الرئيس عبد السلام عارف نقطة مفصلية في تاريخ العراق الحديث
أيها الإخوان: "إن الجيش هم منكم واليكم، وقد قام بما تريدون وأزال الطبقة الباغية التي استهترت بحقوق الشعب، فما عليكم إلا أن تآزروه في رصاصه، وقنابله وزئيره المنصب على قصر الرحاب وقصر نوري السعيد، وأعلموا أن الظفر لا يتم إلا بترصينه والمحافظة عليه من مؤامرات الاستعمار وأذنابه".
بهذه الكلمات أذاع العقيد الركن عبد السلام محمد عارف أول بيان لانقلاب 14 تموز عام 1958، الذي شارك في تخطيطه وتولى تنفيذه، في ظل تردد أعضاء التنظيم للقيام بالانقلاب وتأجيلهم للقيام به أكثر من مرة، وبذلك غير مسار تاريخ العراق الحديث وحول نظامه الملكي إلى نظام جمهوري.
كان عبد السلام محمد عارف ياس خضير الجميلي المولود في 21 آذار/ مارس عام 1921 في الكرخ "منطقة سوق حمادة" ببغداد وهو حي شعبي من الأحياء الفقيرة، وكان والده يعمل في تجارة الأقمشة (بزاز)، تعود أصوله إلى مدينة عانة في الأنبار كان عبد السلام من الشخصيات المحبوبة لدى الكثير من الأوساط العسكرية والشعبية وخصوصاً المتدينين العروبيين.
أنهى عبد السلام مراحله الدراسية في منطقة الكرخ في بغداد، وتخرج من ثانوية الكرخ الرسمية عام 1938، وفي السنة نفسها دخل الكلية العسكرية وتخرج منها برتبة ملازم ثان، وعمره لا يتعدى العشرين عام، أشترك في حركة مايس (حركة رشيد عالي الكيلاني)، وكان آمراً لأحدى سرايا المدرعات الآلية التي حاصرت القصور الملكية، لكنه لم يحاكم وظل في الجيش بعد فشل الحركة لعدم معرفة السلطات عن مشاركته، وفي نهاية عام 1941 نقل من بغداد إلى البصرة، حيث عُين ضابطاً في الاستخبارات العسكرية، وظل في البصرة إلى عام 1944، ثم نُقلَ إلى لواء (محافظة) الناصرية. وفي عام 1946 اختير مدرساً في الكلية العسكرية. فأمضى فيها عاماً ثم نقل إلى كركوك، ومنها ذهب إلى فلسطين للاشتراك في حرب عام 1948.
بدأت صداقة عبد السلام عارف مع عبد الكريم قاسم منذ عام 1938 عندما كان عبد السلام طالباً في الكلية العسكرية، وكان عبد الكريم قاسم محاضراً فيها، وبعد تخرج عبد السلام من الكلية أفترق الصديقان لمدة عام، التقيا بعده في البصرة واستمرت صداقتهما على الرغم من نقل عبد السلام إلى الناصرية وعبد الكريم إلى جلولاء.
وفي عام 1947 نقل إلى كركوك، فألتقى مرة أخرى عبد الكريم قاسم، الذي كان قائداً للفوج وعبد السلام مساعداً له وعندما نشبت حرب فلسطين في 15 مايس 1948، ذهبا معاً، وكان عبد السلام في مدينة جنين، وعبد الكريم في مدينة كفر قاسم القريبة منها، وظلا يلتقيان على نحو دائم. وبعد انتهاء الحرب في فلسطين وعودة الجيش العراقي عاد عبد السلام إلى بغداد، ثم نقل إلى الموصل فكركوك. وعندما أصبح الفريق نور الدين محمود رئيساً لأركان الجيش، نقل عبد السلام إلى مقر قيادة الجيش وتولى فيها عدة مناصب مهمة.
في عام 1951 أرسل عبد السلام في دورة للالتحاق بالقطعات العسكرية البريطانية في دسلدورف في المانيا الغربية وتعين فيها بصفة ضابط ارتباط ومعلم أقدم للضباط المتدربين العراقيين وبقي فيها حتى عام 1956، خلال هذه الفترة أسس قاسم تنظيماً سرياً أسمه "المنصور"،
أندمج هذا التنظيم فيما بعد مع تنظيم (الضباط الأحرار)، الذي قام بتأسيسه الرائد "رفعت الحاج سري" في نهاية عام 1952 من أجل اسقاط النظام الملكي في العراق. وهو شبيه بتنظيم الضباط الأحرار المصري، فقد أقتبس تنظيم الضباط العراقي الاسم والفكرة من تنظيم الضباط المصري بعد نجاحه في أسقاط النظام الملكي في مصر عام 1952. بعد عودة عارف للعراق نقل إلى اللواء العشرين عام 1956 حيث أنتمى إلى تنظيم الضباط الأحرار وبعد عام على انتمائه ألتقى ثانية مع قاسم عام 1957 حين فاتح العقيد عبد السلام عارف قيادة التنظيم لضم زميله عبد الكريم قاسم للتنظيم الذي تردد التنظيم بضمه بادئ الأمر،
وبعد انضمام قاسم وبعد تغيب الفريق نجيب الربيعي عن اجتماعات التنظيم لأسباب تتعلق بالتحاقه لوحداته في أماكن مختلفة.
تم اختيار الضابط الأعلى رتبة حسب السياقات العسكرية العميد ناجي طالب للرئاسة المؤقتة للتنظيم لحين عودة الفريق الربيعي إلا أن تدخل العضو الفاعل في التنظيم العقيد عبد السلام عارف حال دون ذلك، حيث طلب ترشيح زميله العميد عبد الكريم قاسم مبرراً إمكانيتهما بالعمل المشترك للقيام بالحركة كونهما يعملان في موقع عسكري استراتيجي قرب بغداد ومع وجود كتائب مدفعية ودروع ومشاة وأسلحة وصنوف ساندة أخرى وختم قوله مبتسماً: "لا زعيم إلا كريم" الأمر الذي أحرج المجتمعين مما أدى إلى موافقتهم على مقترحه. على الجانب الآخر ذكر المؤرخ الفلسطيني حنا بطاطو أن عارف كتب في مذكراته التي نشرتها مجلة "روز اليوسف" المصرية أنه ضمّ قاسم للتنظيم قائلاً: "التقيت في إحدى ليالي ديسمبر/ كانون الأول بالشهيد رفعت الحاج سري في نادي الضباط، وكان لاجتماعنا علاقة بالأوضاع في بلدنا، واتفقنا منذ اللحظات الأولى على أن اللحظة الحاسمة للعمل الثوري كانت في متناول اليد، وكان هناك بين الضباط ذوي الرتب العالية الذين تولوا تنظيم القوى بانتظار يوم الثورة عبد الكريم قاسم، الذي فاتحته للمرة الأولى في مسألة الاشتراك معنا في 1954 و1955 عندما خدم بإمرته كآمر لإحدى كتائب اللواء التاسع عشر".
لكن بطاطو يُشكِّك بإملاء عارف هذه القصة لمحرر "روز اليوسف"، ويعتقد أن المحرر هو الذي أضافها، خاصة أنها مخالفة لتصريح "رفعت الحاج سري" في أثناء "محكمة الشعب" التي قال فيها: "في بداية نشاطاتنا لم يكن العقيد المتقاعد عبد السلام عارف ينتمي إلى تنظيماتنا، وأما في العام 1956 -على ما أعتقد- قد فاتحنا فخامة الزعيم عبد الكريم قاسم للمرة الأولى بالموضوع…، وهذا ما جعلنا نستغرب، لقلة ثقتنا -كما كنا- بالعقيد المتقاعد، لتأهّبه وافتقاره للحذر… لم أقابله إلا قبل نحو شهرين من الثورة، ووجدت يومها أنه شاركنا مشاعرنا وأهدافنا وسياستنا للثورة، ولم أستطع أن أُخفي دهشتي بهذا، وأخبرته أن انطباعنا عنه كان سلبيا جدا". ومع كل ذلك، في صباح يوم 14 تموز 1958 لم يعد هناك أهمية لمن قام بالضم أولاً. ففي مطلع تموز وبعد قيام الاتحاد الهاشمي عام 1958 بين العراق والأردن طلب الملك حسين بن طلال العاهل الأردني، من الملك فيصل الثاني العاهل العراقي، ارسال قطعات عسكرية عراقية للمرابطة في الأردن، وفي 10 تموز وبعد عطلة عيد الأضحى مباشرة صدرت الأوامر العسكرية من القيادة العامة للجيش بتحرك اللواء العشرين في 14 تموز إلى الأردن
وكان اللواء العشرين الذي يقوده عبد السلام عارف، أحد تشكيلات الفرقة الثالثة التي يقودها الفريق غازي الداغستاني في معسكر المنصورية في لواء (محافظة) ديالى للوقوف في وجه التهديدات الإسرائيلية عل الأردن، وكان قائد الجحفل أو القطعات المنتخبة من معسكرات مختلفة والمتجهة إلى الأردن، هو اللواء أحمد حقي، وعند ذلك اعتبر قادة الحركة بأن الفرصة مناسبة لتنفيذ حركتهم أو "ثورتهم" ضد الحكم الملكي .
تهيأ اللواء العشرين بقيادة العقيد الركن عبد السلام محمد عارف لبدء تنفيذ حركة تغيير النظام. أختار عبد السلام لنفسه تنفيذ عدد من العمليات وهي السيطرة على مقر قيادة الجيش في وزارة الدفاع والسيطرة على مركز اتصالات الهاتف المركزي والسيطرة على دار الإذاعة إضافة إلى أهدافاً أخرى حيوية كالسيطرة على القصر الملكي وقصر نوري السعيد ومعسكري الرشيد والوشاش. حيث درس الأعضاء البارزين للهيئة العليا لتنظيم الضباط الحرار وبحضور العميد الركن عبد الكريم قاسم خط سير الرتل المزمع سلوكه عبر بغداد، كما استمعوا إلى إيجاز قدمه العقيد الركن عبد السلام عارف عن الخطة التي وضعها ضمن تحرك لوائه للسيطرة على بغداد ويمكن وصف خطة عبد السلام وخط سير القطعات بالتالي:
تقع على خط سير القطعات الذاهبة للأردن المواقع المهمة التي تشكل أهدافاً إستراتيجية لتنفيذ الحركة ونجاحها فيما إذا تمت السيطرة عليها. فيمر خط السير المخصص للقطعات بضمنها اللواء العشرين الذي سيقوم بتنفيذ الحركة والذي يتكون من أربعة كتائب وذلك عبر عدد من النقاط والمواقع الإستراتيجية الهامة والتي لا مناص من السيطرة عليها حيث كان الرتل الذاهب أصلاً إلى الأردن سيمر قاطعاً بغداد من الشرق إلى الغرب، آتياً من لواء (محافظة) ديالى في الشرق حيث معسكر المنصورية ومتوجهاً عبر جنوب بغداد نحو الطريق الدولي الموصل للحدود الأردنية العراقية. يبدأ الرتل بالتحرك من المنصورية بقيادة العقيد الركن عبد السلام عارف عبر طريق بغداد ــ ديالى القديم مروراً بشرق بغداد من جهة منطقة المشتل المؤدي إلى بغداد الجديدة المجاورة لمعسكر الرشيد وهو المحطة الأولى الهامة التي سيطر عليها بأحد الكتائب الأربعة، ومن ثم التوجه إلى منطقة الباب الشرقي حيث جسر الملكة عالية (الجمهورية حالياً) وهو المحطة الثانية المهمة لتأمين تدفق قطعات اللواء للعبور إلى جانب الكرخ. ومن هنا فيذهب الرتل الأول للسيطرة على قاطع مديريات شرطة باب الشيخ وهو أحد أهم مراكز الشرطة الذي يتضمن غرفة حركات مكلفة بمهمة الاتصال بوزارة الداخلية ورئاسة الوزراء عن أي تهديد أمني، ومنها يتم قطع الاتصالات الهاتفية للبدالة المركزية في منطقة السنك في شارع الرشيد، ثم يتوجه لاحتلال وزارة الدفاع في الباب المعظم وهي أيضاً مقر القيادة العامة للقوات المسلحة ثم يسيطر الرتل نفسه على معسكر الحرس الملكي في الكرنتينة المجاورة وبعد ذلك يسيطر على مقرات البلاط الملكي في منطقة الكسرة المجاورة أيضاً. وبعد عبور جسر الملكة عالية يوجد موقعين هامين يجب السيطرة عليهما واحتلالهما، الأول قصر نوري السعيد ومحطة دار الإذاعة في منطقة الصالحية المتاخمة للجسر، وهي أهم النقاط التي يجب السيطرة عليها لإذاعة البيان الأول للحركة وتوجيه القطعات والجماهير عبر الإذاعة. ومن جسر الجمهورية يستمر خط السير للتوجه عبر كرادة مريم (المجمع الرئاسي أو المنطقة الخضراء حالياً) ثم الحارثية حيث معسكر الوشاش المسيطر على قاطع الكرخ ويليه قصر الرحاب مقر أقامه الملك فيصل الثاني وولي العهد الأمير عبد الإله وهو أحد أهم النقاط الاستراتيجية ليأخذ شارع اليرموك المتوجه إلى غرب بغداد إلى الطريق الدولي نحو الحدود الأردنية.
أتخذ عبد السلام عارف عدد من الإجراءات داخل اللواء العشرين الذي بأمرته هدفها ضمان نجاح تنفيذ الحركة منها، أصدر أوامره باعتقال كل قادة القطعات العسكرية والتي ستشارك في الجحفل والتي ستمر عبر سير القطعات الذاهبة للأردن، أي القطعات المزمع تنفيذها للحركة من غير تنظيم الضباط الأحرار وعين بدلاً منهم ضباطاً من التنظيم ثم أصدر ثم أصدر عدة أوامر هامة وهي:
1 – يتسلم العقيد عبد اللطيف الدراجي قيادة اللواء العشرين مع عبد السلام عارف لكي يتمكن الأخير من التحرك بمرونة لقيادة العمليات والسيطرة على القطعات والوحدات الأخرى ومعالجة أي طارئ، إضافة إلى قيادة الكتيبة الأولى من اللواء التي تكلف بعدد من المهام على رأسها الاتصال بأعضاء تنظيم الضباط الأحرار في معسكر الرشيد ودعمهم للقيام بتنفيذ الخطة التكميلية وهي السيطرة على وحدات المعسكر والانطلاق مع وحدات اللواء العشرين لإتمام المهمة وفي حالة فشلهم يستمر اللواء العشرين بالمهمة لوحده الذي سيتوجه لاحتلال قاطع شرطة باب الشيخ وقطع الاتصالات الهاتفية من المركز ثم السيطرة على جسر الملكة عالية في الباب الشرقي. وعند مرورها في منطقة الصالحية تحتل دار الإذاعة.
2 – يتوجه الرائد بهجت سعيد إلى قصر نوري السعيد رئيس الوزراء للقبض عليه.
3 – تكلف الكتيبة الثانية بقيادة المقدم عادل جلال بالتوجه لقاطع الباب المعظم لاحتلال وزارة الدفاع ثم تطويق معسكر الحرس الملكي في الكرنتينة لشله عن الحركة وحصار البلاط الملكي في منطقة الكسرة.
4 – يعين المقدم محمد فاضل علي قائداً للكتيبة المدرعة الثالثة المكلفة بالسيطرة على جانب الكرخ بالتعاون مع قطعات منتخبة من معسكر الوشاش الذي يقوده الزعيم (العميد) عبد الرحمن محمد عارف شقيق عبد السلام عارف المكلف بالسيطرة على الشوارع والنقاط المهمة في قاطع الكرخ.
5 – يتوجه الرائد عبد الجواد حامد على رأس سرية خاصة للتوجه إلى منطقة الحارثية لحصار قصر الرحاب حيث يقيم الملك فيصل الثاني وولي العهد الأمير عبد الإله لاعتقالهما.
6 – وبعد انجاز المهام الرئيسة والتي روعي أن تتم أغلبها بشكل متزامن يتوجه عبد السلام عارف بنفسه لإذاعة البان الأول للحركة.
وبهذه الخطة المحكمة استطاع عبد السلام عارف إحكام قبضته على بغداد، وتوجه إلى مبنى دار الإذاعة في منطقة الصالحية والقى بيان الحركة، وعند بدء تحرك القطعات الروتيني بدا وكأن كل شيء يمر بهدوء ورتابة كما خططت له القيادة العامة للقوات المسلحة للتحرك نحو الأردن، إلا أن نذر عاصفة عاتية قد هبت بعد مرور القطعات في بغداد بقيادة اللواء احمد حقي الذي تجاوز بغداد ماراً بالفلوجة على بعد 60 كيلو متر، حيث نجح الضباط بتنفيذ الخطة للإطاحة بالنظام الملكي وقد تولى العقيد الركن عبد السلام محمد عارف بفاعلية وشجاعة قيادة القطعات الموكلة بتنفيذ الحركة منفذاً جميع العمليات التي أدت إلى تغير النظام في العراق من الملكي إلى الجمهوري.
كتب عبد السلام رسالة إلى والده عند الشروع بالحركة طالباً رضاه والدعاء له بتحقيق النصر أو الدعاء له ليتقبله شهيداً في حالة وفاته. وفي أثناء ما كان عارف يذيع بيان الحركة صبيحة يوم 14 تموز 1958، كان الزعيم الركن (العميد) عبد الكريم قاسم يراقب عن كثب سير الأمور ويشرف على العمليات من مقره في معسكر المنصورية في محافظة ديالى المتاخمة لبغداد، حيث كان قائداً للواء التاسع عشر الذي لم يكن مخططاً ذهابه مع القطعات الذاهبة إلى الأردن، فلما بلغه احتلال عارف لبغداد لحق به وسمع من مذياع سيارته صوت عبد السلام عارف وهو يلقي بيان الحركة وإعلان قيام الجمهورية العراقية.
هكذا قامت "الحركة" أو "الانقلاب" أو كما يطلق عليها "ثورة " بمعرفة عدداً قليلاً من أعضاء تنظيم الضباط الوطنيين أو "الضباط الأحرار"، بجانب عبد السلام عارف وعبد الكريم قاسم، أما باقي أعضاء التنظيم فقد علموا به عن طريق الإذاعة، وقد نجح الانقلاب في الاستيلاء على الحكم والإطاحة بالملكية، وأنفرد قاسم وعارف بالحكم وقاموا بتوزيع المناصب بينهم وبين الضباط الذين قاموا معهما بالانقلاب، فقد تولى قاسم مناصب رئيس الوزراء ووزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، وتولى عارف منصبي نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية. أما نجيب الربيعي فأصبح رئيس مجلس السيادة لحين انتخاب رئيس الجمهورية هذا الانتخاب الذي لم يحدث. ووزعت باقي الوزارات على أعضاء التنظيم، وقام قاسم وعارف ومعهما الدراجي بتشكيل أول وزارة في العهد الجمهوري، وعيّنوا فيها الأصدقاء المقربين منهم، فعين قاسم صديقه مصطفى علي وزيراً للعدل، اما عارف فعين صديقه جابر عمر وزيراً للتربية والتعليم، وقام الدراجي بتعيين قريبه محمد صالح محمود وزيراً للصحة. على الجانب الآخر قام الانقلاب بتحقيق أهداف أخرى لصالح الشعب العراقي، منها أطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين، وخفض أحكام السجن على الأكراد المحكوم عليهم بالسجن بسبب اشتراكهم في الانتفاضات الكردية التي قامت في الفترة من 1934 ــ 1945 ضد الحكم الملكي وتوزيع الأراضي على الفلاحين بموجب قانون الإصلاح الزراعي.
أما بالنسبة للعائلة الملكية فقد قامت الحكومة الجديدة بمصادرة أملاكهم وأموالهم، بالإضافة إلى التخلص منهم بالقتل رمياً بالرصاص، وكان على رأسهم الملك فيصل الثاني وولي العهد الأمير عبد الإله والوصي على العرش عندما كان الملك فيصل دون السن القانونية، وقد قام بعض العراقيين بسحل الجثتين في الشارع، ثم انتهى بهم الحال بدفن جثة فيصل في حفرة، أما جثة عبد الإله فقد مثل بها وقطعت ببشاعة وأحرقت وألقي بها في نهر دجلة، وبذلك انتهى العهد الملكي وبدأت مرحلة الحكم الجمهوري بالعراق الملطخ بالدماء.
كانت العلاقة بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف استثنائية، فقد كان "عبد الكريم قاسم يعتمد على عبد السلام عارف ويعتبره أكثر من صديق، وكانت جميع الأمور السرية والقرارات يطلع عليها عبد السلام ويتذاكران حولها لأنهما كانا قريبين إلى بعضهما بحكم الصداقة القديمة بينهما، وكانا يحضران الاجتماعات التي كان يعقدها تنظيم الضباط الأحرار بين أسبوع وآخر في بغداد"، هذه الصداقة الحميمية التي جمعت بينهما، والتي كانت تُثير استغراب ضباط التنظيم، لم تستمر سوى أشهر بعد انقلاب تموز، فسرعان ما نشبت الخلافات بينهما بسبب طموح قاسم وعارف على السلطة، فكانت البداية من محاولة عبد السلام إبراز دوره في تنفيذ الانقلاب وأنه هو المفجر الحقيقي لـ (الثورة) من خلال زياراته ولقاءاته الصحفية والتلفزيونية، فقد كان يتحدث عن نفسه وعن إذاعته لبيان الثورة، بينما لم يذكر حتى أسم قاسم، فضلاً عن دوره المحوري. بالمقابل كان قاسم يرى في أنه القائد والأب الروحي والمخطط للثورة، لذلك جمع كل السلطات في يده، فكان رئيس الوزراء ووزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، وعطل مجلس السيادة وقام بإلغاء تشكيل المجلس الوطني لقيادة الثورة الذي كان متفقاً على تشكيله فور نجاح الحركة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل نشبت خلافات أخرى بسبب إصرار كلٌ منهما على وضع أصدقائه المقربين في المناصب المهمة، أضف إلى كل ذلك الاختلاف في التوجهات الفكرية، فقاسم كان صاحب توجه يساري، وفي المقابل كان عارف ذا توجه قومي عربي إسلامي. كل هذه الأمور جعلت قاسم يرى صديقه القديم هو "عدوه اللدود" الذي يجب التخلص منه، فأصدر قراراً بإعفاء عبد السلام من مناصبه الوزارية وتعينه سفيراً للعراق في المانيا الاتحادية، لكن عارف اعترض على هذا المنصب في البداية قائلاً:
" في صباح يوم 11 تشرين الأول 1958 زارني طاهر يحيى ومعه فؤاد عارف في مسكني، وفهمت منهما أن قاسم يرغب في مقابلتي لتسوية موضوع سفري، وتركتهم لأرتدي ملابسي، وداخل غرفتي كانت الفكرة قد اختمرت في ذهني، سحبت مسدسي ووضعته في مكان أمين في سترتي وخرجت معهما وتوجهنا إلى وزارة الدفاع، دخلت غرفة قاسم فوجدته مع وصفي طاهر، ثم طلب من وصفي أن يخرج من الغرفة، ووقف يحدثني محاولاً إقناعي بالعدول عن قراري، وأنه سيزودني في المانيا بكل ما أطلب، وعلىّ أن أذهب إلى بون (عاصمة المانيا الغربية قبل إعادة توحيد الألمانيتين) حتى تهدأ الأمور مرة أخرى، فقلت له إن مجرد خروجي من بغداد شيء لا أرتضيه، ولا يمكن أن أرضخ لإرادة حفنة من الشعوبيين الذين يضمرون الشر لهذا البلد، ولكن قاسم عاد يلح عليّ مرة بالتهديد وأخرى بالوعود، وعندما يئس من محاولته أنهى المقابلة وذهب إلى باب الغرفة ليفتحه لي. في هذه اللحظة تقدمت يدي نحو مسدسي الذي أخرجته من مكمنه بحذر بينما كان قاسم يحاول فتح باب الغرفة. في هذه اللحظة كان قد دخل إلى مكتب قاسم عدد من الضباط فأعدت وضع مسدسي في مكانه، وكان لابد من حل آخر."
استسلم عارف للأمر الواقع وقرر السفر لاستلام عمله، وذهب قاسم لتوديعه في المطار، وما هي إلا أشهر حتى عاد عبد السلام مرة أخرى إلى العراق، وأحيل إلى المحكمة العسكرية التي كان يترأس جلساتها العقيد فاضل عباس المهداوي أبن خالة عبد الكريم قاسم بتهمة محاولة اغتيال قاسم والمشاركة في محاولة انقلاب عليه. وفي 5 شباط 1959 صدر الحكم على عارف بالطرد من الجيش والإعدام شنقاً حتى الموت، وأودع في السجن العسكري رقم واحد في معسكر الرشيد، وظل قرار إعدامه في مكتب قاسم دون تصديق أو أعفاء، حتى أرسل عبد السلام رسالة إلى قاسم من السجن قال فيها:" سيدي وقائدي وأخي الزعيم عبد الكريم.. إنني منك كهارون من موسى، لقد طال انتظار عطفك عليّ ورأفتك بي.. إن أطفالي ينتظروني"، قيل إن هذه الرسالة كانت سبباً في إصدار قاسم قرار العفو عنه في 24 تشرين الأول 1961 ووضع تحت الإقامة الجبرية في بيته في منطقة الأعظمية، لغاية انقلاب 8 شباط 1963 واسقاط حكم عبد الكريم قاسم.
كان عارف من الشخصيات المحبوبة لدى الكثير من الأوساط العسكرية والشعبية خصوصاً فئة المتدينين المستنيرين والوحدويين، وعلى أثر اتفاق البعثيين والقوميين للقيام بحركة لقلب نظام حكم عبد الكريم قاسم كانت صورة عبد السلام المحتجز تحت الإقامة الجبرية لم تذهب عن ناظرهم فتم الاتصال به والاتفاق معه للقيام بالحركة بعد أن أتفق قادة الحركة من السياسيين والعسكريين بالإجماع على تولية عبد السلام عارف رئيساً للجمهورية وبعد نجاح الحركة أصبح أول سياسي يتبوأ منصب رئيس الجمهورية وذلك في 9 شباط 1963.
وبعد ما يقارب ستة أشهر حاول الحزب الشيوعي العراقي القيام بحركة لقلب نظام الحكم، ففي 3 تموز 1963 سيطرت قوات متمردة على معسكر الرشيد بقياد العريف حسن سريع وبمعاونة من الحزب الشيوعي العراقي الذي حاول أعضائه السيطرة مدن وسط وجنوب العراق، وبعد محاولة فاشلة لتحرير عدد كبير من العسكريين الشيوعيين وانصارهم كانوا معتقلين في السجن العسكري، حيث لم يتمكن المتمردين من اقتحام السجن بسبب المقاومة القوية التي ابداها حراس السجن. ولم تنتشر حركة التمرد أبداً إلى وحدات الجيش الأخرى، وكان عبد السلام أول من وصل إلى بوابة معسكر الرشيد من المسؤولين ومعه مرافقه زاهد وكان يقود كتيبة الدبابات الرابعة (كتيبة دبابات القصر الجمهوري) ومن المفارقات أن الدبابة الأولى التي "صعد فيها الرئيس عبد السلام لقيادة رتل الدبابات كان قائدها أحد رجال الحركة الانقلابية وهو ضابط الصف راضي شلتاغ الساعدي وكان مكلف بالذهاب بدبابته إلى دار الإذاعة بعد السيطرة على المعسكر وتطور التمرد للمساهمة في السيطرة عليها، إلا أنه تفاجئ بصعود عبد السلام وأمره بالتوجه إلى معسكر الرشيد مما جعله عاجزاً عن القيام بأي فعل عدا تنفيذ أمر الرئيس والمساهمة في القضاء على حركة التمرد. وعند وصول عارف إلى بوابة معسكر الرشيد وبمجرد أن تبين للمتمردين شخصيته أخذتهم المفاجئة وأدوا له التحية العسكرية وألقوا بسلاحهم. ودخل الرجل إلى المعسكر ليتولى بنفسه إدارة المعركة حتى لحق به الفريق طاهر يحيى رئيس أركان الجيش، وعندما علم طالب شبيب وزير الخارجية وحازم جواد وزير شؤون رئاسة الجمهورية وأبو طالب عبد المطلب الهاشمي مسؤول مركز العاصمة، بذهاب عبد السلام لإدارة العملية بنفسه قرروا الذهاب إلى معسكر الرشيد، لكنهم وجدوا أنفسهم أسرى بيد الانقلابيين. وفي الساعة الثامنة والنصف من صباح نفس اليوم تمت السيطرة على الموقف وأنهاء التمرد.
واستمر عبد السلام رئيساً للجمهورية لغاية 18 تشرين الثاني 1963 حين قاد بنفسه حركة تصحيحية ضد تصرفات البعثيين بعدما تفاقمت انتهاكات الحرس القومي واعتداءاتهم على المواطنين وتحديهم لسلطة القانون وتجاوزاتهم التي فاقت حدود الصبر كما وصفها عارف في بيان الحركة، وبعد أن وصلت النزاعات الحزبية الداخلية حد استخدام الطائرات الحربية العراقية يوم 13 تشرين الثاني 1963 من قبل بعض الضباط البعثيين (منذر الونداوي وجماعته) لقصف القصر الجمهوري ووزارة الدفاع بالصواريخ، فأضطر العسكريون بزعامة عبد السلام من القيام بحركة مسلحة لتصحيح الأوضاع وإقامة نظام حكم وطني بعيد عن التحزب.
تميز عبد السلام عارف خلال فترة حكمه بالسعي الدؤوب لتحقيق الوحدة العربية من خلال احياء اتفاق الوحدة الثلاثية مع مصر في 17 نيسان 1963 رغم خروج سوريا البعث من الاتفاق بعد سوء علاقة البعث بعبد الناصر على أثر فشل المحاولة الانقلابية التي قام بها الضابط القومي الناصري جاسم علوان في دمشق في تموز 1963 وأدت لاعتقاله ومحاكمته مع بقية القوميين والناصريين في سوريا، وبالتالي تم تجميد الاتفاق، وفي 25 أيار 1964 وقع عبد السلام عارف مع الرئيس جمال عبد الناصر اتفاقية انشاء القيادة المشتركة بين العراق ومصر (كانت الجمهورية العربية المتحدة)، للتخطيط والتنسيق في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، بغية الوصول إلى الوحدة الدستورية بين البلدين، كما نص اتفاق القيادة المشتركة على أقامه الاتحاد الاشتراكي العربي(1) أسوة بمصر، ونتيجة لإعلان الوحدة العسكرية بين البلدين، تم ارسال قوات مصرية لتحل مكان القوات السورية في شمال العراق. كانت القيادتان البعثيتان في كل من العراق وسورية اتفقتا عام 1963 (قبل سقوط نظام البعث بالعراق 1963) على ارسال قوات عسكرية سورية الي شمال العراق لمواجهة ما سمي وقتها بحركة التمرد الكردي، ونظرا لمطالبة النظام السوري بإعادة تلك القوات، طلب العراق من مصر احلال قوات مصرية بدلا عن السورية في شمال العراق، وفعلا تم ذلك خلال عام 1964.
وفي 14 تموز 1964 وقع عبد السلام عارف على القانونين الرقم 99 والرقم 100 اللذين بموجبهما تم تأميم جميع البنوك والمصارف غير الحكومية العاملة في العراق بما فيها فروع المصارف الأجنبية والشركات بالإضافة إلى الشركات المملوكة للقطاع الخاص وتؤول ملكيتها إلى الدولة بما فيها الأموال المنقولة والأموال غير المنقولة المسجلة باسمها، وبموجب قوانين التأميم هذه آلت ملكية 30 شركة إلى الدولة وكان من بينها شركات الأسمنت والغزل والنسيج وصناعة الجلود وكبريات شركات الاستيراد والتصدير وغيرها من الصناعات.
في 4 أيلول 1965 حاول تحالف الضباط الناصريين وحركة القوميين العرب، استغلال غياب عبد السلام عارف قي مؤتمر القمة العربية في الدار البيضاء والقيام بحركة انقلابية بقيادة عارف عبد الرزاق رئيس الوزراء ووزير الدفاع إلا أن المحاولة منيت بالفشل فأُعتقل الكثير منهم. لكن لم يعاقب أحد بالإعدام ففي "زمان حكم عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف لم يعدم أي شخص لأسباب سياسية، بالرغم من انه قامت عدة محاولات انقلابية. وأشير إلى انه حتى في العهد الملكي العراقي تمت اعدامات سياسية في حق مؤيدي رشيد عالي الكيلاني والحزب الشيوعي العراقي، كما أنه في مطلع عهد عبد الكريم قاسم أعدموا العائلة المالكة ومنظمي ثورة الشواف، غير أنه منذ اطاحة عبد السلام عارف بنظام البعث في 18/ 11/ 1963 وحتى انتهاء نظام عبد الرحمن محمد عارف في 17/ 7/ 1968 لم يعدم أحد لأسباب سياسية. (عدنان الباججي في شاهد على العصر 7/6/ 2010). كرجل دولة تأثر أسلوب ومنهج عبد السلام محمد عارف في الحكم بشخصيته وتطورها، وقد تبلورت شخصيته ومنهجها بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية. فقد أرسى مدرسة خاصة به في الحكم تعتمد على المبدئية والتسامح وإتاحة المجال امام الطوائف والقوميات والأعراق للتعبير عن نفسها، كما تميز منهجه في الحكم بإعطاء مساحة من الحرية والصلاحيات لرئيس الوزراء بالعمل على اختلاف انتماءات الوزراء بشرط الالتزام بمعايير القانون والدستور.
في 13 نيسان 1966 أستقل المشير عبد السلام محمد عارف طائرة مروحية سوفيتية الصنع طراز (مي)، صحبة شخصيات مسؤولة من بينها وزير الداخلية اللواء عبد اللطيف الدراجي، ووزير الصناعة مصطفى طه عبد الله، ومحافظ البصرة محمد ندى مطر الحياني، وكان في زيارة تفقدية لألوية (محافظات) الجنوب للوقوف على الأعمار وحل مشكلة المتسللين الإيرانيين. المروحية أقلعت مساء ذلك اليوم من ملعب مدينة القرنة في محافظة البصرة، وكانت متوجهة إلى مطار البصرة، تعرضت المروحية التي تقل الرئيس ومرافقيه إلى عاصفة رملية مفاجئة في منطقة النشوة، تسببت بحسب إحدى الروايات في أرتباك قائد المروحية مما أدى إلى استدارة الطائرة مرتين متتاليتين قبل اصطدامها بالأرض وانفجارها، ما تسبب في مقتل جميع ركابها وعددهم 11 شخصاً وهم: اللواء عبد اللطيف الدراجي وزير الداخلية، مصطفى عبد الله طه وزير الصناعة، العميد عبد الهادي الحافظ وكيل وزير الصناعة، محمد ندى مطر الحياني متصرف (محافظ) البصرة، العميد زاهد محمد صالح المرافق الأقدم لعبد السلام عارف، العميد جهاد أحمد فخري المدير العام للكهرباء الوطنية، الرائد عبد الله مجيد سكرتير عام ديوان رئاسة الجمهورية، النقيب الطيار خالد محمد نوري، النائب ضابط (ميكانيكي) كريم حميد، النائب ضابط (كهربائي) محمد عبد الكريم. بسبب الظروف المضطربة في العراق في ذلك الوقت، لا تزال هذه الحادثة توصف بأنها غامضة، ويميل البعض إلى ترجيح أنها من حوادث الاغتيالات السياسية، على الرغم من عدم وجود أي دليل يدعم مثل هذه الفرضية.
بعد مقتل الرئيس عبد السلام محمد عارف تولى شقيقه الفريق عبد الرحمن محمد عارف رئاسة البلاد لمدة عامين قبل أن يجبر بالقوة على التنحي ومغادرة البلاد بعد انقلاب 17 تموز 1968.
"كان الرئيس عبد السلام عارف ولا يزال نقطة مفصلية كاملة في تاريخ العراق الحديث، من أرفع العسكريين العرب ثقافة وفهماً، وقد اتاح له هذا الفهم مروره بثلاث تجارب خاصة يندر اجتماعها في رئيس واحد.
التجربة الأولى هي تجربة الغربة المكتملة في المجتمع الألماني لمدو 5 سنوات (1951 ــ 1956) حيث عاش في دسلدورف وتأثر ببيئتها وثقافتها وحضارتها، خاض عبد السلام هذه التجربة حين كانت المانيا تبني نفسها بعد دمار الحرب العالمية الثانية، ولم تكن وصلت إلى أي درجة من درجات التعالي على الأجانب، بل ربما الوضع المالي لعبد السلام عارف في ذلك الوقت كان أفضل بكثير من الألمان، وهكذا تعلم وتثقف وتحضر من موقع عالي ومن دون أن يشعر أنه يخضع للغربيين أو تملقهم."
التجربة الثانية هي تجربة السجن الجاد والحقيقي وتحديد الإقامة والتعرض لحكم الإعدام وهي الفترة التي قضاها بعد أن قاد ميدانياً حركة تغير النظام الملكي في 14 تموز 1958، ثم أصبح الرجل الثاني في العراق ونائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للداخلية، فإذا به بأوامر من عبد الكريم قاسم ينقل ليكون سفيراً في المانيا الغربية في 30 أيلول 1958، ويعود ليطمئن على والده فيُقبض عليه بتهمة تنظيم انقلاب، ويصدر عليه حكم بالإعدام ثم يُخففه الزعيم قاسم إلى المؤبد ُ ثم إلى تحديد الإقامة.
أما التجربة الثالثة فهي نقد الذات والنضج الانفعالي؛ بعد بداية علاقته بالسلطة كنائب لقاسم ووزير للداخلية، استعار من التاريخ العربي الإسلامي صورة حكام المسلمين الأوائل الذين يسيرون بين الناس بأمان، ويتصرفون على طبيعتهم، ويحاولون ممارسة كل شيء بأنفسهم فإذا تحدثوا كانوا صُرحاء فضلاً عن يكونوا صادقين، وإذا انتقدوا كانوا مباشرين بدلاً من أن يكونوا متلطفين ... وهكذا جلب عبد السلام عارف لنفسه كل الانتقادات المعهودة في انتقاد السلوك العفوي مهما كان صاحب السلوك صادقاً ومخلصاً، ونحن نعرف أن الزمن وحده يتكفل بأن يتحول هذا الانتقاد إلى سخرية وإلى ما هو أصعب أثراً من السخرية.
عبد السلام لم يكن موالياَ لأية حكومة أجنبية، أو معسكر شرقي أو غربي، كان مستقلاً لم ينتم إلى حزب ولا فئة، وكان ضد التحزب. كان شخصية بسيطة متواضعة، يتجول في الشوارع والأزقة ومختلف مدن العراق بحماية بسيطة ودون ضجيج وإزعاج، ولم تسجل عليه تجاوزات على المال العام، بل لم يكن يمتلك غير منزله في الأعظمية وهو منزل بسيط متواضع. طويت تلك الصفحات من تاريخ العراق، ومرت مياه كثيرة بدجلة والفرات، إلى يوم 13 كانون الأول 2004، في ذلك اليوم قتلت سناء، أبنة عبد السلام عارف وزوجها بالرصاص على يد "مجهولين" في منزلهما في بغداد، وأختطف أبنهما رفل البالغ من العمر 22 عاماً، قبل أن يقتل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ــ الاتحاد الاشتراكي العربي: هو تنظيم سياسي أسسه الرئيس جمال عبد الناصر في 4 تموز 1962 كتنظيم سياسي موحد يقود الحياة السياسية في مصر وقد جاء بديلاً للاتحاد القومي.
782 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع