقة المقامات البغدادية، وفي حينها رد الحنفي على الأثري بقصائد من شعر الهجاء.
تصدى للماركسية في اربعينات وخمسينات وستينات القرن الماضي التي كانت تنتشر بصفوف الشباب.
من اشعاره الجميلة والذي تناوله الناس في جلساتهم، هو فيضان نهر دجلة مطلع الخمسينيات من القرن الماضي اذ قال الاثري فيه:
يانوح قم دارت بنا الازمان*** عبد الهوى وتجدد الطوفان
قد غبت عنه فاين منك سفينة*** يانوح يفزع نحوها الانسان
كانت ملاذ اللاجئين ومالنا*** يانوح ماينجو به الحيران
كأن بغداد في اثباجه*** فلك ولكن ماله ربان
يقول عن نفسه : ( أقدم الناس على نفسي ، لأنّ همومهم هي مايهمني ، أما أمر نفسي فهذا أمر هين ، وكلُّ ماأريد لها هو تمهيد لما أحب أن أوصله الى غيري من الخير والمنافع في هذه الحياة).
جيلنا يتذكرإسمه مكتوباً في كتاب (المطالعة العربية) الكتاب المدرسي المقرر لطلبة الصف الثاني الابتدائي في مدارس العراق، بداية عقد الخمسينيات من القرن العشرين، فكانت مفردات ذلك الكتاب، تربوي بمعاني نبيلة، وسامية ومحبة للوطن وللعلم، وفي المتوسطة "تاريخ الادب العربي".
وعن تواضعه وسمات شخصيته العلمية ينقل الباحث والمؤرخ سالم الآلوسي قائلا: حضرت معه في الأكادمية المغربية، فخاطبه احد الحاضرين قائلا: يا استاذنا الأثري، أنت فارس المجامع العربية، فاعتذر منه الأثري، واجابه بأنه ليس من طلاب العناوين، وهناك من هو أجدر منه بهذا اللقب.
جمعته علاقات بكبار رجال السياسة والفكر في العالم العربي أمثال السياسي السوري فخري البارودي ورئيس الجمهورية شكري القوتلي والرئيس الأندونيسي أحمد سوكارنو والعلامة أبو الأعلى المودودي والعلامة أبو الحسن الندوي وعلاّمة الشام محمد بهجة البيطار، والعالم المجاهد سيد محمد أمين الحسيني، والمير شكيب ارسلان، كما التقى بشاعر الهند "طاغور" حين جاء بغداد بدعوة ملكية وكذلك علاقته بالأديب المصري أحمد حسن الزيات بعد أن كان بينهما مساجلات ومعارك نقدية بسبب الفرية الشعوبية عن علاقة الشاعر وضاح اليمن بالرفيعة الحسب والنسب أم البنين الأموية زوج الوليد بن عبد الملك، ومصطفى صادق الرافعي.
الاوسمة والجوائز التي منحت للعلامة الاثري:
وسام الرافدين في العهد الملكي.
وسام العرش من ملك المغرب محمد الخامس، قلّده إياه سفيرة المملكة المغربية ببغداد في حفلة خاصة.
وسام أكاديمية المملكة المغربية، قلده إياه ملك المغرب الحسن الثاني في قصره بالرباط.
وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الاولى: قلده إياه سفير الجمهورية العربية السورية ببغداد في احتفالٍ فخم.
وسام المعارف من الحكومة اللبنانية.
جائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي، مع وسام رفيع قلده إياه الأمير ولي عهد المملكة العربية السعودية في حفلة رسمية كبرى في الرياض.
جائزة الرئيس صدام للإنتاج الأدبي الموسوعي مع وسام رفيع قلده إياه نائب رئيس مجلس قيادة الثورة عزت الدوري في مهرجان المربد ببغداد سنة 1989م.
جائزة الكوفة للخط العربي من وزارة الثقافة والإعلام العراقية.
وسام المؤرخ العربي (مرتين) من اتحاد المؤرخين العرب.
أبرز من كتبوا عنه:
العلامة الدكتور إبراهيم مدكور رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة في كتابه (مع الخالدين)، الدكتور عدنان الخطيب، الشاعر المصري الكبير عزيز أباظة، الدكتور أحمد مطلوب أمين عام المجمع العلمي العراقي، العلامة عبد القادر المغربي، العلامة محمد كرد علي، الكاتب العربي أنور الجندي، الباحث العراقي حميد المطبعي، يقول عنه المؤرِّخ العِراقي والباحِث الآثاري الأستاذ سالِم الأُلوسي: كان استاذنا الأثري مدرسةً كاملة استوفت كافة جوانب المعرِفة واللُّغة والتاريخ، للاثري الشاعر كما يقول مير بصري عن كتاب اعلام العراق للاثري: ديباجة مؤنقة جزل العبارة نقي الاسلوب وقد نظم في المواضيع الوطنية والاسلامية والوجدانية، وغيرهم الكثير من أعلام الفكر والأدب، بالاضافة ما كتبت عنه العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه.
العلامة الاثري راهب اللغة العربية التي عززها بافكار اصلاحية مهمة وحديثة، لقد حمل في قلبه حب الوطن ومحاربة التخلف والجهل، إذ أدرك جليا مدى خطورة الأفكار والسيطرة الاستعمارية على العقول وحشوها بكل ما يبقيها فقيرة جاهلة و فثار بقصائده مع من ثار، يوقظ الضمائر المسلوبة الإرادة، شاعر صدحت حنجرته باشعار اعادت مجد الشعر، اديباً، مخضرم الثقافات ومهذب التراث، اسما يصدح في محافل الادب والمجمعات العلمية، نذر نفسه في سبيل الإصلاح الديني واللغوي والاجتماعي وجند طاقاته العقلية والشعورية لترصين مبادئ الحياة الإنسانية الصافية، سيكون عبر التاريخ مشعلاً مضيئاً على الدرب الطويل الراقية بافكارها القائمة على التجرية والمشاهدة، ندعوا من ورثته ان لا تبقى مخطوطات ومؤلفات العلامة الاثري حبيسة ادراج مكتبته الشخصية، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود
978 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع