عبد السلام محمد عارف.. كما رأيته (الحلقة السابعة)
الرئيسان عبد الناصر وعبد السلام يوقعان اتفاقية التنسيق السياسي بين مصر والعراق كخطوة أولي لوحدة البلدين
ميثاق 17 نيسان 1963
لم يكن المشير الركن عبد السلام محمد عارف إثر نجاح ثورة 14 رمضان ـ 8 شباط (فبراير) 1963 سوي شخصية مهمة استثمرها حزب البعث في السيطرة علي مقاليد الحكم في العراق، نظراً للشعبية التي اكتسبها الرجل المعروف بشجاعته وخلافاته مع الزعيم عبد الكريم قاسم ووقوفه امام المحكمة الخاصة وصدور حكم باعدامه وبقائه مسجوناً لفترة غير قصيرة، يضاف الي ذلك شعور عام لدي الكثير من العراقيين بأن لولا عبد السلام لما حصلت ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، ولم يكن موقعا رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة اللذان اسندا اليه في فترة شباط (فبراير) 1963 سوي منصبين فخريين، لذلك لم يُبد عبد السلام دوراً أو حراكاً مؤثراً في التخطيط لميثاق 17 نيسان (ابريل) 1963 بين الجمهـــورية العربية المتحدة والعراق وسورية أو عند إبرامه.....
بل ان رئيس الوزراء أحمد حسن البكر وأعضاء وزارته وقادة حزب البعث هم الذين شاركوا في جميع المفاوضات التي سبقت اعلان الميثاق ووقعوا عليه.
كانت المفاوضات التي سبقت اعلان الميثاق سريعة، وبدا قادة البعث الحاكم في العراق وسورية وكأنهم علي عجلة في صدوره، ويبدو أن النيات لم تكن صافية بشكل عام بين القيادتين السياسيتين في بغداد ودمشق حيال القاهرة، بحيث لم تمض سوي أيام علي إعلان الميثاق حتي طفت علي السطح بوادر خلافات عميقة تسببت في أن تغــدو بنود الميثاق المسطرة بعبارات متقنة وطموحة، مجرد حبر علي ورق، وظهرت في الصحف اليومية العراقية والسورية الرسمية وشبه الرسمية من جهة، والمصرية من جهة اخري، مقالات ودراسات تتضمن تهجمات متقابلة، قبل أن تتصاعد سريعاً نحو بيانات رسمية وتصريحات شائنة أتت علي ألسنة كبار المسؤولين والقادة، كل يقذف باللائمة علي الطرف الاخر،
حتي حلّ مساء 22 من تموز (يوليو) 1963 عندما ألقي الرئيس جمال عبد الناصر بعد نفاد صبره خطاباً بمناسبة الذكري الحادية عشرة لثورة 23 تموز (يوليو) 1952 كانت عباراته بمثابة الإجهاز المبرم علي ذلك الميثاق الذي لم يطل عمره سوي ثلاثة أشهر.
18 تشرين الثاني 1963
عاش العراق ظرفاً عصيباً لا يحسد عليه في عام 1963، سادته خلافات وصراعات علي السلطة بين قادة حزب البعث الحاكم، فتفاقمت الاوضاع الامنية بشكل ينذر باشتعال حرب حزبية خلال النصف الاول من تشرين الثاني (نوفمبر) 1963 مما حدا بالرئيس عبد السلام عارف مؤيديه الي اشراك وحدات من الجيش العراقي لتحسم الامور وفق خطة سريعة ومتقنة تم تنفيذها مع فجر الاثنين، الثامن عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 1963،
إذ سيطرت وحدات من القوات المسلحة العراقية علي بغداد لتلغي وجود الحرس القومي (البعثي) وتستحوذ علي مقاليد الحكم في عموم البلاد، وينبثق من جديد مجلس وطني لقيادة الثورة برئاسة عبد السلام عارف وتشكيل حكومة جديدة اُنيطت رئاستها بالفريق طاهر يحيي، كان من أهدافها المعلنة تحقيق الوحدة مع القاهرة.
اتفاقية التنسيق السياسي في 26 من ايار 1964
التفّت العناصر القومية، وخصوصاً ـ الضباط القوميين ـ الذين كان لهم الدور الاساس في إنجاح ثورة 18 تشرين الثاني (نوفمبر) حول عبد السلام عارف بالدعوة الي تحقيق الوحدة مع مصر عبد الناصر التي طالما تمنوها، فتوصلت الوفود الثنائية ذات المستويات الرفيعة المتبادلة بين القطرين لأشهر عديدة من عام 1964 الي تحقيق اُولي وأهم الخطوات العملية للسير نحو الوحدة المنشودة، متمثلة بالتوقيع علي (اتفاقية التنسيق السياسي) التي اُبرمت بين العراق والجمهورية العربية المتحدة في القاهرة، ووقعها الرئيسان جمال عبد الناصر وعبد السلام محمد عارف، وأهم نصوصها ما يأتي:
أولاً: يشكــل (مجلس رئاسة مشترك) لكل من الجمهورية العربية المتحدة والجمهورية العراقية، من رئيسي الدولتين وعدد من الاعضاء.
ثانياً: يجتمع المجلس مرة كل ثلاثة أشهر، وفي الحالات الضرورية، باتفاق رئيسي الجمهوريتين.
ثالثاً: تكون القاهرة مقراً للمجلس ويجوز دعوته للانعقاد في مكان آخر بناءً علي اتفاق الرئيسين.
رابعاً: تعتبر قرارات المجلس إلزامية ونافذة بمجرد التصديق عليها، عدا تلك التي تحتاج الي استصدار قانون تنص عليه النظم الدستورية في كل من البلدين (1).
مجلس الرئاسة المشترك
نصت اتفاقية التنسيق السياسي الموقعة بين العراق والجمهورية العربية المتحدة في السادس والعشرين من ايار (مايو) 1964 ضمن اُمور اساسية اخري ذكرناها آنفاً علي تشكيل هيئة عليا للعمل من أجل إقامة الوحدة بين البلدين سمي (مجلس الرئاسة المشترك)، الهدف منه دراسة وتنفيذ الخطوات التي تؤدي الي تحقيق وحدتهما، ويرأسه رئيسا البلدين، ويتألف من ثلاثة أعضاء متفرغين من كلا الجانبين، يضاف اليهم ثلاثة أعضاء آخرون غير متفرغين من الحكومتين، وقد تمت تسمية الاعضاء المتفرغين، وهم السادة:
ناجي طالب وأديب الجادر وعبد الستار علي الحسين من الجانب العراقي، وشعراوي جمعة وكمال الدين الحناوي وعلي سيد علي من الجانب المصري، فيما نسب السيد فتحي الديب من مصر أميناً عاماً للمجلس. وتضمن مشروع اللائحة الداخلية للمجلس فقرات وعبارات كانت طموحة للغاية، وهي إن لم تكن مستحيلة التنفيذ، فقد كانت صعبة التطبيق من جميع النواحي العملية والواقعية، حيث أشارت الي أن مجلس الرئاسة المشترك يختص بما يأتي:
أولاً: دراسة وتنفيذ الخطوات اللازمة لإقامة الوحدة بين البلدين.
ثانيا: تخطيط وتنسيق سياسة البلدين في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي ميدان الإعلام.
ثالثاً: تحقيق الوحدة الفكرية بين شعبي الجمهورية العربية المتحدة والعراق عن طريق التنظيمين الشعبيين في البلدين (2) والعمل علي توحيد التنظيمين في المستقبل.
تقارير اللجان
وبعد انقضاء الاشهر الثلاثة المقررة للأعضاء المتفرغين للمجلس لإنهاء عملهم، فقد قدّموا بعض الدراسات والافكار الفردية، والتي من خلالها قدروا انها قد تفيد في تحقيق الغاية المرجوة (3)، وأعدت سبعة تقارير، أولها تقرير الامين العام للمجلس وفيه استعرض الاجراءات التي اتخذت منذ التوقيع علي الاتفاق في السادس والعشرين من ايار (مايو) الماضي، اضافة الي تقارير القيادة العسكرية للسيد ناجي طالب، واللجنة السياسية للسيد عبد الستار علي الحسين، واللجنة الاقتصادية للسيد أديب الجادر، ولجنة الثقافة والاعلام للسيد كمال الدين الحناوي، ولجنة الفكر الاشتراكي العربي للسيد شعراوي جمعة، ولجنة التنظيم الشعبي للسيد علي سيد علي.
موقف عبد السلام عارف
إلا ان تلك الدراسات والتقارير لم تُبحث ولم تُناقش سواء علي صعيد اللجان التي لم تكن قد تشكّلت اصلاً، أو علي صعيد مجلس الرئاسة المشترك نفسه خلال اجتماعه الرسمي الاول الذي انعقد في مدينة الاسكندرية في الرابع من ايلول (سبتمبر) 1964، وذلك بُعيد انتهاء اجتماعات مؤتمر القمة العربي الثاني مباشرة، إذ بدأ الرئيس عبد السلام عارف حديثه الموجّه نحو الرئيس جمال عبد الناصر، رافعاً بين يديه تلك الدراسات المفتوحة أوراقها امامه، فأغلقها قبل ان يقول:
سيادة الرئيس.. انا لا أريد دراسات وأوراقا ومقترحات، انا اريد الوحدة. وبذلك ذهبت جهود وعمل الاعضاء المتفرغين لمجلس الرئاسة المشترك، والاموال التي صرفت عليهم خلال الاشهر الثلاثة هباءً بعبارة واحدة أطلقها الرئيس عبد السلام عارف، وهو الأمر الذي انزعج منه أولئك الأعضاء كثيرا.
موقف الرئيس عبد الناصر
استدرك الرئيس عبد الناصر الموقف المفاجئ ليطرح سؤالاً محدداً، طلب من خلاله ان يبدي كل من أعضاء الجانب المصري رأيه بموضوع الوحدة بين القطرين...
فظهر ان السيد أمين هويدي سفير (ج. ع. م) ببغداد والعضو غير المتفرغ في مجلس الرئاسة المشترك ضد قيام الوحدة مع العراق قبل أن تُحلّ جميع مشاكل البلد القائمة في حينه ويقدم علي تنفيذ الوحدة، فيما بدا المشير عبد الحكيم عامر النائب الاول للرئيس عبد الناصر والسيد شعراوي جمعة، تماماً مع فكرة الوحدة، اما الآخرون فقد داروا حول الموضوع من قريب ومن بعيد، دون ان يصرحوا برأي واضح وجازم، حينها تدخل الرئيس عبد الناصر ليقول:
إنه مجازف، وهو معروف بالمجازفة، وعلي استعداد ان يركب البحر مجازفاً، ولكن تلك المجازفة يجب ان تكون محسوبة وقد قالها بالعبارة الانكليزية (calculated risk) وهنا بادر المشير عبد الحكيم عامر الي القول: ان الوحدة هي بمثابة معركة طويلة ومصيرية ينبغي أن نخوضها، لذا يجب أن تكون لها خطة متقنة، ولما كانت أية خطة بحاجة الي تقدير موقف، وهو ليس مستعداً لإجراء ذلك التقدير بمفرده وشخصه، لذلك فإن الواجب يقتضي مشاركة شخص آخر مسؤول من الجانب العراقي. ويقول السيد صبحي عبد الحميد في هذا المجال قائلاً:
وهنا ارتأي الرئيس عبد الناصر أن أبقي في القاهرة لأمثل الجانب العراقي في اجراء تقدير الموقف بالمشاركة مع عبد الحكيم عامر ولكن الرئيس عبد السلام عارف عارض ذلك لحاجته لي في الإعداد لمؤتمر (قمة دول عدم الانحياز) وكان علي وشك الانعقاد في القاهرة بعد اقل من شهر من ذلك اليوم، وعرض علي الرئيس عبد الناصر ان يشترك الاعضاء العراقيون الثلاثة المتفرغون في مجلس الرئاسة المشترك بإجرائه ما داموا هم أساساً يقيمون في مصر وقد تم الاتفاق علي ذلك، ولما انفض الاجتماع علي النحو الذي ذكرناه، قال الرئيس عبد الناصر للسيد صبحي عبد الحميد علي إنفراد ان الرئيس عبد السلام عارف غير جاد في الوحدة، لذلك فإنه يتمني ان يظل العراق دون وحدة مع مصر، ولكن من الضروري ان يبقي قوياً ليتعاون معنا ويواصل حلّ مشاكله القائمة، اذ ان وحدة الهدف بين البلدين الشقيقين وتضامنهما في هذه المرحلة يعتبران اهم من الوحدة نفسها.
ولكن ومن الجانب الاخر للموضوع نفسه، فإن تقدير الموقف الذي اقترحه المشير عبد الحكيم عامر لم يجر مطلقاً، ولم يُستدع أي عضو عراقي متفرغ مقيم في القاهرة من اعضاء مجلس الرئاسة المشترك للمساهمة فيه.
ولكن قبيل انعقاد مؤتمر )قمة دول عدم الانحياز) في القاهرة خلال شهر تشرين الاول )أكتوبر) 1964 دعا المشير عامر السيدين صبحي عبد الحميد وزير الخارجية وعبد الكريم فرحان وزير الثقافة والارشاد، والمتواجدين في القاهرة الي مكتبه ليقول لهما:لا تضغطا علي الرئيس عبد السلام، فلقد توصلنا الي ان تحقيق الوحدة بين دولتينا غير وارد في الوقت الحاضر، ولذلك سوف نقترح اسلوباً افضل من مجلس الرئاسة المشترك، ولم يكن ذلك (الاسلوب الافضل) سوي تشكيل (القيادة السياسية الموحدة) للبلدين، فقد جلب الرئيس عبد السلام عارف مسودة اتفاقيتها عند عودته من القاهرة في السادس عشر من تشرين الثاني (اكتوبر) 1964 اذ أقرّها المجلس الوطني لقيادة الثورة بإجماع الاصوات خلال اجتماع خاص عُقد لمناقشة بنودها في القصر الجمهوري ببغداد في التاسع عشر من الشهر نفسه، كما نشرت ذلك صحيفة (الجمهورية) الرسمية في العشرين من الشهر ذاته. وعندما سمع الاعضاء العراقيون المتفرغون في مجلس الرئاسة المشترك ان مجلسهم قد اُلغي عملياً، تركوا القاهرة عائدين الي بغداد، كما ابلغني السيد ناجي طالب في احد لقاءاتي معه.
حكومة طاهر يحيي الثالثة
لم يمض شهر واحد علي تشكيل القيادة السياسية الموحدة حتي كلّف الرئيس عبد السلام عارف رئيس وزرائه الفريق طاهر يحيي بتشكيل حكومة جديدة برئاسته للمرة الثالثة علي التوالي خلال سنة واحدة، وكان الملاحظ فيها ان ثلاث حقائب وزارية فيها قد اسندت الي الاعضاء المتفرغين السابقين في مجلس الرئاسة المشترك الملغي، ناجي طالب واديب الجادر وعبد الستار علي الحسين، واسناد حقيبة رابعة لسفير العراق في القاهرة شكري صالح زكي، وعدم ورود اسم العميد رشيد مصلح وزير الداخلية السابق والحاكم العسكري العام في العراق ضمن الوزراء، وتغيير منصب السيد صبحي عبد الحميد من وزير الخارجية الي الداخلية، وتسنّم اللواء الركن ناجي طالب العضو المتفرغ السابق في مجلس الرئاسة المشترك (الملغي) منصب وزير الخارجية، وتعيين وزير دفاع جديد، هو اللواء الركن محسن حسين الحبيب، واحتفاظ العميد الركن عبد الكريم فرحان أحد الاعضاء المهمين في (الكتلة القومية) المنادية بالوحدة الفورية مع (ج. ع. م)، بمنصب وزير الثقافة والارشاد، وتعيين السيد فؤاد الركابي وزيراً للشؤون البلدية والقروية، وهو أحد مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، والوزير السابق في حكومة 14 تموز (يوليو) 1958 بعد ان أمسي مع الكتلة القومية، وقد ورد في كتاب التكليف الذي وجهه الرئيس عبد السلام عارف الي الفريق طاهر يحيي امور مهمة برزت علي سطح السياسة في العراق للمرة الاولي، وهي: إعادة الحياة الدستورية، وقيام الحياة النيابية في العراق خلال مدة لا تتجاوز سنة واحدة ، الاسراع في إعادة إعمار شمالي العراق وحل جميع القضايا المعلقة الناجمة عن التمرد هناك، وبما يضمن الوحدة الوطنية، إقامة (مجلس شوري الدولة( خلال شهر واحد، الاهتمام ببناء الجيش والقوات المسلحة، وإبعادها عن السياسة كلياً، انجاز ما يترتب علي ما ورد في اتفاقية (القيادة السياسية الموحدة).
اما الوزراء، فقد كانوا السادة الآتية أسماؤهم: ناجي طالب للخارجية، وصبحي عبد الحميد للداخلية، واللواء الركن محسن حسين الحبيب للدفاع، وعبد الكريم فرحان للثقافة والارشاد، ومحمد جواد العبوسي للمالية، وعبد الستار علي الحسين للعدل، وشكري صالح زكي ـ التربية، والدكتور عبد العزيز الوتاري للنفط، وعزيزالحافظ للاقتصاد، والدكتور شامل السامرائي للصحة، والدكتورعبد الصاحب علوان للاصلاح الزراعي، والدكتورعبد الفتاح الآلوسي للاشغال والاسكان، وعبد المجيد سعيد للمواصلات، وأديب الجادر ـ الصناعة، وعبد الهادي الراوي للزراعة، والدكتور عبد الحسن زلزلة للتخطيط، وفؤاد الركابي للشؤون البلدية والقروية، والدكتورعبد الكريم هاني للعمل والشؤون الاجتماعية، والشيخ مصلح النقشبندي للاوقاف، والدكتور عبد الرزاق محي الدين للوحدة، ومسعود محمد وزير دولة.
شائعات في الشارع العراقي
أثار تغيير منصب السيد صبحي عبد الحميد من وزير الخارجية الي وزير الداخلية تقوّلات كثيرة في الشارع العراقي عن وجود خلافات وراء الكواليس بين الكتلة القومية التي كان يرأسها، وبين رئيس الجمهورية، فقد ادعي بعض الناس في أقاويلهم ان عبد السلام عارف أراد ان يحرمه من ان يلتقي كثيراً بالرئيس جمال عبد الناصر، من خلال زياراته العديدة والمتكررة ـ بحكم منصبه ـ الي القاهرة، أو أثناء توقّفه فيها عند تنقّله الي عواصم عربية او افريقية أو أجنبية، ولكن السيد صبحي عبد الحميد نفسه نفي ان يكون ذلك قد حدث بسبب خلاف في حينه بين كتلته مع عبد السلام عارف، إذ أوضح لي في احد لقاءاتي معه قائلا: إنني لم اكن راضياً في قرارة نفسي عن ذلك التغيير، فقد كنت أميل الي منصب وزير الخارجية، ولكن ذلك لم يقع بسبب خلاف بيننا وبين الرئيس عبد السلام، وإنما لإجماع في آراء أعضاء المجلس الوطني لقيادة الثورة بضرورة إعفاء العميد رشيد مصلح من منصب وزير الداخلية، لمعارضته الشديدة للقرارات الاشتراكية التي صدرت من القيادة يوم 14 تموز (يوليو) 1964 بل ومجاهرته في ذلك، إذ اُعتبر تصرفه هذا غير مقبول بالمرة، لانه كان عضواً في المجلس الوطني لقيادة الثورة ووزيراً للداخلية، وحاكماً عسكرياً عاماً، فهل يُعقل ان لا يؤمن صاحب تلك المناصب المهمة في الدولة بقرارات اساسية وخطوات جادة تصدرها الدولة؟ علما ان العميد الركن عبد الكريم فرحان وزير الثقافة والارشاد رفض بشدة منصب وزير الداخلية حينما عُرض عليه، كما رفض اللواء الركن ناجي طالب منصب وزير الدفاع متذرعاً أنه سيبقي بين (المطرقة) المتمثلة بالرئيس عبد السلام عارف القائد العام للقوات المسلحة، وبين (السندان) المتمثل بأخيه اللواء عبد الرحمن عارف رئيس اركان الجيش وكالة، والذي كان عبد السلام يصر علي ضرورة استمراره في منصبه هذا.
القيادة السياسية الموحدة
في العشرين من كانون الاول (ديسمبر) 1964 اُذيع بيان رسمي مشترك في بغداد والقاهرة وهو يحمل نبأ مولد القيادة السياسية الموحدة للجمهورية العربية المتحدة والجمهورية العراقية لتمّثل اعلي سلطة سياسية لدي البلدين الشقيقين، وقد ضمّت كلاً من السادة: جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة، عبد السلام محمد عارف رئيس الجمهورية العراقية، المشير عبد الحكيم عامر النائب الاول للرئيس عبد الناصر، الفريق طاهر يحيي رئيس وزراء الجمهورية العراقية، زكريا محي الدين نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة، صبحي عبد الحميد وزير الداخلية العراقي، أنور السادات رئيس مجلس الامة في الجمهورية العربية، عبد الكريم فرحان وزير الثقافة والارشاد في العراقي، حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية العربية، عبد الستارعلي الحسين وزير العدل العراقي، حسن ابراهيم نائب رئيس الجمهورية العربية، أديب الجادر وزير الصناعة العراقي، علي صبري رئيس وزراء الجمهورية العربية المتحدة، ناجي طالب وزير خارجية العراق، د. نور الدين طرّاف ـ نائب رئيس وزراء (ج. ع. م)، د. عبد الحسن زلزلة وزير التخطيط العراقي، أحمد عبدُه الشرباصي نائب رئيس وزراء (ج. ع. م)، شكري صالح زكي وزير التربية العراقي، كمال الدين رفعت نائب رئيس وزراء (ج. ع. م) محسن حسين الحبيب وزير الدفاع العراقي، عباس رضوان نائب رئيس وزراء (ج. ع. م( عبد الرزاق محي الدين وزير الوحدة في العراق، د. عبد القادر حاتم نائب رئيس وزراء (ج. ع. م).
وعلي الرغم من تلك التسمية الرنانة (القيادة السياسية الموحدة) وتأليفها من رئيسي الدولتين وكبار المسؤولين التنفيذيين والتشريعيين، إن صحّ التعبير، فإنها ظلت ـ في الواقع ـ مجرد خطوة اعلامية من دون حراك عملي يُذكر طيلة حوالي خمسة أشهر من تأريخ تشكيلها، إذ لم يزُر أي من أعضائها الدولة المقابلة، ولم يصدر شي آخر بعد البيان المشترك يشير الي تنفيذ الخطوات العملية اللازمة لتحقيق الوحدة المزمعة، أو غيرها من الأمور.
ويلخص السيد ناجي طالب في حديث للمؤلف رأيه بصدد تشكيل كل من مجلس الرئاسة المشترك والقيادة السياسية الموحدة بما يأتي:
اولاً: ان مجلس الرئاسة المشترك كان قد تألف كجزء من اتفاقية (التنسيق السياسي) المبرمة بين العراق و(ج. ع. م) بتاريخ السادس والعشرين من ايار (مايو) 1964، وكانت مهمته دراسة وتنفيذ الخطوات اللازمة لإقامة وحدة متكاملة بين الدولتين، غير ان هذه الصيغة لم تكن مقبولة من وجهة نظر (الكتلة القومية) فحسب، بل هي في الاساس لم تكن غير وافية بالتزامات تحقيق الوحدة مع (ج. ع. م) في اقرب فرصة ممكنة، وفقاً لما هو مدرج بالمادة الاولي من الدستور العراقي المؤقت، ولذلك ظل قادة تلك الكتلة يضغطون باستمرار علي الرئيس عبد السلام عارف من أجل إقامة وحدة فورية او مبكرة، ولكن تلك الضغوط لم تتمخض إلا عن تحقيق اتفاق شكلي، وذلك باستبدال اتفاقية (التنسيق السياسي) باتفاقية (القيادة السياسية الموحدة) مضافاً اليها تحديد سقف زمني أمده )سنتان) لتحقيق حلم قيام وحدة دستورية بين العراق ومصر.
ثانياً: لم تكن عملية إقامة وحدة دستورية بين العراق و(ج. ع. م) بالمهمة السهلة والبسيطة التي يمكن إنجازها بين يوم وليلة ـ كما كان يعتقد البعض ـ بل انها عملية بناء ضخمة ومعقدة وطويلة، ولا سيما اذا ما وضعنا نصب عينينا البُعد الجغرافي بين القطرين والآثار النفسية التي خّيمت علي الأمة العربية يومذاك، إثر عملية الانفصال بين سورية ومصر منذ أواخر عام 1961 اضافة الي الاختلافات الواضحة بين العراق ومصر في الميادين السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية وغيرها.
ثالثاً: كانت فكرة تكوين (مجلس الرئاسة المشترك) وخطوة استبداله بعد بضعة اشهر بالقيادة السياسية الموحدة من بين محاولات قُصد بها القيام بخطوات ونشاطات وأعمال وإجراءات مشتركة قد تمّهد للوصول الي صيغة عملية لإقامة وحدة دستورية متوازنة وناجحة في إطار الممكن والمفيد.
ولكننا لو عُدنا الي نصوص اتفاقية تكوين القيادة المذكورة، وأمعنّا النظر في دراسة المهام والمسؤوليات التي اُوكلت اليها، فإننا نجد انها كانت ضخمة جداً وواسعة للغاية، وتستلزم استحداث اجهزة مقتدرة وتكوين تنظيمات ومؤسسات عظيمة وذات اختصاصات متنوعة ليكون بمقدارها اجراء دراسات وبحوث مختلفة ومفصلة لدي القطرين لخدمة المتطلبات العملية لدولة الوحدة من الناحية الفعلية، والقيام بأجراءات وخطوات عملية هائلة ينبغي الخوض فيها لتحقيق تلك الدراسات وتطبيق البحوث وتنفيذها.
رابعاً: ان الاجهزة والتشكيلات التي سمّيت ضمن الاتفاقية باللجان المشتركة لم تؤلف ابداً، لأن العملية الاساسية ـ ومنذ بداياتها ـ اصطدمت بصراعات وأحقاد داخل القيادة السياسية في الجانب العراقي، وتلك حالة لم تكن بالطبع تشجع علي إقامة الوحدة، ولا حتي مجرد بحثها أصلاً، كما أعتقد.
خامساً: ومما لا شك فيه، ان القيادة العراقية حتي وان كانت متحدة الآراء فعلاً، ومنسجمة في شخوصها وتوجهاتها ونواياها ورؤاها، فإن عملية اقامة الوحدة الدستورية كانت ـ ولا بد ـ ستستغرق وقتاً طويلاً جداً، وذلك بسبب الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي كان القطران يعيشانه: كلاهما علي انفراد. مع الاخذ بنظر الاعتبار واقع ما يسمي بـالجيوبولوتيك الذي يعني الاعتبارات السياسية والجغرافية والعسكرية الإقليمية والدولية، والتي آلت بعد أقل من ثلاث سنوات الي هزيمة العرب في حرب حزيران (يونيو) 1967.
هوامش
(1) أنظر إلي كتاب امين هويدي (كنت سفيرا في العراق) ص 117
(2) المقصود بالتنظيمين: الاتحاد الاشتراكي العربي في البلدين
(3) مقابلة مع السيد ناجي طالب
للراغبين الأطلاع على الحلقة السادسة:
http://www.algardenia.com/fereboaliraq/7634-2013-12-04-20-13-03.html
766 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع