أندر رسالة في تأريخ العراق الحديث.. رسالة الملك غازي إلى بكر صدقي
في أواخر عهد وزارة ياسين الهاشمي الثانية، اشتد الصراع بين الوزارة والمعارضة التي عملت جاهدة لإسقاط الوزارة التي سعت للتمسك بالحكم بكل الوسائل والسبل، وفي تلك الأيام كان يشغل الفريق (بكر صدقي) منصب قائد الفرقة الثانية، وكان يتردد باستمرار على دار قطب المعارضة آنذاك السيد (حكمت سليمان)،
حيث كان الحديث يدور حول استئثار وزارة الهاشمي بالحكم رغم افتقارها للتأييد الشعبي (لاسيما بعد قمعها لحركات العشائر في الجنوب والقسوة التي رافقت فعلتها تلك، إضافة الى قمعها للحريات عبر قيامها بغلق العديد من الصحف).
وحينذاك اختمرت عند الفريق (بكر صدقي) فكرة إسقاط وزارة الهاشمي بالقوة عن طريق القيام بانقلاب عسكري، متأثراً بما قام به (مصطفى كمال أتاتورك) في تركيا، وكذلك لتأثر (حكمت سليمان) بالانقلاب العثماني في عام 1908 الذي قاده أخوه (محمود شوكت) رئيس اركان الجيش العثماني حينها.
وفعلاً نجحت الحركة الانقلابية، فكان أول انقلاب عسكري شهدته البلدان العربية ومطلعاً لسلسلة انقلابات عسكرية تلتها فيما بعد. شُكلت في إثر تلك الحركة الانقلابية وزارة ضمّت كلاً من السادة:
(حكمت سليمان) رئيساً للوزراء ووزيراً للداخلية.
(جعفر أبو التمن) للمالية.
(عبد اللطيف نوري) للدفاع.
(صالح جبر) للعدلية.
(ناجي الأصيل) للخارجية.
(كامل الچادرچي) للاقتصاد والمواصلات.
(يوسف إبراهيم) للمعارف.
أما الفريق (بكر صدقي) فقد تولّى منصب رئيس أركان الجيش بدلاً من السيد (طه الهاشمي)، الذي أحيل الى التقاعد، وكان خارج العراق، ثم جرى تسفير السادة (ياسين الهاشمي) و (رشيد عالي الكيلاني) وبعض السادة الوزراء وغيرهم، ومن ثم غادر السيد (نوري السعيد) الى الخارج أيضاً.
في الوقت نفسه نظمت المعارضة تظاهرات مؤيدة للحكومة الجديدة، وكان على رأس تلك التظاهرات السيد (محمد صالح القزاز)، الذي كان يرأس (جمعية اصحاب الصنائع)، إضافة الى الشاعر الكبير (محمد مهدي الجواهري) وغيرهم من الوطنيين، إضافة إلى السيد (عبد القادر اسماعيل).
في صبيحة يوم الانقلاب اغتيل وزير الدفاع السيد (جعفر العسكري) بأوامر من الفريق (بكر صدقي) (كما قيل حينها)، وقد كان (العسكري) من الشخصيات المرنة التي كان من الممكن لبقائها أن تلعب دوراً إيجابياً في تاريخ العراق المعاصر. حادثة اغتيال العسكري أضافت سمة العنف لذلك الانقلاب والتي رافقت جميع الانقلابات العسكرية التي تلتها في تاريخ العراق.
كانت التظاهرات المؤيدة للانقلاب قد تقدمت بمطالب للحكومة، دعتها إلى إصدار العفو العام عن المسجونين السياسيين، وإطلاق حرية الصحافة وحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وإزالة آثار الماضي والعمل على رفع مستوى معيشة الشعب وضمان حقوقه وحرياته، وتقوية الجيش ليكون حارساً أميناً لاستقلال البلاد، ولم تقتصر حينذاك على العاصمة فقط، بل امتدت إلى سائر المدن الأخرى.
إلا أن الفريق (بكر صدقي) كان قد سيطر على مقدرات البلاد، ليكون الحاكم الفعلي الأول والأخير للعراق، كما قام بترتيب قوائم المرشحين لمجلس النواب ومعظمهم من المؤيدين له، وقد جرت الانتخابات في 20 شباط/ فبراير من عام 1937 وجاءت النتيجة كما خطط لها سلفاً وأصبح يمتلك ظهيراً قانونياً لبقائه سيداً للموقف من دون منازع. لكن مشروعه انتهى بتصفيته في الموصل في 11 آب/ أغسطس من عام 1937.
مما لاشك فيه أن والدي كان على علم بتلك الحركة ومشاركاً فيها، وأصبح وزيراً للاقتصاد والمواصلات في حكومتها. وما أتذكره عن أيام وصول الانقلابيين الى بغداد من بعقوبة في أواخر شهر تشرين الاول/ أكتوبر من عام 1936، حيث كنت ابن ثلاثة أعوام وشهرين تقريباً، لكن طيف ماحصل لأسرتنا في تلك الأيام لايزال يتراءى أمام ناظري.
كنَا حينها نسكن في المنزل الذي ولدت فيه بالقرب من وزارة الدفاع، وعشية الانقلاب كانت سيارة قد وصلت لأخذ أسرة كامل الچادرچي (الابناء والوالدة) الى حيث مسكن بيت (دلّة)، من أقارب والدتي من جهة (الأم) وكان يقع حينها في شارع النهر. لكن لم نبق في ذلك البيت لفترة طويلة وسرعان ماعدنا الى منزلنا مساء يوم الانقلاب. في طريق عودتنا لاتزال تتراءى أمام ناظري التظاهرات الجماهيرية التي عمّت الشوارع تأييداً للحركة، وتتخللتها المعزوفات الموسيقية والحشود الجماهيرية المحتفلة.
أحداث سمعت عنها
أذكر واحدة من أغرب وأندر الرسائل التي كُتبت في تاريخ العراق بل ومن أندرها عبر التاريخ هي تلك الرسالة التي وجّهت من الملك غازي الى الفريق (بكر صدقي) الذي زحف الى بغداد، حيث طلب منه عبرها التريث وعدم دخول بغداد لأن رئيس الوزراء السيد (ياسين الهاشمي) قد قدّم استقالته. وهي الرسالة التي كتبها:
السيد (رستم حيدر) (رئيس الديوان الملكي) (قتل)
ووقعها الملك غازي (قتل)
وحملها السيد جعفر العسكري (قتل)
والمُخاطب فيها الفريق بكر صدقي (قتل)
كما أن البيان الأول للانقلاب، كان قد ألقيَ على الناس في بغداد عبر الطائرات (مناشير) في صبيحة وقوعه، ووصف ببيان الاصلاح وقد كتب من قبل السادة:
جعفر أبو التمن وكامل الچادرچي ومحمد حديد الذي حمله مساءً الى دار السيد حكمت سليمان في منطقة الصليخ.
-كما أذكر عن ذلك الانقلاب روايتين. الأولى من السيد (محمد حديد) حيث كنت التقي به بشكل يومي منذ سبعينيات القرن الماضي حتى يوم تركه للعراق (في نهاية عام 1995) علماً أنه توفي في انكلترا في الثالث من آب/ أغسطس عام 1999. وقد سألته عما إذا كان (الملك غازي) على علم مسبق بإنقلاب بكر صدقي.
فأجابني قائلاً: اعتقد إنه كان على علم مسبق بهذه الحركة عبر السيد (حكمت سليمان).
أما الرواية الثانية فهي من السيد (فؤاد عارف) الذي جمعتني به علاقة وثيقة وكنت أزوره في منزله ويتردد عليّ كثيراً كوننا نسكن في منطقة واحدة وكان صديقاً لوالدي، وقد كان يروي لي الكثير من ذكرياته الطويلة وخصوصاً مع الملك غازي لأنه كان زميلاً له في الكلية العسكرية، وأصبح مرافقاً له فيما بعد.
روى لي أنه في أحد أيام سنة 1936 وحين كان مرافقاً للملك غازي جمعه خاله، السيد (ماجد مصطفى) في داره بالسيد (حكمت سليمان)، وطلب منه (حكمت سليمان) أن يجمعه بالملك غازي في قصر الزهور دون علم أحد.
يقول عارف: أخبرت الملك بهذا الامر، فوافق على تلك الزيارة شريطة ألا يعلم أحد بها، وفي احدى الامسيات حين كنت (خفراً)، ذهبت الى بيت خالي مصطحباً السيد (حكمت سليمان) في سيارتي لقصر الزهور، وقد تعمد السيد (حكمت سليمان) بإخفاء بعض ملامحه سعياً منه بألا يعلم أحد بأمر بتلك الزيارة.
اجتمع السيد (حكمت سليمان) بالملك غازي بالسر منفرداً لمدة تزيد عن الساعة، وبعد انتهاء المقابلة أوصلته الى منزله في منطقة الصليخ. ومن يطلع على البيان سيجد بوضوح من صيغته وطريقة كتابته نهج جماعة (الأهالي) واضحاً.
وبعد يومين من هذه الحادثة استدعاني وزير الدفاع، وسألني عما اذا كان السيد (حكمت سليمان) قد زار جلالة الملك في قصر الزهور.
يضيف فؤاد عارف قائلا: كنت قد أديت التحيّة العسكرية وقلت له: سيدي لقد علمتمونا الأخلاق والأمانة وأننا أدينّا القسم بذلك، وانا الآن مرافق للملك، لذلك لايمكنني أن أكون ناكلاً بالأمانة. فقام من مكانه ضارباً على كتفي وشكرني على موقفي هذا وأمرني بالذهاب.
كما أذكر أن العلاقة بين الملك غازي وياسين الهاشمي كانت متوترة والخلاف بينهما كان يدور حول بعض التصرفات الشخصية للملك والاعتراض على مرافقته لأشخاص يُسيئون إلى سمعته ومكانته، وكان هذا رأي كبار الساسة من أمثال نوري السعيد ورشيد عالي وناجي شوكت.
مما يؤيد صدق رواية السيد (فؤاد عارف)، هو البيان الأول الذي صدر في صبيحة يوم 29/10/1936 من الفريق (بكر صدقي) (قائد القوة الوطنية الاصلاحية) الذي كان نصه:
(أيها الشعب العراقي الكريم.. لقد نفد صبر الجيش المؤلف من ابنائكم من الحالة التي تعانونها من جراء الحكومة الحاضرة بمصالحها وغاياتها الشخصية، دون أن تكترث لمصالحكم ورفاهكم.. فطلب إليّ صاحب الجلالة المعظم إقالة الوزارة القائمة، وتأليف وزارة من أبناء الشعب المخلصين برئاسة السيد حكمت سليمان).
من (مذكرات نصير الجادرجي) الصادر عن مؤسسة المدى 2017.
917 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع