د. محمد عبد الستار البدري:إذا كان المسلمون قد ابتلاهم الله بالحملات الصليبية على مدى قرن ونصف القرن من الزمان، إلا أنه لم يدر بخلد أحدهم أن الطامة الكبرى كانت آتية، فلقد وقع العالم الإسلامي، خاصة مصر والشام، في مأزق عظيم،
فلقد أتى المغول من الشرق يدمرون كل شيء بينما الصليبيون يأتون من الشمال بهدف القضاء على الدولة الإسلامية، والأسوأ من ذلك هو أن تحالفا بدأ يلوح في الأفق بين الطرفين، كل لأهدافه، والعالم الإسلامي هو الفريسة المنتظرة، خاصة أن الدولة الأيوبية لم تكن في أحسن أحوالها، فلقد سلم الكامل القدس للصليبيين لأسباب غير مفهومة، أغلب الظن أنها تتصل باسترخائه وعدم رغبته في استمرار المقاومة أكثر من خيانته، بينما أصبحت مصر تترنح تحت حكم من أتى بعده من أولاده، إلى أن دانت البلاد للصالح نجم الدين أيوب الذي ملك البلاد، ولكن الأنباء جاءت له بغير ما كان يأمل أو يتوقع، فلقد استعدت حملة صليبية جديدة للسيطرة على مصر في الوقت الذي وقعت فيه شرق دولته فريسة للغزو المغولي التدريجي بعدما وقعت بغداد واستباح المغول المشرق تماما.
على نفس غرار الحملات السابقة، فلقد تدخل البابا «أينوشنتي الرابع» في هذا الشأن بالاتفاق مع الملك لويس التاسع ملك فرنسا لتسيير حملة إلى مصر يكون الهدف منها هو تحقيق ما فشلت فيه الحملة السابقة بعد هزيمة دمياط، وكانت الأهداف واحدة، ملك متسرع يهدف إلى الفوز بالدعم الإلهي والشهرة في أوروبا وتثبيت أركان حكمه بذلك المجد الجديد، وبابا متعطش لفرض السيطرة على مدينة بيت المقدس التي كانت قد سقطت لصالح البيت الخوارزمي في عام 1245، فضلا عن ضمان التحالف القائم بين بعض الممالك الأوروبية والبابوية، وهكذا انطلقت الحملة بعد تجهيز دام قرابة أربعة أعوام أمضى بعضها الملك في قبرص يعد العدة للنزول لمصر في ميناء دمياط، وقد اختار الرجل صيف عام 1249 لبدء الحملة الصليبية السابعة على مصر أملا في إخراج مصر من معادلة القوة الإسلامية ليستولي بعدها على الشام وتقسيم الممالك الإسلامية مع المغول، ولكن مصر كانت لها رؤيتها الأخرى والمختلفة.
وصل الملك لويس لدمياط وقد استسلمت المدينة له دون إراقة أي دماء على الإطلاق في تخاذل ملحوظ لا يليق بمن حاربوا قبلها بثلاثين عاما معركة شرسة هزمت الحملة الصليبية السابقة، وقد جعل لويس من دمياط رأس الجسر الذي من خلاله بدأ يجهز للقضاء على القوة الأيوبية المتبقية في مصر، وعلى الفور بدأ السلطان نجم الدين في تجهيز جيشه من المماليك، وهم مجموعة من العبيد الذين استجلبهم البيت الأيوبي كنوع من الحرس أو الميليشيات الخاصة على مدار السنوات الماضية وفق ما كانت العادة في ذلك الوقت، وقد بدأ يحصن مدينة المنصورة من أجل التجهيز للمعركة الفاصلة فيها، ولكن القدر لم يمهله، فلقد وافته المنية بعدما أصيب بمرض صدري، وقد أنقذ القدر مصر مرة أخرى، ولكن في هذه المرة على أيدي امرأة عرفت في التاريخ المصري بـ«شجر الدر» أو «شجرة الدر»، وهي جارية أرمينية كانت متزوجة من السلطان، فأخفت خبر وفاته عن الجميع واستدعت ابنه «توران شاه» من العراق، حيث سلمته مقاليد الأمور في البلاد، ورغم أن السلطان الجديد لم يكن على شاكلة أبيه، فإن وجوده كان مهما للغاية لتوحيد الدولة في هذا الوقت الدقيق والحساس، وقد اندلعت المعركة بالقرب من قرية فارسكور، حيث أبلى المماليك، خاصة «بيبرس البندقداري»، بلاء حسنا ووحشية ملحوظة للقضاء على الجيش الصليبي، وبالفعل هزمت الحملة الصليبية هزيمة نكراء، وقد اضطر لويس التاسع لخوض مناوشات متجددة مع المماليك في مدينة المنصورة أسفرت عن أسره واحتجازه أسيرا في دار ابن لقمان، وبأسره وتشتيت جيشه لم يكن هناك بد من التوقيع على اتفاق تم بمقتضاه إجلاء الحملة الصليبية عن مصر ودفع فدية باهظة نظير إطلاق سراح الملك، وقد أنشد أحد الشعراء قصيدة للملك لويس التاسع جاء فيها:
خمسون ألفا لا يرى منهمو إلا قتيل أو أسير جريح وفقك الله لأمثالها لعل عيسى منكمو يستريح إن كنت عولت على عودة لأخذ ثأر أو لنقد صحيح دار ابن لقمان على حالها والقيد باق والطواشي صبيح لقد كانت معركة المنصورة بحق بداية النهاية الحقيقية للحملات الصليبية، فلقد كانت آخر حملة منظمة وممنهجة، فلم تستطع أوروبا أن تجمع حملة أخرى مثلها لتحقيق الحلم الذي داعب أوروبا منذ عام 1095، فقد انهار الحلم بعدما فشلت الجهود العسكرية للقضاء على قاعدة المقاومة الإسلامية ممثلة في مصر، وهو ما اضطرها إلى الاكتفاء بالممالك التي كانت لا تزال تتمركز حول الساحل الشامي، وعلى رأسها مدينة عكا ذات الأسوار المنيعة، وعدد من المدن الساحلية الأخرى، منها مدينة طرابلس وبيروت، فضلا عن إمارة أنطاكية التي كان لها موقع خاص في قلوب الصليبيين باعتبارها ثاني إمارة تتكون كما تابعنا، وكانت هذه الممالك أو المستعمرات مبعثرة دون قيادة صليبية موحدة، مما جعلها قابلة للاحتواء والتصفية.
على كل حال فإن الأحوال في مصر سرعان ما اضطربت بعدما قتل السلطان توران شاه بسبب سوء إدارته للبلاد وعدم قدرته على التعامل مع المماليك الذين يرجع لهم الفضل في القضاء على الحملة الصليبية، فكانت النتيجة قتل السلطان على أيدي بيبرس البندقداري، وتم إسناد حكم مصر لأول مرة منذ الفتح الإسلامي لامرأة هي «شجر الدر» التي اختارت الأمير «أيبك»، أحد كبار المماليك زوجا لها، وقد استمر حكمها المشترك مع السلطان أيبك لمدة سبع سنوات انتهى بمقتلهما، ويقال لأسباب تتعلق بالغيرة الزوجية بسبب جارية، وأيا كانت الأسباب فلقد استولى المماليك على الحكم في البلاد مباشرة بعدما كان الخطر المغولي محدقا بالبلاد، وتم اختيار المظفر قطز لتولي الجيش المصري الذي هزم المماليك في معركة عين جالوت الشهيرة، ولم يهنأ الرجل بنصره إذ سرعان ما قتله الظاهر بيبرس الذي تم تنصيبه سلطانا على البلاد فدانت له مصر بالكامل والممالك التابعة لها بلا أي خلافات.
كان لهزيمة المغول وانحسار مدهم السياسي أثره المباشر على أحوال المستعمرات الصليبية المتبقية، فلقد تفرغ الظاهر بيبرس لمواجهة هذه البؤر الواحدة تلو الأخرى رغم بعض المناوشات المغولية، وهكذا استطاع هذا العسكري الفذ الذي لا تعرف الرحمة مكانا في قلبه القضاء على بعض الممالك المتبقية، وعلى رأسها بيروت واللاذقية وغيرهما، ولكن النصر الحقيقي كان بسقوط إمارة أنطاكية التي كانت من أهم الإمارات الصليبية على الإطلاق ومصدر قلق مستمر، ومع ذلك فالرجل لم يكتب له أن يشهد حقيقة حلمه بالقضاء على الصليبيين بالكامل، فهذه اللحظة منحها المولى عز وجل السلطان الأشرف قلاوون الذي استطاع فتح عكا في 1291 بعد صمودها لبعض الوقت، مزيلا بذلك بلاء شرسا وقع على بلاد المسلمين لمدة قرنين من الزمان أزهقت فيها الأرواح وهتكت فيها الأعراض وسلبت الأموال وذبحت الأطفال وأحرقت الجوامع والكنائس والمدن على حد سواء.
حصاد مر لحلم مرير تحت ستار الدين.
وللحديث بقية.
1272 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع