خلفيات شارع الرشيد التاريخية
شيدت بغداد في عهد الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور سنه 145 هجرية. كان موقع المدينة في منطقة العطيفية حاليا من جانب الكرخ في بغداد. إلا أن انتقال مركز مدينة بغداد إلى موقع مركزها الحالي قد حدث بعد حوالي قرنين من الزمن. كما لم يكن هناك شارع وسطي بمفاهيم اليوم يخترق المدينة، إلا في العهود المتأخرة من زمن"الولاة"العثمانيين في بغداد، أي في القرن التاسع عشر الميلادي.
عندما بدأ ولاة بغداد، ناظم باشا ومدحت باشا في بداية القرن العشرين، بأعمال الإصلاحات في بغداد كتشييد سدة ناظم باشا، لدرء مخاطر الفيضان عن المدينة، وإنشاء بناية القشلة كمركز للحكومة على نهر دجلة، تم في تلك الفترة فتح الجزء الأول من شارع الرشيد بدءا من باب المعظم وهو الباب الشمالي للمدينة باتجاه ساحة الميدان جنوبا حيث"طوب أبو خزامه"وجامع الحيدرخانة وأسواق بغداد الرئيسية مثل سوق الشورجة وسوق الصفارين وجامع مرجان.
أعترض سكان بغداد من أصحاب الأملاك ورفضوا الموافقة على تهديم دورهم بغية فتح ما تبقى من الشارع عندما قرر والي بغداد في السنين الأولى من الحرب العالمية الأولى، إلا أن خليل باشا وهو القائد العسكري العثماني في بغداد حينئذ لم يسمع اعتراض الأهالي، وأمر مدفعيته بقصف الدور الواقعة على محور الشارع، بغية فتح الطريق متذرعا بأن يجب مرور المعدات العسكرية إلى جنوب بغداد لصد هجمات الأعداء الانجليز. ورغم كل المعارضة في حينها، تم فتح الشارع خلال سنة 1916 وسمي في حينه بشارع"خليل باشا جاده سي"أي جادة خليل باشا.
وبقي اسم الشارع كذلك خلال العهد العثماني إلى أن تغير الاسم في أول تكوين الحكم الوطني بعد الحرب العالمية الأولى، ليكون اسم الشارع هو"شارع الرشيد"تيمنا باسم الخليفة العباسي المشهور الذي ازدهرت المدينة في عصره.
المعالم الرئيسية على شارع الرشيد
تعبر أبنية شارع الرشيد عن التطور العمراني في بغداد عبر ما يقارب قرن من الزمن. فالباب المعظم شمال الشارع هو الباب الذي يؤدي إلى مراقد الأئمة الإمام الأعظم والكاظمين شمال بغداد، والباب الشرقي حاليا هو النهاية الجنوبية للشارع.
من المعالم الرئيسية على الشارع،يقع كل من جامع الأزبك وجامع المرادية وجامع الحيدرخانة و جامع مرجان وجامع السيد سلطان علي. شيدت هذه الجوامع في مواقعها خلال ثلاثة قرون مضت.
أما الأسواق الواقعة على الشارع حاليا كمعالم مهمة في تأريخ بغداد، وأن كان شارع الرشيد نفسه يعتبر مركزاً تسويقياً مهماً بحد ذاته، إلا أن أسواق بغداد الرئيسية تقع عل جانبي الشارع.
فمنها"سوق الهرج"حيث تعقد المزادات صباح كل يوم جمعة وعلى يمين الشارع يقع"سوق السراي"أي"سوق الوراقين"المشهور وعلى الشارع يقع أيضا "سوق الصفارين" و"أسواق الشورجة"، مركز العراق التسويقي الكبير، وجوار سوق الصفارين هنالك"السوق الكبير"وهو مجمع كبير جدا، لعدد من الأسواق الرئيسية المهمة. وتقع حاليا على الشارع أسواق"ألسنك"حيث تشتهر ببيع المكائن والمعدات والكهربائيات.
ويقع كذلك على هذا الشارع اثنان من أشهر المخازن المركزية وهما مخزن"عمر أفندي اورزدي باك"و مخزن"حسو إخوان"حيث شيدت على الأسلوب الحديث للتسويق في أربعينيات القرن العشرين.
ومن الأبنية الرئيسية التي تقع على الشارع نذكر، مقر وزارة الدفاع العراقية التي كانت منذ قرون طويلة موقعاً عسكرياً لحماية المدينة، وعلى جانب هذه الوزارة على نهر دجلة تقع بناية البرلمان العراقي والذي اتخذ مسكنا لأول ملك للعراق"الملك فيصل الأول"عند وصولة لأوائل عشرينيات القرن العشرين إلى بغداد، ومن شارع الرشيد تتصل خمسة جسور رئيسية مع جانب الكرخ، شيدت خلال القرن العشرين. يقع على شارع الرشيد، ما يطلق عليه شارع البنوك وهو المركز المالي للعراق، حيث تجد عدداً من كبار البنوك العراقية وعلى رأسها البنك المركزي العراقي.
تقع على شارع الرشيد سابقا، بناية وزارة الاقتصاد العراقية القديمة والتي اتخذت في عشرينيات القرن العشرين، مقرا للمقيم البريطاني الأول (الحاكم البريطاني) حيث كان يرفرف في الحديقة الأمامية الصغيرة، العلم البريطاني في عشرينيات و ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين ويقف تحته في حراسة ذلك المقر جندي بريطاني بكامل قيافته من الجنسية الهندية (الكركه). كما تقع في نهاية هذا الشارع جنوبا وعلى نهر دجلة بناية جميلة اتخذت سابقا مقرا لأحد ولاة بغداد المتأخرين، وفي خمسينيات القرن العشرين استعملت هذه البناية مقراً لمديرية الشرطة العامة.
العناصر الجمالية في أبنية شارع الرشيد
لما كان هذا الشارع قد شيد تدريجيا منذ عشرينيات القرن العشرين، فمن الجميل أن نرى أبنية الشارع مشيدة بطرز تنسجم مع تطورات تقنيات البناء في القرن العشرين و بمواد إنشائية تتماشى مع تلك التطورات. فالجزء الأول من الشارع من الباب المعظم قد تمت إعادة إنشائه تقريبا لكون مواد تلك الحقبة من الزمن لم تعمر كثيرا إضافة إلى متطلبات التغيرات العمرانية. أما القسم الوسطي من الشارع فقد تميز بطراز إنشاء الأعمدة المسقفة على جانبي الشارع لتوفر الظل المناسب للسابلة. وأما الجزء الجنوبي من الشارع والذي تم إنشاء معظم أبنيته في العقود الأخيرة من القرن العشرين فقد اختلف طراز البناء لينسجم مع طرز البناء لفترات ما بعد الحرب العالمية الثانية أي لم تشيد الأعمدة أحيانا وفق ضوابط البناء التقليدي.
من الجوانب الفنية الجميلة في شارع الرشيد، نجدها في النقوش الفنية المختلفة في تيجان أعمدة الشارع و الأقواس بينها، ونجد كذلك بعض محجرات"البالكونات"المصنوعة على أشكال الأعمدة والأفاريز الإسلامية القديمة، مصنوعة أما من الرمل النهري والرماد والنورة قبل دخول مادة الاسمنت إلى العراق أو مصنوعة من الأسمنت كما كان ذلك مشاعا في حينه. نجد كذلك واجهات بعض الأبنية المطرزة بالنقوش النباتية أوالهندسية بأشكال جميلة تجلب انتباه المتخصص. أما شناشيل الأبنية في منطقة الشورجة فجماليات البعض منها يعزى إلى دقة الأعمال الخشبية المصنعة آنئذ من قبل"اسطوات"بغداد المتميزين.
من الطريف والمحزن، أن نذكر أنه عندما استوردت مصلحة نقل الركاب في أواخر أربعينيات القرن العشرين"باصات"الأمانة ذات الطابقين لتعمل على خطوط نقل الركاب لتمر من شارع الرشيد، اتضح أن هذه الباصات يصطدم الطابق العلوي منها ب"بالكونات"الأبنية التي تطل على شارع الرشيد، فما كان من المسؤولين آنئذ إلا أن يتخذوا"قرارا بلديا"بأن تقطع جميع "البالكونات" البارزة على شارع الرشيد. لذا نشاهد الآن جميع"بالكونات"الشارع مقطوعة بشكل منظم.
الاستعمالات الحديثة للشارع
ان شارع الرشيد يخترق مركز بغداد العاصمة، وأن مناطق رصافة بغداد تحتوي على الكثير من المراكز المهمة كالمراكز الحكومية والمالية والتجارية والتسويقية والترفيهية، كما تحتوي هذه المناطق على الكثير من ورش أصحاب الحرف اليدوية ومخازن بيع التحفيات واللقط الفنية التراثية، إضافة إلى وقوع معظم مداخل الأسواق القديمة لمدينه بغداد على شارع الرشيد، لذا فأن هذا الشارع يمكن أن يعتبر بأنه يحمل روح و ذاكرة مدينة بغداد وتأريخها وتراثها.
ومن هذا المنطلق فأني أقترح أن يتم التركيز على وضع خطط لإعادة تأهيل شارع الرشيد كاملا، واختيار بعض المناطق منه لتكون للسابلة فقط مثل المنطقة المحصورة بين ساحة الميدان و تمثال الشاعر معروف الرصافي وكذلك المنطقة المحصورة بين مدخل سوق الصفارين ولغاية تقاطع شارع المأمون.
إن أعمار شارع الرشيد سيدعو أصحاب المحال التجارية المجاورة، إلى أعمار محالهم التجارية كذلك وبذا نكون قد نهضنا بأعمار مركز الرصافة من بغداد.
إن إعادة أعمار شارع الرشيد وفق دراسات تخطيطية موضوعة مسبقا من قبل متخصصين في أعمال التجديد الحضري من خبراء عراقيين يساعدهم خبراء عالميون ذوو تجارب وخبر، وعلى ضوء ما تتطلبه استعمالات المناطق القديمة التراثية من اهتمام في الحفاظ على تراثها وتراث المدن القديمة، آخذين بنظر الاعتبار تجول السابلة والسياح والحركة التجارية و وصول وسائل نقل لخدمة مستعملي هذه المناطق التراثية، هذه الإجراءات ستعيد لشارع الرشيد رونقه ويعيد لمدينة بغداد اعتبارها التاريخي والتراثي والفكري.
الكاتب/ هشام المدفعي - المدى
922 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع