شيء من تاريخ القسوة والدم في العراق
الساعة السادسة والنصف مساءاً، من اليوم السابع من تشرين الأول عام 1959، وفي شارع الرشيد أقدم وأشهر شوارع بغداد، أنشأ في 23 تموز 1916، كانت سيارة شيفروليه يومان ستيشن واجن طراز 1958 باللون الكاكي، تسير باتجاه منطقة الباب الشرقي، قادمة من ساحة الميدان، وفي المقعد الخلفي كان يجلس الزعيم الركن عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء ووزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة العراقية، مع مرافقه الرائد قاسم امين الجنابي الذي يجلس في المقعد الأمامي بجانب سائق السيارة كاظم عارف. وما أن وصلت السيارة منطقة "رأس القرية" في شارع الرشيد وعند توقف السيارة بسبب حركة المرور حتى برزت مجموعة من الرجال وأمطروا السيارة بوابل من الرصاص من أسلحتهم الرشاشة ومن جميع الجهات. ثم لاذوا بالفرار بعد ان تركوا جميع ركاب السيارة مضرجين بدمائهم داخل السيارة.
من هم ولماذا وكيف أقدم هؤلاء الرجال على فعلتهم هذه؟ ...
يعود بنا الجواب على هذه التساؤلات إلى شهر تموز من عام 1958 عندما استطاعت مجموعة من ضباط الجيش العراقي (الضباط الأحرار) وعلى رأسهم الزعيم الركن (العميد) عبد الكريم المولود في (المهدية) وهو حي فقير في جانب الرصافة ببغداد، في 21 تشرين الثاني 1914،
من أب عربي وأم كردية فيلية، أصغر الأبناء الثلاثة لقاسم محمد بكر عثمان، والذي كان يشغل منصب آمر اللواء التاسع عشر في الجيش العراقي، مع صديقه العقيد الركن عبد السلام محمد عارف،
استطاعت المجموعة القضاء على النظام الملكي في العراق وإعلان النظام الجمهوري، عن طريق انقلاب عسكري يوم 14 تموز عام 1958، ثم قتل الملك الشاب فيصل الثاني وولي عهده الأمير عبد الآلة وكل افراد العائلة المالكة فيما عرف بـ (مجزرة قصر الرحاب).
تركت الأحداث التي حدثت في الأشهر الأولى من عمر الانقلاب أثرها على مسيرة النظام الجديد والمجتمع، فعلى الرغم من حقيقة أن الانقلاب كان جهداً مشتركاً معمولاً باسم عبد الكريم قاسم لكونه صاحب أعلى رتبة عسكرية بين الضباط الأحرار، لكن سرعان ما انفرط عقد تنظيم الضباط الأحرار بسبب الطموحات الشخصية لعدد منهم، وكان أبرز الخلافات ما حدث بين قطبي الانقلاب عبد الكريم وعبد السلام، من أجل الانفراد بالسلطة وقضية الوحدة مع مصر وقضايا أخرى،
واستطاع قاسم في 30 أيلول 1958 من أعفاء عارف من جميع مناصبه ثم قُدم بعد ذلك إلى المحكمة العسكرية الخاصة (محكمة الشعب) بتهمة التآمر لاغتيال عبد الكريم قاسم، التي حكمت عليه بالإعدام وأودع السجن. بعد اقصاء عبد السلام عارف هيمن قاسم على مجلس الوزراء هيمنة تامة، وأخذ جميع مقاليد السلطة بين يديه، حتى أصبح يصدر القرارات دون الرجوع إلى المجلس. وأنعكس أثر الفرقة والانقسام على صفوف الشعب والأحزاب السياسية الأخرى وقد ظهر ذلك جلياً بعد اعتقال عبد السلام عارف، حيث أنقسم الرأي العام إلى اتجاهين قومي يقف ضد عبد الكريم قاسم وإجراءاته، وشيوعي يقف مع قاسم، وبدلاً من الحوار لجأ الطرفان إلى القتل والعنف والتشهير، واتهم القوميون عبد الكريم بمساندته ومباركته للإعمال الشيوعية، فقدم ستة من الوزراء استقالاتهم من الحكومة في 6 شباط 1959، ومعهم عضو مجلس السيادة محمد مهدي كبة وهم : محمد صديق شنشل وزير الإرشاد (الثقافة والإعلام)، وفؤاد الركابي وزير الإعمار ، وجابر عمر وزير المعارف (التربية والتعليم)، وناجي طالب وزير الشؤون الاجتماعية، بالإضافة إلى وزيرين مستقلين هما محمد صالح محمود وزير الصحة (تركماني مستقل)، وبابا علي الشيخ محمود وزير المواصلات والأشغال (كردي مستقل). وبدلاً من دراسة ومعالجة الأسباب التي أدت إلى الاستقالة أذاع راديو بغداد يوم 7 شباط 1959 نبأ الاستقالة وتعيين وزراء جدد.
أدى خروج الوزراء القوميون من الوزارة إلى اشتداد التوتر السياسي، وحدوث المصادمات بين القوميين والشيوعيين في العديد من المدن، وزيادة الاعتقالات في صفوف القوميين، فأدرك البعض من الضباط الأحرار بأنه لابد من القيام بعمل عسكري ضد عبد الكريم قاسم فكانت محاولة الموصل الانقلابية بقيادة العقيد الركن عبد الوهاب الشواف آمر جحفل اللواء الخامس وكان مقره في الموصل ومجموعة من الضباط من تنظيم الضباط الأحرار.
بدأت الأحداث تتسارع لتصل إلى ما وصلت اليه، وتراكمت أسباب محاولة الانقلاب وما تلاها وصولاً إلى حادثة رأس القرية في شارع الرشيد.
ففي الأول من آذار 1959 ذكر راديو بغداد أن العميد أحمد صالح العبدي الحاكم العسكري العام أجاز اجتماعاً جماهيرياً لأنصار السلام وهي منظمة شيوعية يقودها العضو الاحتياط في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي عزيز شريف العاني، لإحياء مناسبة تأسيسها في الموصل بتاريخ 6 منه، وقال إنه سيكون مناسبة وطنية. وافق عبد الكريم قاسم الذي كان يشك بالتخطيط للقيام بمحاولة انقلاب على الاحتفال حيث كان ينوي وبلا شك إخافة خصومه، وبدت إشارات خلال الأيام القلائل التالية بأن الحكومة والشيوعيين يبذلان جهوداً لضمان سفر أكبر عدد ممكن من المشاركين إلى الموصل. فقد الغيت اجتماعات كانت ستعقد في أماكن أخرى لنفس المناسبة، وتم تهيئة وسائط نقل خاصة للطرق ولسكك الحديد بأجور مخفضة. تدفق أنصار السلام ومؤيدوهم الشيوعيون إلى الموصل من شتى بقاع البلاد، وبلغ عددهم زهاء 250 ألفاً، وكان هذا المهرجان يحمل دلالات عميقة بالنسبة لكل من القوميين والشيوعيين على السواء، فالقوميون عدوا ذلك بمثابة تحدي لهم إذ أن مدينتهم كانت تعد معقلاً للقوى القومية والمتمسكين بالتقاليد الإسلامية والداعين للوحدة العربية الشاملة، أما الشيوعيون فقد أرادوا من المهرجان اظهار قوتهم ومساندتهم للسلطة امام تحديات القوميون.
وقد حذر العقيد الركن عبد الوهاب الشواف، عبد الكريم قاسم أكثر من مرة من عقد هذا المهرجان الذي سيؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها، لكن قاسم أصر على عقد المهرجان، الذي كان مكرساً للدعاية ومواجهة القوى القومية.
استمر الأعداد لعقد المهرجان وحضرت وفود كثيرة من مختلف انحاء العراق، وفي يوم الجمعة 6 آذار سارت مظاهرة كبيرة نحو مكان الاحتفال في الملعب عند باب سنجار وهي تهتف ضد القومية والقوميين، وفي اليوم الثاني 7 آذار، أخذ القوميون يتجمعون بشكل مظاهرة ضخمة سارت في شوارع المدينة، فحصل صدام بين الطرفين تبودل خلاله إطلاق نار، ووقعت إصابات، واحرقت بعض المقاهي والمكتبات والسيارات، فقام العقيد الشواف بتطبيق خطة الأمن، وأعلن منع التجول، ونزل الجيش إلى الشوارع، وجرت حملة من الاعتقالات في صفوف الطرفين.
وجد الشواف الفرصة مناسبة للبدء بالحركة التي سبق الاتفاق على القيام بها ولم يحدد موعد تنفيذها، دون انتظار موافقة شركائه في بغداد وكركوك والوحدات العسكرية الأخرى، مستغلاً الصدامات التي حدثت يوم 7 آذار، فقام باعتقال قادة الشيوعيين من الضباط وضباط الصف. وفي الساعة السابعة من صباح يوم الأحد 8 آذار 1959 اذاع من الإذاعة التي حصل عليها من الجمهورية العربية المتحدة (1) ووضعت في مدرسة التعبئة الصغرى في معسكر الغزلاني البيان الأول للانقلاب الذي أعده بنفسه وقرأ بصوت الضابط المتقاعد والكاتب محمود الدرة، وتضمن نقداً لاذعاً لسياسة عبد الكريم قاسم منذ قيام انقلاب 14 تموز واتهمه بخيانة "الثورة"، والغدر بإخوانه الضباط الأحرار، وأبعد أعضاء مجلس الثورة وقرب زمرة انتهازية رعناء. وأشار البيان إلى أن الحركة محض حركة داخلية من اختصاص الشعب العراقي وحده ورفض أي تدخل خارجي في شؤون العراق الداخلية من أي دولة كانت. ودعا البيان عبد الكريم قاسم إلى الاستقالة حتى يستطيع مجلس السيادة ممارسة سلطاته وتأليف وزارة بالتعاون مع "مجلس قيادة الثورة". واختتم البيان بدعوة المواطنين بالأخلاد إلى الهدوء والسكينة، وتجنب الأضرار بالممتلكات العامة أو سفك الدماء.
صادف يوم الحركة عيد المرأة العالمي في 8 آذار، وكان عبد الكريم قاسم يحضر الاحتفال في سينما الخيام ببغداد، وبعد انتهاء خطابه أبلغ بخبر الحركة فترك محل الاحتفال وعاد إلى مقره في وزارة الدفاع وأجرى مشاورات مع قادته العسكريين، وأصدر مرسوماً بإحالة العقيد الركن عبد الوهاب الشواف آمر جحفل اللواء الخامس على التقاعد فوراً، وخصص مكافأة نقدية قدرها عشرة آلاف دينار لمن يقبض عليه حياً أو ميتاً، كما صدرت بيانات عدة من الحاكم العسكري العام حول الموضوع ذاته.
وفي صباح يوم 9 آذار قامت أربع طائرات من السرب الخامس في معسكر الرشيد ببغداد بقصف مقر الشواف، وفي الساعة الثامنة والنصف صباحاً قطع راديو بغداد برامجه وأعلن مقتل الشواف.
سادت الفوضى مدينة الموصل بعد انتشار خبر مقتل عبد الوهاب الشواف، وحدث قتال بين قوات الجيش، وتدفقت اعداد كبيرة من افراد العشائر العربية والكردية إلى داخل المدينة، وأخذ أفراد المقاومة الشعبية (2) التي "عُززت وأعيد تنظيمها في تمشيط المدينة منزلاً منزلاً بالتعاون مع اتحاد الطلبة المحلي والعشائر، والأسرى المقبوض عليهم كانوا يقتلون حالاً أو يساقون إلى (المحكمة الثورية) التي شكلها عضو الحزب الشيوعي عبد الرحمن القصاب في مركز الشرطة. هذه المحكمة القصابية كما لقبت فيما بعد، حاكمت عشرات من مؤيدي الشواف المدنيين ونفذ حكم الموت بما لا يقل عن سبعة عشر، وعرفت المقتلة باسم (الدبلماجة) نسبة إلى منطقة على الضفة المقابلة من نهر دجلة، حيث تم تنفيذ القضاء عليهم وبدأ كأن العميد طاهر آمر اللواء الجديد والسلطة المدنية مشلولين تماماً". وبدأ الاقتصاص من القوميين، وسقطت المدينة تحت سيطرة الشيوعيين الذين مارسوا اعمال القتل والسحل، ولعبت الفوارق القومية والاقتصادية والطائفية والطبقية دورها في التحريض على القتل والانتقام. وكان المشاركون في الحركة يشنقون ويعلقون على أعمدة الكهرباء، او يسحلون في شوارع المدينة وهم أحياء حتى يلفظوا انفاسهم، "وبلع عدد الذين سحلوا 30 شخصاً من المدنيين والعسكريين، من ضمنهم العقيد الشواف" واستمرت المذابح واعمال السلب والنهب ثلاثة أيام، وقدر عدد القتلى 200 قتيلاً. وحدثت أعمال عنف مماثلة في مدن العراق المختلفة، وبخاصة في البصرة وكركوك، واعتقل الكثيرون، وجرت تصفية تكاد تكون شاملة في صفوف الجيش من العناصر القومية.
سددت حركة الموصل ضربة قوية لآمال عبد الكريم قاسم في إقامة حكومة قوية مستقرة، وفشلت جهوده لإحداث توازن بين الفئات المختلفة. فما أن انتهت الحركة بالفشل حتى عاود الشيوعيون ــ الذين أسهموا في قمع الحركة ــ مساعيهم لتقوية مركزهم والضغط على عبد الكريم قاسم لمطاردة القوى القومية، وإبعاد القوميين من المناصب الحكومية ــ العسكرية والمدنية ــ وتنفيذ أحكام الإعدام بحق المشتركين في الحركة. وبعد مدة قصيرة طرحوا شعار المشاركة في الحكم.
قام قاسم باحتجاز العميد الركن ناظم الطبقجلي قائد الفرقة الثانية في الجيش العراقي والعقيد الركن رفعت الحاج سري وعدد كبير من الضباط بتهمة المشاركة في الحركة، وجرى المزيد من الاعتقالات وصدرت قرارات بحجز أموال الأشخاص ، وطرد من الوظائف "واقتيد عشرات من القوميين البارزين إلى مناف تبعد مئات الأميال عن موطنهم. وفي نهاية شهر نيسان نشرت قوائم ثلاث بحجز الأموال تتضمن أسماء سبعة وثمانين شخصاً مذيلة بتوقيع (احمد صالح العبدي)" الحاكم العسكري العام.
بدأت محاكمات حركة الشواف أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة برئاسة المهداوي (العقيد فاضل عباس المهداوي أبن خالة عبد الكريم قاسم) في 24 من آذار بقضية الضباط الطيارين الأربعة بتهمة عملية قصف بغداد في 9 من شهر آذار، وصدرت ضدهم أحكام الموت في 28 منه ونفذت بعد يومين رمياً بالرصاص في ميدان رمي (أم الطبول) في بغداد وسط هتافات المتفرجين، وهم كل من:
العقيد الطيار عبد الله ناجي آمر قاعدة الموصل الجوية، النقيب الطيار قاسم محمد امين العزاوي، الملازم الأول طيار أحمد مهدي عاشور، الملازم الطيار فاضل ناصر.
توالت محاكمات المتهمين بحركة الشواف على شكل وجبات امام محكمة المهداوي وحكم عليهم بالموت وتم تنفيذ الحكم رمياً بالرصاص حتى الموت بالمجموعة الثانية في ميدان رمي أم الطبول، ففي 25 آب 1959 أعدم كل من:
النقيب الركن نافع داود أحمد، النقيب محمد أمين عبد القادر، الملازم الأول سالم حسن السراج، الملازم مظفر صالح الأمين، الملازم محسن اسماعيل عموري، وتم أيضاً في سجن بغداد المركزي في نفس اليوم تنفيذ حكم الإعدام شنقاً بفاضل حمادي الشكرة وهو صاحب مكتبة بمدينة الموصل. أما الوجبة الثالثة والأخيرة من الذين صدرت ضدهم احكام الإعدام رمياً بالرصاص حتى الموت، ونفذت بتاريخ 20 أيلول 1959 فهم :
الزعيم (العميد) الركن ناظم الطبقجلي قائد الفرقة الثانية، العقيد الركن رفعت الحاج سري مدير الاستخبارات العسكرية بوزارة الدفاع وكان هو والطبقجلي من مؤسسي حركة الضباط الأحرار، العقيد خليل سلمان آمر الفوج الثالث في اللواء الخامس، المقدم الركن علي توفيق آمر الفوج الأول في اللواء الخامس، المقدم الركن عزيز أحمد شهاب ضابط ركن قيادة الفرقة الثانية، المقدم إسماعيل هرمز أمر الفوج الثالث في اللواء الخامس، الرائد توفيق يحيى آغا، الرائد مجيد حميد الجلبي، النقيب الركن داود سيد خليل، النقيب يحيى حسين الحماوي، النقيب هاشم الدبوني، النقيب زكريا طه، الملازم الأول حازم خطاب. بلغ عدد الضباط الذين أعدموا في أم الطبول اثنان وعشرون ضابطاً، ومات ثلاثة وعشرون من الضباط والمراتب قتلاً وسحلاً على أيدي (المقاومة الشعبية) والجنود المؤيدين لعبد الكريم قاسم، من ضمنهم العقيد الركن عبد الوهاب الشواف قائد الحركة بعد اصابته بجرح عند قصف الطائرات لمقر قيادته ونقله إلى المستشفى للتداوي وهناك حدث تبادل إطلاق نار مع جنود معارضين للحركة فقتل في الحال وسحلت جثته.
يمكن اعتبار ما سبق من احداث أي منذ شهر شباط 1959 بعد سجن عبد السلام عارف واستقالة الوزراء القوميون من حكومة عبد الكريم قاسم واكتمال حلقة الانتقام بعد احداث الموصل الدامية بعد 8 آذار كلها عوامل مهدت للتفكير في اغتيال عبد الكريم قاسم من قبل حزب البعث العربي الاشتراكي، باعتباره المخرج الوحيد في التخلص من قاسم لأن القيام بانقلاب عسكري لم يعد امراً محتملاً بعد أبعاد العناصر القومية من الجيش أو اعتقالهم.
وأدى فؤاد الركابي، امين سر القيادة القطرية دوراً اساسياً في الاتصال ببعض الضباط والتداول معهم في وضع خطة الاغتيال، ثم تسلم السلطة السياسية عند نجاحها. وقد ساعد فشل حركة الموصل وما أعقبها من تصفيات واعتقالات على السير في طريق وضع الخطة والعمل بجدية أكبر من أجل اغتيال عبد الكريم قاسم، وأجرى ممثلون عن الحزب اتصالات مع العناصر القومية المدنية والعسكرية، ونوقشت الخطة مع الوزير القومي السابق محمد صديق شنشل الذي وعد بالمساعدة المالية، والفريق محمد نجيب الربيعي رئيس مجلس السيادة الحالي، فميوله المعادية للشيوعية معروفة وأن دور مجلس السيادة كان شكلياً فقط، وكان سينصب رئيساً دستورياً للدولة بعد نجاح الخطة، وتمت مفاتحته عن طريق صديقه الشخصي اللواء شكري صالح زكي، وكان دوره كما يقول فؤاد الركابي الدخول إلى وزارة الدفاع مرتديا بزته العسكرية (في العادة يرتدي الزي المدني) فور مقتل عبد الكريم قاسم ومن ثمة يوجه خطاباً إلى الشعب ممهداً بذلك السبيل لقيام نظام جديد. ومن أجل توسيع قاعدة المشاركة في العملية، أنشأت صلات بعدد من الضباط الأحرار وغيرهم من جماعات قومية غير بعثية، التي أكدت على أن يكون اغتيال عبد الكريم قاسم جزء من خطة أوسع لتسلم السلطة السياسية.
وكانت صلتهم بالجيش الرائد (صالح مهدي عماش)، وأنشأت صلات بشخصيات داخل دار الإذاعة للحيلولة دون أي توقف أو خلل يطرأ عند إذاعة البيان الأول. وحول شكل الحكم المقبل تم الاتفاق بين البعث والضباط الأحرار والفئات القومية الأخرى بأن يتولى مجلس قيادة الثورة زمام السلطة وأن تؤلف وزارة من أعضاء المجلس ومن زملاء لهم.
وقد ترددت على الألسن أسماء مثل (ناجي طالب وعبد اللطيف الدراجي وفؤاد عارف وهو من الكرد وكان وزير في حكومة قاسم وقتئذ). وتحصيل الحاصل أن ينهض بأعباء الحكم أيضاً أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث والضباط الأحرار الأقدمون مثل (طاهر يحيى، وأحمد حسن البكر) وقوميون غير بعثيين أمثال (صبحي عبد الحميد وشكري صالح زكي) ولم يكن دمج العراق بالجمهورية العربية المتحدة ضمن المخطط. ليس فورياً على الأقل. وهذا ما أشترطه نجيب الربيعي لقاء تعاونه.
المتهمون بمحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم امام المحكمة العسكرية الخاصة
أخذ الحزب على عاتقه تهيئة مستلزمات تنفيذ العملية، من رماة وأسلحة وأعتدة وسيارات وأماكن للإيواء، وتألفت هيئة التخطيط ومتابعة التنفيذ من فؤاد الركابي، عبد الله الركابي، أياد سعيد ثابت، خالد علي صالح الدليمي، وكلهم أعضاء في القيادة القطرية لحزب البعث. وأنيطت مسؤولية التنفيذ بإياد سعيد ثابت ومعه كل من: خالد علي صالح، أحمد طه عزوز، سليم عيسى الزيبق، علي حسون، حاتم حمدان العزاوي، عبد الكريم الشيخلي، صدام حسين، سمير عزيز النجم، عبد الحميد مرعي، عبد الوهاب الغريري. وتقدم التنظيم والتخطيط بسرعة فائقة، وتم الحصول على السلاح والعتاد من تجار الأسلحة في العراق، وهو ليس من الأمور العسيرة، وجرى التمرين على السلاح في قاعدة مرتجلة في بقعة خارج مدينة المسيب وأمنت خدمات طبيب. وقد وقع الاختيار على منطقة رأس القرية في شارع الرشيد مكان لتنفيذ عملية الاغتيال، وهيئت نقاط مراقبة في رأس القرية وعلى طول الطريق من منطقة العلوية إلى وزارة الدفاع. واتخذ نظام اتصال رمزي. وكان اختيار رأس القرية مكاناً للتنفيذ للأسباب الآتية:
1. ان المنطقة تقع في منصف الطريق الذي يسلكه عبد الكريم قاسم يومياً من بيته في منطقة العلوية إلى وزارة الدفاع في ساحة الميدان بالقرب من باب المعظم.
2. ضيق شارع الرشيد في تلك المنطقة الأمر الذي يسهل عرقلة سير سيارة عبد الكريم قاسم.
3. وجود عدد من الأزقة الفرعية المقابلة المتصلة بالشارع والمؤدية إلى كل من شارع المستنصر(النهر) باتجاه نهر دجلة وشارع الجمهورية (الخلفاء) مما يساعد على استخدامها في الانسحاب بعد تنفيذ العملية.
وفي الوقت الذي انتهت فيه الاستعدادات لتنفيذ العملية في نهاية شهر حزيران 1959 حدث تحول في سياسة عبد الكريم قاسم الذي أخذ يهاجم الشيوعيين بعد مطالبتهم المشاركة في الحكم، وبعد ما قيل عن إحباط مؤامرة شيوعية ضده في 10 حزيران 1959 فأطلق سراح العديد من الموقوفين والمبعدين القوميين من مدنيين وعسكريين، وسمحت الحكومة لعدد من الصحف القومية بالصدور، وعليه قرت القيادة القطرية ارجاء تنفيذ عملية الاغتيال، لكن تنفيذ احكام الإعدام بحق الضباط القوميين المتهمين بالاشتراك في حركة الموصل الانقلابية، وفي مقدمتهم الزعيم (العميد) الركن ناظم الطبقجلي، قائد الفرقة الثانية والعقيد رفعت الحاج سري مدير الاستخبارات العسكرية، في يوم 20 أيلول 1959 حفز الحزب على المضي قدماً في عملية الاغتيال.
وبعد أكثر من تأجيل وبنهاية أيلول كان الاستعداد لتنفيذ العملية قد تم، نفذت العملية كما خطط لها في الساعة السادسة والدقيقة الثلاثين من مساء يوم الأربعاء السابع من تشرين الأول، بعد أن غادر عبد الكريم قاسم مبنى وزارة الدفاع قاصداً الممثلية التجارية لجمهورية المانيا الديمقراطية لحضور حفل بمناسبة العيد الوطني الألماني، سالكاً شارع الرشيد وما أن وصلت سيارته نقطة التنفيذ، حتى تعرضت لوابل من الرصاص، فقتل سائق السيارة كاظم عارف في الحال، وأصيب مرافقه الرئيس الأول (الرائد) قاسم امين الجنابي بعدة طلقات، وسقط عبد الكريم قاسم في المقعد الخلفي للسيارة، بعد أن نفذت أربع رصاصات في كتفه اليسرى وأحدى يديه،
وقام سائق سيارة تاكسي بنقله إلى مستشفى دار السلام وهناك ظهر أن إصابته أخطر مما ظُن حيث بقي في المستشفى حتى أوائل كانون الأول. وقُتل أحد المهاجمين وهو (عبد الوهاب الغريري) برصاص رفاقه وليس بنار قاسم كما أدعى هو وتركت جثته في مكان العملية. وظن المهاجمون أن عبد الكريم قاسم قتل وانسحبوا من مسرح العملية إلى الوكر المخصص لهم. ولم يتحرك الضباط المكلفون لتنفيذ الصفحة الثانية وهي الاستيلاء على وزارة الدفاع. فقد قيل إن نجيب الربيعي حضر فعلاً إلى وزارة الدفاع ببزته العسكرية، معتقداً أن قاسم قد قضى نحبه وعندما أتضحت له الحقيقة اضطر إلى الادعاء بأنه إنما جاء للحيلولة دون انقلاب شيوعي. وطلب بعض الضباط الأحرار من احمد صالح العبدي الحاكم العسكري العام أن يؤازرهم في الاستيلاء على الحكم إلا أنه رفض رفضاً باتاً وهددهم إذا ما اجترأوا على الحركة ولم يتخذ أي أجراء ضدهم كما يبدو. سيطر اللواء الركن احمد صالح العبدي، رئيس الأركان والحاكم العسكري العام على الموقف سيطرة تامة، وأذاع بياناً أعلن فيه إصابة عبد الكريم قاسم أصابه بسيطة في كتفه، وأن حالته الصحية جيدة ولا تدعو إلى القلق مطلقاً. ثم أصدر سلسلة من البيانات فرض فيها منع التجول في مدينة بغداد وضواحيها، ودعا أبناء الشعب إلى الهدوء والسكينة والانصراف إلى أعمالهم الاعتيادية.
وفي مساء اليوم نفسه وجه عبد الكريم قاسم كلمة من مستشفى دار السلام عبر الإذاعة زف فيها البشرى بنجاته من المحاولة، وشكلت لجنة طبية برئاسة وزير الصحة اخذت تصدر بيانات يومية عن حالته الصحية. وبقي عبد الكريم قاسم في المستشفى حتى يوم 3 كانون الأول حيث غادر المستشفى بعد أن قضى فيه 56 يوماً، وأطلق على اليوم الذي غادر فيه المستشفى (عيد السلامة والابتهاج) وصار عيداً رسمياً يحتفل فيه كل عام. اهتدت قوات الأمن والشرطة إلى منفذي محاولة الاغتيال، وقامت بحملة واسعة لاعتقال قيادات حزب البعث، وتم القبض على قسم من المشاركين في العملية، واستطاع آخرون الهروب إلى سوريا، بضمنهم عبد الكريم الشيخلي، وصدام حسين، وفؤاد الركابي. إلا أن ثمانية وسبعين جرى اعتقالهم وتقديمهم إلى المحاكمة امام المحكمة العسكرية العليا الخاصة (محكمة المهداوي) في 26 من شهر كانون الأول 1959. وكان دفاع الحاضرين عن افعالهم يتسم بالشجاعة، وكانت المحاكمة وشهادة المشاركين، ولاسيما المنظم الرئيس أياد سعيد ثابت، هما اللتان أعطتا البعث للمرة الأولى اهتماماً شعبياً، وفي 25 شباط 1960 صدرت الأحكام بتبرئة بعض المشاركين في العملية، وقضت بالموت على ستة من المتهمين الحاضرين. وعلى أحد عشر متهماً غائباً بالعقوبة نفسها. وحكم على العديد بمدد سجن متفاوتة. إلا أن أيا من احكام الإعدام لم تنفذ. ربما لخوف قاسم من ردة فعل شعبية لتكرار الإعدامات حيث لم يمض وقت طويل على إعدام مجموعة الضباط في أم الطبول. وبقوا في السجن حتى الإطاحة بعبد الكريم قاسم. أدى فشل محاولة الاغتيال وما تبعها من حملة اعتقالات واسعة إلى حدوث تغيرات واسعة في صفوف قيادة الحزب، وقد سعت القيادة الحزبية الجديدة إلى وضع خطة جديدة للإطاحة بحكم عبد الكريم قاسم، وهو ما حدث في صبيحة يوم 8 شباط 1963.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ الجمهورية العربية المتحدة هو الاسم الرسمي للكيان السياسي المتشكل أثر الوحدة بين جمهوريتي مصر وسوريا، أعلنت الوحدة في 22 شباط 1958 من قبل رئيسي سوريا شكري القوتلي ومصر جمال عبد الناصر واختير عبد الناصر رئيساً والقاهرة عاصمة للجمهورية الجديدة. انتهت الوحدة بانقلاب عسكري في دمشق يوم 28 أيلول 1961.
(2) المقاومة الشعبية ميليشيا مسلحة تأسست في 1 آب 1958 بطلب من الحزب الشيوعي العراقي وارتبطت بوزارة الدفاع، وقد بلغ عدد المنتمين لها في 21 آب من السنة نفسها 11000 شاب وفتاة وأغلبهم من الشيوعيين وأنصارهم.
المصادر:
1. فيبي مار، تاريخ العراق المعاصر 1921 ــ 2003، ترجمة مصطفى نعمان أحمد.
2. أوريل دان، العراق في عهد قاسم، ترجمة وتعليق جرجيس فتح الله.
3. الدكتور جعفر عباس حميدي، تاريخ العراق المعاصر1914 ــ 1968.
773 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع