فيلم "خلي بالك من زوزو" بات في وقت من الأوقات عنوانا عريضا للإسفاف الفني والسقوط الأيديولوجي لدى قسم كبير من حماسيي اليسار العربي.
صحيفة العرب:“خلي بالك من زوزو” فيلم سينمائي لا يزال يستفز النخب الثقافية ويحرجها في الدلالة على أنّ ما تعشقه الجماهير ليس بالضرورة ذاك الذي يطنب النقاد المتخصصون في تمجيده، واعتباره من “الروائع” التي عادة ما تشاهدها قلّة، تتبادل السجال حولها دون أن يكترث إليها أحد. شريط، وعلى الرغم مما يعرف بالسينما البديلة والطليعية، يعد واحدا من أهم 100 فيلم سينمائي في تاريخ السينما المصرية والعربية، على الإطلاق، وذلك ضمن قائمة أجراها نقاد ومتخصصون عام 1996. أنجز هذا العمل الذي ظل عالقا في ذاكرة الأجيال وكل من شاهده، المخرج الراحل حسن إمام، سنة 1972 وكان من تأليف الشاعر والكاتب صلاح جاهين، وبطولة الفنانين سعاد حسني، حسين فهمي، تحية كاريوكا، سمير غانم، محيي إسماعيل، المغني الشعبي شفيق جلال، وآخرين.
بعد ما يقارب النصف قرن على ظهور هذه الرائعة السينمائية التي حفرت في وجدان الذائقة العربية، لا يمكن لنا أن نتساءل عن مكمن سحر هذا الفيلم الذي طالما شدّ نقادا في السر، وأثار حفيظتهم على العلن، مدّعين بأنه ينتمي إلى موجة “سينما المقاولات والانفتاح، بعد سنوات الالتزامات والانضباط”.
كل ما في الأمر أن السينما المصرية قد تحررت من الوصاية السياسية السائدة في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، وأرادت في فترة أنور السادات، أن تحلّق في ما يحبه المزاج المصري العاشق لأجواء الحب و”الفرفشة” كما هو الحال قبل ثورة يونيو 1952، فـ”ما أقصر العمر أن نضيعه في النضال” على حد زعم محمد عبدالوهاب، في الأغنية التي انتقده عليها الكثير من الثوريين.
قصة الفيلم لا علاقة لها بالشعارات الكبيرة والجمل المنتفخة التي كانت سائدة في فترة ما يُعرف بالمواجهة والمد الثوري. إنها حالة حب لا أكثر ولا أقل: زينب عبدالكريم (سعاد حسني) طالبة متألقة، محبوبة وخفيفة الظل من كلية الآداب، لكنّ سرا اجتماعيا، تخفيه عن زميلاتها، وينغص عليها فرحتها في حالات الصفاء، وهو أن حياة مزدوجة كانت تعيشها، وتشكّل عقدة الفيلم الدرامية، تتمثل في كونها “زوزو” ابنة “الست نعيمة ألماظية” (تحية كاريوكا)، واحدة من أشهر راقصات شارع محمد علي، وتشارك والدتها الحفلات الخاصة والوصلات الاستعراضية في أجواء ماجنة لا تليق بطالبة جامعية.
زوزو الرقيقة تتعرض للتنمر والتحرش من طرف زبائن الليل، ويصادف أن تتعرف على “سعيد”، مخرج مسرحي من أصول أرستقراطية (حسين فهمي) كانت الكلية قد استضافته في ندوة، وبالمصادفة الميلودرامية المعهودة في الأفلام المصرية.
تنشأ قصة حب غير متكافئة طبقيا بين الإثنين، ذلك أن ابنة زوجة أبيه، تحبه لنفسها وتصطنع المكائد والدسائس، كما يمكن أن يحدث في أي قصة تشبه أسطورة سندريلا أي جمال الفقراء وبساطتهم في مواجهة عنفوان الأغنياء وسطوتهم.
موجة من الانتقادات
صراع القيم كان حاضرا في قصة فيلم “خلي بالك من زوزو” إذ تقرر زوزو، التخلي عن حبها مقابل حفظ ماء أسرتها وكرامتها، وتستسلم لأمر مفاده أن هذا هو قدرها، فتقرر العودة إلى الرقص في الكباريهات، وكأن ذلك قدرها المحتوم.
يصل الخبر إلى زميلات زوزو في الجامعة فيقررن إنقاذ هذه الفراشة الوديعة اللطيفة من براثن الانحدار نحو الهاوية، ويساعدهن في ذلك موقف الأم (تحية كاريوكا) التي لا تروم لابنتها نفس المصير في موقف “أخلاقوي” يتخذ من مبدأ اتباع الدراسة مصيرا ينتصر لما يجب أن يكون، ضمن في مثل هذا المأزق الدرامي.
ومثل كل النهايات السعيدة، يساعد زملاء زوزو، زميلتهم في العودة إلى مقاعد الجامعة، وتعود إلى حبيبها سعيد في نهاية تليق بفراشة الجامعة، و”السندريلا” التي أدهشت الجميع في أكثر من لوحة استعراضية راقصة، كانت في الأصل ذريعة من المخرج حسن إمام، وفريقه الفني، لإبراز قدرات الفنانة المدهشة سعاد حسني.
قصة الفيلم تبدو عادية ومتوقعة، لكن المعالجة الدرامية، والأداء التمثيلي، قد بلغا حد الإدهاش، ذلك أن الوصلات الغنائية والمشاهد التمثيلية، تخطف الألباب، وتروي تعطشا إلى أزمنة الحب الرومانسي التي افتقدها الجمهور المصري والعربي، عموما، طيلة سنوات الالتزام بـ”قضايا الأمة ومصائرها القومية” التي حاول الناصريون تكريسها دون وعي بالجماليات الفنية والاحتياجات الشعبية الرومانسية التي تطبع الذائقة المصرية منذ أفلام حلمي رفلة، وإنتاجات طلعت حرب.
جوبه فيلم “خلي بالك من زوزو” بموجة من الانتقادات بلغت حد التخوين الوطني والعمالة للأجنبي في انتقاد صريح لسياسة الانفتاح التي انتهجها الرئيس الراحل أنور السادات، لكن مخرج الفيلم حسن إمام، نال جائزة “جمال عبدالناصر التذكارية” من الرئيس أنور السادات عام 1974 وتفوق شريطه من حيث الإيرادات على فيلم “أبي فوق الشجرة” الذي أنجز عام 1969.
وكأن فيلم “أبي فوق الشجرة” الذي كان من بطولة عبدالحليم حافظ ونادية لطفي، وتأليف إحسان عبدالقدوس، قد سلّم المشعل إلى “خلي بالك من زوزو” ومن سوف يأتي بعده من أعمال تعيد للرومانسية مجدها، وتعلن هزيمة أفلام الدعاية السياسية والتعبئة الثورية.
بات فيلم “خلي بالك من زوزو” في وقت من الأوقات، عنوانا عريضا للإسفاف الفني والسقوط الأيديولوجي لدى قسم كبير من حماسيي اليسار العربي، إلى درجة أن شاعرا فلسطينيا يسكن دمشق (يوسف الخطيب) قد كتب يوما، متهكما، قصيدة مطلعها من “خلّي السلاح صاحي إلى خلّي بالك من زوزو” لكن هذه الموجة، سرعان ما خفتت، وصار جميع الناس، يستمتعون -دون استثناءـ بأغنية سعاد حسني “يا واد يا تقيل”.
ترى، ما السر الذي جعل من حكاية مستهلكة، تكاد تكون على قارعة الطريق في أحياء مصر، تتحول إلى ما يشبه الأسطورة التي لا يمل الناس من مشاهدتها إلى حد الآن، منذ ما يقارب نصف قرن؟ ما الذي جعلها تستوطن في المخيال الشعبي، وتمسي شاهدا على ما اعتدنا تسميته بالزمن الجميل؟
إنه، وبلا أدنى شك، السأم من الشعارات الفضفاضة، والحنين إلى أزمنة الرومانسية، خصوصا وأن بطلة الفيلم، واحدة اسمها سعاد حسني، تلك التي استحقت لقب “سندريلا الشاشة العربية” عن جدارة، بخفة دمها، وحضورها المبهج.. وكأنها تقول لكل الجماهير العربية: ما زال هناك وقت للحب في أوقات التجهم والعبوس.
من منّا لا تحركه أغنية “يا واد يا تقيل”، ولا يتمنى أن يكون بدل حسين فهمي، الوسيم الذي نجح في أداء دور “الولد الثقيل” أمام بنت الطبقة
الفقيرة التي تعشق ابن “الذوات” في أكثر من فيلم مثل “أميرة حبي أنا” لحسن الأمام، نفسه، و”المتوحشة” للمخرج سمير سيف، لكن “خلي بالك من زوزو” يبقى الأيقونة السينمائية التي طبعت سبعينات القرن الماضي دون منازع.
ثمة خلطة سرية تشبه البهارات الهندية في هذا الفيلم العجيب، فعلى الرغم من بساطة حكايته وعفويتها التي تبلغ درجة الميلودراما الهندية، إلا أن صانعها جعل منها شريطا آسرا بفضل توابل استعراضية وموسيقية كانت تتزعمها سعاد حسني ومن خلفها الملحن الكبير كمال الطويل، الذي لحن غالبية أغاني الفيلم.
فيلم “خلّي بالك من زوزو” لا يخلو من طرائف وحكايات جانبية تعلقت بظروف تصويره وإنتاجه وعرضه مثل أي عمل أسال الكثير من الحبر وحتى التقولات والإشاعات، ذلك أنه ملأ الدنيا وشغل الناس لفترة طويلة من الزمن، واحتلت ملصقاته الصدارة في كل قاعة عرض تحتفي به داخل مصر وخارجها.
آثار هزيمة 1967
بلغت شهرة الفيلم درجة تختلط فيها الحقيقة بالخيال، وتُروى عنه الإشاعات والأكاذيب والقصص المغرضة والملفقة والمسيئة للعرب أحيانا، إلى درجة أن بعض الجهات الأمنية الغربية، وكلما اشتبهت في “عناصر عربية”، عمدت إلى عرض هذا الفيلم في إحدى أكبر صالات البلد لتجميع “المشتبه بهم” في مكان واحد، ومن ثم التحقيق معهم وإحالتهم إلى القضاء.
“الكاستينغ” أو اختيار العاملين الذي رافق الفيلم، حمل بدوره الكثير من عناصر الغرابة والطرافة مثل الحديث عن تحية كاريوكا، التي جسدت دورها ببراعة تجعلنا نتساءل: كيف استطاع المخرج حسن الأمام أن يقنعها بأن تعود للرقص مرة أخرى بعد أن كانت قد اعتزلته لفترة طويلة، ويقدم فاصلا من السخرية منها ومن شكلها وهي في الواقع صاحبة التاريخ الفني الكبير؟ كما تحدثت الصحافة الفنية، وبإسهاب عن أجور الممثلين كالممثل حسين فهمي الذي تقاضى أجرا كبيرا في تلك الأوقات، مقارنة مع اليوم.
يقول المقربون من هذا العمل إن قصة الفيلم منسوبة في الأصل لحسن إمام، وكان في البداية مقترحا لفيلم يحمل اسم “بنت العالمة”، لكن الشاعر صلاح جاهين، والذي أعاد كتابة السيناريو من جديد وأضاف له الحوار، غيّر اسم العمل إلى “خلي بالك من زوزو” تماشيا مع أغنيته الشهيرة.
وتعرّض جاهين، لهجوم حاد من بعض الصحافيين الذين استغربوا واستهجنوا منه هذا “الانحراف” وهو الذي قدّم الكثير من الأغاني “الوطنية الملتزمة” فكيف يؤول به الأمر إلى هذا “الإسفاف” في حد زعمهم؟ الأمر في غاية الدقة و الحساسية، خصوصا إذا علمنا بأن الرجل قد مرّ بحالة من الغضب ومن ثم الاكتئاب إثر هزيمة يونيو 1967 وما خلفته من انتكاسات حمّلها الكثير إلى الزعيم الراحل جمال عبدالناصر وشعاراته البراقة التي لم تنتج إلا المرارة، في نظرهم.. فحان موعد العودة إلى الفرح المشتهى في نظر عشاق الرومانسية.
أما من الناحية الفنية فقد كان متقنا من حيث كل مكوناته وعناصره التقنية، مستفيدا في ذلك من إرث سينمائي كان لا يزال العديد من صناعه في مصر رغم ما لحق بهم من طرد وإقصاء وتهميش في ظل المتغيرات السياسية التي أعقبت انقلاب الضباط الأحرار في يونيو 1952.وبرز ذلك واضحا في أسلوب التصوير واللوحات الاستعراضية التي قادها كمال نعيم وألف خلفياتها الموسيقية كمال الطويل، بالإضافة إلى المغني الشعبي شفيق جلال.
سعاد حسني كانت سر إنجاح العمل دون الاستهانة ببقية العناصر الأخرى، وعلى الرغم من أن النجمة، آنذاك، لبنى عبدالعزيز، كانت قد قالت إنها هي المرشحة الأولى للفيلم لأداء دور زوزو، وتعاقدت مبدئيا مع المخرج حسن الإمام ولكن، وحسب روايتها، تقول إنها ارتبطت بالسفر مع زوجها للولايات المتحدة عام 1972 فاعتذرت عن الفيلم، إلا أن سندريلا الشاشة العربية هي التي ارتبط اسمها بذلك النجاح الكاسح دون منازع.
ويذكر أن الفيلم قد ساهم في إبراز أسماء لمعت في سماء الكوميديا في ما بعد على شاكلة سمير غانم، ووحيد سيف، ومحمد متولي وغيرهم، وكذلك الأداء المتميز لعلي جوهر ومنى قطان، كما أنه لفت الانتباه إلى أهمية الاستعراض الغنائي أو ما يعرف بـ”الميوزكال” كجنس فني انقطع بتعثر وتوقف أفلام ما قبل ثورة يونيو التي أقصت وهمّشت رواده ممن كانوا يعرفون بـ”خواجات السينما المصرية”.
العرض الأول للفيلم كان في 6 نوفمبر عام 1972، وحقق رقما قياسيا في مدة العرض عندما استمر عرضه لأكتر من 54 أسبوعا، فكسر بذلك الرقم الخاص بفيلم “أبي فوق الشجرة” عام 1969 والذي كان 52 أسبوعا.
https://www.youtube.com/watch?v=fzY4TZeSGrM
937 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع