"شذرات واضواء عن النكتة والفكاهة والسخرية في العراق منذ العهد القديم الى يوما هذا"
في أغلب المدن العربية والعالمية، هناك مقاه صنعت أدباء وسياسيين، ومقاه صنعها الأدباء والسياسيين، وكانت تلك المقاهي محور إبداعاتهم ومحاوراتهم وتزيد من حيوية وروعة المناقشات والاجتماعية والسياسية والفكاهية، ومرتع للترفيه عن النفس بين الأصدقاء والمعارف، كانت جلستنا الأخيرة في مقهى الدلة بركن جميل لفندق الهلتون المطل على البحيرة في الشارقة، وهي مقهى لاتصنع الادباء ولا السياسين انما هي مقهى لسواح الفندق وللساكنين في الشارقة لتمضية جميل الوقت في انستهم وتمتعهم بهذا البلد الجميل، ونحن كساكنين للتمتع بجلسات جميلة وتذكر لجلسات ابي نؤاس ومنظهره الخلاب المطل على نهر دجلة، وهنا ونحن نشعر كم هذا البلد جميل بأهله وجميل بما وصل اليه من رقي ومستقبل واعد بكل النواحي، وكانت جولتنا هذه المرة التحدث عن الطرافة النكتة والسخرية في العراق، كيف بدأت واستمرت حاضرة الى يومنا هذا.
تمثل التعابير الرمزية والتأريخ الثقافي الانساني إحدى الركائز الأساسية لفهم المجتمعات والجماعات، فمن جهة يمكن اعتبارها مرآة صادقة لما تحمله من قيم ومعتقدات وممارسات وافعال، ومن جهة أخرى تكشف بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن الجوانب الخفية والحقيقية للمجتمع سواء أكانت في شكل مواقف أو تطلعات أو رغبات مكبوتة تنطلق على شكل معين من نكت وسخريات متنوعة، سياسية واجتماعية وشعبية وعنصرية ونكت المجون والخمر والخبل! والبلاهة! والغباء!، وفي اخرها التحشيش.
الدعابة أو الفكاهة هي مقدرة ومهارة يختص بها بعض الناس لإثارة الضحك ومشاعر التسلية والفرح لدى الغير، ويتصف البعض بروح الدعابة فيقال شخص (خفيف دم، ابن نكتة) أو يقال فلان لديه حس فكاهي.
الحس الفكاهي والدعابة تتطلب شخص يبث واشخاص يتلقون وأحيانا لا تتطلب بث من اي طرف بل ياتي بها موقف معين ووفقا لذلك يختلف فهم الاشخاص للدعابة والضحك منها تبعا لعوامل تتعلق بالذكاء وماهو متعارف عليه في محيط الفرد إذ ان كل محيط ووسط يتواجد فيه بشر له خصوصية نكاته ونوادره.
النكتة شيء فكاهي يقال بطريقة معينة من أجل إحداث التسلية أو إثارة الضحك، غالباً ما تكون في شكل لفظي شفاهي مختصر يجري سرده أو حكايته خلال تفاعل اجتماعي مـرح أو ساخر، وتقوم على أساس المفارقة.
إن انتشار النكتة بمجتمعنا تنطوي على أبعاد ومضامين اجتماعية وثقافية جديرة بالتأمل، والنكتة هي محاولة قهر القهر.. وهتاف الصامتين.. إنها نزهة في المقهور والمكبوت والمسكوت عنه.
النكتة في الحقيقة، ظاهرة إنسانية جوهرية عالمية، شأنها شأن القصص والحكم والأساطير درسها فرويد في كتابه: «كلمات الروح وعلاقاتها باللاوعي» ملاحظاً تشابهها الكبير مع الحلم، فرويد يقول بأن النكتة وسيلة دفاعية لا شعورية، يعتمد عليها الإنسان للتنفيس عن الغضب المكبوت في صدره، وهو رأي يوافقه عليه معظم العلماء المعنيين بالأمر، ومنهم من يؤكد أن النكتة دليل حيوية وقدرة المجتمع على التفكير والنقد، يشترط في الفكاهي او المنكت ان يكون صاحب ذكاء يجعله يبحث عن الحيلة ويتدبر الخطط وينسج خيوطها، ويمتاز بنظرة الثاقب وبموهبته الاصلية التي تضفي عليه خفة ولطفا فتأتي النكتة او الفكاهة لبقه غير مصطنعه تفيض بالعذوبة، كما ان هناك مقولة مقتبسة من ''هنري برغسون'' تقول لا مضحك إلا ما هو إنساني، والنكتة هي محاولة قهر القهر•• وهتاف الصامتين•• إنها نزهة في المقهور والمكبوت" والمسكوت عنه''، وترد الفكاهة او النكتة على شكل قصة قصيره موجزة ساخرة تقوم احيانا كثيرة على اساس النقد وتتميز بالخروج عن المألوف، والفكاهة والابتسام والضحك والمرح والمزاح والدعابة والهزل والنادرة وغيرهـا مـن الألفاظ، ليست سوى تعبير عن ظواهر نفسية من زمرة واحدة "وهي تـصدر عـن الطبيعـة البشرية المتناقضة التي سرعان ما تمل حياة الجد والصرامة والعبوس فتلـتمس فـي اللهـو ترويحاً عن نفسها ، وتبحث في الفكاهة عن منفذ للتنفيس عن آلامها، وتسعى عن طريق النكتة. نحو التهرب من الواقع الذي كثيراً
عرفت كل الثقافات والشعوب ادب السخرية، شعرا ونثرا، رسما وتصويرا، السخرية تنطلق من منطلق واحد، ثم تتخذ مدارات متعددة؛ فهي تنطلق من المفارقة في الخطاب، باعتماد ازدواجية المعاني، أي حضور المعنى ونقيضه في التعبير اللساني وما ينتجه من صور ومشاهد.
من الصعب تحديد تأريخ دقيق لظهور مصطلح السخرية في الحياة الانسانية الا ان الجميع يتفق بانها موجودة منذ الازل، مذ ادرك الانسان ذاتيته وتميزه عن الآخر، وقد كشفت الدراسات والابحاث الأثرية عن رسومات كاريكاتورية، فوق كثير من جدران الكهوف في الجزية العربية وبلاد الرافدين والصحراء الجزائرية وقبرص وفرنسا وايطاليا وامريكا اللاتينية وعند قدماء المصريين الذين سجلوا ذلك في رسوماتهم التي نحتوها على جدران معابدهم واهراماتهم، فقد رسموا صورا اشبه بالكاريكاتير منها صورة ذئب يرعى الماعز وذئب يرعى الغزلان، وجيش من الفيران تحاصر قلعة القطط " توم وجيري "، وطائر يصعد الى شجرة ليس بواسطة جناحيه وانما بواسطة سلم خشبي، كلها مخالف لما هو متفق عليه، مما جعل هذه الرسوم موضعاً للسخرية.
وقد اختلفت آراء الباحثين في تحليل هذه الظاهرة، وقد فسرها البعض بأنها سخرية من المحن التي صادفت تلك الشعوب فاتخذ من الفكاهة والسخرية منفذاً للتفريج عن همومه، خاصةً في عصور الاستبداد والظروف الحالكة منها تسلطية واجتماعية واقتصادية وتأريخية، اذاً السخرية نوع من أنواع الفكاهة الضاحكة، غير أنها ترتفع عن الفكاهة في موضوعها، فالسخرية أسلوب ضاحك لطيف، يتسلل إلى قلوب القراء أو السامعين أو المشاهدين (المتلقين)، كما يتسلل الطيف إلى ذاكرة الإنسان، وينتقل إلى نفوسهم كما تنتقل كلمات الحب لدى المرأة، إنه أسلوب يعتمد فكرة جادة يدور حولها، يناقشها، يحللها، وربما وصف سذاجة أصحابها أو شدة ذكائهم
من الصعب ان نتعرف الى أقدم نكتة بالتاريخ كون النكتة ذاتها واقعاً ساخراً رافق الإنسان منذ وجوده على سطح الأرض، عائلة آدم عندما ترعرت لا بد لها وان ضحكت لسبب ما وقد تكون نتيجة نكتة عفوية ولكنها شفوية ولم يطلعنا التأريخ عنها، كون الكتابة نفسها لم تبتكر إلا قبل خمسة آلاف عام في سومر وبالتالي من الطبيعي في عصرنا الحاضر بالأستعانة لما وصلته تكنولوجيا العلم والمعرفة أن تكتشف أقدم نكتة مكتوبة قد وجدت في سومر بفضل احدى الجامعات الاوربية، فجامعة وولفرهامبتون تمتلك قسم متخصص يقوم على عاتقه دراسة تاريخ النكتة وعلاقاتها بالطبيعة البشرية، ولا شك في أنه من خلال دراسة هذا الفن يمكن دراسة الأوضاع الثقافية والاجتماعية والسياسية ككل لأي مجتمع، وهي تشاطر الكثير بأن النكتة هي المختصر المفيد عن الوضع الذي تعيشه أية جماعة ذات ثقافة مشتركة. بكلمات أخرى، فإن النكتة هي الدليل إلى واقع الناس وآمالهم، وفي الدراسة التي أجرتها الجامعة المذكورة عن أقدم نكتة مدونة في التاريخ يقول الدكتور بول ماكدونالد المحاضر في الجامعة إن الدراسة أظهرت اختلاف النكات عبر الحقب، حيث يتخذ بعضها طريقة السؤال والجواب والأخرى شكل مثل ظريف أو لغز، لكن ما يربط هذه الأشكال كافة هو استعدادها للتعامل مع المحظورات وعلى درجة من التمرد على الأعراف والقوانين، على أية حال، كشفت الدراسة عن أقدم عشر نكات مدونة في التاريخ، الأقدم، هي سومرية وجدت مكتوبة في أحد الحمامات ويعود تاريخها لحوالي سنة 1900 قبل الميلاد، وهي عبارة عن مثل سومري قديم، ولطبيعة هذا المثل النكتة فلا نستطيع إيراده هنا من باب الحشمة، أما أقدم ثاني نكتة مدوَّنة في التاريخ فهي فرعونية يعود أصلها إلى 1600 قبل الميلاد وتقول نسختها المعدلة: كيف ترفع معنويات الفرعون سنوفرو حين يذهب لصيد السمك؟ الجواب: ترمي أحد العمال من دون أن يدري ثم تصيح بأعلى صوتك هناك سمكة كبيرة يا سيدي!!.
ما وصلنا من نوادر العرب وادبهم الضاحك ونكتهم في الجاهلية نزر يسير، فكأنما كان لقسوة وشظف حياة الصحراء ذلك التأثير السلبي في حياتهم، مع بعدهم عن الترفيه والنعيم، وهذا النزر اليسير تمثل بأمرؤ القيس والأعشى.
وفي عصر بداية الاسلام ذلك هو رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فقد كان رغم الرسالة العظيمة التي حملها وبشر بها العالم، يمزح ولا يقول إلا حقا، وكان بساما، وكان لا يحدث بحديث كما قال أبو الدرداء إلا تبسم، روى صاحب “العقد الفريد” ان النبي قال: يدخل عثمان الجنة ضاحكا لانه كان يضحكني، وكان يحيا مع أصحابه حياة فطرية عادية، يشاركهم في ضحكهم ولعبهم ومزاحهم، كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم، وقال الامام علي بن ابي طالب"روحوا القلوب فانها تمل كما تمل الابدان"، فالضحك والمرح والمزاح أمر مشروع في الإسلام وما ذلك إلا لحاجة الفطرة الإنسانية إلى شيء من الترويح يخفف عنها مصاعب الحياة وقسوتها، وتشعب همومها وأعبائها، كما أن هذا الضرب من اللهو والترفيه يقوم بمهمة التنشيط للنفس البشرية.
في العصر الاموي، ازدادت الفتوحات وباتجاهات متعددة مما سبب الاحتكاك والانفتاح مع المجتمعات الاخرى، تلك المعالم ساهمت في تغيير نظرتهم للحياة الجديدة، وكذلك اخذت رهبة الدين تنحسر عن النفوس، وقيود التزمت تخف بعض الشيء، فراجت سوق الفكاهة التي تعتمد على الهجاء واقبل الناس اكثر فاكثر على النادرة والضحكة ونسميها نحن النكتة، وظهر بين العرب اناس احترفوا الضحك والاضحاك بقصد التكسب والتقرب من الموسرين والولاة وحتى الخلفاء، فتناثرت النوادر في الاشعار وفي النثر وظهرت شخصيات لطيفه كالحطيئة وأشعب وابو دلامه والاخطل وعمر بن ربيعة والوليد بن يزيد، كان هؤلاء يتميزون بفصاحة اللسان وسرعة البديهة وحلاوة النكتة، يضاف الى ذلك ذكاء وقاد وحفظ لاخبار العرب واشعارهم، هذا اذا لم يكن المضحك نفسه شاعرا او اديبا.
في العصر العباسي نبغ أشخاص في فن الفكاهة والإضحاك كـ«ابن الرومي والجاحظ»، وانتشر الندماء والظرفاء، ونالوا مكانةً عظيمةً عند الخلفاء والوزراء، هناك رجال في تلك الفترة ألفوا الكتب في هذا الباب، منهم، <<الجاحظ>> وكتابه الشهير (البخلاء)، «الخطيب البغدادي» في كتابه (التطفيل) و<<الحصري القيرواني>> صاحب (زهر الآداب والالباب) و (جمع الجواهر في الملح والنوادر) و<<الثعالبي>> صاحب (يتمية الدهر) و(نتف الظرف) و<<الأشبيهي>> (المستطرف) و <<الامام ابن الجوزي>> في كتابه (أخبار الظراف والمتماجنين) و <<ابن المقفع>> في قصصه (كليلة ودمنه) التي كتبت على لسان حيوان بوصفها سخرية مبطنة من السلطة الحاكمة و<<ابو العلاء المعري>> صاحب (رسالة الغفران) وفيها راح المعري يتحكم بمصائر العباد في القيامة، فراح يوزع الغفران بين الخلائق نكاية بفقهاء السلطان، الأمر الذي اعجب دانتي الايطالي فحذا حذوه في الكوميديا الإلهية، فراح يحشر في جهنم من يراه يستحق النار كرجال الدين والقادة والأمراء، وهو بهذا يعكس وجهة نظر المجتمع بهؤلاء، و <<ابن قتيبة>> صاحب (عيون الاخبار)، و <<ابن عبد ربه>> صاحب (العقد الفريد)،
و <<ابو حيان التوحيدي>> صاحب (الامتناع والمؤانسة) و (الاغاني)، كما أن هناك مؤلفات اهتمت بنوادر جحا، ومن بين هذه المؤلفات (أخبار الحمقى والمغفلين) <<لأبي الفرج الجوزي>>، وهذه الكتب وإن كانت تحتوي الفكاهة؛ ولكن لا تخلو من فوائد علمية، كان للحضارة الأجنبية من فارسية وهندية وسريانية وغيرها تأثير كبير في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في هذا العصر، وكان للأدب "مرآة الحياة في شتى وجوهها" نصيب كبير من التطور: فسرى فيه تيار جديد شمل الأسلوب والموضوعات، وكان لرقي العقلية العربية وازدياد نموها الثقافي واحتكاكها الاجتماعي أثر كبير في تطور السخرية وشيوعها، وبخاصة في ذلك المجتمع الذي انتشر فيه الترف ورغد العيش وشاعت فيه الفكاهة والظرف، فلا غرابة أن يظهر العديد من الشعراء والكتاب الذين يتسم أدبهم بالسخرية كبشار بن برد، وأبي نواس، وحماد عجرد، وعبد الصمد بن المعذل، ومنصور الأصفهاني، والعتبي، والحمدوني وابن الرومي وابن سكرة، وكان هناك أيضاً الشعراء المجان الذين خلطوا سخريتهم بالمجون إذ كان غالبا عليهم ومنهم ابو العبر وابو غلالة المخزومي الذي اشتهر برثاء حماره طياب وابو حكيمة الذي اشتهر برثاء متاعه ونكات أدبية، إن أديبنا العربي أبو عثمان بن بحر الجاحظ يقول وهو يبين أهمية الفكاهة في حياة الإنسان «من كانت فيه دعابة فقد برئ من الكبر». فلم يترك الجاحظ شيئا في زمانه إلا وسخر منه سخرية لاذعة، "اذا اردت ان تقتل خصمك فاجعله أضحوكة لك وللآخرين"، إلى حد أنه وجه سهام نقده الساخر إلى نفسه، ومن برع من الأدباء في الفكاهة لا يحصرهم العدد، لأن الخلفاء الأمراء القدامى كانوا يعيشون حياة البذخ والترف، فكانت طبيعتهم المسرفة تولد كثيرا من الأدباء الفكاهية من يضحكهم ويسرّي عنهم، فقد اجتمع عدد كثير من الأدباء والشعراء على أبوابهم لإضحاكهم بالفكاهات والنوادر، وهذا يدل على إن الطرفة قديمة وليست مستحدثة، تحكي واقعا سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً.
ومن المشاهير الذين عرفوا بسرعة البديهية والفكاهة: بهلول هو ابو وهيب، بهلول بن عمرو بن المغيرة الصيرفي ولد في الكوفة وتوفي في بغداد نحو سنة 190هـ، قبره قريب من قبر الجنيد البغدادي في الكرخ، له أخبار ونوادر وشعر وكان جامعاً للخصال الحميدة، كان جميل الخلقة فكهاً، التقى به الرشيد في الكوفة سنة 188هـ- 802م فأعجب به وجعله من بعض خاصته ليسمع نوادره، ومن نوادره، "أن رجلاً وقف على بهلول فقال له: تعرفني؟ فقال بهلول: أي والله، وأنسبك نسبة الكمأة، لا أصل ثابت ولا فرع نابت"، ومما يدل على ذكاء بهلول وحسن تفكيره بالنتيجة التي يرمي إليها "أنه قال يوماً: أنا والله اشتهي فالوذج (حلوى) وسرقين (روث البقر)، فقالوا والله لنبصرنه كيف يأكل، فاشتروا له الفالوذج وأحضروا السرقين، فأقبل على الفالوذج واكتسحه، وترك السرقين، فقالوا له: لم تركت هذا؟ قال: أقول لكم أنا - والله يقع لي أنه مسموم، من شاء أن يأكل ربع رطل حتى آكل أنا الباقي"، صارت نوادره يتناقلها الناس ويكتبها المؤلفون، واضيف إليها ما أضيف من نوادر غيره، وصارت تنسب إليه نوادر لا تنسجم ونوادره الأولى في صفة الذكاء.
ومن مشاهير العرب الذين عُرفوا بخفة الدم والفكاهة الموصلي (الأصمعي)، حيث كان كثير السفر والترحال بين أهل البادية والحضر، ضليعاً باللغة العربية وجميع شؤونها وكان يمتلك الكثير من الطرائف والنوادر والحِكم والأشعار التي يُتحف بها ويُحيي مجالس الخلفاء والأمراء والولاة، فيكافأ عليها بالأعطيات والهبات والهدايا الكثيرة. ولقد أعد المستشرق الألماني وليم أهلورد كتاباً خاصاً أسماه (الأصمعيات) جمع فيه تلك القصائد التي تفرّد الأصمعي بقولها ونقلها، اذ يقول الأصمعي مخبراً عن حاله <<نلت ما نلت بالمُلح>>، أي الطرائف والفكاهة، ومن مأثور ما نقل عنه:
كان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور لا يعطي الشاعر على قصيدة نقلها من غيره وكان يحفظ ما يسمع من أول مرة ، وله غلام يحفظ القصيدة من مرتين، و جارية تحفظ القصيدة من ثلاث فكان الشاعر يكتب قصيدة طويلة، يدبجها طول ليلة وليلتين وثلاث فيقول له الخليفة : إن كانت من قولك أعطيناك وزن الذي كتبته عليها ذهبا، وإن كانت من منقولك لم نعطك عليها شيئا فيوافق الشاعر ويلقيها على مسامع الخليفة فيحفظها الخليفة من أول مرة فيقول له أنني أحفظها منذ زمن بعيد فيقولها له ثم يؤكد ذلك بالغلام الذي حفظها أيضا فيذكرها كاملة ثم ينادي على الجارية التي قد فتقولها كاملة فيشك الشاعر في نفسه ..وهكذا مع كل الشعراء فبينما هم كذلك إذا بالأصمعي يقدم عليهم فيشكون إليه حالهم فقال : دعوا الأمر لي فكتب قصيدة ملونة الأبيات والموضوعات وتنكر بزي أعرابي وأتى الأمير ليسمعه شعره فقال الخليفة : أتعرف الشروط قال : نعم قال : هات القصيدة
صـــوت صـفـيـر الـبـلـبـل ** هــيــج قـلـبـي الـثـمـل
المـاء والـزهـر مــعــــا ** مــع زهـــر لـخـط المـقـل
وأنت يـا ســـيــد لـــي ** وســيــدي و مـــــولـلــي
فــكــم فــكــم تـيـمـني ** غــزيــــــــــــل عــقــيــقــــــــل
قــطــفــتـه مــن وجـنــة ** مـــن لــثــم ورد الخـجـل
فـــــقــــــــال لا لا لا لا ** و قــد غـــدا مــهــرول
والــخـــود مــالـت طــربا ** مــن فـــعـــل هذا الرجل
فــولــولــت وولـــولــت ** ولــي ولــي يـــا ويـــــــلـلـي
فـــقــالـت لا تــولــولـي ** وبــيــنــي الـلـــــــــؤلــــــــؤلــي
قــــالــت لـه حـيـن كــذا ** أنــهــض وجــــــد بـالمـقـل
وفي آخر القصيدة
أنـــا الأديــب الألـمــعـي ** مــــن حــــي أرض الـمــوصـل
نــظــمــت قــطــعـا زخـرفـت ** يــعــجــز عــنــهــا الأدبـل
أقــول فـي مـــطــلــعــهـا ** صــــوت صــفــيــر الــبـلبل
فلم يستطيع الخليفة أن يحفظها لصعوبة كلماتها وتداخل حروفها ، فنادى الغلام فلم يستطع شيئا غير أبيات متقطعة فنادى الجارية فعجزت عندئذ، وحينها ربح الاصمعي الدنانير الذهبية ووزع منها على اصحابه من الشعراء.
لكن يظل جحا اكثر الشخصيات إثارة والذي نقل عنه الكثير من الطرائف والنكت، واختلف الكثيرون عن، اين عاش جحا والزمن الذي عاش فيه ولكن أقرب الروايات أن أسمه "أبو الغصن دجين الفرازي" الذي عاش نصف حياته في القرن الاول من الهجرة والنصف
الآخر في القرن الثاني، وعاصر الدولة الأموية ومات في عصر خلافة المهدي للدولة العباسية، فبعضهم قال انه مجنون وأحمق والبعض الآخر قال انه
عاقل ولكنه كان يتحامق ليستطيع السخرية من الحكام بحرية تامة وتوفي وعمره 90 عاما،ً
ومنذ ذلك الحين تحولت شخصية جحا العراقي العربي الى رمز فني قومي يحمل جانب التعبير عن الجماعة في محيطهم وحياتهم الاجتماعية، وظهرت في ادبيات دول اخرى، مثل جحا التركي"نصر الدين خوجة" البطل الاسطوريي القرن الرابع عشر، وفي البربر"سي جحا"، وفي مالطا"جهان"، وفي بلغاريا"غابرفو" وفي اليونان"ايسوب" وفي ارمينيا"آرتين"، وفي يوغسلافيا المغفل"ارو"، وفي المانيا"تل"، وفي ايرلندا"بات"، وفي انكلترا"جورج"، وكذلك الرومان والألبانيون والروس والقوقاز واهل جورجيا وصربيا واوكرانيا وتركستان، وحتى اليهود قاموا بسرقة شخصية جحا ونسبوها الى انفسهم، ولكن تظل شخصية جحا هي الشخصية نفسها، والقصص كثير منها جرى تداوله بنفس الاسلوب وننقل احدى نوادره:
كان جحا يملك داراً وأراد أن يبيعه دون أن يفرط فيها تماماً، فاشترط على المشتري أن يترك المسمار الموجود مسبقا في الحائط داخل الدار ولاينزعه، فوافق المشتري دون أن يلحظ الغرض الخفي لجحا من وراء هذا الشرط وبعد أيام ذهب جحا لجاره و دق عليه الباب، فلما سأله جاره عن سبب الزيارة أجاب جحا: جئت لأطمئن على مسماري، فرحب به الرجل، وأجلسه، وأطعمه. لكن الزيارة طالت والرجل يعانى حرجًا من طول وجود جحا لكنه فوجئ بما هو أشد، إذ خلع جحا جبته وفرشها على الأرض وتهيأ للنوم، فلم يطق المشتري صبرا وسأله: ماذا تنوي أن تفعل يا جحا؟!، فأجاب جحا بهدوء، سأنام في ظل مسماري، وظل جحا يذهب يوميا للرجل بحجة مسماره العزيز، وكان جحا يختار أوقات الطعام ليشارك الرجل في طعامه فلم يستطع الرجل الاستمرار على هذا الوضع، وترك لجحا الدار بما فيها وهرب!! ومن هنا انتشر مثل"مسمار جحا".
ابو دلامة له طرائف ونكت كثيرة ننقل منها مع الخليفة المهدي:
دخل ابو دلامة على المهدى وكان عنده جماعه من علية القوم، فقال المهدى، انا اعطي الله عهدا ان لم تهجى واحدا من البيت لأضربن عنقك!
فنظر الى القوم فكلما نظر إلى واحد منهم غمزه لينال رضاه ولما تيقن ابو دلامة أنه لابد هجاء واحد ممن فى المجلس لم يجد إلا نفسه فإن فى ذلك السلامه والعافيه فقال:
ألا أبلغ إليك أبـــا دلامـــــة ... فليس من الكرام ولا كرامة
‘اذا لبس العمامة كان قــردا ... وخنزيرا إذا نزع العمامــة
جمعت دمامة وجمعت لؤمــا ... كذلك اللؤم تتبعه الدمامـة
فإن تكُ قد أصبت نعيم دنيا ... فلا تفرح فقد دنت القيامة
فضحك كل من فى المجلس ولم يبقَ أحدا إلا أجازه
من مواقفه الطريفة والذكية مع المهدي أنه دخل عليه يوما وبين يديه( سلمة) الوصيف واقفا فقال:إني أهديت إليك يا أمير المؤمنين مهرا رشيقا ليس لأحد مثله فإن رأيت أن تشرفني بقبوله, فأمر بإدخاله إليه فإذا هو حمار محطم أعجف هرم يسير بصعوبة فقال المهدي: أي شيء هذا؟ ألم تزعم أنه مهر؟! فقال أبو دلامة: أوليس هذا (سلمة) الوصيف بين يديك قائما وتسميه الوصيف وله ثمانون سنة فإن كان سلمة وصيفا فهذا مهر فجعل سلمة يشتمه والمهدي يضحك.
ومما يروى عن النكتة في عهد الحجاج بن يوسف الثقفي حين كان واليًا للعراق أنه ولّى أعرابيًا على بعض النواحي النائية مدة طويلة بعيدًا عن أهله ودياره، وذات يوم مر به ضيف من بلده فاستضافه وقدم له الطعام، وراح يسأله عن أهله والرجل منهمك في تناول الطعام... كيف حال ابني عمير؟ على ما تحب.. قد ملأ الأرض رجالاً ونساء. فما فعلت أم عمير؟ صالحة أيضًا. فما حال الدار؟ عامرة بأهلها
وكلبنا إيقاع؟ قد ملأ الحي نبحًا. فما حال جملي زريق؟ على ما يسرك. وبعد أن اطمأن والي الحجاج من الضيف العابر على ما يهمه من أمر أهله وولده وداره مال إلى خادمه يأمره برفع الطعام، ولم يكن الإعرابي قد شبع ولكن الوالي اشتاق إلى سماع المزيد من أخبار أهله فراح يسأل ضيفه : أعد على ما ذكرت. سل ما بدا لك، فما حال كلبي إيقاع؟ مات!!
وما الذي أماته؟ اختنق بعظمة من عظام جملك زريق فمات، أو مات جملي زريق؟ نعم، وما الذي أماته؟ كثرة حمل الماء إلى قبر أم عمير، أو ماتت أم عمير؟ نعم، وما الذي أماتها؟ كثرة بكائها على عمير، أو مات عمير؟ نعم، وما الذي أماته؟ سقطت عليه الدار، أو سقطت الدار؟ نعم، عند ذلك قام والي الحجاج المنكوب - في كل من سأل عنهم - وأشهر عصاه ليضرب بها الضيف.. الذي ولَّى هاربًا.
اما الخمرة، فقد عاد الناس اليها في مجالسهم، اسوة بحكامهم، وصار بعضهم يتناولها جهرا. والذين وصفوا الخمرة من الشعراء كثر، لكن سيد من وصفها دون منازع: الحسن بن هانيء، ابو نواس
"الا فاسقني خمرا وقل هي الخمر ولا تسقني سرا اذا امكن الجهر"
ويصور الثمل الغارق في سكره ببيت واحد فيه سحر وجمال ما قدر عليه الا شاعرنا حين يقول
"فكل شيء رآه ظنه قدحا وكل شخص رآه ظنه الساقي"
ما يروى عن أحد المفرطين في شرب الخمر أنه قال له أحدهم: إن الخمر انتحار بطيء
فأجاب: ولماذا تريدونني أن أنتحر بسرعة؟!.
لم تغب النكتة والفكاهة والسخرية بكل انواعها عن المشهد العراقي بعد سقوط الدولة العباسية واحتلال بغداد من قبل هولاكو وبدأ عصر الظلام، الا انها كبتت وخفت وعادت الى المشهد خلال العهد العثماني فبدأ العراقيون بخلق نكات لاذعة وساخرة كتعبير عن الاحتجاج لظواهر الظلم الاجتماعي والاضطهاد وجني الظرائب والأتاوات، وكانت هناك رمزيات ممثلة بالقصخون وقصصهم تحوي اشارات ورموز ساخرة وغمز نكتي ، كما لجأ الكثير الى مناخات في الشارع والمقهى والحانة وحتى في دور العبادة.
وهنا ننقل لكم احدى النكت عن الوالي العثماني في بغداد وكيفية حصوله على المال بغية ارساله الى الاستانة:
"وصل الوالي الى بغداد وتسلم منصبه وارسل على مجموعة العمل الحكومي معه واستفسر من الخزندار عن الميزانية المتوفرة فأجابه ( باشا ولا مجيدي) فاعتقد ان الوالي السابق قد تصرف بها وآثر الانتظار ليرى ما سيؤول اليه الحال وبعد ثلاثة اشهر ارسل على الخزندار وسأله كم توفر لنا من الاموال فاجابه ( باشا ولا قمري) فسأل الباشا لماذا ألايوجد ضريبة ؟ الايوجد غرامة ؟ اليس هناك من يرمي النفايات في الشارع ؟ الاتوجد مشاجرات .. محاكم .. زواج ..و رسوم ؟؟
اجاب الخزندار ( باشا بغداد هي هالشكل مابيه وارد من زمان ) .. ففكر الوالي في حل لانه عليه ان يرسل نهاية السنة ايرادات الى الاستانة والا يغضب عليه الباب العالي وتوصل الى خطة فقال لمدير الشرطة احضر لي جميع التجار المسلمين يوم الجمعة قبل الصلاة الى القشلة لكي اجتمع بهم ..
حضر التجار المسلمون يوم الجمعة الى القشلة وهم في احسن زينة واجلسهم مدير الشرطة في قاعة الاستقبال بانتظار الباشا وبعد قليل دخل الباشا ونهض الجميع وادوا فروض التحية والاحترام وجلس الباشا على المنصة وصفق بيديه فدخل احد الخدم وهو يقود عنزة ( صخلة ) واوقفها بجانب الباشا وهنا قال الباشا وهو يمسح على ظهر الصخلة ( بابا تجار مسلمين هازه شنو صخل استنبولي لو حصان تركي ؟؟ ) فجاءه الجواب باشا ( هذا صخل استانبولي ) فقال متأكدين قالوا نعم قال ( انا يقول انه حصان تركي ) قالوا لا مولانا هذا صخل استانبولي مبين .. هنا غضب الباشا وصاح ( يعني انا حمار موش يفتهم ؟؟) جلاد اقطع رؤوس هازا تجار كلهم !! حصل هرج ومرج وقام الوالي والمفتي والسيد يتوسلون بالباشا يمعود مولانا بختك وهنا هدأ الباشا وقال زين عفو بس ( خمسين ليره ذهب جزاء كل واحد ) والجماعة امرهم لله اخرجوا الليرات ودفعوا وهم صاغرون وسارعوا بالخروج وهم يرددون
هذا حصان تركي حصان تركي اصيل.
نادى منادي الوالي ان التجار المسيحيين مطلوبون للحضور في الجمعة الثانية وهنا سأل التجار المسيحون اخوانهم المسلمين ماذا حدث فاخبروهم بالقصة كاملة ولذلك قرروا ان الموضوع سيكون سهلا، وجاء يوم الجمعة وحضر التجار ودخل الوالي وتكرر المشهد وعندما سأل الوالي ( بابا تجار مسحيين هذا صخل استانبولي لو حصان تركي ؟؟ فاجاب الجميع بصوت واحد حصان تركي مأصل ) فقال الوالي اني يقول هذا صخل، قالوا كلا هذا حصان مأصل قال يعني اني مايفتهم ؟؟ جلاد اقطع رؤوس تجار وهنا حصل الهرج والمرج وتدخل القس وقال باشا حالنا حال الاسلام غرامة ويرحم والديك فهدأ الوالي وقال بسيطة غرامة خمسين ليره ذهب، دفعها الجماعة وهم ممنونون وخرجوا مسرعين.
وفي الجمعة الثالثة نادى المنادي ان على التجار اليهود الحضور يوم الجمعة في قاعة الاستقبال في القشلة وسأل اليهود عما جرى وصعب الامر عليهم ماذا يقولون ؟ الوالي لايقتنع لا بالحصان ولابالصخلة وعلى كل حال وصلوا الى القاعة وتكرر العرض نفسه فقال الوالي ( بابا تجار يهود هازه شنو صخل استانبولي لو حصان تركي ) فنهض كبير التجار وقال ( باشا هذا لاهو صخل ولاهو حصان هذا غضب نزل علينا من رب العالمين هاي جامعيلك كل واحد خمسين ليره وخلينا نولي ويرحم والديك ) وضحك الوالي وتسلم منهم الليرات واصبحت خزينة الدولة عامرة.
وفي العهد الملكي، كانت النكتة والتشهير والسخرية تطلق بصورة مباشرة ننقل احدها وهي للباشا نوري السعيد السياسي المحنك ورجل المواقف صاحب النكتة والسخرية، وهي كما نقلت: " وقعت ازمة وزارية في العراق في الاربعينيات وكلف القصر اكثر من شخصية بتأليف الوزارة ولكن الخلافات خاصة داخل البرلمان كانت تُفشل كل رئيس مكلف وكان رئيس الوزراء المستقيل يومها نوري السعيد على رأس حكومة تصريف الأعمال او حكومة <<راجيا ان تبقوا في مناصبكم حتى تشكيل حكومة جديدة>> ، وبعد أسابيع وقف نوري السعيد في جلسة للبرلمان وقال لهم: <<بابا ماكو فايده ، لو القندره لو قيطانها>> وكان يقصد انه لا توجد فائدة من استمرار الازمة لانه في النهاية لا يمكن النجاح بتشكيل الحكومة الا اذا كان رأسها القندرة او قيطانها، وكان نوري السعيد يردد ما كانت تهتف به الجماهير العراقية تلك الايام في المظاهرات: <<نوري السعيد القندره ، صالح جبر قيطانها>>.
كان جعفر العسكري شخصية ظريفة، وسياسياً مرحاً، وصاحب نكتة، وكان في الوقت نفسه واسع الاطلاع عميق الغور، وتروى عنه قصص ظريفة ومقالب متنوعة.
طاهر يحيى رئيس وزرا العراق في العهد الجمهوري في الستينات، إنسان بسيط ومتواضع ورقيق ومتفتح، يحب الحكايات الطريفة ويستمتع بالنكات اللاذعة ويحفظ الكثير منها، وصاحب نكتة، ومن احدى مواقفه الطريفة أنه استقبل عندما كان رئيساً للوزراء مجموعة من الفتيات المتخرجات من معهد الفنون المنزلية يطالبن بتوظيفهن معلمات، فاعتذر لهن قائلاً أن خطة تعيين المعلمين والمعلمات اقتصرت هذا العام على خريجي دور ومعاهد المعلمين والمعلمات فقط، عندها صاحت إحدى الفتيات (وإحنة وين نروح؟) فأجابها رئيس الوزراء بسرعة وهو يضحك: تتزوجين عيني!.
برزت موجة من النكات التي تجسد العنصرية القائمة على أساس الخصائص القومية(الاكراد )، وموجة من النكات المناطقية(الموصل والدليم والناصرية)، كلها تتسم بالتبسيط والتحيز، كاعتبار شعب معين ذكياً أو ساذجاً وغبياً او بخيلا، وليس فيها من تجريح او اهانة كما انها لا تحط من شأنهم ولا تنتقص من روح الدعابة، ولهذا ترى الاكراد والمواصلة والدليم واهل الناصرية يتداولونها دون خجل او انتقاص.
بعد نشوء الدولة العراقية، ظهرت الصحافة الساخرة، فمنها جرائد سياسية تناولت( طبيعة التيارات الفكرية التي سادت الحياة السياسية، الانتخابات البرلمانية، مراقبة عمل الحكومة، الانتماء والتعاطف الفكري لأصحاب تلك الجرائد)، وأخرى، اقتصرت على الاتجاهات الاجتماعية، والادبية من خلال رصد الظواهر السلبية في المجتمع، مبتعدة عن الاتجاهات السياسية، ملتزمة بخطتها في كونها جرائد اجتماعية ادبية هزلية وما تضمنته من نقد ساخر ورصد للظواهر السلبية في المجتمع.
الجرائد الساخرة التي صدرت في العراق مبتدأ بجريدة ( مرقعة الهندي) فاتحة الصحافة الساخرة في العراق، ثم جريدة ( النوادر)، وجريدة ( جكة باز)، ومجلة ( الغرائب)، ومجلة ( الرصافة) وجريدة ( بابل)، و (البدائع)، و( المراقب) و( جحا الرومي) و(الادب)، و(الهزل)، و (كناس الشوارع)، و( بالك)، و(المداعب)، و(التهذيب)، و(سينما الحياة)، و(صدى الحقائق)، و(البرهان)، و(الناظرة)، و(الناقد)، و(الشباب)، و(مجلة الرياحين)، و(جريدة الرصافة)، و(حبزبوز)، و(بهلول)، و(جريدة ابو احمد)، و(مجلة القسطاس)، و (العندليب)، و(جريدة النديم)، و(ابو الشمقمق)، و(المداعب)، و(الانذار الاول)، التي كانت موضع حديث، وتساؤل، اولت الجرائد الساخرة، اهتماما كبيرا بفن الكاريكاتير منذ عام1931 مع ان هذه الجرائد هي التي يترعرع في ظلها فن الكاريكاتير وينمو ويبدع، حتى يغدو الرسم الكاريكاتيري مع النقد اللاذع أبلغ أثرا وأعمق تعبيرا، وقد نشرت (حبزبوز) رسوما كاريكاتيرية لرسامين معروفين مثل فايق حسن وناصر عوني. وكان من بين الذين رسموا الكاريكاتير الرسام سعاد سليم شقيق الفنان جواد سليم ومصطفى طبرة ونوري ثابت ولعله اراد ان يجمع بين مهنته كضابط في الجيش العثماني وكرجل تربية وككاتب ساخر ساحر الاسلوب ضاحك العبارة في جريدة (حبزبوز).
عام 1931 ظهر في الصحافة العراقية اول كاريكاتير عراقي صميم خطته ريشة الفنان العراقي عبدالجبار محمود ونشر غلافا للعدد الاول من جريدة (حبزبوز) لصاحبها نوري ثابت، ويصور هذا الرسم الكاريكاتيري شخصا هو (نوري ثابت نفسه الملقب حبزبوز) وقد ظهر بملابس الفرسان ممتطيا (طوب ابو خزامة المشهور فولكلوريا)، وقد حمل بيده قلما طويلا، كناية عن رمح الفارس وكلاهما سلاح. وقد توجه بنظراته وابتسامته الساخرة الى القراء، وفوق الكاريكاتير تعليق هو (سيارة حبزبوز الجديدة وقلمه السيال) وتحت الكاريكاتير حوار من سؤال وجواب:
(السؤال موجه لحبزبوز (نوري ثابت) يقول: شنو هاي حبزبوز؟
اشو راكب على طوب ابو خزامة؟ تريد تصير مثل سلطان مراد؟!
ويجيب حبزبوز لا مولانا! لكن مادام بنص اوتيل انضرب ست رصاصات فمنا وغادي،
قررت بعد ما اركب بعربانة او سيارة،
بل اخذت هذا الطوب من وزارة الدفاع حتى اتجول عليه
هم المسألة اقتصادية لان معلوم حضرتكم هذا يلهم التراب.. يصير بارود ويلهم الحجار يصير دان (اي قنابل)
اريد رجال اللي يتجدم).
برز الرسام غازي عبد الله والذي كان يستمد افكار رسومه من الامثال الشعبية العراقية في مجلة (قرندل) فظهرت على صفحاتها اولى رسوماته وظل يرسم لها حتى آخر عدد منها بعد شهرين من ثورة عام 1958، وقام باصدار مجموعات كاريكاتيرية عام 1957 تحت عنوان الاغاني والأمثال الشعبية والجزء الثاني عام 1960.
لا بد لنا ان نذكر مبدعي الكاريكاتير في العراق الذين وهبوا فكرهم وسطروا فرشاتهم الابداعية في النقد والسخرية منهم:
عبد الجبار محمود، غازي عبدالله (الخطاط)، حميد المحل، نزار سليم، سعاد سليم، منصور البكري، فيصل لعيبي، مؤيد نعمة، عبد الرحيم ياسر، كفاح محمود، كاظم شمهود، جاسم محمد سعيد، علاء الدين، نزار الهنداوي، علي المندلاوي، عامر رشاد، عادل شنتاف، بسام فرج، رائد نوري، خضير الحميري، ضياء الحجار، عبد الكريم السعدون، عباس فاضل، شهاب الحميري، محمد علي بربن، هاني مظهر، شيرين الراوي، فؤاد حسون، عبد الحسن، احمد الربيعي، اركان الزيدي، عادل صبري، سرمد الحسيني، عبد الخالق الهبر وعلي عاتب وغيرهم.
ومن اشهر الشعراء والاعلاميين والمغنين المشهورين في ظرفهم وسخريتهم هم: معروف الرصافي، الملا عبود الكرخي امير الشعر الشعبي ، ونوري ثابت الصحفي الساخر وصاحب جريدة (حبزبوز) الذائعة، وجلال الحنفي، وميخائيل تيسي الصحفي الفكه وصاحب جريدة (كناس الشوارع)، وعبد القادر المميز، وخالد الدرة، وصادق الازدي، وعزيز الحجية، وامين المميز، وداود الفرحان، وعلي السوداني، وشلش العراقي، داود الفرحان وشلش العراقي لهم الفضل في تحريك المدارك وتشغيل الذهن واثارة الناس للممارسات والأفعال المهينة والسرقات والممارسات التي حدثت بعد عام 2003.
ومن ظرفاء وفكاهي ومنكتي بغداد: عبد الله الخياط رأس المدرسة البغدادية في الفكاهة والظرف، الثلاثي المرح، خضر العجاج وعبد الغفور افندي ويعقوب افندي، خلف بن امين ودعبول البلام، وابراهيم عرب وشيخان العربنجي والمنادي عباس الحلاوي وحسون الامريكي والقزمين شفتالو و خليلو، تداول البغداديون نكاتهم واشعارهم، واعتزت بحضورهم المجالس.
من طرائف ابراهيم عرب، انه ذهب الى الهند لغرض المتاجرة وبعد ان اشترى ما يريد شرائه نفدت نقوده في وقت يريد فيه العودة الى بغداد لكنه استطاع بعد تفكير طويل ان يعمل قفصاً حديدياً ويصطاد مجموعة من الطيور وربط ارجل الطيور بالخيوط من جهة وبالقفص من الجهة الثانية، وجلس هو داخل القفص فطارت الطيور وهي تقود القفص وابراهيم عرب يرمي لها (اللكط) على طول الطريق الى ان وصل بغداد.
ومن الفنانين الساخرين: جعفر اغا لقلق زادة، يوسف العاني، وشهاب القصب، وحميد المحل، وجميل الخاصكي، وناجي الراوي، واسعد عبد الرزاق، وخليل شوقي، وفخري الزبيدي، وسليم البصري، وحمودي الحارثي، وخليل الرفاعي، وكريم عواد واخوه مكي عواد، رضا الشاطى، وراسم الجميلي، وعبد الجبار عباس، وسمير القاضى، وامل طه، وسهام السبتي، وماجد ياسين، واياد الراضي.
اشتهر فن المنولوج الساخر والهادف اجتماعيا والمبطن سياسياً في اربعينات وخمسينات وحتى الستينات من القرن الماضي، منهم الفنان عزيز علي، الشخصية التي خاطبت شخصية الإنسان العراقي في الصميم، وكل ما قاله، هو ما يحدث اليوم في العراق،
هو من يكتب الكلمات ويلحنها ويلقيها في منلوج ساخر، مما أدى إلى محاربة هذا الفنان الوطني الرائع بشتى الوسائل، منها في الرزق والعمل أو إيداعهُ السجن.
غنى للعرب "من أقاصي حضر موت لأعالي المغرب"
كان يجاهر بعدائه للحكم الملكي، و (فاضل رشيد) و(علي الدبو) و(حسين علي) وغيرهم.
ومن قادة الحركة الرياضية والرياضيين الذين اجادوا بتلقائياتهم لفن النكتة وحفضها وترديدها منهم: الدكتور اموري اسماعيل، وعمو بابا وطريقة كلامه وضحكته عند اطلاقها، والدكتور عبد القادر زينل، وعوسي الاعظمي(ايها المباوعون الكرام) عندما كان يقدم برنامجا تلفزيونيا عن الرياضة، وفتاح ابن حنكورة، ورحومي جاسم، وكرمان سلمان، وقاسم السيد. .
في ظل الاحتلال تفجرت النكة والسخرية والطرافة، بعد ان شاهدوا كيف وصل الأميون وارباب السلطة لكراسي الحكم وهم جهلة ونكرة وسارقون لا يهمهم الوطن بقدر ما تهمهم مصالحهم ومصالح من يسيرونهم، فأصبح لها متنفس في انتقاد كل شيىء، فلا حدود امامه فيما يلمح به من نقد ساخر، وبدأو يشهرون النكتة والسخرية في وجه مأساتهم، مطلقين النكات ومقاطع الفيديو والأغاني والصفحات الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي، كوسيلة للتعبير عن المعاناة والرفض لواقعهم، وهي تحظى بجمهور عريض لأنها قد تمنحهم ومضات من الأمل، وتشعرهم بامكانية التغيير، ويعتبرونها وسيلة قد تحدد مصير تطلعاتهم، ولهذا فقد رأينا كيف كانت السخرية تنتشر حول مرشحي البرلمان وكيف كانت تشترى اصوات الناس لانتخاب المالكى، وكيف أصبح نعيم عبعوب وابو الشكولاته وغيرهم هدفاً لسخرية الشارع العراقي ولا سيما على صفحات التواصل الأجتماعي ولا أعتقد ان شخصاً قد نال من السخرية عند العراقيين أكثر عبعوب والمالكي وابو الشكولاته وغيرهم، سخرية واستهزاء وشتائم متبادلة غير مسبوقة انشغلت بعض الفضائيات بذات وتعدى الامر حدود العراق لتتناوله مواقع عربية على الانترنيت واصبح سيل النكات والصور الكاريكاتورية الساخرة بلا انقطاع على مدار الساعة، وما برنامج "البشير شو"، الذي يهاجم ويسخر من كل ما هو سلبي في العراق من المسؤولين والسياسيين السيئين ومن الفاسدين والطائفيين والمتطرفين والجماعات المسلحة، الذي يقدمه احمد بشير الا شاهد للعيان، وستستمر النكتة والسخرية طالما هناك حيز ينميها.
خلاصة القول إنه رغم مظاهر النكتة البسيط وطبيعتها ونتيجتها الباسمة، وكذلك الحال بالنسبة للسخرية، فبالتأكيد انهما ابتكار إنساني بالغ الذكاء، كونه يمتلك قدرا متساويا من الثقافة والذكاء والمعرفة وهو مبدعها وهو الذي يمكن من يستمع اليه يفهم مغزى ما يصبوا اليه.
كم هو جميل أن يتمتع أحدنا بخفة ظل، بها يكون يزين لحظاته ولحظات الآخرين بالمرح، بشرط أن تكون خفة الظل تلك محمودة ومسؤولة، لا تأتي بشكل سخيف ولا تضر أو تجرح، جميل أن نضحك وأجمل منه أن نضحك من أنفسنا، ففي ذلك تنفيس وترويح عما نواجهه في الحياة من قلق وإحباط، ولا نعتقد أن هناك شعبا على وجه الأرض بصرف النظر عن مستواه الاقتصادي ونمطه الثقافي ونظامه السياسي ودرجة احترام حرية التعبير والرأي فيه، لا يضحك من نفسه أو أنه لا يحب الضحك وتعاطي النكتة، تأليفا ونقلا وأداء، للتنفيس عن مكبوتاته، ولربما للضحك من أجل الضحك، فقطـ وكذا الحال مع معطياة السخرية وتداعياتها النقدية الصحيحة: ومن الله التوفيق
سرور ميرزا محمود
582 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع