عبد العزيز القصاب وحادثة إنتحار عبد المحسن السعدون
لعل مذكرات الراحل عبد العزيز القصاب من اصدق كتب المذكرات العراقية لسمو اخلاق صاحبها الشخصية العراقية الكبيرة.. وتعد مذكراته عن بعض الاحداث المثيرة والغامضة من تاريخنا شهادة تاريخية اصيلة ومعتمدة لدى الباحثين كما لا يخفى.عن الايام الاخيرة لعبد المحسن السعدون يقول عبد العزيز القصاب في مذكراته:
كان الملك فيصل قد اقام وليمة على شرف (كنهان كورنواليس) مستشار وزارة الداخلية في 12 تشرين الثاني 1929، وكنت مدعوا لتلك الحفلة الا اني لم اتمكن من تلبيتها لاصابتي بزكام شديد منعني ايضا من الدوام في ذلك اليوم.
وفي اليوم التالي اي في 13 تشرين الثاني جاءني المرحوم عبد المحسن السعدون الى داري التي كانت مجاورة لداره في البتاوين على النهر لاتفصله عنها الا ارض فارغة صغيرة وهي تبعد حوالي 300 متر عن بداية شارع ابي نؤاس في الباب الشرقي حاليا وذلك قبل غروب الشمس وسألني عن اسباب غيابي عن وليمة الملك، ولما رأى وضعي الصحي اعذرني واخذ يقص عليّ ما جرى:
انتحى كونواليس به في ركن من اركان الصالون وكلمه عن العلاقات البريطانية العراقية وقال: انه عندما عاد الى العراق لاحظ تبديلا كبيرا في سلوك الحكومة وسياستها وهو مستغرب من ذلك. اجابه عبد المحسن بانه قد تعب كثيرا من الركض وراء وعود الانكليز التي لم تلمس البلاد منها اي فائدة مرضية. والانكليز حريصون على تنفيذ مطالبهم وتحقيق مصالحهم فقط، اما مصالح الاخرين فلا يعيرونها اي اهتمام. طال الحوار لمدة ساعة تقريبا، صرح كورنواليس بعدها بان سياستهم لن تتبدل ولا يوجد لدى الوزارة البريطانية اية نية لتغييرها في الوقت الحاضر.
قال لي السعدون: وبعد هذه التصريحات التي سمعتها تركته ولم ارد عليه وعند خروجي من الصالون مررت بالملك للسلام عليه واخبرته بما دار بيني وبين كورنواليس واظهرت له انزعاجي مما سمعته وقلت له ان كل ما نرجوه من الانكليز هو محض خيال ليس له ظل في الحقيقة ولم يبق لي امل في تغيير سياستهم وخرجت من البلاط وانا متأكد من ان الانكليز يخادعوننا وسوف لن يعطونا مجالا للخدمة باخلاص.
ويضيف القصاب” لاحظت عبد المحسن وهو يتكلم انه متأثر حدا وعلى وجهه علائم الكآبة والانفعال والاضطراب. اخذت اواسيه فقلت له:
اننا نقوم بواجبنا في خدمة البلاد قد طاقتنا فاذا واجهتنا الاكاذيب والعراقيل من الانكليز نترك الحكم لهم وللملك فيصل ليتصرفوا كما يشاءون وليتلقوا عواقب اعمالهم الوخيمة.
واخيرا يقول القصاب:
نهض عبد المحسن ليتركني وآثار الالم والانزعاج بادية عليه رجوته ان لا يستعجل في الخروج لنستمر في حديثنا لكنه رفض طلبي وقال انه يريد الذهاب الى النادي ورفض ارتشاف القهوة التي وصلته عند باب الغرفة وخرج مطأطىء الرأس لا يلتفت يميناً أو يساراً لحقت به الى باب الدار فرفع يديه كلتيهما للسلام بدون أن يتكلم.
وقال لي حامل القهوة الذي قابله وجها لوجه أنه رأى عيني عبد المحسن مغرورقتين بالدموع. وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي أرى فيها عبد المحسن السعدون حيا.(مذكرات عبد العزيز القصاب،المؤسسة العربية للدراسات،بيروت، ص 254 -255).
وعن إنتحار عبد المحسن السعدون يقول القصاب:
« ذهب عبد المحسن بعد خروجه من داري الى النادي العراقي في محلة (السنك) وبقي هناك ساعة أو أكثر ورجع الى بيته في الساعة التاسعة مساءاً.حيث جاءني خادمي مبروك وهو يرتعد قائلاً:
أن الحارس أخبره بأن السعدون قد قتل.
خرجت مسرعاً الى داره المجاورة ورأيت الشرطي العريف على الباب يبكي وأشار الى أن الحادثة وقعت في الطابق الثاني فصعدت مهرولاً ووجدت هناك زوجته وإبنته عائدة ينوحان وأشارا اليه وهو ملقى جثة هامدة على فراشه، إقتربت منه ورأيت صدره مثقوباً في منطقة القلب بطلقة مسدس. سألت عما حدث فأجابتني عائدة بأنه هو الذي أطلق النار على نفسه وهذا هو مسدسه.
وأيقنت أنه قد فارق الحياة فتألمتُ الماً شديداً ونزلتُ الى مكتبه في الطابق الأسفل جلستُ على الكرسي أمام طاولة الكتابة وتلفنتُ الى رئيس الصحة والاطباء وأخبرتُ الوزراء.
وهذا نص الترجمة العربية للوصية بالمعنى الحرفي الموجهة إلى ولده الكبير علي:
((ولدي وعيني ومستندي علي !
أعف عني لما ارتكبته من جناية.
لأني سئمت هذه الحياة التي لم أجد فيها لذة وذوقا وشرفا.
الأمة تنتظر الخدمة.
الانكليز لا يوافقون.
ليس لي ظهير.
العراقيون طلاب الاستقلال ضعفاء وعاجزون وبعيدون كثيرا عن الاستقلال.
وهم عاجزون عن تقدير نصائح أرباب الناموس أمثالي.
يظنون أني خائن للوطن وعبدا للانكليز وما أعظم هذه المصيبة !
أنا الفدائي الأشد إخلاصا لوطني وقد كابدت أنواع الاحتقارات وتحملت المذلات
في سبيل هذه البقعة المباركة التي عاش فيها آبائي وأجدادي مرفهين.
ولدي.. نصيحتي الأخيرة لك هي:
(1) أن ترحم إخوتك الصغارالذين سيبقون يتامىو(تحترم والدتك) وتخلص لوطنك.
(2) أن تخلص للملك فيصل وذريته إخلاصا مطلقا.
أعف عني يا ولدي علي.
التوقيع عبد المحسن السعدون)).
ولفت نظري بين الاوراق على الطاولة كتاب مفتوح فوقها أخذته وإذا به وصيته الخالدة “.. الامة تطلب الخدمة والانكليز لا يوافقون..” أجهشت بالبكاء وطويتُ الوصية ووضعتها في جيبي ثم توافد الوزراء والنواب ورجال البلد وكلهم يتساءلون عن سبب الانتحار. كان ياسين الهاشمي والسويديان وانا مجتمعين في غرفة واحدة واستعرضوا فيما بينهم سبب الانتحار وانتحلوا بعض الاسباب التي كانت خارجة عن الموضوع تماماً. عند ذلك قلتُ لهم صبراً فعندي أسباب الانتحار الحقيقية وأخرجت لهم ورقة الوصية من جيبي فأخذ كل منهم يقرأها ويبكي.
قلت لهم أن سبب تأخري في عرضها عليكم هو رغبتي في حضور أكبر عدد من الزملاء والاصدقاء خشية ضياعها.
شكروني وقرروا نشر الوصية حالاً. وإمتنعت عن إعطائها الى أحد حتى تقدم سليم حسون صاحب جريدة العالم العربي الذي تعهد بنشرها وإعادتها في الليلة ذاتها مقابل تعهد خطي بذلك وقبل أن أسلم الوصية للنشر طلبتُ من الحاضرين جميعا التوقيع عليها.
أعاد سليم حسون الوصية وسلمتها بدوري الى أرملة الرئيس الراحل لتحتفظ بها للتاريخ.
المصدر: المدى
1343 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع