شهر رمضان المبارك في الذاكرة البغدادية
ها هو ذا شهر رمضان المبارك يهل علينا من جديد، بعطائه وقيمته المعنوية الراقية في قلوب المؤمنين وبكل ذكرياته الجميلة التي بقيت في القلوب على مدى السنين.. إن شهر رمضان المبارك يتميز عن بقية أشهر السنة بتلك الطقوس الرمضانية الخالدة التي تضيف لأيامه نكهة وجمالية قل نظيرهما.
نتذكر رمضان ونحن صغاراً نعيش في محلات كرخ بغداد، وكنا بعمر الخامسة والسادسة من العمر مع بداية وعينا، وكنا نريد بل ونلح ان نقلد أهلنا في صيام أيام الشهر الكريم، لنثبت لهم اننا مثلهم قادرون على الصوم.. والاهل ما بين مُشجع وما بين خائف علينا من اثر الصيام والارهاق والجوع والعطش، خاصة واننا وَعَينا على رمضان في اشهر الصيف الحارة كما هو حال رمضان هذا العام، كان بعض الاباء والامهات يقنعون اولادهم الصغار بالصوم لغاية الظهر ويبتدعون له تسمية (صوم الدرجات!!) أو (صوم الغزلان)!! لانهم لا يريدون ان يحرموهم من (متعة) مشاركة الكبار بالصوم، وبنفس الوقت يخافون عليهم من اثار جوع وعطش الصوم عليهم.. وحين كبرنا عرفنا انه لا وجود لصوم اسمه (صوم الدرجات!!) او (صوم الغزلان!!) الى آخره من التسميات التي يحاول الآباء اقناع أبنائهم وبناتهم بها لتدريبهم على الصيام عاما بعد عام.
وبالنسبة لي ولكوني منذ صغري طالبا في مدرسة تربي طلابها على تعاليم الدين والاخلاق هي مدرسة التربية الاسلامية فقد بدأت الصيام وانا في الصف الاول الابتدائي اي بعمر ست سنوات واستمريت على ذلك طيلة عمري. والحقيقة ان تعوّد الصوم مبكرا ينمي لدى الطفل ملكة الصبر والتحمل ويعوّده على أداء العبادات.
لرمضان في بغداد كما في سائر مدن عالمنا الاسلامي والعربي اجواء خاصة على مستوى البيت والمحلة وعموم المجتمع، وترافق الشهر الكريم عادات وتقاليد تكاد تكون متقاربة بين مختلف المجتمعات العربية والاسلامية، فرمضان مناسبة للطاعات والعبادة كالصلاة وتلاوة القران الكريم واداء الصلاة والاستماع للدروس والوعظ في المساجد، كما انه مناسبة لممارسة بعض الفعاليات الاجتماعية كالتزاور واستقبال الضيوف ومنها عادة الاطعام بين الجوارين،
فيندر ان لا تأتينا مع الافطار صحون مختلفة الانواع من الجيران حيث يتبادل الجيران ما لذَّ وطاب من أصناف الاطعمة من شوربات وهريسة وكبب (خاصة كبة حلب) وباقي الاطعمة حيث تحرص العوائل البغدادية على اطعام الجيران من لذيذ الطعام الذي تطبخه العائلة كجزء من تقوية الاواصر الاجتماعية، وتقرّباً الى الله وسعياً لنيل الاجر والثواب. كما ان رمضان موسم لإعانة الفقراء في المحلة حيث كانت العوائل تحرص على اعانة العوائل الفقيرة وارسال الاطعمة اليها في هذا الشهر الفضيل اضافة لدفع زكاة الفطر اليهم.
كما ان لشهر رمضان في بغداد ممارسات اجتماعية اضافة للتزاور وتبادل صحون الاطعمة منها جلسات المقاهي للرجال والشباب، وممارسة بعض الالعاب الشهيرة وبخاصة لعبة (البات) او (المحيبس) التي تتبارى فيها فرق شعبية من بين المحلات المتجاورة، لا بل قد تكون المباراة مع فرق من محلات بعيدة فتجد اهل الكرخ يتبارون مع اهل الاعظمية او مع اهل الفضل او اهل الكاظمية في لعبة (المحيبس) الشهيرة وتكون الجائزة صواني الزلابية والبقلاوة يتناولها الرابحون والخاسرون في نفس الوقت لان المناسبة كريمة، والاصل فيها متعة المشاركة والمؤانسة والتعارف دون زعل.. فالكل يخرج من المباراة سعيدا بلا تعصب ولا تمييز ولا زعل.
ويشتهر شهر رمضان بالطاعات والتقرب الى الله فتكثر العوائل كباراً وصغاراً من تلاوة القران الكريم في البيوت فضلا عن امتلاء المساجد بالمصلين من كل الاعمار.. وتمتاز ليالي رمضان بأداء صلاة التراويح في الجوامع والمساجد من قبل الكبار والصغار، وبعض ائمة المساجد يصلونها بثمانية ركعات وبقراءة سور طويلة وبعضهم الاخر يصليها بعشرين ركعة ولكن بسور او آيات قصيرة والناس تختار ما ترغب أو تريد من خلال كثرة المساجد الممتلئة بالمصلين. وهناك صلاة التسابيح التي تؤدى بعد التراويح في العشرة ليال الاواخر من شهر رمضان جماعة في الجوامع والمساجد.
يكثر السمر والتزاور بين العوائل خلال ليالي الشهر الفضيل حيث تمتد السهرات الى منتصف الليل وربما حتى السحور الذي يكون في منتصف الليل او بعده بساعة او ساعتين والبعض يحرص على ان يكون السحور قبيل صلاة الفجر ليكسب أجر تأخير السحور لورود حديث عن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم بتعجيل الفطور وتأخير السحور. وعادة ما تؤخر دوائر الدولة ابتداء الدوام الرسمي خلال رمضان لإتاحة الفرصة للناس للسهر للسحور.
أطعمة رمضان لها نكهة خاصة ونوعيات مفضلة، ويسبقها العوائل بالتسوق من سوق الشورجة لجلب مقتضيات شهر رمضان من المواد الغذائية وبخاصة الرز والعدس والماش والحبية والتوابل والجوز والمكسرات والزبيب والطرشانة وقمر الدين وتمر الهند وغير ذلك من لزوميات المائدة الرمضانية.
أجمل مافي رمضان هي هذه (اللَمّة) العائلية الجميلة حول مائدة الإفطار والسحور، وغالبا ما تفترش العوائل الارض لتناول الافطار والسحور، وتنشغل أم البيت وبناتها منذ العصر بل منذ الظهيرة بإعداد الطعام تحضيراً للإفطار،
ومع اقتراب موعد الإفطار تتعلق العوائل بشاشة التلفزيون لتشاهد وتسمع انطلاقة مدفع رمضان معلنا بدء الافطار..
http://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/menouats/5418-2013-07-16-20-36-21.html
ولمدفع رمضان قصة بل قصص كنا قد نشرناها في مقالة خاصة بالگاردينيا (مدفع رمضان في الذاكرة البغدادية) عن اصل وتاريخ مدفع رمضان. ومازالت محطات التلفزة العربية تستخدم النقل الحي او المسجل لاطلاق المدفعية الخاصة بشهر رمضان، مع بدء آذان المغرب، وصار الاطفال يتسمرون امام جهاز التلفزيون بانتظار انطلاق المدفع ليصيحوا على امهاتهم او آبائهم بان وقت الفطور حان لانه :«ضـَرَبَ الطوب»!!.
من عادة العوائل العراقية ان تبدأ الإفطار بأكل التمر (ويقولون يفضل ان يكون عددها وتراً أي ثلاثة أو خمسة أو سبعة) مع اللبن او مع شربت الزبيب او قمر الدين وبعدها يتم تناول الشوربة ولكل يوم نوع خاص من الشوربة مرة شوربة عدس ومرة شوربة ماش ومرة شوربة كبة الحامض. ومن عادة كثير من الرجال والشباب ان يذهبوا للمسجد القريب لاداء صلاة المغرب جماعة مع ابناء الحي، ثم بعد الصلاة يعودون لتناول باقي اصناف الافطار.
ومن الاطعمة الشهيرة بالافطار انواع التشريب مثل تشريب اللحم او تشريب الدجاج كما تشتهر المائدة الرمضانية بالكبب وخاصة الكبة الحلبية او كبة البرغل او كبة البطاطا، وكذلك المشويات من كباب او تكة او معلاك. والرز بانواعه مع السمك وانواع اللحوم. كما تشتهر المائدة الرمضانية بالهريسة. ومن جميل الاعراف الرمضانية البغدادية ان تتبادل العوائل المسلمة انواع الاطعمة مع جوارينها من العوائل المسيحية او الصابئة، وهؤلاء ايضا يبادلون العوائل المسلمة بالاطعمة وهي صورة رائعة من صور التآلف الاجتماعي والمحبة بين العراقيين بمختلف طوائفهم واديانهم وقومياتهم.
ما ان تنتهي العوائل من الافطار وتبدا ام البيت وبناتها بغسيل صحون المائدة، حتى ينطلق الصبيان والبنات في درابين المحلة ينشدون (ماجينة يا ماجينة حل الجيس وانطينا) سائلين الجوارين اعطائهم النقود او الطعام من الحلوى من جكليت وملبس ونساتل وغيرها ويعودون لدورهم فرحين بما كسبوه من نقود وحلويات.
ومن ذكريات الليالي الرمضانية في بغداد هو (المسحرجي) الذي يطوف المحلة زقاقا زقاق يطرق على طبل أو دمام صغير مناديا (ياصايمين سحور سحوووور!) وبايقاع موسيقي خاص، (المسحرجي) شخصية فلكلورية لازالت تجوب ليالي رمضان رغم الحداثة والتطور التقني.. ورغم التطور الحاصل بوسائل الاتصال الا ان المسحرجي ظل مستمرا يعمل في بغداد والمحافظات وكثير من مدن العالم العربي والاسلامي. "سحور"، "سحور"، "سحور" هي تلك الكلمات التي اعتاد البغداديون على سماعها في أيام رمضان، ثلاث كلمات تليها ضربات طبل على إيقاع رمضاني مفعم بالحنين لتعطي إلى الصائمين إشارة بوقت السحور، قبل بزوخ الفجر، وهنا تنتهي مهمة "المسحراتي" اليومية. ومع نداءات المسحرجي تبدأ الاضوية تتلألأ في الدور من جديد لتقوم ربة البيت بإعداد مائدة السحور وايقاظ رب البيت والاولاد لتناول طعام السحور للتهيؤ لصوم اليوم التالي،
وعادة ما يكون السحور أخف قليلا من تنوع اطعمة الفطور، وغالبا ما يتضمن السحور شربت قمر الدين او الزبيب ومعه الكبة الحلبية وبعض العوائل تطبخ الرز بالشعرية للسحور وبعضهم يفضل اكل منتجات الألبان مثل القيمر او الجبن والبيض والعروق .. وبعد الانتهاء من السحور يتوجه الرجال والصبيان نحو المسجد القريب لأداء صلاة الفجر جماعة ثم يعودون ليناموا لغاية الاستيقاظ للذهاب الى دوامهم واشغالهم.
ومع حلول العشر الاواخر من شهر رمضان تكثر العبادات ويبدا الصائمون بقضاء اوقات اطول ليلا في المساجد للتعبد او في دورهم لتلاوة القران وترقب حلول ليلة القدر المباركة التي هي خير من الف شهر، وتقام صلاة التسابيح والتهجد في المساجد، كما تنشغل العائلات بالتهيؤ للعيد من خلا التسوق وشراء هدايا وملابس العيد للأولاد وللبنات والتزود بالملابس الجديدة وتنشغل الامهات والبنات بعمل الكليجة تهيئة للعيد وتتم تحشية الكليجة اما بالتمر او بالجوز المبروش والسمسم ومنها الكليجة (الخفيفي) السادة بدون حشو، وغالبا ما ترسل الامهات الكليجة المعجونة الى الافران القريبة ليلة العيد او قبلها لتكون جاهزة للضيوف ولأفراد العائلة مع اول يوم من ايام عيد الفطر المبارك.
كل عام وانتم بالف خير.. وندعو الله ان يعيد هذا الشهر الفضيل على العراقيين بالامن والمحبة والسلام.
562 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع