يهود العراق، ذكريات وشجون (٣٠) الحب في العراق
أما الثانية من ورطتي "أم حسين"، فكانت رسالة بالبريد الألكتروني من أديبة وصحفية ومذيعة عراقية معروفة ، فقد تراسلنا معا مدة طويلة، قالت بزعل: "تزور برلين ولا نلتقي؟ سآتي إلى بوخوم للقائك!" هل أنا كاذب عندما أقول أن العراق يلاحقـني أينما أذهب في هذا العالم؟ وفي الساعة التي عينتـْها لي لوصول القطار، عرجتُ على محل يفوح بعطر الزهور لأختار "وردة الحب الصافي" التي لا أعلم من سقاها، وإن صدق حدسي فقد سقتها أيدٍ كمبودية أو تايلاندية استبدلت الأيدي الفلسطينية بعد الانتفاضة الثانية، ثم انتصار حماس، لتعمل في إحدى مشاتل الزهور في إسرائيل، ثم طارت بالطائرة إلى هولندا، إلى سوق الزهور العالمي ومنها إلى ألمانيا، وهذه من عجائب العولمة الجديدة التي تحاول أن تجعل العالم قرية تجارية صغيرة تحكمها مؤسسات تجارية ومالية كبرى في العواصم الرئيسية في العالم، ويأبى المتطرفون إلا الانقسام والشقاق والتناحر ليسود الحقد والدمار هذا العالم الذي اهتدى أخيرا إلى مخترعات وابتكارات وضع بعضها لخير الإنسانية.
نعم، لا بد "من ورد جوري" يقدمه شاعر من أصل عراقي بقي محافظا على اللغة العربية مثل الكثيرين من يهود العراق في إسرائيل، ليقدمها باسم الأدباء اليهود إلى أديبة مرهفة مغتربة طبقت شهرتها الآفاق وهي تتكرم بلقاء باحث يهودي إسرائيلي من أصل عراقي. حرت كيف سأتعرف عليها من بين الركاب النـازلين في محطة قطار بوخوم.
- شعري أسود ومفروق من الوسط ولابسة نظارات شمسية سوداء.
- أنا لابس بذلة زرقاء، وسحنتي عراقية أصلية.
توقف القطار ولم ينـزل منه ألا بعض المسافرين من بينهم مصور بآلة تصوير تلفزيونية ثم تلته فتاة جذبت إليها الأنظار، وتوقف المسافرون الذين بدؤوا يغادرون القطار ليتأملوا هذه الفتاة الجميلة ذات "الشعر الغجري" الساحر والتي هبطت باعتداد والمصور يسجل كل حركاتها وسكناتها وقد ارتسمت علامات الاستفهام على وجوه المسافرين وهم يعجبون من تكون؟ هل هي أميرة من أميرات الخليج؟ أشرتُ بالسلام لأتأكد، فردت التحية بأحسن منها وانتقل المصور إليّ وتوجهت الأنظار تحاول التعرف على هذا الذي جاء لاستقبالها وبيده "ورد جوري"، لعله من أصحاب الملايين الخليجيين! وتعانقنا عناق أخ لأخته لم ير أحدهما الآخر منذ سنوات طويلة محاولا أن أشم فيها رائحة العراق الحبيب. وتذكرت جرأة العراقية- الإسرائيلية ونحن نودع الأستاذ رشيد شكر قبل عام أمام معهد يهود العراق من تأسيس أبراهام كحيلة في أورشليم-القدس، والذي قدم مع فريق من مصوري التلفزيون الأسترالي لتسجيل برنامج عن الموسيقيين والمغنين العراقيين في إسرائيل وكيف طلبت من زوجها بحياء أن يطلب من الأستاذ شكر أن يسمح لها بلمس وعناق "العراقي المسلم" لتعانق العراق في شخصه.
جلسنا في مكتبة معهد الدراسات الشرقية والإسلامية في جامعة بوخوم لإجراء المقابلة التلفزيونية والمصور يجيل النظر في كل شاردة وواردة فيما إذا كانت ملائمة للموقف الغريب من لقاء أديبين من أصل عراقي فرقت بينهما سدود وقيود الدين والقومية. كانت أسئلة الصحفية ذكية لأديبة متمرسة في مثل هذه المقابلات وفجأة سألتني سؤالا استفزازيا أملته غريزة المرأة وحب استطلاعها لخبايا القلوب: "أستاذ موريه! هل عشقت فتاة عراقية مسلمة في صباك في العراق؟" سؤال غريب ما جاوبت عليه! كيف أجيب هذه الأديبة التي ولدت أيام الانقلابات الدموية في العراق، والتي تمثلت ثورة المرأة العراقية على التقاليد بشعار رددته الفتاة العراقية في كتائب الشباب للدفاع المدني أيام الحرب العراقية الإيرانية:
"لا كتاب ولا مهر، إنذبّـه للقاضي بالنهر!". ولكن، ألا تعلم بالحديث النبوي الشريف "ما اجتمع رجل وامرأة إلا والشيطان ثالثهما"، وهكذا ميز الإسلام مثل باقي الأديان السماوية، بين حب القلوب وبين حب الجسوم، أي بين الحب العذري وبين الحب الجسدي.
وفي أيام صبايا أي في الأربعينات في القرن الماضي، كانوا يحذرون حتى من قبلة الحب قائلين إنها دنس وكل ما ظهر من جسم المرأة "عورة" يزغرد لها الشيطان، وغير ذلك من الأقوال والأمثال المخيفة المحذرة من القبل والحب، والعياذ بالله من الشيطان الرجيم. وهكذا أصبح الحب الروحي في الشرق مكرسا لبنت العم أو لبنت الجيران في تأوهات حارقة تسكب في أغاني الغرام الرقيقة، وقد فاخر الشاعر المصري عزيز أباظة بالحياء والعفة العذرية حين قال:
ثم انثنينا وقد رابت ظواهرنا وفي بواطننا برء من التهم
وهذا ما قام به جبران في مغامراته العاطفية مع ماري هاسكل التي اقتصرت على العناق والقبل، فالعشق المسيحي هو عشق روحي أنثوي، أما العشق المسلم فهو عشق فحولي ذكري كما قال الفيلسوف الألماني نيتشه مؤلف كتاب "هكذا قال زرادشت" دعا فيه إلى الإنسان الأعلى. أما الحب الجسدي فقد كان كما روى الأستاذان نعيم قطان ونسيم رجوان في مذكراتهما، بأنه كان يشترى في مواخير المدينة، بؤرة الفساد التي يجول ويصول فيها الشيطان صباح مساء، ويقف رجال الشرطة على بابه يفتشون عن السلاح المخبأ في جيوب الرجال، سنوات طويلة قبل أن يبتكر الفدائيون تفجير أنفسهم في المطارات والأماكن العامة انتقاما لشرف المسلمين الذي انتهكه الإستعمار والحضارة الحديثة التي تخشى من الموت، فخربوا الثقة والأمن بين الناس.
أما أيام زمان فقد كان التفتيش لأجل الحفاظ على حياة من كن ينعتن باللقب المشين "البغايا" هؤلاء المسكينات ضحية المجتمع الفاسد المعلق فوق رءوسهن دوما حكم رجال العشيرة بالإعدام طعنا بالخناجر حتى الموت، حذرا من أن أحد أفراد العائلة المنكوبة في شرفها قد يقدم على القتل لغسل عار العائلة، وعند ذلك فقط تبدأ زغاريد النساء ورقصات "جوبي" الرجال ولعلعة الرصاص في الفضاء مبشرة بتطهير الشرف من أدران عار الجسد النسائي المباح بيد الشرق الذي استعبد المرأة في تقاليد بالية تجعل جسدها ملكا لرجال الحمولة والعشيرة.
فشرف العائلة يكمن بين "فخذي حريم" العشيرة كما قال لي محاضر شجاع من جامعة بير زيت، ولأن "الجدار المقدس" خلقه الله وعلى الفتاة عبء الحفاظ عليه مهما كلف الأمر وإلا فرجال العائلة "تعرف شغلها". أما في صعيد مصر، فكما يقول عبد الرحمن الشرقاوي في روايته "الأرض"، فيقف الأب الغيور على عتبة مخدع العروسين منتظرا أن يرمي العريس بالمنديل المضرج بدم البكارة ليبشر له بقدوم الفرج وبأنه يستطيع تناول الطعام والفطور أخيرا، فقد بيضت الحلوة وجهه ولا يحتاج إلى توجيه رصاصة الى رأس ابنته إذا حدث، لا سمح الله، أنها فقدتها في حادثة أو أنها ولدت بدون جدار مقدس. قال لي ناحوم من مدرسة فرنك عيني وهو يضحك بأسى "البوحي (البارحة) تزوج ابن عمي وعغوصو (عروسه) طلعت منقوبه، ورجعناها البيت أبوها!" فقد أعادوا السلعة "المعيوبة" إلى صاحبها، خاطر يعرف شغلو وياها بدون سؤال وجواب، والله خوش منطق وخوش شرف.
وتكرر الأديبة التي تجري المقابلة معي لتوقظني من سرحة أفكاري إلى الماضي بسؤالها المحرج: "أستاذ! حبيت بالعراق مسلمة؟"، لا شك إنها تربت بعد هجرتنا ولم تسمع بالتحذيرات الثلاث التي كانت أمهات الأطفال اليهود يرضعنها لأبنائهن مع حليبهن: "لا تطلع للدغب تغا يضغبك المسلم، لا تعلي عينك على المسلمية تغا والله يذبحوك، إذا كفغ المسلم ابدينك، أحسن لك اسكت ولا تجاوب" (لا تخرج الى الطريق فإن المسلم سيضربك، لا ترفع عينيك إلى فتاة مسلمة فإن أهلها سيذبحونك والله، وإذا كفر مسلم بدين اليهود من الأفضل أن تصمت ولا تجبه!).
قالت لي أمي تروي الحادثة التي كررتها في مسمعي عدة مرات، محذرة: "في المقهى المجاورة لدارنا قبل زواجي، التقى عباس (ابن جارنا وهييب بيرو قتال الدموم اللي أجرونو خطغ يقتلو الجنرال مود لما جا للعراق، ولما انسينا نعزمو لعغصي جا وقام يكسغ الأكو والماكو وقلبا الميوزه: اشلون متعزموني وآني جاركم وحاميكم؟" (ابن جارنا وهيّب بيرو، ووهيّب هو سفاك الدماء الذي أستأجره القوميون العراقيون لاغتيال الجنرال البريطاني مود عندما زار العراق، وعندما نسينا أن ندعوه إلى حضور حفلة زواجي، جاء وأخذ يكسر كل شيء في القاعة وقلب الموائد قائلا: لماذا لم تدعوني إلى الحفلة وأنا جاركم وحاميكم؟)، نعم التقى عباس في المقهى بصديقه محمود وهو مسرور بالقميص الأبيض الذي كوته أخته. نظر محمود إلى قميص عباس وقال له: أكو لكـّّـة على قميصك، روح نظفها (هناك بقعة على قميصك، اذهب لتنظيفها). وهبّ عباس غاضبا ثم عاد بعد نصف ساعة وقد اكفهر وجهه. لاحظ محمود أن البقعة ما زالت هناك، قال له: "مكلتلك شيل اللكـّـة من قميصك!" (ألم أقل لك أزل البقعة عن قميصك)، أجابه عباس: ولك گواد! مرحت اذبحت أختي! شتريد أسوي بعد؟". غامت الدنيا في عيني محمود وكاد يقع مغشيا عليه:
"آني گلتلك شيل هل للكه من على قميصك هذا"، وأشار إلى قميص عباس، بعد أن سبق السيف العذل أو كما يقول المثل العراق "بعد ما طاح الفاس بالراس". مثل هذا التصرف الجاهلي والمناقض للحِلم والتروي الإسلامي حذر الحديث النبوي الشريف. ولكن التهور في العراق كان يعد بطولة والتأني يعد "خناثة" (جبن)، والرجل "الراسه حار" هو السبع البطل. والآن تريد حضرة جناب الأديبة العراقية أن أخبرها فيما إذا كنت قد عشقت فتاة مسلمة في العراق! قلت لها والذكريات تعصف في رأسي "لا ما حبيت مسلمة، مسلمة هي اللي حبتني!".
كنت في الخامسة عشرة عندما أحبتني زينب من بنات جار أختي أسبرونس بعد زواجها وانتقالها مع زوجها يعقوب في "مشتمل" بناه والدي في الكرادة. وكانت زينب تنتظر زيارتي على أحر من الجمر وكنت أحاذر لقاءها متذكرا تحذير الوالدة. تجرأتْ ذات مرة وطلبتْ أن ألعب معها كرة الطائرة في حديقة مشتمل أختي أسبرونس أمام دارهم. قلت لها أطلبي إذن من والدك. خرج والدها ولما رأى الشبكة المنصوبة بيني وبينها، ورأى فيه حاجزا كافيا لعزل الحريم عن الرجال، قال لها: "زين ما يخالف!" وكم كان سرورها عظيما عندما سمح لها باللعب معي في حين كانت والدتها تراقبنا من الشباك. توردت وجنتاها وعصف هرمون مرحلة البلوغ الأنثوي في عروقها تعدو كالجياد العربية الأصيلة، وهي ضاحكة مسرورة: "داده عيني، أبويا قبل نلعب!". وكان يعقوب كوهين زوج أختي يقول لي: ولك خطش لك هايي الدوخة، ديغ بالك لكون توقع ابتهلكه وياها" (ما لك ولهذه المشكلة؟ إحذر من أن تقع في داهية معها). وحمدت الله على أن علاقاتنا لم تتجاوز الكلام والبسمات وكنت أقول لنفسي: هم زين فضت أبهاي!" كان حظي أسعد من حظ الدكتور سلمان درويش أخو الكاتب المعروف شالوم درويش، كيف أن جارته "سامية"، وهي ابنة "لأكبر وأشجع عائلة في حارتهم، زارته بعد أن سمعت بأن جماعة من الأطباء اليهود الذين أرادوا التخلص من الملاحقات والاضطهاد اقترحوا اعتناق الديانة الإسلامية، ودخلت داره بحجة استعارة كتاب مدرسي وقالت لسلمان درويش همسا: هل ما سمعته صحيحا؟ وهل ستكون أسعد فتاة في الدنيا؟ وهل يعدها بذلك، أي بالزواج منها؟ وقع حديثها عليه وقوع الصاعقة لأنه كان يخشى حتى التطلع إلى وجهها الصبوح الجميل ومبادلتها التحية والابتسام مخافة أن يبطش به إخوتها المعروفين بقوتهم وجبروتهم. وعندما أخبر والدته بما همست له الجارة المسلمة، أسرعت أمه في ترتيب انتقال العائلة إلى حارة بعيدة لكي "يبعد عن الشر ويغنيلو". (سلمان درويش، كل شيء هادئ في العيادة، رابطة الجامعيين، ص 201). زين يمـّـا، هذا دكتور وقله بالغ (بمركزه الرفيع)، وشالها وانهزم من كلمة وحده همست بها جارته المسلمة، زين أشلون تريدين يا أديبة من زعطوط مثلي ابذيج الأيام أن يقوم بمغامرات حب مع مسلمة في سنوات الأربعين من القرن الماضي؟ دخلى ربّج فوك راسج، باشلون بلوه تردين تبلينا؟
ويبدو مع ذلك أن هناك مغامرات عاطفية كانت تنسج خفية بين مسلمين ويهوديات تنتهي بأن يخطف المسلم اليهودية ويتزوجها بعد أن تسلم عن رضاها، أو تترك الفتاة اليهودية عائلتها وتتزوج بحبيبها المسلم كما حدث مع خالة إبراهيم كحيلة التي أسلمت وتزوجت عن رضاها من أبن محمد مهدي كبة رئيس حزب الاستقلال العراقي. ولكن لم يحدث على العكس، فإذا أحب اليهودي مسلمة فعليه أن يسلم ليتزوجها إذا وافق رجال عائلتها. فالمسلمون يقولون بالتكافؤ في الزواج، وكيف يتكافأ اليهودي مع المسلم؟ وفي حالة رضا العائلة المسلمة، تكتب لليهودي العاشق السلامة ويبقى حيا يرزق.
ولكن أغلب العلاقات الغرامية كانت مبنية على التكتم الشديد ولقاء الحبيبة سرا والحذر من الفضيحة التي كانت تكلف حياة العاشق اليهودي. وقد حدثنا سمير نقاش في روايته "نزولة وخيط الشيطان" عن مثل هذه العلاقات السرية، حين فر الفتى اليهودي هاربا من سطح إلى سطح من كبسة أخ الحبيبة المسلمة الذي شك في لقائهما السري. وعندما هددها أخوها بالقتل فرت بالقطار إلى الجنوب والى المجهول الذي ينتظرها، فالفتاة الوحيدة الهاربة لا يوجد أمامها سوي العمل كخادمة وعند ذاك سيجعلها رجال العائلة عاهرتهم الخاصة.
وقد روى لي أحد الأصدقاء الذي أثق به، وهو من الرجال المتمرسون بالمغامرات العاطفية الخفية في بغداد، ويفخر بأنه كان يسمى "أبو تلاثة جي" (بمعنى أنه كان قمرچي، سكرچي، كحبچي) إن المرأة المسلمة كانت في النصف الأول من القرن الماضي تفضل المغامرات الغرامية السرية مع اليهودي الذي يكتم السر خوفا على حياته فلا يكشف سر علاقاته الغرامية مع جاراته، بينما يقوم المسلم المغامر بفضح من تستسلم له لأنها لم تحسن الحفاظ على شرفها ويفاخر بمغامراته مع فلانة ومع علانة إن كان صدقا أو من ابتكار مخيلته أو محاولة منه لتلويث سمعة أعدائه. وكان هذا الصديق يخبرني باللقاءات الغرامية السرية التي كانت تجري بين نساء الطبقة الراقية في العراق مع عشاقهن في عيادات الأطباء من أصدقائهم الذين يثقون بهم. وقد اخبرني صديقي وهو من كبار أطباء الأسنان في إسرائيل اليوم، بأنه دخل فجأة إلي عيادة والده طبيب الأسنان في بغداد، فرأى امرأة رائعة الجمال على كرسي العلاج وهي منهوكة القوى سكرى بنشوة طاغية وقد تبعثر شعرها وتوردت وجنتاها، وفلما رأته ارتعدت وأعادت تنورتها إلى ركبتيها وأخفت وجهها ثم لملمت باقي ملابسها التي نزعتها وانسلت كالغزال الشارد. سأل الابن: "أبويي، هايي اشبيها؟"، قال والده: "لا ماكو شين، غكبتولا جنكات ذهب" (الكل على ما يرام، ركبت لها طاقم اسنان من ذهب). ثم يعلق الدكتور الذي أصبح اليوم من كبار جراحي الأسنان في إسرائيل "وما يمشي علينو قرش قلب" (ولا يمكن التمويه عليه)، والله قيبين غكبلا ذهب ابغاسو المسايي" (لعله ركب لها شيئا من ذهب في رأسه ماسة).
وهكذا فيمكننا القول إن مثل هؤلاء الرجال والنساء في علاقتاهم الغرامية السرية كانوا يعشون في عالمين، عالم الحقيقة وعالم الواقع. وفي الفلسفة والأدب يميز الباحثون بين الحقيقة والواقع ويتخذون من الملك "أوديب" مثالا لذلك. فالملك أوديب في مسرحية سوفوكلس يرى نفسه محظوظا إذ استطاع أن يحل لغز الإنسان عندما سأله أبو الهول: من هو المخلوق الذي يسير على أربع ثم ينتقل الى السير على أثنين وبعدها يسير على ثلاث؟ وهكذا أنقذ أهالي طيبة من مضايقات الوحش وتزوج الملكة الأرملة (في الواقع، وأمه في الحقيقة) وأنجب منها أطفالا، هذا هو الواقع كما كان يراه، أما الحقيقة فهي دائما مخيفة وقاتلة، لأن أوديب عندما خرج للبحث عن حقيقته، من هو ومن هما والداه؟ أدرك فيما بعد بأنه قتل والده الملك حين اعترض طريقه في مفترق الطرق، ولما قتل الوحش كافأه الشعب بزواجه من الملكة التي كانت في الحقيقة أمه وولد له منها أولاد هم في الحقيقة أبناءه وإخوته، فلما أصرّ على معرفة هذه الحقيقة الرهيبة سمل عينيه بيده لهولها وفظاعتها. ولذلك يحذر رجال الدين من محاولة كشف الحقائق التي أخفاها الله عن الإنسان رحمة به. أما الإنسان الغربي فهو يريد معرفة كل شيء إلى أن اكتشف حقيقته المرة، إذ وجد نفسه وحيدا في هذا الكون وأن حياته عبثية مثل صخرة سيزيف، وأنه يعشق أمه ويكره أباه ويغار منه، فهو في قلق أبدي. أما المؤمنون بالله فيرون أن ما اكتشفه الإنسان الحديث من الحقائق وما اخترعه من المخترعات، منها القنبلة الذرية، كما يقول المفكر الكبير توفيق الحكيم، قد تؤدي إلى دمار العالم إذا لم يحسن الإنسان استخدام العقل والحكمة. وفي بعض البلدان الإسلامية كان ينظر إلى المخترعات الحديثة على أنها من عمل الشيطان، فالدراجة الهوائية هي "حصين إبليس"، ولم يكن الراديو ليدخل البلاد الإسلامية لولا ترتيل القرآن وما تيسر من آي الذكر الحكيم. فهذه المخترعات الشيطانية قد تؤدي الى تدمير الإنسانية وتدمير العالم من حولها، ولا يبقى سوى وجه ربك الكريم، "وتعال يابا طلعنا من هل وحلة" التي أوقع الإنسان الغربي نفسه فيها، وأصبح قلقا معذبا في صراعه مع قدره الذي لا يرحم. فالآلهة اليونانية تلعب بمصير الإنسان كما يلعب القط بالفأر، وعلى الإنسان أن يأخذ مصيره بيده حسب الفلسفة الوجودية، والعياذ بالله، بينما الإنسان المسلم يؤمن بالنفس المطمئنة التي تعود إلى ربها راضية مرضية ولا يعاني من القلق والاستلاب الأوروبي. أما الإنسان الغربي فيرى أن الإيمان بالقضاء والقدر أدي، بفضل الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة" الذي فضل فيه المنقول على المعقول والتصوف على المنطق والعقل، إلى ما أسماه أحد الأدباء الايطاليين بـالـ"آي.بي.أم." في الحضارة الشرقية وهي اختصار لكلمات التوكل: "إنشاء الله، وبكرة (أي تأجيل الأعمال الى الغد)، ومعليش" التي تؤدي الى التخلف الحضاري.
لذلك فمن الممكن القول إن الحقائق الخفية في الحياة هي تيارات الحياة الأساسية الخالدة، وإن الواقع هو القناع الذي يضعه الإنسان لأجل أخفاء الحقائق المخيفة فيها. وتقول الدكتورة نوال السعداوي التي فضحت مؤامرة الرجل ضد المرأة بإفتائه بضرورة ختان البنات حفظا على طهارتهن وعفتهن في أفريقيا السوداء والسمراء، بأن هذا الظلم بالإضافة إلى عزل المرأة اجتماعيا بتزيين الحجاب والتفرقة بين الجنسين لكي يخزى الله الشيطان فلا يحضر محرضا كلما اجتمع رجل بامرأة، هو أكبر ظلم وحيف يلحق بالمرأة. والعياذ بالله.
ورحم الله الأديب والمفكر الكبير نجيب محفوظ حين قال في روايته "حب تحت المطر" عن الرجال المحافظين: "لعنهم الله، يخضعون للظلم وفي الحب يصبحون كالأسود الكاسرة"، وأكد في روايته الرمزية "أولاد حارتنا" ما قاله نيتشيه عن "الجبلاوي" الذي جبل الإنسان من ماء وطين، وأن النبي الجديد للحضارة الحديثة هو رجل العلم، الأمر الذي عده رجال الدين كفرا وإلحادا، ولذلك حاول المتزمتون في مصر اغتياله، ولكن الله سلـّم. ثم أنظر مرة أخرى إلى الأديبة الشابة التي تعقد معي لقاء تلفزيونيا، وتسأل بعفوية مطلقة، إذا كنت قد أحببت في العراق فتاة مسلمة، وأقول لنفسي: "شوف باشلون إيراد ومصرف دخلتنا اليوم هل الحرمة المثـقـفة، ومنين الله جابج عليّ اليومّ، تلوعينا بالماضي والحب والمرأة العراقية المظلومة؟" ففي صبايا كان غناء المرأة العراقية بكاء وأنينا ونواحا:
أوف يمـّا يا يمـّا جبتيني للضيم يا يمـّا
للراغبين بالأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/36417-2018-08-04-17-08-47.html
953 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع