فنجان قهوة مع الاعلامي المعروف والشاعر إبراهيم ألزبيدي
إيمان البستاني
" ضيفنا ياسادة ياكرام إعلامي معروف عمل في الاذاعة وألتلفزيون منذ أواخر الخمسينات، عاصر فيها أكثر ألمراحل تقلباً في تاريخ العراق ...وكانت حياته أكثر منها تقلباً، كانت أمنيته أن يصبح شاعراً .....هل تحققت أمنيته؟؟..كان زميل طفولة لصدام حسين وعدنان خيرألله....لكنه أختار طريق ألمعارضة. شهد مقتل الزعيم عبد الكريم قاسم وفاضل المهداوي وهو جالس خلف ميكرفون إلاذاعة .....قادته حاسته السادسة لأن يترك ألعراق .. بعد أن تولى صديق طفولته سدة ألحكم .....هل صدقت أحاسيسه؟....عاش معارضاً للنظام ....ليعود له بعد 29 سنة!! " .
ضيفنا اليوم في فنجان قهوة إلاعلامي المعروف والشاعر الاستاذ إبراهيم ألزبيدي فأهلاً وسهلاً بك أستاذ في المجلة ألثقافية ألگاردينيا .. ونبدأ بسنين ألطفولة في تكريت ....تلك ألمدينة ألمنسية كما تسميها.
* أكثر محطات ألطفولة تذكر صداقتك لصدام حسين وعدنان خيرألله ...كيف تحكي عن طباعهم وما هي أكثر ألمواقف ألتي علقت في ذاكرتك عنهم؟
- في أواخر الأربعينيات أو أوائل الخمسينيات، لا أذكر على وجه الدقة متى وكيف تعرفت إلى عدنان خير الله طلفاح، ثم على صدام حسين الذي يكبرنا بأربع سنوات. أما أين فأذكره بوضوح. كانت لي عمةٌ اسمها (مدينة) تسكن في حي (الحارة) الذي يقطنه أهل العوجا. وكنا نلعب في فناء دارها: عدنان وأخته ساجدة وأنا، بحضور أمهما (ليلو) مطلقة خير الله التي كانت تمضي معظم وقتها الطويل مع عمتي البسيطة المتدينة وأحاديثها الدافئة التي تُسرّي عنها وتبعد الألم والفراغ.
* تعرفت على نبيل نجم (وكيل وزارة الخارجية العراقية). وكنتم ألاربعة لكم أحلام وأمنيات فقد تمنى نبيل أن يصبح طبيبا مشهورا، وقد تحقق له نصف حلمه، وأصبح مضمدا في مستشفى الطفل العربي في كرادة مريم. وتمنى عدنان خير الله أن يصبح عسكريا لامعا وتحقق له ما تمنى، فقد أصبح وزيراً للدفاع .. أما صدام فطلب فقط سيارة (جيب) وبندقية صيد (كسرية) كما يسميها العراقيـون ودربين (ناظور). بينما كانت أمنيتك أن تصبح شاعرا.....لماذا؟
- لا أدري لماذا، ربما لسوء حظي أو لحسنه. على العموم هذا ما كان، ولو عدت إلى الوراء لاخترت طريقا آخر بعيدا عن السياسة والإعلام، لأن العراق، والدول العربية كلها، ليست المكان المناسب لمهنة من هذا النوع.
عام ١٩٥٧ أنتقلت لبغداد وقدمت للعمل في جريدة «العمل» التي كان يصدرها رئيس وزراء العراق الأسبق الدكتور فاضل الجمالي رئيس حزب العمل. حيث قابلك وعرضت عليه نسخة من أول ديوان شعر لك....كيف كانت بداياتك في بغداد؟؟
من اليسار/ نوري السعيد ،(في الوسط الدكتور فاضل الجمالي) ودبلوماسي أجنبي
- لا ليس الأمر كذلك. ذهبت إلى مكتب جريدة العمل التي يصدرها رئيس الوزراء السابق الدكتور فاضل الجمالي رئيس حزب العمل لأقدم لهم نسخة من ديواني الأول للتعريف به فقط. وكان صدام برفقتي في تلك الزيارة. دخلت على الصحفي محمود الجندي الذي كنت أتعرف إليه لأول مرة، وعرضت عليه النسخة ورجوته الكتابة عن الديوان. لكنه نهض ودخل غرفة مجاورة وعاد ليطلب مني مقابلة (الدكتور). مكث صدام في غرفة محمود. وحين دخلت وجدت فاضل الجمالي مبتسما وفي يده الديوان، ويمازحني قائلاً: "يا حرامي". خفت وخجلت من هذه التهمة. فبادرني قائلا: كيف تثبت لي أنك كاتب هذا الشعر؟ هدأت قليلا، وطلبت منه أن يسألني عن أية قصيدة من قصائد الديوان: بحرها، موضوعها، مناسبتها – مثلاً – لأثبت له أنني كاتب هذا الديوان. قال: لا.. أريدك أن تكتب بيتين عن جريدة العمل. وأعطاني ورقة وقلما. هممت بالكتابة، لكنني قلت له: إن الشاعر المحترم يا دكتور لا يكتب شعره كما كان يعمل المتكسبون في العصر الجاهلي. سكت وانتظر. وفي دقائق أعدت إليه الورقة وعليها بيتان من الشعر يبدو أنه لم يحبهما، لكنه ابتسم وصدّق أنني صاحب هذا الديوان، وتمنى لي التوفيق ونادى محمود الجندي وطلب منه الاهتمام بي.
كان صدام قد أحس بالملل والقلق بعد أن طالت جلستي في مكتب الدكتور. ونحن هابطان على السلم الضيق المظلم في طريقنا إلى شارع المتنبي سألت صدام:
هل تعلم من هو الدكتور الذي قابلته؟
قال: لا، من؟
قلت: فاضل الجمالي.
سألني: كيف كان معك؟
قلت: كان لطيفاً وراقياً وكريماً جداً. أخبرته بحكاية الاختبار الذي خضته. فجأة توقف صدام وقال:
ليتك تعيدني إليه لأطلب منه أن يقبلني في حزبه.
ضحكت وقلت: ولماذا تريد الانضمام إلى حزبه؟
قال: لأن في إمكانه أن يساعدني ويأمر بتعييني في الأمن.
سخرت من الفكرة، وواصلت سيري في شارع المتنبي وهو يتبعني ويلح علي. لم يخطر في بال أحدنا أنه سيصبح المالك الوحيد لـلحزب الحاكم الوحيد في عموم العراق.
*انتميت إلى حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1956 مع نبيل نجم وعدنان خير الله ونزار الناصري،.....كيف كانت تلك ألتجربة؟؟
- لا أدري كيف كانت البداية، ولكن المهم أننا كنا الخلية الوحيدة في تكريت وكان مسؤولنا الحزبي يأتينا من سامراء المجاورة. لم أكن حزبيا جيدا. كنت لا ألتزم بالمواعيد ولا بالسلوكيات الحزبية. لذلك لم أرتفع عن مرحلة(نصير) إلى أن تركت الحزب في عام 1963 بعد أن تقتل البعثيون وانقسموا فيما أسموها ردة تشرين.
* وفي نهاية الخمسينات بدأ عملك في الاذاعة والتلفزيون كمذيع ومقدم للبرامج... وكنت تدير الندوات التلفزيونية وكنت دائماً ما تستضيف خير الله طلفاح في برامجك السياسية إلى ان اتصل بك رئيس الجمهورية احمد حسن البكر ومنعك رسميا من استضافته.......هل تروي لنا تفاصيلها
- لم أدخل الإذاعة كمذيع إلا في العام 1959، قبلها كنت مشاركا في برنامج الطلبة الذي يعده مركز وسائل الإيضاح التابع لوزارة المعارف. ثم بعد ذلك نجحت في اختبار المذيعين وبدأ عملي يومها، ولكنني طردت من الإذاعة من قبل الشيوعيين، ونقلت إلى التعليم في قرية دربن كوم التابعة لمخمور في لواء أربيل، ولكنني عدت إلى الإذاعة عام 1961 ومكثت فيها إلى النهاية عام 1974. وعند عودة البعثيين إلى السلطة كنت قد اشتهرت ببرامجي الإذاعية والتلفزيونية الصريحة المشاكسة.
وفي تموز/ يوليو عام 1971، طلبت مني الإدارة، بتوجيه من القيادة العليا، إجراء لقاءات تلفزيونية مع بعض المحافظين المهمين: بغداد، البصرة، الموصل ، كربلاء، العمارة، الناصرية والرمادي، يتحدثون فيها عن منجزاتهم خلال عامين من عمر (الثورة).
وكان المحافظون جميعهم يتبارون في التباهي بما حققوه من منجزات شعبية، زراعية أو صناعية أو سياحية أو غير ذلك. وكان الحاج هو المحافظ الوحيد بين زملائه الذي لم ينجز شيئاً مهماً يستطيع أن ينافق به الجماهير. صحيح أنه تحدث عن ترميم بعض المدارس وبناء مدرستين - على ما أذكر - إلا أن أغلب منجزاته التي كان يفتخر بها كانت في مجال السجون والمواقف العامة. فقال:
"وسعنا الموقف الفلاني، وأصبح يتسع لكذا وكذا من الموقوفين"، "أعدنا افتتاح السجن الفلاني الذي يتسع لكذا وكذا من السجناء"، "بنينا سجناً جديداً في قضاء.. يتسع لكذا وكذا..".
بعد انتهاء التسجيل سألني الحاج عن موعد عرض اللقاء، فذكرت أن الموعد اليومي الثابت لهذه اللقاءات هو الساعة الفلانية، وأكدت أن لقاءه سيعرض مساء اليوم نفسه. وسرت معه إلى سيارته، وغادرنا بسلام.
دخلت على الصحاف (المدير العام) لأخبره أنني أكملت إجراء اللقاءات مع جميع المحافظين، وكان آخرهم محافظ بغداد. سألني:
كيف كان لقاء الحاج؟
قلت: برأيي أن الشعب العراقي سيثور عليكم ويقذفكم بالأحذية إذا ما شاهد لقاءه.
فدهش وسألني: لماذا؟
قلت: إن الحاج هيأ سجوناً ومواقف تتسع لنصف سكان محافظة بغداد. وشرحت له التفاصيل. فما كان منه إلا أن رفع سماعة الهاتف وطلب الحديث مع رئيس الجمهورية شخصياً. قال له:
سيدي، لدي فلان، وهو يقول عن لقائه مع الحاج كذا وكذا. فما رأي سيادتكم؟ فأمر الرئيس بعدم إذاعة اللقاء. ثم منعني نهائيا من استضافة الحجي.
* عند قيام انقلاب عام ١٩٦٣ بقيادة عبد السلام عارف كنت تتبادل الجلوس خلف ميكروفون الاذاعة مع شفيق الكمالي وهناء العمري، لإذاعة بيانات وبرقيات وشعارات كان بعضها يعطى لكم مكتوبا، وتكتبون بعضها الآخر. وقد شهدت حينها مقتل الزعيم عبد الكريم قاسم وفاضل المهداوي واتباعه على ايدي الانقلابيين الجدد.......كيف كانت تلك أللحظات؟؟
- في التاسعة من صباح الجمعة 8 شباط/فبراير 1963 سمعت البيان الأول من الإذاعة بصوت غير إذاعي، علمت بعد ذلك أنه كان صوت أحد قادة الحزب: حازم جواد. وفي حدود التاسعة والنصف سمعنا تبليغا لجميع العاملين في الإذاعة والتلفزيون بضرورة الحضور إلى الإذاعة.
لقد أرادت القيادة أن تستعين بمذيعين محترفين لإضفاء نوع من مظاهر الوضع الذي عاد طبيعيا، لتوحي باستتباب الأمور في العهد الجديد، وبالتالي لا فائدة من مواصلة المقاومة. وكنا نتاوب على إذاعة البيانات والأخبارن وكان يساعدنا شفيق الكمالي وهناء العمري زوجة علي صالح السعدي.
وفي ضحى السبت علمنا باستسلام عبد الكريم وبعض أعوانه. وقيل إنهم سُيرحلون إلى الإذاعة بين وقت وآخر. وفي حوالي الساعة الثانية عشرة، أو بعد ذلك بقليل، وصلت ناقلة جنود نزل منها أولاً فاضل عباس المهداوي رئيس المحكمة الخاصة الشهير، واثنان لم أكن أعرفهما، علمت فيما بعد بأنهما طه الشيخ أحمد مدير الحركات العسكرية، وكنعان خليل حداد أحد مرافقي الزعيم، وقيل إنه ابن أخته والذي اتهمه الحزب بقتل أحد ضباط الهجوم على وزارة الدفاع واسمه محمد علوان.
وفجأة ساد هدوء وصمت غريب، وهبط الزعيم. خُلعت عنه نجماته وأوسمته، وكان حاسر الرأس، شاحباً، نظراته تتنقل بسرعة بين وجوه الواقفين على جانبي مدخل المبنى. دخل، وعلى يساره أَجلس المنتصرون بعضَ مؤيديه الذين ألقوا القبض عليهم، في عملية خبيثة جداً تهدف إلى إفهامه أن هؤلاء الحفاة هم كل أتباعه من الشعب الذي كان فخوراً بحبه وإيمانه بزعامته. حينها تذكرت كيف كان الزعيم لا يكف عن ترديد عبارته الشهيرة عن جمهوريته الخالدة التي أصبحت كعقاب الجو.
صبحي عبدالحميد
فجأة حاول أحد الحاضرين أن يعتدي عليه فمنعه ضابط، عرفت فيما بعد أنه صبحي عبد الحميد. ثم تقدم حردان ووضع يديه فوق رأسه. وفي طريقه إلى أستوديو الموسيقى كان صالح مهدي عماش (أحد قادة الانقلاب) منتظراً على مدخل صالات التسجيل، فهنأه الزعيم على نجاحهم في الانقلاب عليه.
دخلت إلى استوديو المذيعين، فسمح لي الضباط الموكلون بالحراسة بالمرور، لكوني أحد المذيعين المناوبين. وفي لحظة وصولي خرج شفيق الكمالي من أستوديو المذيعين ليستريح قليلاً من قراءة البرقيات والبيانات، وهو لا يعلم بمجيء الزعيم الذي أحضروه وأدخلوه صالة الموسيقى. طلب مني تسلم العمل عنه قليلا. لكنني تذرعت بالتعب، ووعدته بالعودة خلال ربع ساعة فقط، فاقتنع وعاد إلى أستوديو المذيعين ليشارك هناء العمري الصياحَ من خلف الميكروفون
دلفت إلى غرفة تسجيلات صالة الموسيقى لأراقب ما يدور بداخلها، من وراء الزجاج. وللمصادفة اختيرت هذه الصالة لأنها كانت الأكبر لدينا في مبنى الإذاعة في تلك الأيام. كان معي اثنان من مهندسي الصوت، هما جوزيف بصري ومدحت السامرائي، على ما أذكر. غامرت وفتحت أحد الميكروفونات لنسمع الحوار الذي كان يدور. كان الصوت غير واضح تماما في بعض أجزائه، لسببين، الأول ُبعد الميكروفون عن الجالسين في مؤخرة الصالة، وثانيا كون المحاورين يتكلمون جميعهم معا بعصبية وتوتر. نظر إلينا العلكاوي من خلال الزجاج، فسألته بالإشارة:
هل نسجل الحوار، فأجاب بالقبول.
فمضى جوزيف بصري يسجل ما يدور. وعلمت بعد سنوات أن نسخة من ذلك التسجيل مخبأة لدى جوزيف.
لم يكن يخطر على باله مطلقا أن تصبح هذه المحاورة الفوضوية والأسئلة السطحية المتناثرة، والأصوات المتشفية والشتائم الرخيصة هي المحكمة الأولى والأخيرة التي ما بعدها محكمة. وأن مصيره تقرر في تلك الجلسة العابرة، وأن رصاصهم ينتظره على الباب ليخترق جسده ويسكت أنفاسه في لحظات.
* في شتاء١٩٦٧ تلقيت أمراً بالسفر إلى تركيا ضمن الوفد الرسمي الذي رافق رئيس الجمهورية عبد الرحمن محمد عارف....هل تذكر ألمهمة؟؟
- في شتاء 1967 تلقيت أمرا بالسفر إلى تركيا ضمن الوفد الكبير الذي سيرافق رئيس الجمهورية عبد الرحمن محمد عارف. ومن حسن حظي أن يكون رفيقي في تلك الرحلة مصور سينمائي طيب وهادئ وغير مشاكس ولا لئيم، اسمه وجيه أحمد طه.
بلدية أنقرة ترحب بالرئيس عارف
وصلت الطائرة بعد الظهر بقليل، وخرج الرئيس من مطار أنقرة ليفاجأ بأمواج بشرية لا حدود لها على جانبي الطريق إلى دار الضيافة حيث حل ضيفاً معززاً مكرماً على حكومة تركيا وشعبها. أما نحن فقد تم نقلنا إلى فندق هلتون أنقرة وأعطي كل منا مفتاح غرفته.
وقبل صعودنا إلى الغرف تم تبليغنا بضرورة التواجد في دار الضيافة في تمام الساعة السابعة مساءً للاستماع إلى توجيهات السيد الرئيس حول الزيارة.
تسلمت مفتاح غرفتي، وكنت أظن أنها لن تكون أكثر من غرفة في فندق. لكنني صعقت. غرفة استقبال ومكتب وغرفة نوم وحمام وحمام آخر وتلفون في غرفة النوم وآخر في الاستقبال وثالث في الحمام. كان وجيه يضحك من دهشتي ويشرح لي مع ضحكاته الساخرة كيف ذاق طعم هذا العز الحضاري قبل ذلك بكثير بحكم سفراته العديدة السابقة مع الرؤساء والوزراء.
أردت أن أغتسل وأتأنق لمقابلة السيد الرئيس. دخلت الحمام. وفشلت محاولاتي كلها في الوصول إلى فك لغز تشغيل التكنولوجيا الحديثة. لم أستطع أن أخلط الماء الحار بالبارد لأحصل على الماء الفاتر. ولأن الهاتف كان في متناول يدي في الحمام فقد طلبت وجيه أناشده النجدة. أرشدني بعناية، ثم سارت الأمور على أحسن ما يرام وتمكنت من الاستمتاع بحمام لم أعرف مثيله من قبل. ولأنني تأخرت قليلا فقد هبطت مسرعاً، وكانت الساعة السابعة إلا دقائق، وأخذتني سيارة تشريفات مسرعة جداً من الفندق إلى دار الضيافة التي تبعد خمسة كيلومترات بأقل من عشر دقائق.
عدنان الباجه جي
عند دخولي القاعة كان الرئيس يتبادل الحديث الهامس مع إبراهيم فيصل الأنصاري رئيس أركان الجيش. وكان إلى يمينه وزير الخارجية الدكتور عدنان الباجه جي، وإلى يساره العميد عبد الكريم التكريتي آمر معسكر الوشاش في بغداد.
وهذا العميد، كما عرفت فيما بعد، لم يكن له دور في الوفد سوى كونه صديقاً حميماً للرئيس من أيام الدراسة في الكلية العسكرية، يرتاح إليه ويلعب معه طاولة الزهر ويغلبه.
المهم دخلت، وبصمت وهدوء أخذت مكاني على يسار زميلي وجيه في آخر كرسي على يمين طاولة كبيرة وطويلة وأنيقة وفخمة جداً للاجتماعات. كان الجميع صامتين، في انتظار أن ينطق السيد الرئيس. همست في أذن وجيه شاكراً له خدماته في تشغيل تكنولوجيا الحمام، وأعربت عن دهشتي ومتعتي بالجناح وبالحمام، وحدثته عن (ليفة) الاستحمام الناعمة المدهشة. فالتفت إلي وقال لي بهمس أيضا:
شيء جيد أنك تذكرت ليفة الحمام وجئت بها معك من بغداد.
قلت: لا، إن الأتراك فكروا بكل شيء حتى بـ(الليفة).
عاد وسألني، بهمس أيضا، أي ليفة؟
قلت الكيس البني الموضوع على جانب الرف الأيمن في الحمام.
فبادرني قائلا: هذا كيس لمسح الأحذية وليس ليفة حمام!!.
وغص بضحكة حاول كتمها بجهد جهيد لكنه لم يستطع أن يمنعها عن الانفلات بقوة كالصاعقة. ثم بلع صوته بسرعة من الخوف.
رفع الرئيس رأسه بشيء من الغضب والاستغراب:
ما الحكاية؟
ثم ساد صمت. عاد فسأل بعصبية أكبر هذه المرة:
ما الحكاية؟ ..
وهنا وجدت أن علي التدخل والاعتذار نيابة عن زميلي.
قلت: عفوا سيادة الرئيس كنت أخبر زميلي بمشكلة حدثت لي في الحمام، فضحك من سذاجتي ولم يتمالك نفسه من الضحك.
وأضفت: وأنا أعتذر عن نفسي وعن زميلي يا سيادة الرئيس.
قال: أي مشكلة؟
قلت: هل تأذن لي بروايتها؟
قال: تفضل.
وأخبرته بحكاية (الليفة) باختصار، وحين وصلت إلى موضوع (كيس الأحذية) الذي ظننته ليفة حمام ضحك الرئيس ضحكة مفاجئة قوية أخرجت شيئا من أنفه راح يمسحه بمنديل وهو يضحك ويقول:
لعنك الله.. لعنك الله.
ثم مرت العاصفة بسلام.
لم أكن أدري أن تلك النكتة العابرة ستفتح لي قلب السيد الرئيس، وسوف يستمر في طلب ضمي إلى كل وفد يرافقه في سفراته القادمة كلها!!.
*عندما قامت حرب حزيران ١٩٦٧ بين العرب وإسرائيل، كنت تلقى البيانات والخطب الحماسية ومرت الأيام الأربعة ولياليها من حماس وسهر وقلة نوم.... حيث كان البث متواصلاً لأربعة وعشرين ساعة دون توقف.... تتناوب النوم على الأرض مع مجموعة كبيرة من المذيعين....ماهي ذكرياتك عن تلك ألايام؟؟
- أثناء حرب حزيران/ يونيو 1967، كان العميد خالد رشيد الشيخلي ما يزال هو نفسه المدير العام للإذاعة والتلفزيون. وبسبب قلة خبرته في هذا المجال، وبفعل ظروف الحرب وما تحمله من طوارئ متلاحقة في الأخبار والبيانات والتصريحات والبرامج السياسية العديدة التي أضافت إليه هموماً جديدة ومخاوف إضافية، فقد تصرف بذكاء. وزع مهامه على عدد من العاملين الذين يتوسم فيهم الخبرة والأمانة. كنت يومها رئيساً لمذيعي الإذاعة والتلفزيون، فكان نصيبي من الصلاحيات هو مراقبة وإجازة جميع ما يرد من برقيات وبيانات وأخبار، إضافة إلى عملي الأساسي في توزيع العمل على المذيعين، وقراءة المواد المهمة، وخاصة بيانات القصر والأوامر والتوجيهات والتصريحات التي تصدر عن القيادة. وجرت العادة، في ظروف الحرب، أن نربط الإذاعة بالتلفزيون ونوحّد البث فيما يخص الأخبار المهمة جداً والبيانات الرسمية. وقد تعود العراقيون على توقع بيان هام أو خبر هام لمجرد أن يروني على الشاشة أو يسمعوني بالراديو. ومرت الأيام الأربعة ولياليها بكل ما ذقناه فيها من قلق وحماس وسهر وقلة نوم. نواصل البث أربعاً وعشرين ساعة دون توقف. نتناوب النوم في غرفة المذيعين على الأرض المفروشة بسجادة قديمة مثقبة وغير نظيفة. سليم المعروف، عبد اللطيف السعدون، حسين حافظ، طارق حسين، بهجت عبد الواحد، غازي فيصل، عبد الكريم الجبوري وغيرهم.
في احدى الملاعب الرياضية
وكان الرائد أحمد أبو الجبن مبعوثاً إلينا من الاستخبارات العسكرية ومداوماً معنا مثل أي واحد منا، يفحص الأخبار فقط من الناحية الأمنية والعسكرية. كان يجلس إلى جانبي في أستوديو البث ذات يوم. وبينما أنا منشغل بقراءة بيانات عسكرية، كان هو منشغلاً أيضاً، يقرأ ويجيز ويناولني لكي أذيع. لكنه وعلى غير العادة أمسك بورقة بيضاء وراح يكتب، ثم ناولني الورقة وأشار علي بإذاعة ما كتبه، فأذعت:
"أفادت القيادة العسكرية العراقية بما يلي: قامت طائراتنا بقصف مدينة كذا.. في فلسطين المحتلة، وأوقعت خسائر كذا.. وكذا، ثم عادت إلى قواعدها سالمة".
وحين انتهيت من القراءة بدأنا نذيع موسيقى عسكرية بعد أن أقفلت الميكروفون . قلت له: إن هذا خبر جيد، من أين جئت به؟ قال: من عندي، دعما للمعنويات. وخرجنا من الأستوديو لنستريح قليلا. بعد أقل من ربع ساعة أذاعت (صوت العرب) من القاهرة تقول: إليكم ما يلي: أذاع راديو بغداد ما يلي: أفادت القيادة العسكرية العراقية بما يلي: قامت طائراتنا.. إلى آخر الخبر الذي صاغه أبو الجبن دعما للمعنويات.
طبعاً لو كنا نطابق ما نذيعه نحن من أخبار أو ما نسمعه من الإذاعات الأخرى، على خارطة الواقع، لكنا حررنا فلسطين أكثر من مرة.
لكننا وبعد أيام من الخوف والقلق والعذاب وسهر الليالي، أذعنا أن الرئيس عبد الناصر قبل بوقف إطلاق النار. ثم اكتشفنا أننا فقدنا سيناء والجولان والضفة الغربية والقدس ومساحة من جنوب لبنان. أما نحن كعراقيين، فقد كانت لنا قطعات عسكرية وقوات جوية في مصر وسوريا والأردن – على ما أذكر. وعليه يصبح قبول السوريين والأردنيين بوقف إطلاق النار أمراً ملزماً للعراق.
هاج الدم في عروقي بعد أن سمعت الخبر. فبعد كل الدمار والضياع والدماء نقبل بالهزيمة وبصورة علنية وبشكل رسمي. كتبت ما يشبه التعليق أرفض فيه – باسم الجماهير العربية الصامدة في كل شبر من الوطن العربي – قرار وقف إطلاق النار، وأهاجم القيادات الغبية والمتهاونة، وأطالب بمواصلة القتال إلى ما لا نهاية، فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدى. كان شيئاً من كلام أيام زمان الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. دخلت أستوديو التلفزيون واتخذت مكاني في مواجهة الكاميرات وقلت للفنيين: يا الله يا شباب على الهواء. وانطلق صوتي عبر الإذاعة والتلفزيون معا.
لم أكن أعلم أن وكالات الأنباء كانت تترقب ما نذيعه وتتصيد مني ما عودتها عليه من بيانات مهمة وأخبار.
فراحت برقيات الوكالات تتلاحق: (العراق يرفض وقف إطلاق النار). (متحدث رسمي عراقي يعلن عدم القبول بما وافق عليه عبد الناصر).
كنت في مكتبي في قسم المذيعين حين طلبني العميد، وبلهجة الآمر العسكري قال:
تفضل إلى مكتبي. دخلت. قال انتظر، عندما يرن هذا الهاتف ارفع أنت سماعته وكلم المتحدث.
لم يطل انتظاري. رن الهاتف، رفعت السماعة: نعم تفضلوا الإذاعة والتلفزيون. وجاءني صوته. إنه هو السيد الرئيس عبد الرحمن عارف. قال:
من؟
قلت: تفضل يا سيادة الرئيس.
قال: من؟
قلت: أنا إبراهيم الزبيدي. قال: إبراهيم، خذ سيارة وتعال إلى القصر فورا. قلت: أمرك سيادة الرئيس.
قال: اسألني لماذا؟
قلت: لماذا يا سيادة الرئيس؟
قال: تعال صير رئيس جمهورية بدالي.
سكت لحظة، ثم قلت: سيادة الرئيس، أنا واثق من أن كلامي خارج من قلبك. فسكت هو، وسكت أنا، وساد صمت،
ثم قال: وضعتنا في موقف حرج وكبير مع الرئيس عبد الناصر. ثم سكت، وسكت أنا أيضا، وساد صمت جديد، ثم سمعته بصوت فيه ود وحنان:
زين يابا زين.
وأقفل سماعة التلفون.
سألني المدير العام عما حصل؟ قلت: قال: زين يابا زين. عاد وسأل: فقط؟ قلت: فقط لا غير.
*اغنية الفنان العراقي الكبير ناظم الغزالي ”يم العيون السود“ من أشهر الاغاني العراقية غيرت بعض مفرداتها إذ كانت:
يم العيون السود ماجوزن انا خدج الكيمر انا تريك منا
وباقتراح منك يومذاك استبدل المقطع الثان إلى
لونج الخمري سحر لكلوبنة. وتقبلها الغزالي بقناعة وغناها في حفلاته وتسجيلاته.....هل تذكر ألتفاصيل؟؟
- يفهم بعضهم التواضع دليلاً على ضعف صاحبه. إلا أن الحقيقة هي أن الغصن الذي يحمل ثمراً أكثر من غيره ينحني ويتدلى إلى الأرض حتى ليكاد يلامسها في أغلب الأحيان. أما الغصن الفارغ فيشمخ إلى الأعلى، خفيفاً تؤرجحه الرياح العابرة. أما صاحب الموهبة أو العلم فيدرك قبل غيره أنه أصغر مما يظنه الآخرون وأنه أحوج إلى المزيد.
ناظم الغزالي واحد من هؤلاء الذين تواضعوا، لا عن فراغ أو جبن أو خوف أو قصور، بل عن اقتدار ومعرفة أكيدة بما لديه من خزائن ثمينة.
في عام 1962 لم أكن سوى مذيع صغير. وكان الغزالي في عز مجده وعنفوان شهرته. جذبني ذات مرة صوته آتياً من أستوديو تسجيل الأغاني. فدخلت متطفلا يدفعني حبي لغنائه وإعجابي بشخصيته. كان مهندس الصوت (محمد علي صبري) والغزالي ومجموعة من الموسيقيين يستمعون إلى أغنية أنهوا تسجيلها لتوّهم.
وكانت واحدة من الأغاني الشعبية العراقية القديمة التي جددها الغزالي، تقول:
يم العيون السود ما أجوزن أنا
خدچ الگيمر أنا أتريك منه.
وكان علي أن أستمع وأصمت. فأنا أصلاً متطفل، وعلى يساري لافتة معلقة على جدار الأستوديو تقول: (ممنوع دخول من ليس له عمل). لكنني لم أحتمل الصمت وليكن ما يكون.
قلت: أستاذ ناظم، هل لي بكلمة؟
قال: تفضل.
قلت: لا تغضب مني، ففي رأيي أن الشطر الذي يجعل من خد حبيبتك (گيمر) يحتاج إلى خبز وقدح شاي ليكتمل الفطور.
قال: لم أفهم.
قلت: إن تلك صورة لا تليق بناظم الغزالي بالذات. كيف تهين خد المرأة وتجعله (گيمر تتريگ منه)؟
كانت مفاجأة للجميع. وقرأت في عيون الجميع ذلك النوع من الاستهجان المشوب بالسخرية والاستهانة، إلا ناظم الغزالي. فقد ابتسم واقترب مني قليلاً، وضحك وقال: (وأظنه أراد اختباري):
وماذا تقترح أن أقول بدلا من ذلك؟
أجبت على الفور ودون تفكير: مثلا: لونچ الخمري سحر لقلوبِنا.
صمت قليلا ثم قال: والله معك حق. أعدك، لو أعدت تسجيلها مرة ثانية، فسوف أغيرها.
وبالفعل، حين سافر إلى لبنان بعدها بأشهر، أعاد تسجيل الأغنية بالمقترح الذي تواضع وقبل به من مذيع صغير. وهناك الآن نسختان من الأغنية، واحدة بـ(گيمر) وفطور يملأ اليدين دهنا ورائحةَ (زفر)، وأخرى بلون خمري يسحر القلوب وليس البطون.
* في شتاء عام ١٩٧٣ التقيت مع صدام حسين الذي جاء لزيارة مبنى الاذاعة، وكان لقاؤكم مصادفة، وبعد خروجك من المقابلة أحسست في حينها بانه غير مرتاح منك. في تلك الساعة بالذات قررت الخروج من العراق ....لماذا هذا ألحدس؟
- في شتاء عام 1973، طلبني الصحاف لأمر هام، وحين ذهبت لأراه وجدت على مدخل مكتبه رجالا مدججين بالسلاح لا تستقر عيونهم على مكان، يراقبون كل شيء. فهمت على الفور أن مسؤولا غير عادي يقوم بزيارتنا ذلك اليوم. دخلت عليه كعادتي فإذا بي وجهاً لوجه وعيناً بعين مع صدام حسين. تراجعت وأردت أن أغلق الباب ورائي، لكنه دعاني إلى الدخول. وأنا في طريقي إليه كنت أفكر بالصيغة التي أسلم بها عليه. هل أناديه (أبو عدي)؟، قد لا يحب أن أظهر أمام الصحاف تلك الألفة التي كانت بيننا. هل أناديه (السيد النائب)؟ قد يظنني أنافقه. هل أناديه: أستاذ صدام؟ ربما سيظن أنني أتهرب من مناداته بـ(سيدي) ترفعاً وكبرياء؟ كل هذا دار في رأسي في تلك الثواني القليلة وأنا في طريقي من باب مكتب الصحاف إلى حيث صدام يقف ويمد يده استعداداً للمصافحة. ألهمني الله أن أسلم عليه بصيغة وسط لا تغضبه ولا تحرجني. قلت: السلام عليكم. فصافحني وجلس وجلست. كان الصحاف يجلس على أحد الكرسيين الموضوعين أمام مكتبه. فنهض وتنازل لي عن كرسيه وسحب كرسياً ثالثاً له. فجأة بدأ صدام يسألني عن الحال والعمل والأولاد والأهل في تكريت. كان يحادثني وعيناه تدوران يميناً وشمالا. وكلما التقتا بعينيَّ يبعدهما بسرعة. كانت دقائق ثقيلة مملة طويلة. نهضت واستأذنت بالانصراف بحجة أنني لا أريد أن أشغله أكثر، وقد يكون لديه حديث خاص مع الصحاف. وخرجت.
كنت في غاية الارتباك. فقد أحسست بما لا يقبل الشك أنه لا يطيقني ولا يريد رؤيتي. ثم تداعت في نفسي ذكريات الماضي كلها. أيام الجوع والفراغ والشقاء. وبدأت تتسارع في نفسي صور رفاق طفولته المقربين وقد بدأوا يتساقطون الواحد بعد الآخر، في ظروف وأسباب متفرقة. حوادث السيارات واغتيالات بأيدي مجهولين. وتأكدت من أنه لا يريد أن يلتقي بواحد من رفاق طفولته ممن يذكره بماضيه وبحكاياته الكثيرة التي لا تليق بمن أصبح ثاني رجل في الدولة ويخطط ليصبح الأول والوحيد.
في تلك الساعة بالذات قررت أن أرحل عن العراق بأي ثمن وعن أي طريق. كان الصديق الشاعر الرقيق شاذل طاقة وكيلاً لوزير الخارجية. ذهبت فوراً للقائه في مكتبه وأخبرته بما حدث، ورجوته أن يساعدني على الخروج. غضب مني وقال:
إنك واهم.وساوسك هذه لا مبرر لها. إن أبو عدي زهرة الحزب وشباب الثورة.
قلت له:
أترك لكم هذه الزهرة، ودعوني أخرج من هنا على قدمين.
وحين وجدني مصراً وعدني خيراً، واقترح علي أن أوفد للعمل في السفارة العراقية في بيروت مديراً للمركز الثقافي المزمع افتتاحه هناك، ومستشاراً صحفياً فيه. ولم يخلف وعده. وصدر أمر نقلي من الإذاعة إلى ديوان وزارة الإعلام، ومنه إلى الخدمة الخارجية. وتسلمت جواز السفر الدبلوماسي وتذكرة الطائرة، وتم كل شيء بسرعة وهدوء.
قبل موعد السفر بأيام، مررت على الصحاف لوداعه وتسليم ما في عهدتي من أمور. فوجدته يضحك بخبث. وكنت أعرف أن ضحكته تلك تخفي خبرا غير سار. سألته عما يضحكه فاعتذر وقال:
لا أريد أن أكون أنا من يبشرك، دع غيري يفعل ذلك.
هنا تأكدت من أن شيئا في غاية السوء قد وقع.
وحين ألححت عليه قال:
يبدو أنك عائد إلينا. فقد ألغي أمر نقلك إلى بيروت وإلى الوزارة.
لكنه لم يخبرني بمن ألغى الأمر ولماذا. زعم أنه لا يعلم.
وذهــبت إلى وزير إعلامنا حامد الجبوري فأنكر معرفته. فطلبت منه إجازة أسبوعين أقضيها خارج العراق للراحة والاستجمام، وأقنعته بأنني متعب ومتوتر ولا أستطيع العودة إلى العمل الآن. ووافق في النهاية.
أخذت موافقته ونزلت بها على مدير الإدارة والذاتية في الوزارة، الصديق سعدي محمد صالح.
سألني عن موعد المغادرة، فحددت له الموعد بعد يومين. وعاد وسأل عن موعد العودة، فقلت له إنه واضح أمامك من مدة الإجازة. أي أنني سأعود إليكم في الأسبوع الثالث من كانون الثاني/ يناير. فابتسم ابتسامة خبيثة حميمة وسألني: من أي عام؟
وهكذا كان. خرجت وامتد الأسبوعان إياهما من أول عام 1974 إلى اليوم. لم ينتهيا بعد. لكنني اليوم متفائل أكثر من أي وقت مضى.
* وفي نفس السنة أسس بول بريمر (المجلس الأعلى للثقافة) وتولّيت رئاسة هذا المجلس، وفي عام ٢٠٠٧ بالعاصمة الأردنية عمان قمت بتأسيس الـ(المجلس العراقي للثقافة)......ماقصة هذين ألمجلسين؟
- بريمر لم يؤسس مجلسا للثقافة. كنا نحن أعضاء لجنة إعلامية ضمن المجلس العراقي لإعادة الإعمار IRDCالذي يرئسه الزميل عماد ضياء الخرسان، سامي العسكري، محمد عبد الجبار الشبوط، إبراهيم أحمد، صادق الصائغ وأنا. ومن مسؤوليتنا الثقافية الوطنية العراقية حاولنا أن نؤسس مجلسا ثقافيا يضم أغلب المثقفين العراقيين يقومون هم بإدارته وتنظيم أعماله. ولكن الفكرة دفنت مبكرا وبعد اجتماعين تحضيريين فقط. وقد أثارت الأحزاب المذهبية حوله عاصفة من التشويش والتلفيق والتشهير. هذه هي الحقيقة، ويعرفها جيدا كل من حضر الاجتماعين من أدباء وصحفيين وفنانين وأكاديميين.
وبعد أن تركت العراق بقيت الفكرة تدور في خاطري، فحاولت إحياءها، ونجحت، ولكن هجمة الأحزاب الطائفية ذاتها، وشتائم كتاب مخابرات إيران وسوريا، ضدي شخصيا، كانت حربا لا رحمة فيها، أجبرتني على التراجع وغلق المجلس، وأنا آسف عليه وحزين.
لقاء مع الجواهري
* في عام 2002 أيضاً أصدرت كتابك دولة الإذاعة، مؤرخاً فيها الفترة التي عاصرت فيها أهم الاحداث التي مر بها العراق تلك الفترة....هل هو سرد ذاتي؟
- كتاب دولة الإذاعة مجرد سرد قصصي بسيط لبعض ما شاهدته في حياتي العملية، نقلته بأمانة، بقدر ما أسعفتني الذاكرة. فقد كتبته وأنا في الغربة بعيد عن مكتبتي وأوراقي وصوري وملفاتي. ولكن من خلال الجو العام لطريقة استقبال قرائه أستطيع أن أقول إنني سعيد لأن صدقية الكتاب كانت موضع إشادة من أغلب من عاصر تلك الوادث والتقلبات. وقد أعيدت طباعته خمس مرات آخرها 2010.
* أول زيارة قمت بها لدمشق كانت في ١٩٩٠ بهدف التعرف على المعارضين العراقيين، وحثهم على الالتفاف حول الإذاعة المنوي إطلاقها في أول يوم من عام ١٩٩١. وتشاء المصادفات أن يكون أول من تعرفت عليه وأجريت معه أول حديث مسجل للإذاعة هو نوري المالكي أو أبو إسراء المالكي. في غرفة متواضعة صغيرة في حي السيدة زينب. ماهي الانطباعات الأولى عنه؟
- أول زيارة قمت بها لدمشق كانت في أواسط تشرين الثاني/نوفمبر عام 1990 بهدف التعرف على المعارضين العراقيين، وحثهم على الالتفاف حول الإذاعة المنوي إطلاقها في أول يوم من عام 1991. وتشاء المصادفات أن يكون أول من أتعرف عليه وأجري معه أول حديث مسجل للإذاعة هو جواد المالكي أو أبو إسراء المالكي. في غرفة متواضعة صغيرة في حي السيدة زينب. واستمرت علاقتنا المهنية، وليست الشخصية، إلى ما قبل سقوط النظام بقليل. وأنقل هنا من أحد دفاتري القديمة هذه الانطباعات الأولى عنه:
أولا: إنه إنسان بسيط غير متعلم تعليما أكاديميا متخصصا، وليس له خبرة سابقة في الإدارة أو السياسة أو الاقتصاد.
ثانيا: مغرق جدا في تعصبه الطائفي، ومبالغ في ولائه لحزب الدعوة، وكرهه المبطن لباقر الحكيم وللمجلس الأعلى للثورة الإسلامية.
ثالثا: علاقته وثيقة جدا بالمخابرات السورية، من خلال أحاديث جانبية معه أكد لي فيها استعداده لاستقبال من أزكي له من المعارضين الراغبين في الخروج من العراق، وتزويدهم بجوازات سفر سورية، فورا ودون عقبات. وكنت قد قصصت عليه معاناة بعض الهاربين من بطش النظام.
رابعا: لم أحترم إصراره على استخدام الاسم المستعار. فإن كان يظن أنه يخدع مخابرات صدام فهو واهم. فهي تعرف كل شيء عنا واحدا واحدا، خصوصا أؤلئك المعارضين البارزين أمثال المالكي وبيان جبر الذي صار فيما بعد باقر صولاغ الزبيدي.
خامسا: أعلن في الحديث الأول لإذاعتنا أنه ضد الحل الأمريكي، وأن حزبه ثابت على مبدأ مواجهة نظام صدام بالقوى الذاتية للشعب العراقي. متهما من يحاول ترويج الحل الأمريكي بالخيانة. هل يستطيع حزب الدعوة تغيير النظام بقدراته الذاتية، وسوريا تتعاون مع صدام، وإيران تساعده على تهريب النفط العراقي عبر مياهها الإقليمية؟
سادسا: أطال في تبرير رفضه لطائفية صدام حسين، وخاصة اعتمادَه على الولاء فقط في تعيين مساعديه ومستشاريه وافراد حكومته. هل يستطيع المالكي، لو وصل إلى السلطة، أن يتخلى عن الطائفية؟. ملاحظة: ما زلت أحتفظ بنسخة من ذلك الحديث مسجلة على CD للذكرى والتاريخ.
*لماذا أخترت ألاستقرار بأميركا ....وماهي نشاطاتك؟
- وهل هناك أفضل منها؟ منحتني الحرية والكرامة والنظام والهواء النقي والأصدقاء. لم أختر مهنة غير التي أظن أنني أجيدها. الإذاعة والتلفزيون. أسست محطة تلفزيون عربية في ولايات عدة، ولم أترك العمل فيها إلا بعد أن طلبت لإشاء إذاعة المعارضة في جدة عام 1990.
* ماهو تقييمك لتجربة المجلة ألثقافية ألگاردينيا ....وكيف تصف علاقتك بالسيد مدير ألموقع ألاستاذ جلال چرمگا.....وهل تتابع فقراتها
- أخي وصديقي العزيز جدا كاكا جلال چرمگا يعرف رأيي فيه وفيها. هذا الرجل عراقي نقي وشجاع ونزيه. والمجلة ممتعة وذكية ومسلية وعراقية بدون رتوش.
* كلمة أخيرة لقرائك في فقرة فنجان قهوة في مجلة ألگاردينيا
- كلمتي الأخيرة هي أنني أشعر بأم مشواري كله كان سطحيا وعابرا ولم أنجز شيئا له قيمة. أشعر بأسف وندم بلا حدود. وشكرا لك أيتها الزميلة الذكية، والقارئة الممتازة، والسلام.
أما كلمتي ألاخيرة فأقول .....يقول ألمثل أصنع ألمعروف مع الشيطان، يمنحك الجحيم مكافئة ....فهل ألتقى ضيفنا ألاستاذ أبراهيم ألزبيدي في مسيرة حياته بمن هم أسوأ من ألشيطان نفسه ....لهذا لم يمنحه أحد
أقل ما يستحق ....
في أمان ألله لضيفنا .....ولكم
1395 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع