عبدالسلام محمد عارف .. كما رأيته ( الحلقة الخامسةعشرة - الأخيرة)
معلومات استخبارية عن نية الشيوعيين خطف جثمان عبد السلام أثناء تشييعه ورميه في نهر دجلة ثأرا للزعيم عبد الكريم قاسم
احتمال قائم لقلب نظام الحكم
لم يفسّر مسؤولو الأجهزة الأمنية في بغداد وعموم ألوية (محافظات) العراق حادث مصرع الرئيس عبد السلام عارف، كونه مجّرد سقوط طائرة هليكوبتر، بسبب خلل فني او نتيجة تعرضها لعاصفة ترابية، فبعض كبار المسؤولين في الدولة من الذين تواجدوا في البصرة والقرنة، لم يلاحظوا او يحسّوا بالعاصفة المزعومة، ومن المنطقي ان يفسروا مثل هذه الحوادث سلباً، لا سيما وأنهم في دولة من دول العالم الثالث غير المستقرة سياسياً، وخصوصاً في بلد مثل العراق الذي ما فتئ يغلي في خضم أحداث خيّمت عليه منذ ثماني سنوات مضت، وسط ثورات وانقلابات ومؤامرات وانتفاضات، أدت الي انقسامات انشقاقات عمّت ابناء الوطن الواحد من شماله الي جنوبه، ناهيك عن الصراع الدائم طوال التاريخ علي كراسي الحكم.
مخاوف من محاولة شيوعية لخطف جثمان عبد السلام
جمعنا آمر فوجنا الرائد الركن عبد الرزاق العبيدي بعد ظهر يوم الخميس 14 نيسان (ابريل) 1966 وركّز في حديثه علي نقطة ذات أهمية قصوي، عندما أشار الي ان معلومات الاستخبارات العسكرية تفيد بأنه يحتمل ان يقوم الشيوعيون بعملية اختطاف لجثمان عبد السلام، لتهريبه الي مكان مجهول، او رميه في نهر دجلة، انتقاماً لجثمان الزعيم عبد الكريم قاسم، الذي ذكر انه رمي في نهر دجلة عقب ثورة 14 رمضان 1963، كما هو معروف، لذلك شدد المسؤول العسكري علي ضرورة اتخاذ أقصي درجات الحيطة والحذر أثناء التشييع الذي سيجري عصر يوم السبت، السادس عشر من نيسان (ابريل) 1966، والحيلولة دون إفساح المجال لأي شخص كان بالاقتراب من النعش.
ولربما كان وقع تشديد آمر الفوج علي موضوع الشيوعيين علي زملائي الضباط المستمعين عادياً، لأنهم بالتأكيد سيقومون بواجباتهم أثناء التشييع بصرامة وشدة، سواءً حبّاً في عبد السلام أو تنفيذاً للأوامر العسكرية، ولكن وقعه علي نفسي كان مغايراً لكوني الوحيد من أبناء مدينة كركوك، الذي رأي بأم عينيه أحداث مذبحة كركوك أواسط تموز (يوليو) 1959، وعاش ثلاثة أيام سود من تاريخ العراق المعاصر، وشاهد بعض جثث أبناء مدينته وبني قومه معلّقة علي أعمدة الجسور والكهرباء، وأخري مبعثرة ومنتفخة وسط شوارعها وقد وقفت قربها كلاب سائبة تأكل أجزاءها، لذلك تهيأتُ لتطبيق الأوامر بحماس وبكل ما أوتيت من قوة وبأس، واعتبرت ذلك مجالاً للثأر من الشيوعيين اذا ما حاولوا اختطاف جثمان الرئيس، مؤمناً في قرارة نفسي أن كل شخص يقترب من موكب التشييع بشكل غير عادي يمكن أن يكون (شيوعياً) ينبغي عليّ أن أمنعه وأضربه بشدة.
في الساعة الثانية بعد ظهر يوم الخميس الرابع عشر من نيسان (ابريل) 1966، وبينما كان حظر التجوال سارياً في عموم العراق، انطلق الموكب الجنائزي من قرية (النشوة)، الي مطار البصرة حيث كانت جموع غفيرة تنتظر، حزنا وبكاء، دون مراعاة للرسميات أو تحفّظ للمناصب والرتب.
وفي الساعة الخامسة ودّع جثمان عبد السلام عارف وداعاً حافلاً علي متن طائرة النقل العسكري الضخمة التي اكتشفت مكان مصرعه مع مرافقيه صبيحة اليوم نفسه، وحطت في قاعدة الرشيد الجوية قرب بغداد، في الساعة السادسة مساءً،
حيث وقف في استقبالها رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز والمشير عبد الحكيم عامر النائب الاول للرئيس جمال عبد الناصر، وأعضاء الوفد المرافق له، والوزراء جميعاً، وعدد من أفراد عوائل الشهداء، وكبار القادة العسكريين وموظفي الدولة.
وقد شارك رئيس الوزراء والمشير عامر في حمل نعش عبد السلام عارف الي سيارة إسعاف عسكرية قبل إنزال النعوش الأخري الملفوفة بالأعلام العراقية وعليها أكاليل من الزهور، حيث نُقلوا جميعاً الي قسم الطب العدلي في مستشفي الرشيد العسكري.
وعلي متن طائرة سوفييتية خاصة، أقلعت من موسكو الي بغداد مباشرةً، عاد اللواء عبد الرحمن عارف رئيس أركان الجيش وكالة، مساء يوم الجمعة، مصحوباً بوفد سوفييتي رفيع المستوي، فيما بقي اللواء المهندس منير حسين حلمي قائد القوة الجوية وكالةً هناك لمواصلة المفاوضات التسليحية مع السوفييت.
التشييع العسكري
ويبدو أن الحكومة العراقية قد قررت إجراء تشييعين رسميّين لـلرئيس عبد السلام عارف وصحبه، الأول علي المستوي العسكري باعتباره القائد العام للقوات المسلحة، والثاني علي مستوي الدولة باعتباره رئيس الجمهورية،
ففي الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة الخامس عشر من نيسان (ابريل)، رُفعت النعوش ملفوفة بالأعلام العراقية ومحمولة علي سيارات عسكرية من مبني وزارة الدفاع في الباب المعظم متوجهة الي جسر الصرافية (الحديدي)، تتقدمها فرقة موسيقي الجيش وسريتان من تلاميذ الكلية العسكرية ومجموعة من رجال الدين، يتبعها الوزراء الحاليون والسابقون، وأعضاء السلك الدبلوماسي العربي والأجنبي، وقادة الجيش وضباطه الأقدمون، وضباط الشرطة، وكبار موظفي الدولة، وعلي جانبي الطريق احتشدت جماهير غفيرة والدموع تنهمر من عيون الرجال والنساء. وفي ساحة جسر الصرافية كان رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز وإلي جانبه المشير عبد الحكيم عامر وعدد من الوزراء يستقبلون الموكب، ليسيروا معه مشياً علي الأقدام حتي جامع الإمام أبي حنيفة النعمان، ليؤدوا جميعاً صلاة الجمعة، قبل أن يصلي الجميع علي أرواحهم، وتُعاد النعوش جميعاً الي مستشفي الرشيد العسكري، وذلك استعداداً للتشييع الرسمي الذي سيجري عصر يوم السبت، السادس عشر من الشهر نفسه.
الاستعدادات النهائية للتشييع الرسمي
وبينما تنفسنا الصعداء في مبني الاذاعة والتلفزيون لانتهاء مراسيم التشييع العسكري بسلام دون حدوث طارئ، ظلّ احتمال اختطاف جثمان عبد السلام عارف قائماً، ولربّما مؤجلاً الي ساعات مراسيم التشييع الرسمي، فيما أبلغنا آمر سريتنا بأن اثني عشر ضابطاً من فوجنا سيشاركون فيها وهم: الملازم الاول قاسم محمد صكر، والملازم الاول يوسف خليل أحمد، والملازم سعد شمس الدين، والملازم عبد مطلك الجبوري، والملازم قاسم فرحان، والملازم وليد جسام، والملازم مشعل تركي الراشد، والملازم عبد الجبار جسام، والملازم سعد عبد الهادي العساف، والملازم صبحي ناظم توفيق، والملازم موفق محمد جميل، والملازم حمودي عبد المجيد.
أما باقي ضباط الفوج، فإنهم سيظلّون في مواقعهم حوالي القصر الجمهوري ومبني الاذاعة والتلفزيون لتأمين الحماية الضرورية في مثل تلك الساعات المشحونة باحتمالات عديدة وخطيرة، والتي قد يستغلّها بعض الفئات ليحاول قلب نظام الحكم أو عمل شغب ومظاهرات قد تؤثر علي استقرار النظام وأمنه، لا سيما وأن جميع كبار مسؤولي الدولة، من عسكريين ومدنيين، سيتركون دوائرهم ومواقعهم المهمة ليشاركوا في مراسيم التشييع ولنهار كامل.
حضرنا ـ نحن الضباط الاثني عشر ـ الي القصر الجمهوري مساء يوم الجمعة الخامس عشر من نيسان (ابريل) 1966 للتعرف علي الموقع الذي سيوضع فيه نعش الرئيس عبد السلام عارف في صباح اليوم التالي، والاطلاع علي تفاصيل التوقيتات التي يتضمنها منهاج التشييع، وعلي أركان القاعة التي سيقف فيها بالاستعداد ودون أية حراك أربعة ضباط منا تباعاً أثناء مراسيم إلقاء النظرة الأخيرة علي الجثمان، والتي ستستغرق أكثر من اربع ساعات، وبمعدل ساعة واحدة أو أكثر لكل وجبة. إضافة الي ذلك فقد تهيأنا لأسلوب حمل النعش ووضعه علي عربة المدفع ونظام المسير البطيء علي الموسيقي الجنائزية بمحاذاة العربة، وبمعدل ستة ضباط في كل من جانبيها، وكان آمر فوجنا يشرح لنا كل تلك التفاصيل، وبحضور اللواء عبد القادر ياسين العاني، المعاون الاداري لرئيس أركان الجيش ورئيس اللجنة المشرفة علي تنفيذ المراسيم، بمعاونة العميد يوسف رزوقي بطّة.
لقد اُرهقنا خلال اليومين الماضيين، وشعر كل منا باختلال في جسده المُجهد، فقد مضي علينا أكثر من 48 ساعة دون أن نتمتع بقسط من الراحة الجسدية أو النفسية، ولم ننم ساعة واحدة، وها نحن الآن مقبلون علي ليلة اُخري من الحيطة والحذر، يليها يوم مرهق أشد مع حلول الصباح الباكر من اليوم التالي وحتي غروبه.
تشييع عبد السلام عارف الي مثواه الأخير
كنا ـ نحن ضباط الحرس الجمهوري المكّلفين بالمشاركة في مراسيم التشييع ـ جاهزين في القاعة الكبري للقصر الجمهوري منذ الساعة السابعة والنصف من صبيحة يوم السبت السادس عشر من نيسان (ابريل)، مرتدين ملابس حرس الشرف الرسمية والقبّعات المغطّاة بريش النعام، وحاملين سيوفنا علي الجانب الايسر من أجسادنا، عندما بُلّغنا أن جثمان الرئيس الراحل قد حُمل من مستشفي الرشيد العسكري الي بيت الفقيد المطلّ علي نهر دجلة في حي كرادة مريم، وهو البيت الذي استأجره الرئيس الراحل من عائلة آل الذكير مطلع عام 1966 وانتقلت أسرته اليه من دار الأعظمية، في الساعة الثامنة والربع صباحاً، ليبقي بين أفراد اُسرته وأقربائه نصف ساعة فقط، بعدها وصل النعش في الساعة التاسعة والنصف بسيارة إسعاف عسكرية الي الباب الرئيس للقصر الجمهوري، حيث حملناه علي أكتافنا ووضعناه بهدوء وسط القاعة الكبري، وقد تم ترتيب العلم العراقي الكبير الذي يلفّه، وذلك قبل أن نضع النعش علي منصّة ضخمة، ارتفاعها متر واحد، استقرت حولها أكاليل الزهور.
ومع حلول تمام الساعة العاشرة من ذلك الصباح، بدأ تطبيق أولي فقرات منهاج التشييع الرسمي الحافل لإلقاء نظرة الوداع الاخيرة علي جثمان عبد السلام محمد عارف .
كان أول الذين دخلوا القاعة من بوّابته، أخوه الاكبر عبد السميع محمد عارف وبجانبه الصبي أحمد عبد السلام عارف وأخوه الاصغر صباح محمد عارف، وبعض أقربائه وأصدقائه المقرّبين، وهم يذرفون الدموع ويبكون بمرارة، وذلك قبل ان يضع أخوه الآخر اللواء عبد الرحمن عارف رئيس اركان الجيش وكالة، ووزير الدفاع اللواء الركن عبد العزيز العقيلي، ومعاون رئيس اركان الجيش اللواء حمودي مهدي أكاليل زهور قرب رأس الرئيس الراحل.
وتوالي حضور الوفود العربية والأجنبية، قبل ان يلقي أعضاء مجلس الوزراء وكبار قادة القوات المسلحة وموظفو الدولة، ورجال الدين المسلمون والمسيحيون والطوائف الاخري، واُلوف المواطنين الاعتياديين من أهالي بغداد ومدن العراق، نظرة الوداع الاخيرة علي جثمانه، حتي حلّت الساعة الواحدة والنصف ظهراً، حين دُعي الحضور لتناول طعام الغداء المفروش علي مناضد طويلة في حدائق القصر، والذي امتنع الكثير منهم عن التقّرب إليه، علي عكس ما كنا نراه في ولائم القصر سابقا.
كان كل شيء في شارع كرادة مريم العام جاهزاً قبيل الساعة الثالثة إلا ربعاً من عصر ذلك اليوم، وبالقرب من بوابة الخروج للقصر الجمهوري كان هناك مكان شاغر واحد فقط، ذلك الذي ستُشغله (عربة المدفع) التي تجرّها ستة خيول عربية أصيلة، وفي الساعة الثالثة إلا خمس دقائق، حمل اثنا عشر ضابطاً ـ كتبنا أسماءهم آنفا ـ الجثمان ووضعوه علي العربة، حيث ودّع جسد عبد السلام عارف القصر الجمهوري الذي ظلّ يدير شؤون العراق منه، طيلة ثلاث سنوات مضت.
كان الموكب الجنائزي مهيباً للغاية، لم يتخلّله أي طارئ، وقد تجمهر الألوف من المواطنين، رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخا، يقفون علي رصيفي الشارع العام، معظمهم يذرف الدموع حالما يشاهد جثمان رئيس جمهوريتهم، وكان عويل بعض النسوة عالياً، كالعادة، أما الرجال فقد كان صياح بعضهم صاخبا: (الله يرحمك يا حجي ـ الله يرحمك يا أبا احمد ـ الله وياك يا عبد السلام). كانت الجموع محدودة العدد نسبياً عند الانطلاق، من قرب القصر الجمهوري، ولكنها تضاعفت شيئاً فشيئاً كلما ابتعدنا عنه، وحال وصولنا الي ساحة الشواف أنزلنا النعش من فوق العربة، وسرنا به بانتظام الي الجانب الآخر من الساحة نفسها، ووضعناه فوق السيارة العسكرية المكشوفة بهدوء.. بينما صعد ستّة منا، ثلاثة علي الجانب الأيمن من النعش، وثلاثة علي يساره بانتظار ان يتكامل موكب السيارات خلفنا.
اندفاع نحو الجثمان!
كنتُ في مقدمة الصف الايسر من الضباط، واقفاً قرب رأس النعش وخلف سائق السيارة العسكرية مباشرة، وكان الوضع العام علي عكس ما امتاز به المسار الجنائزي الطويل، بدءاً من القصر الجمهوري وحتي وصولنا الي حيث نحن.. فقد كان الصياح والهتاف مالئين الاجواء بدون انتظام، حيث لم يستطع عشرات من الجنود وأفراد الشرطة المسلحين بالبنادق، من إسكاتهم او السيطرة علي ما يجري هناك، فيما كنا نحن الضباط نراقب مجريات الامور بعيون يقظة تحّسباً لما لا يحمد عقباه.
ولكن وبعد عدة دقائق، وحالما اُوعز الينا بالتحرك، اندفع العشرات من الشباب نحونا، وهم يصيحون بصوت عال ويطلقون عبارات لم أتبينها.. وكان من المنطقي أن لا اُفسّر ذلك الاندفاع الهائل بحسن نية وطيبة نفس، وأنا أحمل في أعماقي مخاوف من احتمالات اختطاف النعش، التي قد يقدم عليه شيوعيون او غيرهم، فما كان مني إلاّ أن أعتبر في قرارة نفسي، ان كل شاب من هؤلاء هو (شيوعي)، وقد يكون مكلّفاً بتلك المهمة.
شهرت سيفي من غمده دون تردد، وأخرج الضباط الخمسة الآخرون سيوفهم كذلك، ولم أجد بُدّا من أن أضرب به، وبكل ما اُوتيت من قوة كل شخص استطاع اختراق السدّ البشري المؤلف من الجنود والشرطة الذي أحاط سيارة النعش من كل جانب وصوب، ولربما فقدتُ توازني بعض الشيء، فكان نظري وعقلي يركزان تماماً في اتجاه واحد لا غير، وغايتي الوحيدة أن لا أدع أحداً من أولئك المندفعين نحونا، التقرب من النعش الذي أقف قرب رأسه، وكان كل من يشعر بأذي في صدره أو ألم في بطنه أو وجع في ظهره من سيوفنا يبتعد فوراً، علي الرغم من كون سيوفنا من ذلك النوع المصمّم لأغراض المراسيم ليس إلاّ، ولم تكن قد صُنعت للمبارزة وقطع الرقاب، كما كان يتراءي للذين يستهويهم منظر السيوف في الأفلام التاريخية.
أوعزتُ الي سائق السيارة بالتحرّك علي الرغم من هذا الموقف الصعب الذي وجدنا أنفسنا فيه، ولما تردد قليلاً، ضربتُ بالسيف علي ظهره وأمرتُه بالسير عُنوةً حتي دهس أحدهم، فاضطر الي أن يقود السيارة بصعوبة بالغة مصحوبا بضربات موجعة بالسيوف من الاتجاهات كافة، يرافقها ضربات أوجع تنهال علي أولئك الشبان من أخماص بنادق أفراد الشرطة والجنود، ووسط أصوات المنبّهات المزعجة التي كانت الدرجات البخارية وسيارات شرطة المرور تُطلقها عالية وبشكل متواصل كالعادة.
لم تتفرّق تلك الجموع من أمامنا إلا بعد مسير شاق طال عشرات الأمتار، واستمر لدقائق عديدة وعصيبة، شاهدتُ خلالها شاباً دهسه الإطار الامامي الأيسر لسيارتنا، وأشخاصاً آخرين ضربتهم مقدمتها بقوة.
هل كانت فعلاً محاولة خطف للجثمان؟
لم أستطع، خلال تلك الايام معرفة حقيقة ما جري في تلك الدقائق، فيما لو كان اندفاع حب، ومشاعر ودّ لشخص عبد السلام عارف، كما حلا للصحافيين وبعض مراسلي القنوات التلفازية عرضه في تقاريرهم التي نشرتها صحف العراق وبعض العرب والاجانب، أو أنها كانت مؤامرة حقيقية استهدفت خطف جثــمان عبد السلام، كما كان آمر فوجنا قد بلّغنــا بـــها مســبقاً.
واعتقادي الشخصي في حينه ولا يزال، ينصبّ علي الاحتمال الثاني، فالذي يحب عبد السلام عارف لم يكن مضطراً للاندفاع نحو نعشه بتلك القوة وبذلك الزخم الذي لا موجب له، ولم تكن الحكومة العراقية آنذاك تقرّب المتملّقين والمُرائين والمتزلّفين، حتي يعتقد أولئك الشباب أن مجرد ظهورهم علي شاشات التلفزيون أو صفحات الصحف قد يفيدهم في كسب أموال، أو تعيين في وظائف، أو الحصول علي ترقيات أو درجات حزبية.
في جامع الشيخ ضاري
اجتزنا معمل الألبان، حيث ظهرت أمام أنظارنا تلك البساتين والقري الجميلة المتناثرة في ذلك اليوم الربيعي الغائم كلياً، حتي قابلتنا بالبكاء والصياح والهتاف جموع غفيرة من البشر كانت قد احتشدت علي مقربة من جامع الشيخ ضاري، الذي أمر عبد السلام عارف بتشييده عام 1964 تخليداً لذكري الشيخ ضاري المحمود الزوبعي ـ أحد أخوال عبد السلام ـ الذي ثار ضد الانكليز عام 1920، وافتتحه عبد السلام نفسه في الثالث من كانون الاول (ديسمبر) 1964.
كانت شمس يوم السبت السادس والعشرين من ذي الحجة 1385هـ، السادس عشر من نيسان (ابريل) 1966 قد مالت الي المغيب في حوالي الساعة الخامسة والنصف، عندما كنا نحمل نعش عبد السلام لنضعه قرب حفرة مهيّأة من أرض الجامع، وقد استقر علي مقربة منها قبر والده، حيث ركنّاه تماماً الي جانبه، ثمّ تولّي الشيخ نجم الدين الواعظ مفتي الديار العراقية، والصديق الشخصي لعبد السلام الدعاء له والصلاة عليه. كانت الساعة قد قاربت السادسة والنصف مساءً، حين انتهي كل شيء، عُدنا بسيارة عسكرية الي مبني الاذاعة والتلفزيون وسط شوارع بغداد المقفرة.
وهكذا انتهت حياة عبد السلام عارف عن عمر حافل، وخصوصاً خلال سنواته الثماني الاخيرة، بعد أن ناهز الخامسة والأربعين عاما وثلاثة وعشرين يوما.
انتخاب خلف للرئيس الراحل
كانت قلّة الراحة مكتوبة علينا ـ نحن ضباط الحرس الجمهوري ـ في تلك الايام الأربعة من أواسط شهر نيسان (ابريل) 1966، فحالما عُدنا أدراجنا بعد الانتهاء من أداء مراسيم تشييع الرئيس عبد السلام عارف، توجّه كل منا الي موقعه المحدد ضمن واجباته الاعتيادية، ليؤمّن منطقة القصر الجمهوري ومبني الاذاعة والتلفزيون وغيرهما من قواطع المهمات، حيث لم يكن بالإمكان التمتّع ولو بقسط من الراحة بعد طول عناء فارتدينا ملابسنا العسكرية الاعتيادية، حاملين أسلحتنا في قواطع مسؤوليتنا، حيث سيعقد اجتماع موسع لانتخاب رئيس للجمهورية خلفاً للرئيس الراحل.
لم يكن ذلك سراً، بل إن حكومة السيد عبد الرحمن البزاز قد أعلنته في بيان رسمي صدر صبيحة يوم الخميس الرابع عشر من نيسان (ابريل) 1966 في نعيها للرئيس الراحل، وقد نصّ علي عقد اجتماع مشترك لمجلس الوزراء ومجلس الدفاع الوطني بكامل أعضائهما بمقتضي المادة (55) من الدستور المؤقت للجمهورية العراقية، وخلال أسبوع واحد من خلوّ منصب رئيس الجمهورية.
الاجتماع الحاسم
ضمّ الاجتماع رئيس وأعضاء مجلس الوزراء القائم، والمؤلف من: عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء ووزير الخارجية وكالة، شكري صالح زكي وزير المالية ووزير النفط وكالةً، الدكتور عبد الرزاق محيي الدين وزير الوحدة، الدكتور محمد ناصر وزير الثقافة والارشاد، سلمان عبد الرزاق الاسود وزير التخطيط، الدكتور عدنان مزاحم الباجه جي وزير الدولة للشؤون الخارجية، الشيخ مصلح النقشبندي وزير الدولة للشؤون القانونية، خضر عبد الغفور وزير التربية، سلمان الصفواني وزير الدولة، اللواء الركن عبد العزيز العقيلي وزير الدفاع، الدكتور عبد اللطيف البدري وزير الصحة، الدكتور عبد الحميد الهلالي وزير الاقتصاد، الدكتور فارس ناصر الحسن وزير العمل والشؤون الاجتماعية، كاظم الروّاف وزير العدل، الدكتور حسن ثامر وزير الاشغال والبلديات، أحمد عدنان حافظ وزير المواصلات، محمود حسن جمعة وزير الاصلاح الزراعي، ووزير الزراعة وكالةً، وقد خلا منصبا وزيري الداخلية اللواء عبد اللطيف جاسم الدراجي، والصناعة الدكتور مصطفي عبد الله طه لعدم تعيين من يشغل منصبيهما بعد مصرعهما في حادث الطائرة. وانضم مجلس الدفاع الوطني الي الاجتماع وكان مؤلفاً من:
اللواء الركن عبد العزيز العقيلي بصفته عضواً في هذا المجلس إضافة الي كونه وزيراً للدفاع، اللواء عبد الرحمن محمد عارف رئيس أركان الجيش وكالةً، اللواء الركن سعيد صالح القطان المعاون الحربي لرئيس أركان الجيش، اللواء حمودي مهدي المعاون الاداري لرئيس اركان الجيش، العميد سعيد صليبي قائد موقع بغداد، العميد الركن زكي حسين حلمي قائد الفرقة الاولي، اللواء الركن إبراهيم فيصل الأنصاري قائد الفرقة الثانية، العميد الركن محمود عريم قائد الفرقة المدرعة الثالثة، العميد الركن يونس عطار باشي قائد الفرقة الرابعة، اللواء الركن محمد نوري خليل قائد الفرقة الخامسة، العقيد الطيار حسن رجب عريم نيابة عن اللواء المهندس منير حلمي قائد القوة الجوية وكالة، لوجود الأخير في موسكو، المقدم البحري مهدي درويش الخطيب قائد القوة البحرية وكالةً.
أنباء متضاربة تتسرّب عن الاجتماع
كنا نجلس في غرفة الضباط بمبني الاذاعة والتلفزيون، عندما بدأت الأخبار تردنا عند منتصف ليلة السبت علي الاحد 16ـ 17 نيسان (ابريل) 1966 عن الاجتماع الرسمي لانتخاب رئيس الجمهورية الذي بدأ في الساعة الحادية عشرة من تلك الليلة في القاعة الكبري لمبني المجلس الوطني، وعلمنا ان خلافات برزت في وجهات نظر المجتمعين بعد ان رشّح كل من عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء، وعبد العزيز العقيلي وزير الدفاع، واللواء عبد الرحمن محمد عارف رئيس اركان الجيش وكالة، أنفسهم لإشغال المنصب الذي شغر بمصرع الرئيس عبد السلام عارف.
كان اعضاء مجلس الوزراء وجميعهم من المدنيين عدا وزير الدفاع يميلون الي عبد الرحمن البزاز كمرشح لإشغال هذا المنصب بغية إعادة العراق الي الحكم المدني الدستوري الذي طال انتظاره، بعد أن تسلّط العسكريون علي سدة الحكم طيلة ثماني سنوات مضت، فيما صوّت أعضاء مجلس الدفاع الوطني ـ وجميعهم عسكريون لصالح اللواء عبد الرحمن، بينما حصل عبد العزيز العقيلي علي صوت واحد (صوته)، لذلك اضطر الي سحب ترشيحه لهذا المنصب، ونظراً للخلافات التي دبّت في الاجتماع، وأدت الي تعليقه اكثر من مرة، فقد ارتؤي في النهاية، الاتفاق بعد مشاورات واجتماعات هامشية وبإصرار شديد من القادة العسكريين، فاضطر عبد الرحمن البزاز إلي سحب ترشيحه، كي يبقي اللواء عبد الرحمن محمد عارف مرشحا وحيدا وهو ما حصل بالفعل.
اللواء عبد الرحمن محمد عارف رئيساً للجمهورية
كانت الساعة الثانية والنصف من فجر يوم الاحد السابع عشر من نيسان (ابريل) 1966، الموافق لليوم السابع والعشرين من ذي الحجة 1385هـ، عندما وصلت الي مبني الاذاعة أربع صفحات مطبوعة، وقد وقع عليها جميع أعضاء مجلسي الوزراء والدفاع الوطني، تحوي بياناً رسمياً طويلاً مفاده:
ان اللواء عبد الرحمن محمد عارف قد اُنتخب بالإجماع في هذا اليوم، في جلسة مشتركة للمجلسين المذكورين، دامت اكثر من ثلاث ساعات، وعُقدت استناداً الي أحكام المادة (55) من الدستور المؤقت، رئيساً للجمهورية العراقية، وذلك خلال فترة الانتقال التي ينبغي ألا تتجاوز سنة واحدة من تاريخ اليوم، والي حين انتخاب رئيس الجمهورية حسبما ينص عليه الدستور الدائم.
948 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع