الخلافات الحادة بين كتلتي السعدي وجواد مهدت الطريق أمام عارف لتسنم منصب رئيس العراق

     

عبداللطيف الكمالي مدير عام الإذاعة والتلفزيون نقل عام 1963 خطاب عبد الناصر مباشرة من القاهرة ومنع إذاعة خبر عن عبدالسلام عارف

الخلافات الحادة بين كتلتي السعدي وجواد مهدت الطريق أمام عارف لتسنم منصب رئيس العراق في شباط 1963

                   

شهادة أمير الحلو
الخلافات كانت معروفة بين أعضاء المجلس وانشقاقها الى كتلتي علي صالح السعدي وحازم جواد، وباعتقادي أن هذه العوامل كانت من الأسباب التي دفعت القيادة البعثية الى المجيء بعبد السلام عارف رئيساًَ للجمهورية على الرغم من عدم وجود أي دور له في الاحداث التي حصلت في ذلك التأريخ ولكن جرى الاعتماد على تأريخه السابق خلال الصراع الذي جرى بين الشيوعيين والديمقراطيين وعبد الكريم قاسم من جهة، والبعثيين والقوميين من جهة أخرى، خصوصاً بعد محاكمته واصدار حكم الاعدام بحقه في تهمة كان في نيته قتل الزعيم عبد الكريم قاسم في حين أن الاحكام لا تصدر بالنوايا خصوصاً إذا كانت بالاعدام.
وقد استمزج عارف هذا المنصب مع عضويته للمجلس الوطني وهو مستقل، ويشاركه في ذلك عبد الغني الراوي، بينما الآخرون اعضاء في حزب البعث، ولكنه استفاد من الظروف التي سادت في تلك الفترة وأبرزها الخلافات الحادة بين الكتلتين داخل المجلس الوطني، وكذلك ممارسات الحرس القومي الذي أخذ واجبات الجهات الأمنية فكان يفتش ويعتقل ما أثار حفيظة أغلبية الناس عليه.

  

لذلك فأن عارف وبعد أن عرف برفض احمد حسن البكر وحردان التكريتي وطاهر يحيى وقادة عسكريين آخرين لتصرفات الحرس القومي، فقد أتفق معهم على قيام إنقلاب عسكري شرعي على الحرس القومي خصوصاً بعد قصف منذر الونداوي لمطار معسكر الرشيد وتحطيمه لعدد كبير من طائرات الميج ،

 

لذلك فأن الذي حدث في اليوم الاول 18 تشرين الثاني 1963 هو القول في البيان الذي صدر إن الانقلاب هو ضد الحرس اللاقومي كما جاء فيه حتى أن أحمد حسن البكر استلم منصب نائب رئيس الجمهورية، وحردان التكريتي قائداً للطيران علاوة على الوزراء المدنيين المحسوبين على حزب البعث وهما عزت مصطفى وزير الصحة وأحمد عبد الستار الجواري وزير التربية، وقد ذكرت سابقاً بأن الضابطين البعثيين القياديين، علي عريم سكرتير صالح مهدي عماش وصلاح الطبقجلي معاون آمر الانضباط العسكري قد زارانا في سجن رقم واحد مساء 17»3»1963 وأبلغانا بأن الحزب وعبد السلام عارف سيقومان بانقلاب على الحرس القومي أي ليس على الحزب وحكمه، ولكن عارف و امتهانه التآمر والانقلابات بات يخطط للتخلص من البعثيين، كما أن حردان التكريتي وغيره من العسكريين البعثيين أدركوا نوايا عارف بتحجيم دورهم وإخراج الحزب كلياً من السلطة فباتوا يخططون للتخلص منه، ولكنه قام بنقل بعض القطعات العسكرية الموالية له وخصوصاً من كركوك ونقلها بالطائرات وتحالف مع القادة العسكريين القوميين مثل عبد الكريم فرحان وعارف عبد الرزاق وصبحي عبد الحميد، و كسب طاهر يحيى الى جانبه، ومجموعات قومية أخرى بقيادة عبد الهادي الراوي، وبذلك استطاع عارف أن يقوم بـ الضربة الاستباقية للبعثيين وأن يصفي وجودهم في الحكومة ثم اعتقال أكثر البعثيين في ما سمي بمؤامرة في ايلول 1965.


عارف والناصرية
وهكذا أصبح عارف رئيساً حقيقياً للجمهورية بالرغم من وجود مجلس يضم أكبر القادة العسكريين القوميين، ولكنه قام بتحجيم دورهم وأنفرد في إتخاذ القرارات حتى أوصلهم الى الاستقالة.

           
لقد أيد التيار القومي العربي عبد السلام عارف منذ بداية ثورة 14 تموز 1958 بسبب إدعائه الناصرية وإقامة علاقات مع الرئيس جمال عبد الناصر، ولكن الوقائع التي حدثت عند انفراده في الحكم أكدت أنه استخدم شعار القومية والناصرية لمصلحته الخاصة، حتى أن الوزراء القوميين استقالوا من الحكومة العام 1966 كاحتجاج على تدخل عارف في شؤون الاعلام وتسخيره لمصلحته والتمجيد به، في حين تناسى كل الاتفاقات التي عقدها مع الحلفاء من القوميين في تقاسم السلطة أو المشاركة الحقيقية فيها، وقد انعكس هذا الخلاف على قيادة ما سُمي بالاتحاد الاشتراكي العربي المماثل الموجود في مصر فقد كانت الأغلبية من العسكريين والمدنيين ضده وهم يمثلون جميع الاحزاب والحركات القومية، لذلك جرى فصل وانقسام حقيقي بين معسكر عارف الذي كان يعتمد على طاهر يحيى وسعيد صليبي وحميد قادر، وجرت محاولة لاستمالة عارف عبد الرزاق بتعيينه رئيساً للوزراء حتى قام بمحاولته الانقلابية الفاشلة.
وكمثال على عمق الخلافات مع عارف أعيد ما ذكرته سابقاً من أن المرحوم عبد اللطيف الكمالي وهو شخصية قومية مستقلة وعضو اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي ويشغل منصب مدير عام الاذاعة والتلفزيون أبعد وسائل الاعلام عن الصيغة التقليدية في مدح الحاكم ونظامه..

     

في حين كان ينقل خطب جمال عبد الناصر مباشرة من القاهرة وتذاع من الاذاعة العراقية في الوقت نفسه، وكان هذا يغيظ عبد السلام، ولكن حادثة كنت طرفاً بها كانت القشة التي كسرت ظهر البعير، فقد كان الكمالي يغادر مبنى الاذاعة والتلفزيون بعد نشرة اخبار الساعة الثامنة مساء في أكثر الأحيان ويكلفني بالجلوس في مكتبه وإدارة الأمور الاعتيادية، وفي أحد الأيام دخل عليّ المرحوم الرائد عبد الله مجيد مرافق عبد السلام عارف وسلّم عليّ بأدب وحرارة، وقال لي إن الرئيس كان يوم أمس في الموصل وزار القطعات العسكرية بصحبة قائد الفرقة سعيد القطان، وقد عاد الى بغداد دون أن يطلع على الخبر التلفزيوني حول تلك الزيارة لذلك يرجو إعادة بثه في نشرة اخبار الساعة التاسعة في التلفزيون، ولم يكن لدينا آنذاك جهاز الفيديو الذي يبث كل التفاصيل وبوقت طويل، بل كانت الاخبار تبث عبر شريط سينمائي من كاميرا محمولة ولا يستغرق أطول خبر دقيقة واحدة، فقلت للرائد عبد الله مجيد إن ذلك ليس من صلاحيتي وسأتصل بالمدير العام لاستحصال موافقته، فقال تفضل، وأدرت قرص التلفون على المرحوم عبد اللطيف الكمالي وشرحت له الموضوع، فقال لي بالحرف الواحد:

قل له ان التلفزيون ليس ملك عبد السلام عارف، واذا يعجبه رؤية نفسه فليأخذ الفيلم ويراه ثم يعيده لأنه من أملاك الدولة.

قلت بصوت خافت ولكن هناك مجال يا أبا وفاء فهو لا يستغرق دقيقة، فأجابني محتداً: انقل له كلامي بالضبط، ولا علاقة لك بالموضوع،

ونقلت ذلك فعلاً فظهر الانزعاج على وجه المرافق ولكنه اعتذر وخرج.


الرئيس منزعج
وعندما عرف عبد السلام عارف بذلك حمّل وزير الارشاد عبد الكريم فرحان مسؤولية هذه السياسة وطلب من طاهر يحيى رئيس الوزراء أن يبلغ فرحان بانزعاج رئيس الجمهورية، وعندما أبلغ يحيى الفرحان بذلك دق الهاتف وكان عبد السلام على الطرف الآخر ويظهر أنه أثار الموضوع ذاته بصوت عال فقام عبد الكريم فرحان بسحب التلفون وتبادل معه الاتهامات والملاسنات وأغلق الهاتف، وعندما عاد كتب أمراً الى جميع العاملين في وسائل الاعلام وخصوصاً في الاذاعة والتلفزيون بعدم تلقي الاوامر والتعليمات من القصر الجمهوري، وحصر ذلك بالوزير، وجرى توزيع هذا الأمر الوزاري بكميات كبيرة على جميع العاملين، ومنه نسخة الى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء الآخرين، ما زاد من حجم الخلاف بين عبد السلام والوزراء القوميين الذين سارعوا الى تقديم استقالاتهم فقبلها فوراً وجاء ببعض العناصر القومية الضعيفة التي ليس لها قاعدة جماهيرية أو تنظيمات.
ولا أريد هنا الخوض في تفاصيل ما حدث بعد ذلك وخصوصاً محاولة عارف عبد الرزاق الانقلابية، فقد غطى عبد الكريم فرحان وصبحي عبد الحميد وهادي خماس ذلك بالتفصيل في مذكراتهم، ولكن الذي أريد استنتاجه من تلك الاحداث ان من الخطأ حسبان عبد السلام عارف على التيار القومي أو عبد الناصر، فكل ما جاء في خطبه ببداية ثورة 14 تموز وتصريحاته حول الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة لم تكن صادرة عن إيمان وصدق وإنما هي وسيلة لحساب نفسه على تيار موجود في الساحة العراقية، بدليل أنه عندما انفرد بالسلطة لم يحقق أي شيء مما كان يدعيه بل بالعكس فقد قال بعد استقالة الوزراء القوميين لقد جاءتهم كفخة من البنزين وأشار بأصبعه الى مكان يدل على الجمهورية العربية المتحدة، كما أنه كان يشتم بعض القوى القومية التي لا زالت معه في قيادة الاتحاد الاشتراكي العربي، وكان يمثلنا حركة القوميين العرب السادة سلام أحمد وعبد الاله النصراوي وهاشم علي محسن، فكنت أفحص يوماً في الاذاعة خطاباً لعارف ألقاه في قاعدة الحبانية امام لواء كان يقوده الضابط القومي عبد الجبار علي الحسين، فوجدته يحذر الجنود من الالتقاء بجماعة جورج جحش ويقصد المرحوم جورج حبش فقمت باقتطاع هذه الحكمة
خير الدين حسيب.. عراب التأميمات
قد يكون عبد السلام مؤمناً بالمبادئ القومية العامة ولكن تحقيق أي هدف إذا كان يتقاطع مع سلطته فقد كان يقف ضده لذلك فأنني لا أستطيع القول بأنه من التيار القومي العربي كما كان يُرمز له خصوصاً في الفترة الاولى لثورة 14 تموز 1958 ثم سجنه والحكم عليه بالاعدام، وبعدها خلال رئاسته للجمهورية في مراحلها الاولى وقبل أن يكشف عن فرديته واطلاق لقب بطل الثورات الثلاث على نفسه، بل أنه كان معادياً للتيار القومي الحقيقي وأبعد القيادات القومية عن المسؤولية في الحكومة والاتحاد الاشتراكي وتحقق له هدف الانفراد في السلطة في حين أنه لا يمتلك من مواصفات الرئيس أو القائد سوى جسارته أو شجاعته، ولم تكن لديه أية خبرة في إدارة الدولة، حتى أن عمليات التأميم الواسعة للشركات الكبرى والمصارف وغيرها وسيادة دور القطاع العام كان وراءها الدكتور خير الدين حسيب، وهو قومي عربي حاكى التأميمات الناصرية… ولا أعتقد بوجود أي منجز حقيقي في تلك الفترة، كما خابت النظرة التي كانت موجهة لعبد السلام عارف وأنضم الى سلسلة الحكام الديكتاتوريين الذين حكموا العراق. لقد ركب عبد السلام عارف موجة الناصرية والوحدة في فترة كانت هي الطاغية على الشارع العربي، ولكنه تنكّر لكل ذلك عند تسلمه المسؤولية، وهذه ظاهرة مارسها العديد من الرؤساء العرب. من الأمور التي لم يتحدث عنها أحد سابقاً وكنت طرفاً فيها، أن عبد السلام عارف كان يتوقع التآمر عليه من أية جهة كانت، وفي أحدى الامسيات العام 1965 كانت هناك جلسة لقيادة الاتحاد الاشتراكي العربي برئاسة عبد السلام في القصر الجمهوري، وكنت كما ذكرت أستلم أمور الاذاعة والتلفزيون في غياب المدير العام، الذي كان في الاجتماع، وقد أتصل بي موظف الاستعلامات ليبلغني بأن فلاناً يريد مقابلتي، وهو أحد أصدقائي الحميمين من الحزب الشيوعي العراقي، فرحبت به كثيراً، فسألني عن وجود أي قائد أو مسؤول في الدولة هنا، قلت له لديهم اجتماع فقال إذن أطلب منك نقل رسالة الى فؤاد الركابي أو عبد الاله النصراوي عند عودتهما من الاجتماع، وفحواها أن حزب البعث سيقوم بانقلاب عسكري هذه الليلة، وان الحزب الشيوعي يتخوف من نجاحه، وها نحن نبلغكم لتتخذوا الترتيبات والاحتياجات اللازمة.

وبعد أكثر من ساعة عاد الركابي والنصراوي والكمالي وسلام أحمد فأخبرتهم بالموضوع، فقام الركابي بالاتصال بالمرافق الأقدم لعبد السلام عارف المرحوم العميد زاهد واخبره بالموضوع، ولا أدري ما هي الاجراءات التي أتخذت في هذا المجال ولكني فوجئت بضابط أمن يطلب مني في اليوم الثاني الحضور الى مديرية الأمن العامة، وهناك حققت معي لجنة برئاسة مدير الامن العام اسماعيل شاهين عن مصدر الخبر فأنكرت معرفتي بالشخص الذي أبلغني بذلك، فقال ان الموضوع عار عن الصحة ولكنه أشغل القوات العسكرية والأمنية وأربك الكثير من المرافق العامة لذلك يجب أن نعرف خلفية الموضوع ومصدره…

بقيت مصراً على عدم معرفتي بالجهة والشخص المبلّغ وانني كنت وسيطاً في نقل الخبر لأنه طلب مني إخبار الركابي أو النصراوي بذلك… ولم تستطع اللجنة الضغط عليّ أكثر لم يكن هناك تعذيب بل مناورات نفسية، ولكن عبد السلام لم يغفر لنا ذلك واعتقد بأننا أردنا إرباكه في حين أنه يعتقد بسيطرته على جميع مقاليد الأمور وفي مقدمتها الجهات العسكرية والأمنية. الحديث عن فترة عبد السلام عارف تطول وهناك العديد من القضايا التي تستحق تسليط الأضواء عليها، وأنا هنا حين أتحدث عن السياسة السلبية له لا أنطلق من كره أو حب، فليست لدي أية أحاسيس إتجاهه شأنه شأن كل العسكريين الديكتاتوريين الذين حكموا العراق، ولكني أؤكد أنه لم يكن رجل دولة وحتى ليس رئيساً بالمفهوم الحقيقي لرئيس الجمهورية ومواصفاته، أما نزاهته وعدم استغلاله وبقاء أوضاعه العائلية والمالية على حالها عندما كان آمر فوج العام 1958 فهو أمر يعرفه الجميع وقد كتب عنه الاخ صبحي ناظم توفيق في مذكراته عن الفترة التي عمل فيها ضابطاً في الحرس الجمهوري.
وأذكر أنه طلب في احد اجتماعات اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي العربي زيادة راتبه بمقدار 18 ديناراً لتلافي نفقات السائق الذي معه فأجابه عبد الكريم فرحان بأننا اتفقنا على بقاء كل على راتبه العسكري قبل تسلم السلطة ولم تحصل موافقة اللجنة على هذه الاضافة لراتبه.
المصدر:جريدة الزمان الدولية العدد 4298 التاريخ 8»9»2012

                     

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

2141 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع