رجـال واحـداث- اخر وزير للداخلية في العهد الملكي المرحوم سعيد قـزاز
هو محمد سعيد بن مجيد احمد حسن القزاز.
ولد في مدينة السليمانية من عائلة كريمة معروفة سكنت السليمانية ثم انتقلت الى بغداد وقدم افرادها خدمات جليلة لمدينة السليمانية وللعائلة الفضل في تعمير مصيف سرجنار واستغلال مياه( سراوي سبحان اغا) لاغراض الري اضافة الى اهتمام العائلة بطبع وبيع الكتب الكردية فضلا عن اقامة اول دار للسينما ، واتخذت العائلة مهنة ( القزازة) اي صنعة خيوط القز التي تدخل في صنع وتطريز الملابس الثمينة، وكان لهذه الحرفة انتشارا في بغداد والموصل.
كان والد محمد سعيد يعمل حرفيا بصنع وبيع القماش المنسوج من خيوط القز ويلقب بـ(ملا مجيد القزاز) لورعه وتقواه. توفي الوالد ولم يزل سعيد طفلا رضيعا فكفله عمه مرزا توفيق القزاز مع اخته (آفتاب) وامه السيدة ( سلمى الصلح) التي تنتسب الى اسرة (صاحيبقران) المعروفة في السليمانية.
دخل سعيد الكتاتيب وتعلم خلالها قراءة القرآن وحفظه بعدها دخل المدرسة الرشيدية ثم انتقل الى المدرسة الاعدادية في السليمانية وتخرج فيها عام 1917,
في العام نفسه الذي دخل فيه البريطانيون بغداد بقيادة الجنرال مود.
وحينما قام الشيخ محمود الحفيد بحركته المسلحة في السليمانية ضد القوات البريطانية كان سعيد قزاز يرى انه لا بد من الاعتماد على الحكومة العراقية . وقد عرف سعيد قزاز منذ شبابه بعلاقاته الطيبة مع اقرانه الكرد فبالرغم من كونه كرديا فهو عراقي التكوين وكانت تصرفاته تنسجم مع توجهات الحكومة العراقية تجاه القضية الكردية.
اكدت التقارير التي كان يكتبها سعيد قزاز اثناء وظيفته مدى كفاءته وحرصه الامر الذي لفت انتباه رؤسائه ، ففي 16 ايلول/سبتمبر 1925 طلب المفتش الاداري المستر الدرمان مستشار وزارة الداخلية ترفيع الكاتب سعيد قزاز بوصفه احد الموظفين القلائل في المنطقة الذي ينجز اعمالا يومية مناسبة وهو قائم باعماله بسهولة وقد ترتب على هذا الترفيع زيادة راتب سعيد الذي لم يكن يتجاوز الحادية والعشرين من العمر ليكون راتبه احد عشر دينارا وربع الدينار . ومن هنا يتضح ان السلطات البريطانية استطاعت تثبيت ادارتها في المنطقة من خلال بعض الملاكات المحلية المثقفة التي اخذت تعمل تحت توجيه المستشارين بوحي من السياسة البريطانية .
انتقل سعيد قزاز بعد ترفيعه ليتسلم وظيفته الجديدة ( الكاتب السري للمفتش الاداري في لواء الدليم ( محافظة الانبار) عام 1928 وبعد ستة اشهر قضاها في الدليم انتقل للعمل مترجما لمتصرفية لواء الموصل في 8/9/1928 . وفي الاول من ايلول/سبتمبر 1930 شغل وظيفة كاتب في شعبة المخابرات السرية لوزارة الداخلية ، ثم انتقل الى وظيفة الكاتب السري للمفتش الاداري للواءي الحلة (بابل) والدليم براتب قدره 245 روبية اي 18دينارا و375 فلسا ثم اصبح مديرا لتحريرات لواء اربيل فكركوك( التاميم) وذلك عام 1933 .
ان الخدمة التي قضاها سعيد قزاز في دوائر الداخلية اكسبته خبرة اهلته لتسلم مناصب اعلى حيث اكتسب خبرة كان لها الاثر في تسلمه منصب وزارة الداخلية
عين سعيد قزاز عام 1934 مديرا لناحية تكريت التابعة للواء بغداد (محافظة بغداد) وكانت له جهود واضحة في هذه الناحية فقد امتاز باتخاذ القرارات الحازمة من خلال الحكم في بعض الدعاوى الادارية ، وكان رؤساؤه من رجال الادارة يدركون هذه الامكانية الادارية التي يتميز بها وهو في الدرجات الاولى من السلم الاداري ، فتولدت لدى سعيد قزاز خبرة قانونية جراء اطلاعه على الاسس الصحيحة للقوانين ، فضلا عن زيادة ثقافته وكثرة مطالعته. فقد اعتاد بعض اصحاب المكتبات اخبار القزاز بالاصدارات الجديدة لعلمهم برغبته بانتقائها ، وقد انعكست ثقافته بشكل واضح على ارئه ومناقشاته عند تسلمه المناصب الوزارية ومشاركته في جلسات مجلسي الاعيان والنواب .وقد شغل سعيد قزاز عقب توليه مدير ناحية تكريت وظائف اخرى هي مديرا لناحية طوز خرماتو ثم مديرا لناحية بازيان ومديرا لناحية تانجرو ووكيل قائمقام قضاء كيل ووكيل قائمقام حلبجة وقائمقام قضاء زاخو وقائمقام قضاء كفري ثم اصبح قومسيرا للحدود العراقية.
سعيد قزاز وزير الداخلية يرفض إخلاء بغداد للحيلولة دون كارثة أخرى
وصالح جبر يقول إن دور أهالي الكرخ قادرة على استيعاب مشردي الرصافة
اكدتِ الاحوال الجوية وشدة البرودة وكثرة الامطار التي هطلت في اواخر عام 1953 واوائل سنة 1954 ان فيضاناً خطراً سيداهم العراق .وقال وزير الزراعة (عبد الغني الدللي)ان تدابير قد اتخذت منها تقوية السدود الضعيفة التي أنشأت من الفيضانات السابقة في وادي دجلة، وتنسيق العمل والمراقبة وتحديد الواجبات لموظفي الري والادارة وغيرهم
وفي 17/ 3 /1954 بدأت مناسيب المياه في نهر دجلة ترتفع ، ووصلت هذه المناسب إلى درجة خطرة في 25 من اذار ، واعلنت البلاغات الرسمية ان الزيادة لم يسبق لها مثيل منذ 48عاماً ،وواصلت المناسيب ارتفاعها ،فتولى الجيش والشرطة والاهالي حراسة السدود ، ووزعت الدوائر المختصة المواد اللازمة لمجابهة الفيضان ، وسخرت الحكومة المكائن والالات التي كانت الشركات الاجنبية تستخدمها في تبليط الشوارع واقامة المنشآت ، وقاربت الزيادة 36 متراً في26/اذار ،وهو المنسوب الذي يفوق درجة الخطر بمتر واحد ،
فنامت بغداد ليلة 27 اذار وهي فزعة قلقة يتهددها الفيضان والغرق في كل لحظة ،
واضطرت سلطات الري إلى فتح اربع كسرات في مناطق الخفاجي والرفيع واليهودية والداوديه .وسهر الناس ليلة 28 /اذار حتى الصباح وهم خائفون وايديهم على قلوبهم ،فقد بدأت المياه تتسرب إلى كثير من الدور والمؤسسات القريبة من النهر ، وتحولت ساحة السراي الكبرى إلى بحيرة تعذر على الموظفين اجتيازها بيسر وكانت ليلة 29 اذار اسوأ الليالي التي شهدتها بغداد ،وصارت مياه الفيضان التي تجمعت خلف السدود المحيطة بها من الشرق ومن الجنون تهدد العاصمة بغداد ... ولا يحول بينها وبين الكارثة سوى (سدة ناظم باشا) التي تحيط ببغداد من الناحية الشرقية وقد اصابها الهزال واخذت الرياح الشرقية تضغط عليها .
وفي تلك الليلة اجتمع رؤساء الوزراء السابقون والوزراء والمسؤولون وبعض النواب والاعيان واتخذ مجلس الوزراء بعد مناقشة دقيقة للموقف قراراً باخلاء بغداد اخلاءً جزئياً.
وقال البيان" انه من المستحسن ان ينقل الشيوخ والاطفال الصغار والمرضى من المناطق المجاورة للسداد الشرقية إلى جانب الكرخ.." وكان في بغداد زهاء ثلاثة ارباع المليون نسمة يسكن ثلثهم في جانب الرصافة المعرض للغرق .
وسأل وزير الداخلية (سعيد قزاز) مهندس الري البريطاني عن درجة الخطر المحدق بالعاصمة ،فلما اجابه المهندس ان درجة الخطر قد تبلغ إلى 95% ،اعلن الوزير القزاز انه يخالف هذا القرار لما يولد تنفيذه من ارتباك قد يؤدي إلى التهلكة ،كان سعيد قزاز طيب القلب شجاعا وامينا ويتمتع بالاخلاق الانسانية يتحدث عنه فيصل حسون نقيب الصحفيين العراقيين الاسبق خلال فترة اعتقاله في السجن المركزي ببغداد عقب قيام ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 في كتابه (شهادات في هوامش التاريخ) قائلا" كان اول من تعرفت عليهم من المعتقلين الذين تحلقوا في الصباح حول فراشي يسألونني عن احوال البلد وتطورات الثورة وكلهم متعجب من اعتقالي . السيد سعيد قزاز آخر وزير للداخلية قبل اندلاع الثورة فقد بادرني قائلا على الفورمن التقائي به: لقد حاولت قبل الثورة بثلاثة ايام ان اتحدث اليك تلفونيا لكنني اخفقت في الاتصال بك على الرغم من تكرار المحاولة ثلاث مرات. فقلت له : ولكن احدا لم يبلغني انك اتصلت بي تلفونيا. فرد قائلا: وهل انا مجنون لاقول لمن رد على اتصالي التلفوني بمكتبك انني وزير الداخلية وليست بيننا معرفة شخصية لاتسبب في ازعاجك واقلاق راحتك وجعلك تضرب اخماسا باسداس عما يريده منك وزير الداخلية."
ويضيف حسون قائلا" وادركت في تلك اللحظة اي نوع من الرجال كان سعيد قزاز الذي ظلمناه حين تصورنا انه واحد من جلاوزة الحكم متجاوزين عن الصفات الانسانية التي كان يتحلى بها".
واضاف قزاز والحديث ما يزال لحسون" انه قرأ سلسلة مقالاتي عن زيارتي الاولى للسليمانية والمناطق المحيطة بها من شمالي العراق وكانت له ملاحظات على تلك المقالات التي نشرت قبل قيام ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 باقل من اسبوع وكل ما يتمناه على الله تعالى ان يتيح له فرصة اصطحابي معه في زيارة اخرى لشمالي العراق لارى بعيني ما لم يتح لي الاطلاع عليه من مفاتن هذا الجزء من الوطن ولاكتب تفصيلا عنه عن محاسنه وعن اهله وعن مشكلاته"
ويواصل حسون حديثه عن قزاز فيقول" وبدأت امضي الايام مشاغلا نفسي بما اسمعه واراه. فقد سمعت باذني ورايت بعيني سعيد قزاز يدور على رجال الادارة والامن التابعين لوزارة الداخلية من المعتقلين ويقول لهم فرادى او مجتمعين ان عليهم حين يسألون خلال مواجهاتهم مع لجان التحقيق عن اية قضية تتصل بعملهم ووظائفهم الا يترددوا في القاء المسؤولية على عاتق وزيرهم وزير الداخلية كأن يقولوا : ان سعيد قزاز هو الذي امر بذلك وانهم نفذوا التعليمات والاوامر التي اصدرها اليهم "
ويقول حسون ايضا عن سعيد قزاز" وسمعته ذات مرة يقول ( لقد كنت وزيرا ولم اكن طرطورا وانني مستعد لتحمل مسؤولية الوزير بعد ان ذهب عن النفوذ والسلطان ولن اقول ما يقوله اليوم غيري لن اقول انني كنت انفذ عن غير اقتناع اوامر عبد الاله ونوري السعيد فقد مات عبد الاله ونوري السعيد وبوسعي ان احملهما المسؤولية بعد ان غابا عن الوجود لكنني اقر بمحض اختياري واعلن تحملي مسؤولية كوني وزيرا نفذت السياسة التي آمنت بها والتي اعتبرها سياستي ولست مستعدا للتنصل منها طلبا للخلاص من العقاب مهما كانت النتائج والتبعات)".( فيصل حسون،شهادات في هوامش التاريخ، ص 107 –108 .).
يتحدث الرحالة العراقي يونس بحري في مذكراته عن اعتقاله صباح يوم 14 تموز 1958 والتقائه بسعيد قزاز في سجن ابو غريب فيقول: كنتُ قد وصلت الى بغداد مصحوبا بزوجتي ظهر يوم الاحد 13 تموز 1958 هرباً من رصاص الثورة في بيروت فقلتُ لزوجتي : هيا بنا الى بغداد لنستريح من الرصاص والقنابل ايام الثورة الجماهيرية ضد الرئيس اللبناني كميل شمعون. ولو لم انتقل عصر ذلك اليوم من فندق ( ريحنت بالاس) الى دار ابن اخي العقيد الركن وحيد صادق الجبوري مساعد رئيس إستخبارات الجيش العراقي لكنتُ اليوم في عداد المسحولين. فلقد نشرت الصحف العراقية الصادرة يوم 14 تموز 1958 خبر وصولي الى بغداد ،؟ وذكرت انني حللتُ في فندق ( ريجنت بالاس) وقصد متطوعون كثر لسحلي والتمثيل بي، ولكنهم لم يجدوني هناك فسرت اشاعة بأني هربتُ من بغداد. ولكن احد اصدقائي اخبر الشرطة بأني موجود في دار العقيد وحيد الجبوري، فقام هؤلاء بابلاغ الخبر الى انضباط الجيش فبعثوا لي الرئيس( الرائد) سعيد مطر فنقلني الى وزارة الدفاع. ومن وزارة الدفاع نقلوني الى سجن ابو غريب.
كانت الساعة العاشرة مساء 15 تموز لما دخلت المعتقل فلم ار فيه إلا رجلاً واحداً هو المرحوم سعيد قزاز وزير الداخلية ؟ فحياني قائلاً : الحمد لله على السلامة .
كانت حياتنا في سجن ابو غريب تسير على وتيرة واحدة ، اذ يسألوننا عن اسمائنا الواحد تلو الاخر.
وعندما علموا أن سعيد قزاز – عدو الشيوعية اللدود – هو في الغرفة المجاورة لنا انهالوا عليه بالشتائم وبالتهديد بالموت رمياً بالرصاص ، وصاحوا به : لقد نبشنا اليوم قبر سيدك نوري السعيد الذي كان مدفونا هنا في ابو غريب. وسلمنا جثته الى الشعب ليسحلها ببغداد وسنسلمك انمت ايضاً ايها المجرم الخائن.
وتطلّعه سعيد قزاز في وجوه الضباط ، فعرف احدهم ، وكان برتبة رئيس( رائد) فصاح به قائلاً: هذا انت ياشيوعي . أنت عباس الدجيلي .. هل هذا جزائي منك ؟ ألم أنقذك من السجن ؟ ألم اعطك عملاً عندما احالوك على التقاعد؟
فأجابه عباس الدجيلي بقوله : لقد لعبت دورك القذر في مكافحة الشيوعية بدون هوادة أو لين. والآن فإننا سنلعب ادوارنا بنفس الروح التي كنتم تعاملوننا بها وأكثر.
جاءنا المقدم نوري وقال سابعث اليكم الملازم ضياء فليعطه كل منكم رقم تلفونه لنتصل باهلكم وذويكم ليأتوكم بما تريدون من اكل وشراب وسكاير وملابس وفراش. وسنعتبركم سحناء سياسيين غير مذنبين الى أن تجري محاكمتكم وساعتئذ تبيّض وجوه وتسوّد وجوه.
ولاول مرة يتكلم توفيق السويدي فقال: إننا تحت تصرفكم، وستقول العدالة كلمتها فينا وسيحكم التاريخ.
وعندها تدخل المرحوم سعيد قزاز في الموضوع وقال بلهجته الكردية : تكلم عن نفسك وحدك يا استاذ سويدي. اما أنا فإنني مسؤول عن اعمالي كلها.
فأجاب السويدي: أنت تدري يا سعيد بك أن الحكم كان يديره عبد الاله ونوري السعيد ،أما نحن وبقية الرؤساء والوزراء فلم نكن سوى احجار شطرنح ينقلانها حيث ومتى يريدان.
عندها احتد سعيد قزاز وقال بحدة واصرار:
هذا كذب وإفتراء بالنسبة لي وبعض الوزراء الذين اعرفهم وتعرفهم أنت جيدا مثلي . فأنا عندما اضطلع بالمسؤولية لا اعرف عبد الاله ونوري ، بل أعرف واجبي ومسؤوليتي ، بل المسؤول أنا وحدي عنهم على الاقل.واشار بيده الى متصرف بغداد عبد الجبار فهمي والى بهجت العطية والى بقية الموظفين التابعين لوزارة الداخلية من متصرفي الالوية ومدراء الشرطة وأمانة العاصمة والبلديات.
أصدر الحاكم العسكري العام أحمد صالح العبدي بيانا أشار فيه الى موعد تنفيذ حكم الاعدام ببعض المدنيين والعسكريين وذلك في 20 أيلول 1959 وعندما أبلغ القزاز بموعد تنفيذ الحكم ودع السجناء بحرارة تنم عن ايمان كبير وتم أخبار عائلته بالذهاب الى السجن لرؤيته للمرة الأخيرة قبل أن يعدم وكان آخر من ودعه في هذا اللقاء زوجته وأبنته وزوجها الدكتور ( كمال عبدالله ناجي ) وقد ظهر القزاز حليق الرأس يقوده جنديان فلم تتمالك المرأتان منظره فأجهشتا بالبكاء حتى أغمي على أبنته عند توديعه لها .
وفي محكمة المهداوي بعد ان شاهد المهزلة حينما وقف احد الشهود وبدأ شهادته قائلا" إنظر لتلك البقرة – وهو يشير الى سعيد قزاز – ذات القرون النتنة، كيف نمت من حبة وكيف صارت قندرة" وتعلى التصفيق والهتاف بحياة الثورة والزعيم قاسم. وقال القزاز قولته المشهورة (ساصعد الى حبل المشنقة وسأرى أناسا ممن لا يستحقون الحياة تحت قدمي) رحم الله سعيد قزاز.
2993 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع