د.سعد العبيدي
هذا ليس دين أبي
لم يكن خضير خلف يعرف أسماء المذاهب، ولا تحفظ ذاكرته شيئًا من الخلافات بين "السنّة" و"الشيعة" و"المرجعية" و"الفتوى".كان فلاحًا في بستان أعمامه على شط الحلة، يمسح جبينه بكفّه المتقرّحة بعد إتمام السقي. يرفع عينيّه نحو السماء كأنها محرابه الأبدي. لم يسأل يومًا عن فروق الصلاة بين المذاهب والأديان.
كان دينه مختبئًا في المعنى الحقيقي للدين، في زرع شجرة، وإكرام ضيف، ومساعدة فقير.
أتذكره لحظة رفع عباس الجاسم أذان الظهر، بصوت يختلط فيه الصدق بالشيخوخة، لم يتحرك طواله إلا بعد اكتمال ربط الحزمة الأخيرة من الحصاد، ليأخذ له مكانًا للصلاة تحت ظل نخلة من نخيل الرهيمية.
وحين سألته، بعين الطفل المندهشة: "لقد انتهى الأذان!"، ردّ بثقة من يعرف الله أكثر مني:
"العمل أفرض، وربك يعرف النية."
كان ذلك هو الدين. لا طقوس مُبهرجة، لا جهاد استثمار، ولا فتاوى تحوم كالسكاكين فوق الرقاب.
لم يكن في قريتنا (الجمجمة) أيام أبي فقيه، لكننا كنا نعرف كيف نخاف الله دون وساطة، وكيف نحبه دون تجارة.
وكانت أمي، بنت داوود، كما كان يسميها، تصلّي على وفق ذلك الدين، دون أن ترفع صوتها بدعاء طويل، وتغسل وجهها قبل الوضوء كأنها تُهيّئه للقاء الحبيب، وتغطي رأسها، لا لأن أحدًا فرض عليها، بل لأن الحياء كان جزءًا من جلدها. لم أسمعها تتحدث عن النار وعذاب القبر، وكلما سألتها عن الجنة في طفولتي، قالت:
"الجنة ليست بعيدة عن مَن لا يؤذي أحدًا."
وأتذكر حين جاءت مع بعض نساء العائلة لإتمام خطبتي، واطّلعت على ملامح "السفور" عند كنتها المستقبلية، لم ترفع حاجبًا، ولم تُطلق حكمًا. قالت، بعد أن باركت الخطبة:
"الله ينظر للقلوب وليس للثياب"
هذا هو دين آبائي الذي عرفته. دين يُغني عن الشرح والتبرير، لأن أصحابه صادقون في نواياهم.
أما دين أبنائي اليوم، فقد أُدخلت عليه أمور لم نرها من قبل. أصبح مهرجانًا من الطقوس الغريبة، وزعيقًا في السماعات طول النهار، ومواكب يتشاجر أصحابها على الفتات، ويتحدثون عن العذاب أكثر من الرحمة.
في دين اليوم، يصعد إلى المنابر رجال لا يشبهون أولئك الذين عرفناهم؛ صراخهم لا يبعث الطمأنينة، وفتاواهم لا تزرع الرحمة، بل تحرّض على القتل، وكأن الله لا يرضى إلا بالدم.
أين ذهب ذلك الدين الذي كان يجعل الجار يطرق باب جاره ليسأله عن رغيف خبز؟
أين ذهبت بساطة أبي، وحكمة أمي، وصلاة جدتي التي كانت تُخفيها عن الضجيج، لا عن الله؟
أتراني كبرت؟ أم أن الدين هو الذي تغيّر؟ أم أن هناك من غيّره عمدًا؟
كأن أصحاب الدين الجديد ليسوا أبناءنا، بل كائنات جاءت من كتب قديمة أُخرجت من باطن الأرض، نفضوا عنها الغبار لا ليتدبروا، بل ليُقاتلوا بها. وكأنهم وُلدوا في ورش سرية أعدتها جهات لا تؤمن بربّنا، بقدر ما تؤمن بإمكانية السيطرة علينا باسم الله.
751 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع