عبد الرحمن البزاز ..رؤية جديدة لفكره ولسياساته الداخلية والخارجية
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل
لعل الاستاذ الدكتور البرت حوراني في كتابه (الفكر العربي في عصر النهضة 1798 – 1939 ) ، هو أول من إنتبه الى الاستاذ عبد الرحمن البزاز ، عندما تحدث عن المفكرين الذين لاحظوا – بعمق – الصلة بين العروبة والاسلام .الكتاب صدر باللغة الانكليزية في كانون الاول سنة 1961 وترجمه كريم عزقول سنة 1968 وصدر عن دار النهار ببيروت وطبع اكثر من مرة .
في هذا الكتاب اشارة الى ماقدمه الاستاذ عبد الرحمن البزاز في مجال الفكر العربي وخاصة في التأكيد على ان العرب لم يكونوا وقد دخلوا عصر القوميات مستعدين كالاتراك في حينه للتخلي عن الاسلام ليس كدين فحسب بل كحضارة فالاسلام نشأ عندهم وضمن سياقات تاريخهم لهذا نجد الدكتور البرت حوراني يقول على الصفحة 268 من كتابه آنف الذكر ما نصه :" فعبد الرحمن البزاز مثلا ،وهو استاذ عراقي شاب ، ينفي في محاضرة له عن (الاسلام والقومية العربية ) ،ان يكون بينهما أي تناقض .ويقول انه اذا ظهر تناقض فإنما هو ناجم عن المفهوم العربي للاسلام والقومية وان قبول العدد الكبير من العرب بهذا المفهوم لديل على سيطرة الغرب الفكرية عليهم بينما الواقع ان مضمون الاسلام هو مضمون القومية العربية بالذات وان هذا لايصح الا على العرب دون سواهم من الامم الاسلامية الاخرى ..." .
ويقول البزاز ايضا ان اللغة العربية هي "روح الامة العربية " فالناطقون بالضاد هم العرب ، لكن لما كانت الحضارة الاسلامية هي ذاتها مضمون اللغة العربية فبإمكان الناطقين بالضاد ان يجعلوا من الحضارة الاسلامية ومن الماضي الاسلامي كله حضارتهم وماضيهم .اما العرب المسيحيون فهم ايضا جزء من الامة العربية وبوسعهم ان يعتزوا اعتزازا حميما بما فعلت في التاريخ اسوة بالعرب المسلمين انفسهم ".
ويعلق الدكتور البرت حوراني على ذلك بالقول :" ان هذا الاستنتاج الكامن ضما في تحذير البزاز من الاستئثار الاسلامي قد استنتجه تصريحا ولاسباب واضحة كاتبان قوميان عربيان مسيحيان من ابناء الجيل ذاته تجلت في كتاباتهما بوضوح عملية تبني المسيحيين للتراث الاسلامي العربي وهما قسطنطين زريق وادموند رباط " .
آمن الاستاذ عبد الرحمن البزاز بأن العرب أمة واحدة وهم يعيشون بين الخليج العربي والمحيط الاطلسي وان ثمة العديد من العوامل والركائز التي تجمعهم ببعضهم ومنها عوامل الدين الاسلامي واللغة العربية والتاريخ المشترك والمصالح الدائمة وان انقسام العرب كان بتأثير القوى الاجنبية التي كانت ولازالت تحرص على ابقائهم منقسمين لذلك لابد لهم من ان يعملوا من اجل اقامة دولتهم الكبرى على اسس اتحادية اشتراكية .
كما كان الاستاذ البزاز يدعو في كتبه ومقالاته وخطبه ومحاضراته الى اهمية ان يكون الاسلام روح العمل القومي والى ان تكون اللغة العربية الفصحى هي من يربط بين ابناء العروبة ةنبه الى مخاطر استخدام العامية ومان يؤكد على ضرورة صياغة المناهج التربوية بما يحقق الانسجام بين الاجيال الشابة الصاعدة وكثيرا ما كان يثير مسألة الاهتمام بالبناء الخلقي والاجتماعي وينادي بالعودة الى الانساق الخلقية العربية الاصيلة ومنها اساق العدل والحق والصبر والحلم والشجاعة والكرم والمروءة والانصاف .
كان الاستاذ عبد الرحمن البزاز عراقيا ، عربيا ، مسلما .تولى عمادة ( كلية الحقوق ) بجامعة بغداد ، واصبح رئيسا للوزراء في العراق مرتان وتولى عمادة ( معهد الدراسات العربية العالية ) التابع لجامعة الدول العربية في القاهرة والذي أسسه سنة 1953 استاذه المفكر القومي والمربي العربي الكبير الاستاذ ساطع الحصري وتولى عمادته لاول مرة . وفوق هذا وذاك ألف البزاز كتبا كثيرة منها كتابه : (روح الاسلام ) ، والذي يُعد من المصادر الرئيسة المهمة لفهم الفكر الاسلامي وارتباطه الجدلي بالفكر القومي العربي عند البزاز .
كان الاستاذ عبد الرحمن البزاز اول رئيس وزراء مدني في العراق بعد ثورة 14 تموز 1958 ولم يكن يرغب - كما قال المؤرخ العراقي المعروف الاستاذ الدكتور جعفر عباس حميدي – في ان تضم وزارته وزراء من ذوي الخلفيات العسكرية فوزارته الاولى على سبيل المثال لم تكن تضم سوى ثلاثة وزراء من العسكريين بضمنهم وزير الدفاع .اما وزارته الثانية فقد ضمت وزيرا عسكريا واحدا فقط هو وزير الدفاع ويقينا ان هذا التوجه كان لسبب الرئيس لكراهية العسكريين له وسعيهم لابعاده عن السلطة .وقد تيسرت لهم الفرصة بعد مقتل المشير الركن عبد السلام محمد عارف رئيس الجمهورية في 13 نيسان 1966 في حادث سقوط طائرته المروحية في البصرة ومنعهم اياه من تولي السلطة
وتهديد سعيد صليبي قائد موقع بغداد له بأن يتنازل عن اصواته للواء عبد الرحمن محمد عارف شقيق الرئيس الاسبق .
كان الاستاذ عبد الرحمن البزاز يؤمن بالحكم الدستوري وركز في منهاج وزارته الاولى على ضرورة تشريع قانون للانتخابات في اسرع وقت مستطاع بحيث تعود الحياة النيابية للعراق في الوقت المحدد في الدستور المؤقت الذي صدر بعد ايام من نجاح ثورة 14 تموز 1958 وهذا مما لم يكن يحبذه العسكريون .وفوق هذا ؛ فإن الاستاذ البزاز - من خلال احاديثه الاسبوعية في الاذاعة واجهزة الاعلام الاخرى - تمكن من كسب ثقة الناس ، وحصل على حبهم ، والتفافهم حوله ، وحول أفكاره وسياسته .
لقد أكد أحد الذين عرفوه وهو المهندس علي عبد صالح الكليدار ان الاستاذ البزاز كان يظهر على شاشة التلفزيون ، وكان نجما لامعا في طبيعة القائه .. وكانت كلماته تشد الناس والشباب بوجه خاص ، وبشكل كبير . كما انه حرصَ على زيارة المدن العراقية وكان يُستقبل من الجماهير ، والنخب المثقفة بحفاوة . وقد تعرف على المراجع الشيعية وزار الامام محسن الحكيم في النجف .. كما زار في كربلاء السيد أبو القاسم الخوئي .
ومما يجلب الاستغراب حقا ان الاستاذ البزاز مع انه كان من المع اساتذة الجامعة ، الا انه واجه عداءا من بعض الاساتذة القوميين العرب الاشتراكيين وبصورة خاصة من الاستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري والاستاذ الدكتور خير الدين حسيب ، مع انهم كانا يعرفانه عروبيا ، اسلاميا ، ومفكرا مستقلا . ولعل السبب في ذلك يرجع الى الغيرة منه ، أو انهما كانا يريان فيه مفكرا محافظا ، ميالا الى الغرب .
وكان من اهم ما كان يصرح به هو رغبته في حل القضية الكردية حلا سلميا دمقرطيا وقد اصدر بيان 29 حزيران سنة 1966 وهو اول بيان رسمي عراقي واضح يعترف للاكراد بحقوقهم القومية ضمن اطار جمهورية العراق .كان يقول – كما نقل عنه احد الذين عملوا معه وزاملوه وهو الاستاذ الدكتور كاظم السعيدي :" إن 50 متمردا مسلحا قادرين على ان يربكوا الشمال –شمال العراق ..غير ان العدد البسيط هذا والقليل عندما أعطيه ما يشاء واقوم بمناقشته ومحاورته فإن القضية ستحل في النهاية دون حاجة لأن أدع 50 رجلا مسلحين في المنطقة ويعملون على اثارة المشاكل والاضطرابات فيها " . المهم انه كان لايؤمن بإستخدام السلاح ويؤكد " على الحوار والمناقشة والمفاوضة وكان من اكثر الناس تحمى وصبرا على الاحداث ...كان مخلصا وامينا وكان يضحي بحياته وراحته في سبيل الوطن والشعب " .
كان يدعو الى ما اسماه ب(الاشتراكية الرشيدة) ويقصد الاشتراكية العادلة التي تعطي لكل ذي حق حقه فلا تغمط اصحاب رؤوس الاموال حقهم ولا تتجاهل حقوق العمال والفلاحين والكسبة وذوي الدخول القليلة .
وكان يؤمن بالعلم وبالمنهج العلمي العقلاني لحل المشاكل العالقة في ميادين التعليم والصحة والنفط والخدمات مع تأكيده على تقوية الجيش وتسليحه وتدريبه والاهم من كل ذلك إبعاده عن العمل السياسي والحزبي المباشر .
وكان يؤكدعلى اهمية الاستقرار والى ضرورة ان يعود الجيش الى ثكناته ويدعو الى ان تحل (الشرعية الدمقراطية ) محل (الشرعية الثورية ) .
مما كان يقوم به الاستاذ البزاز اللقاء مع عدد من الشخصيات العراقية المدنية والعسكرية والحوار معهم .كان على صلة بقادة حزب الاستقلال الشيخ محمد مهدي كبة والاستاذ محمد صديق شنشل والاستاذ فائق السامرائي .كما كانت له علاقة مع قادة الحزب الوطني الدمقراطي الاستاذ كامل الجادرجي والدكتور عبد الجبار الجومرد والاستاذ هديب الحاج حمود والاستاذ حسين جميل والدكتور فاضل حسين وكان له حوار مستمر مع قادة حزب الجبهة الشعبية المتحدة القديم الاستاذ علي حيدر سليمان والاستاذ حسن عبد الرحمن وكذلك مع عدد من القادة الاكراد منهم الاستاذ بابا علي الشيخ محمود والاستاذ زيد احمد عثمان ومن المؤكد ان عمله كأستاذ اسبق في جامعة بغداد والقاءه المحاضرات على طلبة كلياتها وخاصة كليتي الحقوق والشريعة وكذلك اسهامه السابق في المعارضة ضد الاستعمار البريطاني والحكم الملكي الهاشمي ساعدته على ان تكون له صداقات وثيقة مع عدد كبير من اساتذة جامعة بغداد ومعظمهم ايدوه وساندوه في توجهاته السياسية وخاصة في مجال الدعوة الى انهاء الحكم العسكري واعادة الحكم المدني الدستوري البرلماني وقد جلبت له كل تلك التوجهات عداء العسكريين الذين نقموا عليه وحرصوا على التخلص من حكومته واتهاماته بشتى التهم والترويج لفكرة انه يريد العودة الى اساليب وسياقات النظام الملكي السابق والتفريط بالثروة النفطية وربط العراق بالاحلاف مع ايران وتركيا وبريطانيا .وقد نجح عدد من العسكريين المتنفذين وخاصة من المحسوبين على التوجه القومي في اجبار الرئيس العراقي الفريق عبد الرحمن محمد عارف على اقالة حكومته في السادس من آب سنة 1966 .
لم يكن العسكريون القوميون العرب وحدهم هم من انتقدوا توجهات البزاز ومنهج حكومته وانما شاركهم حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي وحركة القوميين العرب وقد اصدرت هذه الاحزاب بيانات نددت بحكومة البزاز الثانية واثارت حول توجهاته وسياساته الخارجية والنفطية الكثير من الاقاويل .
يقول الاستاذ الدكتور نوري عبد الحميد العاني المؤرخ المعروف في محاضرته التي قدمها في ندوة مركز للثقافة والرأي والتي عقدت ببغداد يوم 26-8-2004 ان الاستاذ عبد الرحمن البزاز امتلك خبرة كبيرة في مجال النفط من خلال دراسته في جامعة لندن وتوليه منصب كلية التجارة والاقتصاد وكالة لفترة معينة وعمله امينا عاما لمنظمة الاقطار المصدرة للنفط (اوبك ) وتوليه وزارة النفط وكالة ابان رئاسته للحكومة العراقية مرتين وانه كان على معرفة بأصول المفاوضات وشرةط الامتيازات لذلك حث الشركات النفطية الاحتكارية في العراق على تلبية حقوق العراق وحل الخلاف مع الحكومة العراقية والاستجابة لمطالبهم ودعاهم للاعتراف بالقانون رقم (80 ) الذي اصدرته سنة 1961 حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة (1958-1963 ) الذي ظلت الشركات غير قابلة به ووضح لهم ان ادعائهم عدم شرعية الامتياز يمكن ان تقابله الحكومة من الناحية القانونية بعدم شرعية امتيازهم الذي حصلوا عليه في ظروف كان العراق فيها فاقدا لحريته واستقلاله ولكن طالما ان الامتياز قائم الان وان وجود الشركات في العراق نافع لاقتصادياته ،فإن على على الشركات الاعتراف بالقانون الذي لم يعد بمقدور أحد الغاءه أو تعديله .وكذلك فإن وجود (شركة النفط الوطنية ) قد اصبح حقيقة قائمة تسعى الحكومة بواسطتها تنفيذ القانون واستثمار المناطق النفطية المستردة من الشركات المؤتلفة في شركة نفط العراق مباشرة أو بالاستعانة بشركات اخرى تعمل وكيلة عن الشركة الوطنية وذكرهم بأن عددا من الشركات المستقلة في العالم قد تقدمت بعروض مفيدة جدا للعراق لأستثمار هذه المناطق نيابة عن شركة النفط الوطنية .
وفي ندوة عقدتها (جمعية الشرق الاوسط ) في لندن يوم 17 آب سنة 1965 اوضح الاستاذ البزاز افكاره هذه بصراحة للغرب وقال ان فئة من الشعب العراقي تطالب بتأميم النفط بسبب تعسف الشركات ومع انه ليس مع هذه المطالبة لكنه يرى ان بالامكان التوصل الى حل مقبول للخلافات ان تفهمت الشركات الامر وقال ان الافضل ان نبيع نفطنا لأفضل المستثمرين واعني بعم دول الغرب ولكن تجاهل الشركات لمطالب العراق سيشجع المطالبين بالتأميم دون شك .وعندما شكل حكومته الاولى في ايلول سنة 1965 سعى بوضع افكاره حول النفط موضع التطبيق وكان ذلك ضمن سياسته الاقتصدادية التي سماها ب(الاشتراكية الرشيدة ) والتي تقوم على السعي بإتجاه تحقيق العدالة [من وجهة نظره ] من خلال جعل موارد النفط في خدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والمحافظة على مصالح البلد والعمل على زيادة الانتاج .
وللاسف فإن عدم التوصل الى حل سريع لمشكلة النفط لم يساعد الاستاذ البزاز على تحقيق افكاره الاقتصادية الداعية لاستخدام موارد النفط في مشاريع انتاجية زراعية وصناعية والتوسع في الاستخدام وتقليل البطالة وايجاد مصادر للدخل غير النفط والموازنة بين نفقات الدولة وايراداتها وتثبيت قيمة الدينار وتنشيط العمل المصرفي وايقاف تدفق رؤوس الاموال الى الخارج بعد احداث التأميم سنة 1964 ومحاربة الفساد الاداري واصدار تشريعات جديدة للضرائب والمصارف والكمارك وانشاء المعامل واعادة النظر في قوانين الاصلاح الزراعي بشكل يؤدي الى زيادة الانتاج والتقليل من الاستيراد واعطاء الفلاحين حقوقهم .غير ان عدم توفر المال الكافي وتباطؤ الشركات في الاستثمار والمماطلة في المفاوضات واستغلالها الظروف السياسية السائدة في البلاد ادى الى عدم تحقيق الكثير مما كان يصبو اليه الاستاذ البزاز .
والآن لابد ان أقف قليلا عن سيرة الاستاذ عبد الرحمن البزاز الذاتية والعلمية فأقول انه عبد الرحمن بن عبد اللطيف حسن المعاضيدي العاني . ولد في محلة التكارتة في جانب الكرخ ببغداد في 20 شباط سنة 1923 . اكمل دراسته الابتدائية والثانوية في بغداد ودرس في كلية الحقوق ببغداد وتخرج فيها سنة 1935 وقد كتب عن سيرته شقيقه الصديق الاستاذ الدكتور حسن البزاز وقال ان اخاه كان متأثرا في فكره العروبي بأستاذه الذي كان عميدا لكلية الحقوق وهو الاستاذ ساطع الحصري فهو الذي رشحه للبعثة العلمية لاكمال دراسته العليا في كلية الملك Kings College -جامعة لندن وبعد اكماله الدراسة وحصوله على الدبلوم في الحقوق ( L.L.B) عاد الى بلده العراق وعين مدرسا في كلية الحقوق ببغداد في 23 تموز سنة 1941 .وخلال ايام الحرب العراقية –البريطانية وثورة مايس 1941 التحق بكتائب لشباب واصبح المتحدث الرسمي لها وقد اعتقل بعد فشل الثورة واعيد الى الوظيفة مدونا قانونيا في وزارة العدل سنة 1945 وبعدها نقل ليكون حاكما لبداءة بغداد وانتدب الى مجلس التمييز الشرعي في بغداد وفي 4 تشرين الاول سنة 1952 انتدب الى هيئة الامم المتحدة في نيويورك للشؤون القانونية وظل هناك حتى 9 كانون الثاني سنة 1953 واختاره الاستاذ ساطع الحصري وكان عميدا لمعهد الدراسات العربية العالية في القاهرة لالقاء محاضرات عن تاريخ العراق المعاصر وعاد ليتسلم منصب عميد كلية التجارة والاقتصاد ببغداد في 20 تموز 1954 وفي 27 ايلول عين عميدا لكلية الحقوق لكنه اقصي عن الوظيفة لثلاث سنوات بسبب عريضة رفعها مع عدد من اساتذة جامعة بغداد الى الملك فيصل الثاني 1953-1958 واستمر فصله حتى قيام ثورة 14 تموز 1958 حين اعيد الى منصبه عميدا لكلية الحقوق واعتقل بعد ثورة الموصل في اذار 1959 واطلق سراحه بعد فترة خمسة اشهر وغادر العراق الى القاهرة حيث تسلم عمادة معهد الدراسات العربية العالية خلفا للدكتور طه حسين
وبعد سقوط حكم الزعيم عبد الكريم اسم في 8 شباط 1963 عين سفيرا لجمهورية العراق في القاهرة واستمر بعمله منذ 21 شباط 1963 حتى 16 آب 1963 .
شارك في مباحثات الوحدة الثلاثية بين العراق ومصر وسوريا وقد اهتم الرئيس جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة بآرائه واعتمد كثيرا من تخريجاته القانونية وبعدها اختير ليكون سفيرا لجمهورية العراق في لندن وتولى منصبه في 9 تشرين الاول 1963 حتى الاول من شباط 1965 وبعدها انتخب سكرتيرا عاما لمنظمة الاقطار المصدرة للنفط (اوبك ) ورئيس مجلس المحافظين فيها من الاول من مايس 1964 حتى نيسان 1965 وعاد الى العراق حيث كلف بمنصب نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية والنفط وكالة في وزارة العميد الركن الطيار عارف عبد الرزاق وذلك في 6 ايلول 1965 حتى 11 ايلول 1965 ، واصبح رئيسا للوزراء بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها العميد الركن الطيار عارف عبد الرزاق في 21 ايلول 1965 .
حدد الاستاذ عبد الرحمن البزاز الخطوط العريضة لمهام حكومته بناء على كتاب التكليف الذي بعث به المشير الركن عبد السلام محمد عارف رئيس الجمهورية في 11 ايلول سنة 1965 بما يأتي :
1.تحقيق الازدهار للشعب في ظل اشتراكية عربية رشيدة تزيد الانتاج وتحقق عدالة التوزيع عن طريق بذل العناية المناسبة بالقطاعين العام والخاص .
2.اقامة نظام حكم دستوري دائم عن طريق اصدار قانون انتخابي وعقد انتخابات عامة واقامة نظام برلماني .
3.تأكيد مبدأ القانون بحيث يتساوى المواطنون في الحقوق دون تمييز .
4.المحافظة على وحدة الاراضي العراقية خطوة لابد منها نحو الوحدة القومية .
5.اعادة تنظيم الهيئات الشعبية على اساس جديد بحيث يصبح الاتحاد الاشتراكي العربي الاساس الوطني الذي تلتقي عنده جميع القوى الوطنية .
6.الاهتمام بحاجات الجيش ،لأن الجيش ، سياج هذا الوطن والحامي لاهداف الامة .
7.التمسك بالاعلان المتعلق بالقيادة السياسية الموحدة بين العراق والجمهورية العربية المتحدة الصادر في الخامس والعشرين من ايار سنة 1965 .
8.ابتدع الاستاذ البزاز اسلوبا جديدا لوضع الشعب في صورة الاحداث من خلال تخصيصه وقتا يطل من خلاله من على شاشة التلفزيون العراقي اسبوعيا وقد كسيب بذلك ثقة الناس الذين كانوا يتداولون ما كان يتحدث به في كافة القضايا الداخلية والخارجية التي كانت تهمهم . وفي الوقت نفسه بذل مجهودا كبيرا من اجل اعادة هيبة العراق في المحيطين العربي والدولي وشدد على علاقات حسن الجوار مع الجارتين تركيا وايران فضلا عن تحسين العلاقات مع الدول العربية وخاصة مع الجمهورية العربية المتحدة .
9.وعلى الصعيد الداخلي طمأن الاستاذ البزاز الشعب بأن حكومته تعمل من اجل تحسين الوضع الاقتصادي وحل مشكلة البطالة وقد ارتفعت قيمة الدينار العراقي ودارت عجلة الانتاج الصناعي على افضل مما كانت عليه وزادت ايداعات الناس في المصارف ووعد بإعادة الحياة البرلمانية وبدأ سلسلة من اللقاءات مع القادة الكورد لحل القضية الكردية بطريقة سلمية وتحدث عن ان العنف لايؤدي الى اية نتيجة وان الحوار هو الحل وجاء ذلك والحركة الكردية المسلحة مستمرة لكن الامر بدأ يتغير واخذ الاستاذ البزاز في اذار 1966 يتحدث عن هناك خطوات ايجابية تتحقق في مجال تعزيز اللحمة بين العراقيين وقام الاستاذ البزاز ببعض الزيارات الى خارج العراق وكلها اسهمت في توثيق العلاقات مع الدول العربية والاقليمية والدولية ودعا الحكومات العربية الى امتلاك ناصية العلم والتكنولوجيا واخبرهم بأن العراق يمتلك مفاعلا نوويا صغيرا واكد لهم ضرورة الاستعداد الدائم لمواجهة التحديات الاستعمارية والصهيونية .
وبعد مقتل المشير الركن عبد السلام محمد عارف في حادث سقوط طائرته في 13 نيسان 1966 تسلم الاستاذ عبد الرحمن البزاز منصب رئاسة الجمهورية نيابة استنادا الى احكام الدستور المؤقت ورشح لانتخابات رئاسة الجمهورية وحصل على اعلى الاصوات لكنه تنازل عنها –كما سبق ان قدمنا – للفريق عبد الرحمن محمد عارف وقد قدم الاستاذ البزاز استقالة حكومته الى الرئيس الجديد الذي كلفه بتشكيل حكومته الثانية واستمر في منصبه حتى استقالته في 6 اب 1966 .
ومما جاء في نص استقالته التي وجهها الى رئيس الجمهورية الفريق عبد الرحمن محمد عارف :" وبعد فتذكرون سيادتكم انني وليت المسؤولية منذ نحو احد عشر شهرا في عهد اخيكم الراحل في ظروف قاسية ،وتأزم اقتصادي حاد وبلبلة اجتماعية وسياسية لم ير العراق في تاريخه الحديث –فيما اعلم – اسوأ منها فعملنا انا وزملائي –بكل طاقتنا لإعادة الوضع الى نصابه المعقول ، بتحقيق مبدأ سيادة القانون ،ورعاية حقوق المواطنين كافة دونما تمايز أو تحزب ،وإصلاح ما أمكن إصلاحه من وضع مالي واقتصادي مترد .ثم كانت الكارثة ، بفقد المرحوم عبد السلام ،ومر العراق بأيام عصيبة ،وفقت أنا وزملائي بعون الله وتسديده ، في تخليص العراق من مغبتها ،واستطعنا أن نحقق مبدأ الشرعية ورعاية الدستور المؤقت نصا وروحا فأصبحتم رئيسا للجمهورية بالطريقة السليمة التي عززت من مقام رئاسة الجمهورية واضفت على العراق هيبة انعكست في الميدان الدولي بما لايقل عن آثارها الحسنة في داخل العراق ..." .
ثم ختم نص استقالته بالقول :" على الرغم من هذا كله كنت احس بين الحين والاخر ببعض الصعوبات توضع في طريق الحكومة وتحد من مسعاها بالصبر وتركن الى الحكمة في ايجاد الحلول والتسويات تحدونا الى ذلك خدمة هذا الشعب ورعاية مصالحه .أما وقد لمست هذا الصباح من سيادتكم رغبة في استقالة الحكومة فرعاية للدستور المؤقت اتقدم اليكم راجيا قبول استقالتي من رئاسة الوزارة سائلا المولى جلت قدرته ان يعينكم ويسدد خطاكم لما فيه صلاح هذا الشعب وخير امتنا العربية الواحدة " .
عند قيام انقلاب 17 تموز 1968 اعتقل وتعرض للتعذيب وبعد اخلاء سبيله عاد الى داره وكان مصابا بمرض سكر الدم واحتشاء في عضلة القلب . توفي بعد اصابته " بتوقف القلب المفاجئ وحصول الجلطة الدماغية وارتفاع سكر الدم " في 28 حزيران سنة 1973 .كان له – رحمة الله عليه – ولدان وثلاثة بنات اصيبوا بداء الكولسترول في الدم الا ولده البكر عامر فتوفوا جميعا رحمهم الله ( غفار وعزام وعامرة وزاهرة ) وهم في عمر الشباب .
كتب عنه الاستاذ الدكتور محمد كريم مهدي المشهداني اطروحة دكتوراه متميزة في جامعة بغداد قبل الاحتلال الاميركي البغيض للعراق سنة 2003 (2001 ) بإشراف الاستاذ الدكتور جعفر عباس حميدي تحولت بعدئذ الى كتاب صدر بعنوان: ( عبد الرحمن البزاز ..دوره الفكري والسياسي في العراق حتى ثورة 17 تموز 1968 ) عن ( مكتبة اليقظة العربية ) ببغداد سنة 2002 .
للاستاذ عبد الرحمن البزاز كما كبيرا من الكتب والدراسات والمقالات والاحاديث والخطب .. ومن أهم مؤلفاته :
1.القومية العربية ..حقيقتها ،أهدافها ، وسائلها ،1938
2.مذكرت في احكام الاراضي في العراق ، 1940
3.الموجز في تاريخ القانون ، 1949
4.الاسلام والقومية العربية ،1953
5.العراق من الاحتلال الى الاستقلال ،1954
6.مبادئ اصول القانون ، 1954
7.ابحاث واحاديث في الفقه والقانون 1958
8.الدولة الموحدة والدولة الاتحادية ،1959
9.من روح الاسلام ، 1959
10.صفحات من الامس القريب ، 1960
11.بحوث في القومية العربية ، 1962
12.من وحي العروبة ، 1963
13.هذه قوميتنا ، 1963
14.مبادئ القانون المقارن ، 1967
15.نظرات في التربية والاجتماع والقومية ، 1967
16.مع الشعب ، 2004.
17.مهما يكن من أمر فأن سياسات الاستاذ البزاز وتوجهاته الفكرية لم تعجب القادة العسكريين كما لم تعجب القوى الحزبية العراقية التي اعتادت الصراعات والرغبة في الانفراد بالحكم . ومن تلك القوى الحركة الاشتراكية العربية ، وحزب البعث العربي الاشتراكي ، والحزب الشيوعي ، والحزب الوطني الدمقراطي .وكانت وجهة نظر هذه القوى أن حكومة البزاز ، تتكون من خليط من البرجوازيين المعادين للاشتراكية ، وانها لاتعمل من اجل العمال والفلاحين ، وانها ليست إلا امتدادا للعهد الملكي الرجعي ، وانها متعاونة مع الانظمة العربية الرجعية ، ومع الغرب الاستعماري ، وهي لن تتواني في رهن مكتسبات ثورة 14 تموز 1958 الوطنية التقدمية من خلال فسح المجال للشركات الاحتكارية الغربية للعودة الى العراق ، واستثمار ثرواته بشكل غير مشروع ، وان شيئا من الوعود بإعادة الحياة الدستورية ، واطلاق الحريات ، وتأليف الاحزاب لم يتحقق ، وان تجربة
( الاتحاد الاشتراكي ) التي حرص عليها الاستاذ البزاز ، عقيمة .
يعتقد كاتب هذه السطور ان العراق - انذاك - وفي ظل حالة التخلص من حكومة الاستاذ عبد الرحمن البزاز - أضاع فرصة ثمينة للتطور ، وبناء الدولة والمجتمع على اسس مدنية عصرية رصينة تعيد اليه استقراره وهيبته ومكانته .
1603 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع